شعار الموقع

فلسفة الدولة في الفكر السياسي الشيعي- ولاية الفقيه نموذجاً -

محمد علي شقير 2005-10-17
عدد القراءات « 677 »

فلسفة الدولة في الفكر السياسي الشيعي

- ولاية الفقيه نموذجاً -

الشيخ محمد علي شقير*

- فلسفة الدولة في الفكر السياسي الشيعي - ولاية الفقيه نموذجاً

- رسالة دكتوراه

-  إعداد الباحث: الشيخ محمد علي شقير

- تحت إشراف: د. رضوان السيد

- الموسم الجامعي: 2004-2005م

- الجامعـــة اللبنـانيــة - كليــــة الآداب والعـلـــوم الإنســانيــة

 

إنّ لبحث فلسفة الدولة في الفكر السياسي الشيعي أهميّته الخاصّة، لأنّه يعنى ببيان حقيقة الدولة وأهدافها ووظائفها بحسب رؤية المدرسة الفكريّة لأهل البيت.

ويزيد البحثَ أهميّةً، أنّ الدولة ـ والفعل السياسي عامّة ـ تدخل ضمن دائرة التشريع الديني والمعرفة الدينيّة، والتي تذهب ـ في النطاق الإسلامي الشيعي ـ إلى كون تلك الدولة في عصر الغيبة الكبرى (أي غيبة الإمام المهديّ)، معنيّة بجملة من الوظائف المتعلّقة بالإمام المعصوم، أي أنّ دولة الوليّ الفقيه تشكّل نوع امتداد لدولة الوليّ المعصوم.

كما أنّ دولة المعصوم قد أخذت مكانها في التاريخ الإسلامي سواءً من قبل الرسول الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو من قبل الإمام عليّ، ولاشكّ أنّها ـ أي دولة المعصوم في جنبتها التاريخيّة ـ تشكّل حقلاً خصباً لفهم الدولة في الإسلام.

إنّ دولة الوليّ الفقيه ليست مفصولة في مبانيها عن دولة الوليّ الإمام، وهي بدورها ليست مفصولة عن دولة الولي الرسول، وهذه الدولة أيضاً ليست مفصولة عن منتوج الوحي ومعطياته، وهذا المنتوج بدوره ليس مفصولاً عن الأُسس المعرفيّة، وأيضاً عن الأُسس الكلاميّة، التي تبدأ من وجود الخالق إلى غايات الخلق إلى فلسفة النبوّة، ولا بدّ أن نصل في نهاية المطاف إلى البحث في فلسفة الإمامة ووظائف الإمام.

إنّ جميع ما تقدّم يجعل من الأهميّة بمكان، أن نبحث حقيقة الدولة وفلسفتها، ومبانيها الكلاميّة وأُسسها الفكريّة، وجميع الموضوعات التي ترتبط ببيان حقيقتها وطبيعتها الوجوديّة.

إنّ فلسفة الدولة تتمحور بشكل أساسي، حول أدائها لتلك الوظيفة المناطة بالاجتماع السياسي، على مستوى قيادة الاجتماع البشري إلى أهدافه الواقعيّة ومصالحه الحقيقيّة، لما للدولة من تأثير كبير في حركة ذلك الاجتماع وتوجّهاته.

ولا يخفى ذلك الارتباط الجذري والعميق، ما بين فلسفة الدولة وجنبتها الوظائفيّة، إذ إنّ حقيقة الدولة أكثر ما تظهر في قائمة الوظائف التي تتصدّى لها وتتولّاها، وفي أولويّاتها الوظيفيّة، وفي طبيعة اهتماماتها وأدائها على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.. وفي الغايات الوجوديّة التي ترى ضرورة العمل على إيصال الإنسان إليها، وأهميّة السعي في توظيف إمكانيّاتها وطاقاتها لإيجاد البيئة المناسبة لبلوغ الإنسان كمالاته وأهدافه؛ ومن هنا فقد عقدنا ذلك التجسير الجذري، ما بين فلسفة الدولة من جهة وجنبتها الوظيفيّة من جهة أخرى.

أمّا فيما يتعلّق بتلك الغايات والأهداف، التي هي أساس وظائفيّة الدولة، فهي ترتبط ارتباطاً جوهريّاً بفكرة محوريّة الإنسان، من حيث علاقته بالله تعالى، إذ إنّ أيّ تحديد لتلك الغايات والأهداف ـ التي أشرنا إليها ـ لا يرتكز على أساس محوريّة الإنسان، ومحوريّة مصالحه الحقيقيّة، هو تحديد قد ضلّ فلسفة الوجود الإنساني، كما أنّ أيّ بناء على محوريّة الإنسان بشكل مجرّد عن علاقته بالله تعالى، هو بناء لن يصل بالإنسان إلى مصالحه الحقيقيّة وسعادته الأبديّة.

وبالعودة منّا إلى فلسفة الخلق ومبرّرات الوجود (وجود الكون)، سنجد أنّ هذه الفلسفة ترتبط ارتباطاً جوهريّاً بالإنسان، كما أنّ خلق هذا الكون قد كان من أجل الإنسان، وبالتالي فإنّ جميع الوجودات الكونيّة لابدّ أن ترتبط فلسفتها بالإنسانيّة، وحتّى تلك المظاهر الاجتماعية والسياسيّة فإنّها ليست بعيدة عن هذا البيان الذي قدّمناه، وهو يعني أنّ الدولة يجب أن تكون في خدمة الإنسان وغاياته وأهدافه.

لكن هنا عندما نتحدّث عن الإنسان فإنّ ما نعنيه هو الإنسان بجميع أبعاده، وجميع حاجاته الواقعيّة ومصالحه الحقيقيّة، وليس فقط الإنسان بأبعاده الماديّة وحاجاته الغرائزيّة ومصالحه الدنيويّة، لأنّ في هذا اختزالاً للإنسان في جنبته الحيوانيّة، وإقصاء لجنبته الإنسانيّة وإعداماً لها، وأيضاً الإنسان في جنبته المعنويّة وحاجاته الكماليّة ومصالحه الأُخرويّة.

وهذا يعني أنّ الدولة في وظائفيّتها، يجب أن تعتني بجملة من الوظائف المعنويّة والعباديّة، فضلاً عن الوظائف الماديّة والدنيويّة، بل لربّما تكون الأولويّة للوظائفيّة المعنويّة، تبعاً لأولويّة الأهداف الأخرويّة على الأهداف الدنيويّّة.

ومن الواضح أنّ هذه الرؤية تنسجم مع أطروحة ولاية الفقيه، في مبانيها الفكريّة والكلاميّة، والتي تذهب إلى استمداد المشروعيّة السياسيّة للفقيه العادل من الله لا من الشعب.

ويرتكز هذا البيان الذي قدّمناه، على جملة من الأُسس الفلسفيّة والمعرفيّة التي لابدّ من إيضاحها:

1ـ إنّ الوجود ذو شقّين، مادّي وغير مادّي، أي أنّ الوجود لا يمكن اختزاله بالوجود المادّي، بل إنّ المادّة تشكّل إحدى تجلّيات الوجود، لكنّها ليست التجلّيات الوحيدة للوجود، الذي يتعدّى حدود المادّة إلى أفق وجودي أرحب وأوسع.

إنّ جملة من الوجودات تملك صفة الموجوديّة، لكنّها ليست موجودات ماديّة، من قبيل وجود الله تعالى، والملائكة، والنفس الإنسانيّة، وجملة من الموجودات التي تسبح في عالم الغيب، أي العالم الغائب عن الإدراكات الاعتياديّة للإنسان.

إنّ وجود الله تعالى هو محور الوجود، وكلّ الوجود يرجع إليه كما هو صادر منه، وأيضاً مرتبط به ومفتقر في وجوده إليه.

ولا يخفى أنّ البيان الذي ذكرنا يرتكز على هذه المقدّمة، من باب أنّ القول بأداتية الدولة لبلوغ الإنسان غاياته الوجوديّة وأهدافه الكماليّة، التي تتجاوز عالم المادّة، يبتني على القول بوجود الله تعالى، ويحتاج إلى تثبيت كون الوجود أعم من الوجود المادّي، أي يشمل أيضاً الوجود المجرّد عن المادّة.

أمّا الاتجاه الآخر ـ الذي لا يمتلك تلك النظرة الأداتيّة للدولة ـ فإنّ موقفه الفكري من هذا الموضوع ليس من الضروري أن يكون مختلفاً، فقد يؤمن بوجود الله تعالى، لكنّه لا يرى ضرورة توظيف الدولة من أجل أخذ الإنسان إلى غاياته الكماليّة.

2ـ لا فصل بين الوجودين: أي بين الوجود المادّي والوجود اللامادّي، وكما أنّ عدم الفصل متحقّق بمعناه الوجودي والفلسفي، من باب أنّ كلّ الوجود يستمد وجوده بشكل دائمي من الله تعالى، فهو متحقق بمعناه التكويني (أي ولاية الله تعالى الشاملة والدائمة على الكون)، كما هو متحقق بمعناه التشريعي، أي أن الولاية التشريعية لله تعالى، هذه الولاية التي تتجلى الهداية الإلهية من خلالها، أي هداية الإنسان إلى غاياته الوجودية وأهدافه الكمالية؛ كما هو متحقّق بمعناه الأولوي، أي أنّ الولاية في المجتمع البشري هي لله تعالى.

وهذا يعني أنّ يد الله تعالى ليست مغلولة عن أي من آفاق الوجود، وأن هداية الله تعالى للإنسان إلى غاياته الوجوديّة قد أخذت بجميع أسبابها، ابتداءً من الوجود الكوني إلى الوجود المجتمعي، حيث إنّ رحمة الله تعالى تقتضي إيجاد البيئة المناسبة لهداية الإنسان.

لكن يبقى أنّ كلّ ذلك ـ فعل الهداية وتجلّياتها ـ مشروط بالمحافظة على اختيار الإنسان الحرّ والواعي، وعلى عدم إلغائه أو سلبه ذلك الاختيار، بل إنّ حقيقة الهداية الإلهيّة، إنّما تتمثّل بأخذها بيد الإرادة الإنسانيّة البعيدة عن أي إكراه أو إجبار أو إلجاء، إذ إنّ سير الإنسان إلى غاياته الكماليّة مرتبط بجوهر إنسانيّته القائم على قدرته على تبنّي اختياره الحرّ والواعي.

وفي هذه النقطة، فإنّ الاتجاه الآخر ـ الذي أشرنا إليه سابقاً ـ يفترق عن الاتجاه الذي يرى تلك الأداتيّة للدولة، أي أنّه لا يرى ذلك الارتباط ما بين ولاية الله تعالى والاجتماع البشري، فإنّ عدم كون الدولة أداة بذاك المعنى، لن يحتاج إلى ولاية تشريعيّة لله تعالى، ولا إلى ولاية تصرّف وتدبير، بل إنّ كلّ تلك الأُمور سوف تكون بيد الإنسان، الذي حدّد أهدافاً وغايات أُخرى للدولة، لا تستلزم تلك النتائج المبتنية على تلك الرؤية الأداتيّة للدولة.

3ـ ارتباط غائيّة الكون بغائيّة الإنسان: بمعنى أنّ وجود الإنسان وجود غائي، وكذلك وجود الكون فإنّه أيضاً وجود غائي؛ وإذا كان وجود الإنسان من أجل أن يسير إلى كماله الحقيقي والواقعي، فإنّ وجود الكون من أجل أن يكون المسرح الذي يتحرّك فيه الإنسان من أجل أن يصل إلى ذلك الكمال.

وكذلك الأمر عندما نأتي إلى كلّ التشكيلات الاجتماعية والسياسيّة، التي تأخذ محلّها على ذلك المسرح الكوني، فإنّ غاياتها القصوى يجب أن ترتبط بالإنسان وغاياته الكماليّة، ولذلك فإنّ تلك الولايات (ولاية التشريع وولاية التصرّف) المستمدّة من الله تعالى، هي من أجل أن تخدم مسيرة التكامل لدى الإنسان.

أي أنّنا نصل في النتيجة، إلى أنّه يوجد لدينا إنسان يسعى إلى غاياته وأهداف خلقه، وبالتالي فإنّ كلّ ذلك المحيط الذي يتحرّك فيه ذلك الإنسان، يجب أن يكون تابعاً لتلك الأهداف والغايات.

أمّا الاتجاه الآخر فإنّه لا يرى ضرورة توظيف المحيط الاجتماعي والسياسي للإنسان، لأنّه أساساً لا يتبنّى تلك الرؤية الغائيّة للإنسان.

4ـ الوحي والكمال الإنساني: وعلى ما تقدّم فإنّنا نحتاج إلى فعل هدايتي يوصل الإنسان إلى غاياته وأهدافه، باعتبار أنّ الإنسان لا يستطيع أن ينهج لنفسه ذلك الطريق الذي يوصله إلى تلك الأهداف والغايات، ومن هنا فقد اقتضت الحكمة الإلهيّة، إمداد الإنسان بالوحي، ليساعده على بلوغ أهدافه، وعلى الوصول إلى مصالحه الواقعيّة، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.

وبالتالي فإنّ الوحي يشكّل مصدراً معرفيّاً محوريّاً وضروريّاً، من أجل الأخذ بيد الإنسان وهدايته، سواءً على المستوى التشريعي أو المعنوي، أو فيما يرتبط بقضايا الاجتماع السياسي، وموضوع الدولة.

أي أنّ الوحي قد أتى من أجل أن ينظّم ويوجّه جميع مجالات الحياة البشريّة، ذات العلاقة بفعل الهداية، بما يخدم هداية الإنسان، وإيصاله إلى سعادته الحقيقيّة.

وفي المقابل، فإنّ الاتجاه الآخر إذا ما أعطى دوراً للوحي، فإنّه يحصر دوره في الإطار المعنوي والأخلاقي، ولا يسمح له بتعدّي هذا الإطار إلى مجال أوسع وأرحب.

5ـ العقل وهداية الإنسان: يلعب العقل دوراً أساسيّاً في هداية الإنسان، فإنّ الوصول إلى الوحي وجميع نتاجاته، إنّما يتوقّف على مبادرة العقل وقناعته بصدقية الوحي، وإلا فمن دون العقل، لا يستطيع الإنسان الوصول إلى الوحي والاستفادة منه، ولذا فقد جاء في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “إن أوّل خلق خلقه الله عزّ وجلّ العقل، فقال له: أقبل، فأقبل، ثمّ قال له: أدبر، فأدبر، فقال: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منكَ، بك آخذ، وبك أعطي، وبكَ أُثيب، وبك أُعاقب».

وفضلاً عن دوره الأساسي ذاك، فإنّه -فيما يرتبط بفعل الهداية- يشكل مصدراً معرفيّاً، سواءً من خلال نتاجه القطعي والمستقلات المعرفيّة التي يستقل بإدراكها، أومن خلال الدور الخبروي، الذي يمكن أن يكون رديفاً ومكمّلاً لدور النصّ الديني.

وفي المقابل فإنّ الاتجاه الآخر، لا يرى أنّ فعل العقل يوصل إلى تبنّي جميع معطيات الوحي، باعتبار كون الإنسان ملزماً بالأخذ به، بل هو يتعامل تعاملاً انتقائيّاً مع معطيات الوحي، فيأخذ منها ما يراه موافقاً لتوجّهاته ورؤيته، ويرفض ما لا ينسجم معها.

لكن في مقابل هذه الرؤية التي ترتكز على محوريّة الإنسان بجميع أبعاده، من حيث ارتباطه بالله تعالى، وتوظيف جميع الطاقات الاجتماعية والسياسيّة لإشباع جميع حاجات الإنسان، وبالخصوص حاجاته المعنويّة وتكامله المعنوي؛ تقف الرؤية الأُخرى التي ترى محوريّة الإنسان، مجرّداً عن ذاك الارتباط الكامل بالله تعالى، إذ إنّها تعطي للمعرفيّة الدينيّة دوراً بما ينسجم مع الرؤى الوضعيّة، أمّا مرجعيّة الاختيار والتشريع في جميع الشؤون، فهي بيد البشر أنفسهم، أي أنّ ملاك المشروعيّة هو اختيار البشر، وحتّى إن وقع الاختيار البشري على الدور الإلهيّ الكامل والشامل، فإنّ مشروعيّة هذا الدور لا تنبثق من مبانيه وأُسسه، بل من طبيعة الاختيار البشري الذي منح المشروعيّة لذاك الدور.

ولابدّ من الإشارة إلى أن رؤية حكومة الشعب -باعتبار كونه مصدر المشروعيّة بذاك المستوى- ترتكز على جملة من المباني نوضّحها باختصار:

1ـ مصير الإنسان بيده: أي أنّ الإنسان مسلّط على مصيره، وأنّه هو المعني بتحديد طبيعة ذلك المصير، ولا يحقّ لأحد أن يتحكّم بمصيره ويتسلّط عليه.

وفي مقام النقاش نقول: إنّه صحيح أنّ الإنسان هو الذي يحدّد مصيره، لكن السؤال الأساسي هو: أيّ مصير يجب المسير إليه، وينبغي اختياره؟ وما هو الطريق الذي يوصل الإنسان إلى ذاك المصير؟ وأساساً ما هي المعايير التي ينبغي أن تحسم الخيارات على أساسها؟.

2ـ الإرادة الحرّة للإنسان: أي أنّ الإنسان كائن حر، بل من طبيعة كينونته أن يكون حرّاً، في اعتقاده وفي تفكيره وفي آرائه، وفي ممارسته لقناعاته، وبالتالي فإنّ اختياره المبني على إرادته الحرّة، هو الذي يجب أن يشقّ طريقه في الاجتماع السياسي وقضيّة السلطة.

وفي مقام النقد لهذه الفكرة نقول: إنّ الإنسان يمتلك إرادته الحرّة، لكن ما يمتلك أصالته على مستوى الوجود الإنساني، ليس مجرّد الإرادة الحرّة، بل هو إرادة الإنسان الحرّة والواعية، إذ إن جنبة العقل، والميل إلى الخير والكمال والدوافع المعنويّة والروحيّة، هي أيضاً متأصّلة في الشخصيّة الإنسانيّة، وبالتالي فإنّ تلك الإرادة إذا كان منطلقها الجنبة الغرائزيّة، والميول الشهوانيّة في الإنسان، فإنّ هذه الإرادة لا تعبّر عندها عن أصالة الإنسان، وعمق شخصيّته الإنسانيّة، بل هي تعبّر عن الجانب الحيواني في وجوده النوعي، بل إنّ فلسفة الحرية، تتخطى هذا المعنى الظاهري، لتتجلّى في موطن النفس الإنسانيّة، تحرّراً من قيود الشهوة وأغلال الغريزة، وكلّ دوافع الأنا في الباطن الإنساني؛ وأمّا إذا كان منطلق تلك الإرادة الجنبة الواعية والمتحرّرة في عمق الوجود الإنساني، عندها تكون هذه الإرادة، هي المعبّر عن أصالة الإنسان، بل عن حريته الحقيقيّة.

3ـ قدرة الإنسان على حسم خياراته: أي أنّ الإنسان يمتلك الأدوات الإدراكيّة ـ كالعقل ـ التي تمنحه المقدرة على حسم خياراته، وبالتالي فإنّ الإنسان قادر لوحده على أن يصل إلى مصالحه الواقعيّة وسعادته الحقيقيّة، وعلى أنّ يحدّد مصيره وسبل الوصول إليه، وعلى بناء الأُطر القانونيّة والتشريعيّة الكفيلة بذلك.

وفي مقام النقد لهذا الطرح، لابدّ من بيان جملة نقاط أساسيّة، الأولى أنّه كيف نطمئن إلى قدرة العقل على ما تقدّم، وهل يستطيع العقل تقديم أدلّته على ذلك، أم يبقى الأمر مجرّد دعوى لا دليل عليها ولا برهان؟، والثانية أنّه لو كان باستطاعة العقل ذلك، لما وصلنا إلى مذاهب متشتّتة على مستوى الرؤى الإنسانيّة، لأنّه لو صحّت تلك الدعوى لوجب أن يكون منتوج العقل واحداً لا متعدّداً، والثالثة أنه لو كان باستطاعة العقل القيام بتلك الوظيفة لما كان من حاجة إلى الوحي، مع أنّ العقل نفسه يقرّ بحاجته إلى الوحي وعدم استغنائه عنه، والرابعة أنّ فلسفة مجيء الوحي تختزن تلك النتيجة، وهي أنّ العقل غير قادر لوحده على إيصال الإنسان إلى كماله الحقيقي، والخامسة أنّ الوحي يختزن أعلى مراتب العقل، وبالتالي فإنّ الأخذ بالوحي ليس خارجاً عن آليات العقل، التي تقود بنفسها إلى ضرورة الأخذ بالوحي.

وعلى ما تقدّم نستطيع القول: إنّ العقل يمتلك دوراً أساسيّاً، لكنّه لا يستطيع لوحده أن يقود الإنسان إلى غاياته الكماليّة، بل يحتاج إلى الوحي، لأنّ مرسل الوحي هو العالِم بحقيقة الإنسان وما يضرّه وما ينفعه، وما يوصله إلى كماله وسعادته.

والنتيجة التي نصل إليها هي أن البيان الذي قدّمناه، والذي يرتكز على مقولة الكمال الإنساني وضرورة الوحي، هو البيان الذي يحترم الشخصيّة الإنسانيّة، ويوقّر الجوانب المعنويّة والكماليّة الكامنة في الوجود الإنساني، ويجلُّ طاقة العقل في الإنسان وجنبته الواعية، وإرادته الحرّة المتعالية على البعد الحيواني المرتكز فيه، كما أنّه يدعو في جوهره إلى استثمار جميع الطاقات الإنسانيّة الكامنة في الإنسان، وعدم إهمال بعده الأشرف، وعدم اختزاله في بعده الحيواني؛ وإلّا فسيعني ذلك وضع الإنسان في أخسّ مراتبه، وإهدار طاقاته وتضييع أهدافه وغاياته الكماليّة، التي تعنى بصنع حقيقة إنسانيته، وتنمية الجوانب الإنسانيّة في شخصيّته؛ ومن هنا عقدنا هذا الارتباط الجوهري بين فلسفة الدولة، وبين الإنسان من حيث ارتباطه بالله تعالى.

وعلى هذا الأساس أيضاً، نجد أنه من الضروري أن نفصل بين منهجين اثنين في موضوع الدولة، على مستوى التعامل مع الإنسان؛ بين منهج استرضائي ومنهج إرشادي، بين منهج يعمل على محاكاة ميول الناس ومراودة غرائزهم، وبين منهج يعمل على محاكاة عقولهم ومراودة فطرتهم.

إنّ المنهج الاسترضائي، هو المنهج الذي يعمل على استرضاء الناس، وتحريك عواطفهم وإجابة رغباتهم، أي أنّ جميع الخيارات السياسيّة في قضايا الاجتماع السياسي إنّما تُحسم بناءً على توجّهات الناس وقناعاتهم، حتّى لو كان منشأ هذه التوجهات الجنبة الغريزيّة في الوجود الإنساني، والميول الشهوانيّة في الشخصيّة الإنسانيّة، بل لعلّ أغلب الخيارات التي تحسم على أساس شعبي، إنّما تحصل بناءً على رؤية المنفعة الماديّة لدى كلّ شخص، وأغراضه الشخصيّة وانفعالاته النفسيّة.

أمّا المنهج الإرشادي، فهو المنهج الذي يهدف إلى إرشاد الناس وهدايتهم إلى منافعهم بمعناها الواسع، الذي يشمل البعد الأُخروي والمعنوي، والذي يعمل على مراودة العقل، واستثمار الكوامن المعنويّة والروحيّة في وجود الإنسان، وعلى تنمية الجنبة الواعية في شخصيته، وعلى فكّ عقاله من أسر الشهوة وتحريره من أغلال الغريزة، وعلى تزكيته وتربية نفسه على قيم الخير والرحمة.

ولذلك يمكن اختصار الفرق بين هذين المنهجين في هذه النقاط:

الأولى: ما ذكرناه من أن المنهج الاسترضائي يراود رغبات الناس ويهدف رضاهم، بينما المنهج الإرشادي يراود عقولهم ويهدف إلى هدايتهم.

الثانية: إنّ الخيارات السياسيّة في المنهج الاسترضائي، غالباً ما تحسم على أساس الجنبة اللاواعية (الميول والأهواء) في الوجود البشري؛ بينما تحسم في المنهج الإرشادي على أساس الجنبة الواعية في شخصيّته الإنسانيّة، أي على أساس المدارك العقليّة والقيم المعنويّة.

الثالثة: لو توصّل الاسترضائيون إلى أنّ خياراً سياسيّاً يوافق رغبة الشعب، لكنّه يخالف مصلحته الواقعيّة، فإنّ مقتضى المنهج الاسترضائي الانسياق مع تلك الرغبة، وخصوصاً إذا ما كانت الاستجابة لتلك الرغبات والميول تحفظ للاسترضائيين منافعهم ومكتسباتهم؛ أمّا بناءً على المنهج الإرشادي فلابدّ من السعي لتحقيق المصالح الواقعيّة للإنسان، حتّى لو اضطر الأمر إلى الاصطدام مع الرغبات الغرائزيّة والميول الشهوانيّة لأفراد المجتمع، بل وخسارة جملة من المصالح الخاصّة لأتباع المنهج الإرشادي.

وبناءً على ما تقدّم، فقد كانت هذه الأُطروحة محاولة لتقديم فهم شامل لفلسفة الدولة، أي لماذا الدولة؟ ما هي أهدافها وغاياتها، وما هو دورها في الاجتماع السياسي، وما هي المبرّرات الفلسفيّة والدينيّة لتلك الأهداف والغايات؟ ولذلك كان من المطلوب السعي لتقديم الإجابات المقنعة عن تلك الأسئلة، وبحث جملة من المواضيع التي ترتبط بقضيّة الدولة وبيان حقيقتها، وذلك بناءً على رؤية الفكر السياسي الشيعي لموضوع الدولة، وما تختزنه من أبحاث تحتاج إلى تحديد الموقف الفكري منها.

ومن هنا فقد عمدنا إلى تقسيم الأُطروحة إلى مقدّمة وفصول سبعة وخاتمة، وتحدّثنا في كلّ فصل عن جملة من القضايا التي تساعد على الوصول إلى الهدف المتوخّى من تلك الأُطروحة، والتي تبيِّن بإجمال أو تفصيل، جملة من المباحث التي نحتاجها في تعميق فهمنا لأُطروحة الدولة.

أمّا الفصل الأوّل، فقد بحثنا فيه ملاك دينيّة الدولة، أي تلك المبرّرات التي تبيح وصف دولة ما بكونها دينيّة أم لا؟ وطرحنا الاحتمالات الواردة في هذا المقام، وناقشناها، وهو ما قادنا إلى بحث قضيّة هل إنّ الإسلام يختزن الدولة أم لا، وتعرّضنا لجملة من الإجابات عن هذا السؤال.

وقد قادنا البحث إلى طرح قضيّة التغيّر والثبات في القوانين الإسلاميّة، وفلسفة التغيّر والثبات في التشريع، والآليات التي اعتمدها الإسلام لمواكبة حركة التطوّر الاجتماعي.

وقد وجدنا من الضروري، أن نطرح ذلك البحث المرتبط بالفراغ التشريعي، والمؤشّرات التي يستخدمها وليّ الأمر في أحكامه الولائيّة، فضلاً عن جملة من المباحث الأُخرى التي تعرّضنا لها.

أمّا في الفصل الثاني، فقد بحثنا الخطوط العامّة التي تبتني عليها نظريّات الدولة في الفكر الشيعي، أي نظريّتا: ولاية الفقيه وولاية الأُمّة، ثمّ تطرّقنا إلى مفهوم الولاية في اللغة والاصطلاح ومفهوم ولاية الفقيه.

وقد وجدنا من المفيد، أن نبحث الأُسس النظريّة والكلاميّة لنظريّة ولاية الفقيه المطلقة سواءً في قضيّة السلطة أو في قضيّة التشريع، باعتبار أنّ حاكميّة الفقيه هي في الواقع حاكميّة الفقه أي التشريع.

أما في الفصل الثالث فقد طرحنا جملة من الأدلّة على نظريّة ولاية الفقيه، وقسّمناها إلى أدلّة كلاميّة وأدلة فقهيّة، وتناولنا في الأدلّة الكلاميّة دليل اللطف وشرحنا مضمونه، كما تعرّضنا لدليل النظام الاجتماعي ومقدّماته.

وأمّا الأدلّة الفقهيّة، فقد قسّمناها إلى أدلّة مباشرة، وهي التي تدلّ بشكل مباشر على ولاية الفقيه، وتعرّضنا لنصّ التوقيع الشريف؛ وإلى أدلّة غير مباشرة، سواءً كانت عقليّة، أو مركّبة من العقل والنقل، حيث تعرّضنا لدليل الحسبة وجملة من الآراء فيه، ولدليل الأولويّة، وأيضاً لدليل الملازمة.

أمّا الفصل الرابع، فقد عقدناه لبيان كيفيّة تعيين الولي الفقيه، فبدأنا بنظريّة النصب وشرحنا مضمونها؛ وعلى إثر ذلك فقد طرحنا نظريّة الانتخاب، وتطرّقنا إلى أهم الإشكاليّات المطروحة عليها، وعلى أُسسها المرتكزة في نظريّة ولاية الأُمّة.

ثمّ كان من الأهميّة بمكان أن ندخل إلى مبحث البيعة وفلسفتها، وطبيعة علاقتها بالمشروعيّة، وتحدّثنا عن مبرّراتها وفوائدها السياسيّة إذا لم تكن مصدراً للمشروعيّة.

أمّا الفصل الخامس فقد بحثنا فيه مناصب الوليّ الفقيه، حيث بدأنا بالحديث عن منصب الإفتاء، فتعرّضنا لمفهومه، وما يميّزه عن الحكم، ولفلسفة الإفتاء، وبحثنا أُسسه الكلاميّة وعلاقته بولاية الأمر ودوره في موضوع الدولة، حيث قدّمنا فيه تحديداً إجماليّاً لوظائفيّة الدولة الإسلامية، ثمّ تطرّقنا إلى منصب القضاء، فتناولنا مفهومه وعلاقته بالإفتاء، وبولاية الأمر، وبحثنا استقلاليّة القضاء، ومشروعيّته، والموقف القضائي للدولة الإسلاميّة من الأقليّات الدينيّة، ودور القضاء في التنمية السياسيّة وبناء الدولة والمجتمع، ووصلنا أخيراً إلى منصب الولاية.

أمّا الفصل السادس، فقد جعلناه لبحث صلاحيّات الولي الفقيه، حيث عرضنا لجملة من الرؤى في موضوع تلك الصلاحيات؛ وتلك الرؤى هي رؤية حصر الصلاحيات، وتعرّضنا لها بشيء من الاختصار، ورؤية توزيع الصلاحيات، حيث بحثنا ما تتميّز به من نقاط قوّة أو ضعف، وطبيعة العلاقة بينها وبين نظريّة الانتخاب، وعرضنا رؤية نقديّة فيما يرتبط برأي نظرية الانتخاب في الصلاحيات.

وتطرّقنا إلى رؤية مركزة الصلاحيات، سواءً ما كان منها دون ضوابط تضبط فعل تلك الصلاحيات، أو مع تلك الضوابط، وسواءً كانت هذه الضوابط بنيويّة أو ذاتيّة، حيث سجّلنا جملة من الملاحظات على الضوابط البنيويّة، وبحثنا أيضاً (مأسسة) صلاحيات ولي الأمر.

وقد بحثنا في الأثناء، جملة من القضايا المعاصرة، التي ترتبط بموضوع الصلاحيات، وهي صلاحيات وليّ الأمر خارج حدود الدولة الإسلاميّة، وعلاقتها بالقانون والدستور.

أمّا الفصل السابع فقد عنوناه بعنوان: فلسفة السياسة الدينيّة وتديين الفلسفة السياسيّة، حيث بحثنا فيه اتجاهات العلاقة في دائرة السلطة، وهي علاقة السلطة بالله تعالى، سواءً على مستوى الاستمداد التشريعي، أو على مستوى علاقة السلطة بالصفات الإلهيّة، وهو ما يقود إلى جملة من البحوث في العرفان السياسي، والتأسيس النظري لتلك المقولة، وفي الكلام السياسي، وتأسيس المعرفة السياسيّة على المباني الكلاميّة، وفي الأخلاق السياسيّة وأهميّتها.

والاتجاه الثاني هو علاقة السلطة بالاجتماع السياسي، حيث تحدّثنا عن الحقوق السياسيّة للسلطة، وعن واجباتها السياسيّة، في بيان تفصيلي تناول وظائف السلطة في جميع الميادين.

كما تطرّقنا إلى جملة من المباحث الأُخرى، وهي مفهوم المواطنة ومعاييرها، ومفهوم الوطن الإسلامي وحدوده السياسيّة، وفلسفة الدولة، ثمّ إلى طبيعة العلاقة بين الفلسفة والسياسة، وأيضاً إلى البُعد الإنساني في الدولة، ثمّ ختمنا البحث بالحديث عن إمكانيّة التوفيق بين معطيات المعرفة الدينيّة ومنتوج الفلسفة السياسيّة.

 

الهوامش:

* كاتب وباحث لبناني.