شعار الموقع

إدارة الصراع الفكري في الساحة الدينية

حسن الصفار 2006-06-17
عدد القراءات « 713 »

تمييزاً للإنسان عن بقية المخلوقات، وتفضيلاً له عليهم، وهب الله له عقلاً يمتلك به قدرة التفكير وصنع الرأي، ومنحه إرادة يتمكن بها من اتخاذ القرار وحرية الاختيار.

وبذلك أصبح أهلاً للتكليف والخطاب الإلهي، وكان مؤهلاً للثواب عند الطاعة، مستحقاً للعقاب على المعصية، وبعقله وإرادته يستطيع الإنسان القيام بمهمة عمارة الأرض وتسخير إمكانات الحياة، واستثمار خيرات الكون.

هكذا شاءت حكمة الله تعالى أن يكون الإنسان مفكراً مريداً له حرية القرار والاختيار، لكن بعض الإرادات الشريرة في عالم الإنسان نفسه، ومن وسط أبناء جنسه، تحاول حرمانه من هذه الميزة العظيمة التي منحه الله تعالى إياها.

حيث يسعى بعض الأفراد والفئات لممارسة الهيمنة والتسلط على من حولهم من البشر، ويصادرون حريتهم في التفكير وحقهم في الاختيار.

لقد عانى الإنسان ولا زال يعاني من نوعين من محاولات الاستعباد والتسلط. استعباد لجسمه يقيّد حركته ونشاطه، وتسلط على فكره يصادر حرية رأيه، وحقه في التعبير عنه.

وإذا كانت مظاهر الاستعباد المادي قد تقلصت، فإن ممارسات الوصاية الفكرية لا تزال واسعة النطاق، خاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

وتعني الوصاية الفكرية: أن جهة ما تعطي لنفسها الحق في تحديد ساحة التفكير أمام الناس، وتسعى لإلزامهم بآرائها وأفكارها عن طريق الفرض والهيمنة.

ومن أبرز مظاهر الوصاية الفكرية ما يلي:

1- فرض الرأي على الآخرين بالقوة، ومصادرة حريتهم في الاختيار.

2- النيل من الحقوق المادية والمعنوية للآخرين بسبب اختياراتهم الفكرية.

3- الاحتقار وسوء التعامل مع ذوي الرأي الآخر.

لماذا الوصاية الفكرية؟

إذا كان الله تعالى قد منح الإنسان عقلاً ليفكر به، وإرادة ليقرر ويختار، وليتحمل مسؤولية قراره واختياره، فلماذا يحاول البعض حرمان الآخرين من استخدام هذه المنحة الإلهية واستثمارها، فيمارسون الوصاية على عقول الآخرين وإراداتهم، فهم يفكرون نيابة عن الناس، وعلى الناس أن يقبلوا آراءهم. ومن تجرأ على المخالفة، ومارس حرية التفكير وحق الاختيار لما اقتنع به من رأي، فله منهم الويل والأذى!! حيث يستخدمون ضد المتمردين على هيمنتهم الفكرية، كل وسائل الضغط والتنكيل المادية والمعنوية.

إن الدافع الحقيقي لهؤلاء في ممارسة الوصاية الفكرية، هو في الغالب دافع مصلحي، بهدف تحقيق الهيمنة على الآخرين، واستتباعهم للذات.

لكنهم يتحدثون عن دافع آخر يبررون به ممارستهم للوصاية الفكرية، وهو دافع الإخلاص للحق الذي يعتقدونه في رأيهم، والرغبة في نشر الحق وهداية الآخرين إليه.

وإذا ما تأملنا هذا الادعاء، وناقشنا هذا التبرير على ضوء العقل والشرع، فسنجده ادعاءً زائفاً، وتبريراً خاطئاً.

ذلك أن ادعاءهم أحقية رأيهم يقابله ادعاء مماثل من الآخرين، فكل صاحب دين أو مذهب أو رأي، يرى أحقية مسلكه، فهل يقبلون محاولة الآخرين لفرض رأيهم عليهم؟

إن اعتقاد الإنسان بصوابية رأيه، وإخلاصه لذلك الرأي، ورغبته في اتباع الآخرين له، كل ذلك أمر مشروع، ولكن ليس عبر الفرض والوصاية، وإنما عن طريق إقناع الآخرين بذلك الرأي، ومن يرفض الاقتناع فهو حر في اختياره محقاً كان أو مبطلاً، وليس من العقل والمنطق إجباره.

ولأن الساحة الدينية عادة ما تبتلى بوجود فئات وجهات تمارس الوصاية الفكرية، وتسعى لفرض آرائها، باعتبار ذلك وظيفة دينية، وتكليفاً شرعياً، كان لابد من مناقشة هذه الممارسة على ضوء تعاليم الدين ومفاهيمه.

فهل يشرّع الدين لممارسة الوصاية الفكرية بمعنى فرض الرأي بالقوة، والنيل من حقوق المخالفين، وسوء التعامل معهم؟

إن القراءة الواعية لآيات القرآن الكريم، ونصوص السنة والسيرة النبوية الشريفة، وأقوال وسيرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، تكشف عن منظومة من المفاهيم والتعاليم الدينية تؤكد على حرية الإنسان وحقه في الاختيار، وأنه يتحمل مسؤولية قراره واختياره أمام الله تعالى، وترفض الاستعباد والوصاية الفكرية على الناس.

الخالق لم يفرض الإيمان به

لتقرير حرية الإنسان وتأصيل وجودها، تؤكد كثير من آيات القرآن الكريم، أن الله تعالى لم يشأ أن يفرض الإيمان به على خلقه بالإجبار والقوة، بل أودعهم عقولاً تقودهم نحوه، وفطرة ترشدهم إليه، وبعث لهم أنبياء يدعونهم إلى الإيمان به، ثم ترك للناس حرية الاختيار في هذه الحياة.

يقول تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}(1).

ويقول تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(2).

وتشير آيات أخرى في القرآن الكريم إلى أن الله تعالى جعل فرص الحياة متساوية بين المؤمنين والكافرين، يقول تعالى: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا}(3).

وإذا كان الله تعالى لم يفرض على عباده الإيمان به قسراً، لتكون الحياة دار اختيار واختبار، كما شاءت حكمته، فكيف يحق لأحد أن يمارس فرض الإيمان على الناس باسم الله ونيابة عنه؟.

إنه تعالى لا يريد الإيمان به عن طريق القوة والقسر، لأنه حينئذٍ لن يكون إيماناً حقيقياً، ولو أراد الله تعالى إخضاع الإنسان للإيمان قسراً لكان ذلك ميسوراً عليه. يقول تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(4).

وبضرس قاطع ورفض صريح يقول تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(5)، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية، أنها نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلاً مسلماً، فقال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا استكرههما؟ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك(6).

الأنبياء لا يحق لهم الفرض

لو كان الاعتقاد بحقانية الرأي، والإخلاص للفكرة، مبرراً مقبولاً للفرض على الآخرين، وممارسة الوصاية الفكرية، لما حظر الله تعالى ذلك على رسله وأنبيائه. فهم يحملون رسالة الله للناس، وهي حق لا ريب فيه، ولا يمكن أن يزايد عليهم أحد في الإخلاص للحق والاجتهاد في نصرته، ولكن الله تعالى لم يأذن لهم بفرض دعوتهم على الناس قسراً، ولم يسمح لأحد من أنبيائه ورسله أن يمارس الوصاية والهيمنة على اتجاهات الناس واختياراتهم.

حيث ينص القرآن الكريم على أن وظيفة رسل الله تنحصر في حدود إبلاغ الرسالة، لا فرضها بالقوة، يقول تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}(7).

وحين يرفض الناس دعوة الحق، فإن الرسول يتركهم وشأنهم، وليس مكلفاً بإجبارهم أو الضغط عليهم، يقول تعالى: {وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}(8).

وقد تكررت هذه العبارة في آيات القرآن الكريم ثلاث عشرة مرة، كقوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}(9)، وقوله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}(10).

وتنص آيات أخرى في القرآن الكريم على أنه لا يحق للنبي أن يمارس أي وصاية أو هيمنة على أفكار الناس وآرائهم، يقول تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(11).

والخطاب لرسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل الأنبياء والرسل، والذي بعثه الله تعالى بأكمل الأديان وخاتمها، بأن وظيفته الإلهية هي الدعوة والتذكير، وليس له حق السيطرة والهيمنة على من لا يقبل دعوته.

وفي مورد آخر يخاطب الله تعالى نبيه محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي كان يؤلمه رفض المشركين لدعوته واتهاماتهم الباطلة له، يقول تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}(12).

فالنبي ليس جباراً يمارس الهيمنة والفرض على الناس.

وهو ليس مكلفاً بالوصاية والرقابة عليهم يقول تعالى: {وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}(13).

وإذا كان الأنبياء المرسلون من قبل الله تعالى، وهم يحملون الحق الذي لا ريب فيه، لا يجوز لهم ممارسة الفرض والوصاية على أفكار الناس، ترى هل يحق لأي جهة أخرى اقتراف هذه الممارسة باسم الربّ وباسم الدين؟

من يحاسب الناس؟

ليس هناك جهة مخولة بمحاسبة الناس على أديانهم ومعتقداتهم في الدنيا، فحساب الخلق على الله تعالى يوم القيامة.

ففي الآيات الأخيرة من سورة الغاشية، وبعد حصر مهمة الرسول في التذكير، وأنه لا يحق له الهيمنة والسيطرة على الناس {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}، يقول تعالى: {إِلا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}(14).

ورغم أن بعض المفسرين اعتبر الاستثناء {إِلا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ} متصلاً بما قبله، فيكون المعنى «لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ» أن لك السيطرة على من تولى وكفر بمجاهدته ومقاتلته، لكن الرأي الذي يتبناه مفسرون آخرون هو أن الاستثناء منفصل، لا ربط له بما قبله بل بما بعده. وهذا الرأي هو ما يتناسب مع سياق هذه الآيات، ومفاد الآيات الأخرى.

وكما تقرر في أبحاث المحققين والباحثين في السيرة النبوية الشريفة، فإن حروب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت دفاعية، ولم تكن لفرض الإسلام على الآخرين بقوة السيف، ولذلك كان يقبل منهم الجزية والبقاء على أديانهم في ظل الحكم الإسلامي.

وتؤكد آيات أخرى في القرآن الكريم على أن الله تعالى وحده هو الذي يتولى حساب العباد على أديانهم ومعتقداتهم، وليس الأنبياء ولا أي أحد آخر منها قوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}(15)، وقوله تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ}(16).

وفي سياق آخر، حين تتحدث آيات من القرآن الكريم عن تعدد الديانات واختلاف المعتقدات بين بني البشر، فإنها تحيل مهمة الحسم والفصل النهائي بين أتباع الديانات إلى خالق البشر يوم القيامة، وكأن مفهوم هذه الآيات: أن الحياة الدنيا هي دار تعايش وتعامل بين بني البشر على اختلاف أديانهم وآرائهم، وليس من حق أحد منهم أن ينهي ويلغي وجود الآخر، فذلك من اختصاص الخالق وحده.

يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(17).

فهل هناك رؤية أجلى من هذه الرؤية؟ وهل هناك موقف تجاه حرية الاختيار العقدي في الدنيا أوضح من هذا الموقف؟.

وجاء التأكيد على هذه الحقيقة في موارد أخرى كقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}(18). وضمير هو في قوله {هُوَ يَفْصِلُ} ضمير فصل، لقصر الفصل عليه تعالى دون غيره.

وتعالج آيات أخرى في القرآن الكريم موضوع النزاعات الدينية بدعوة الناس إلى تجاوزها وتجميدها، حتى لا تكون سبباً للاحتراب والنزاع، وأن الله تعالى سيقضي في هذه الاختلافات يوم القيامة، وسيعلم الجميع حكمه وقضاءه في خلافاتهم الدينية.

يقول تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}(19).

جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: «فاستبقوا الخيرات وهي الأحكام والتكاليف، ولا تنشغلوا بأمر هذه الاختلافات التي بينكم وبين غيركم فإن مرجعكم جميعاً إلى ربكم تعالى فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون، ويحكم بينكم حكماً فصلاً، ويقضي قضاءً عدلاً»(20).

وقد ورد ذات التعبير في الآية 164 من سورة الأنعام: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.

المواجهة الفكرية

حين يتبنى الإنسان رأياً باعتباره حقاً وصواباً، ويرفض رأياً آخر باعتباره باطلاً وخطأً، فإنه غالباً ما يندفع للانتصار للرأي الذي يؤمن به ويسعى لنشره، كما يهتم بإضعاف جبهة الرأي الآخر، وخاصة على مستوى الرأي الديني والمعتقدات الفكرية.

ومن المشروع أن يجتهد الإنسان في خدمة متبنياته الفكرية، فذلك هو ما يخلق الحراك الفكري في المجتمع البشري، عبر حالة التنافس، واستثارة العقول، وكشف ثغرات الآراء، وإذا لم يهتم أصحاب الآراء بطرح أفكارهم والدفاع عنها تسود حالة الركود الفكري، والجمود المعرفي.

لكن هناك نهجان في الانتصار للرأي:

نهج العنف والقمع لأصحاب الرأي الآخر، بمحاصرتهم والتضييق عليهم، والتنكيل بهم، ليتراجعوا عن آرائهم، ولمنع انتشارها في المجتمع.

نهج المواجهة الفكرية، بالاجتهاد في تبيين الرأي وإثبات صحته وأحقيته بالدليل العلمي والبرهان المنطقي، ونقد الرأي الآخر بكشف نقاط ضعفه، ومكامن الخطأ فيه، وإبطال حججه ومستنداته.

نهج الجبابرة

استخدام العنف ضد الرأي الآخر نهج خاطئ فاشل، فهو مصادرة لحرية الإنسان في أعمق دوائرها، وانتهاك لأقدس حقوقه وأهمها، كما أن تجارب التاريخ قد أثبتت فشل أسلوب العنف في القضاء على الفكر وإنهاء الرأي.

وعادة ما يستخدم الجبابرة الظلمة هذا الأسلوب، حيث يمارسون العنف والقمع ضد أصحاب الرأي الآخر، حين يكون فيه مساس بمصالح سلطتهم، أو لأنهم يريدون التظاهر بحماية الدين، أو لمجرد فرض هيبتهم وتسلطهم وإرعاب الناس.

ومن المؤسف أن كثيرين من الحكام في تاريخ الأمة الإسلامية قد سلكوا هذا النهج، ليس فقط ضد أصحاب الرأي السياسي المعارض، وإنما ضد الآراء الدينية والفكرية، تارة بعنوان الحرب على الزندقة والإلحاد، وأخرى بعنوان التصدي للبدع والأفكار المنحرفة في الساحة الدينية.

لقد رفع الخليفة المهدي العباسي، والذي حكم الأمة من سنة 158 حتى مات سنة 169هـ، شعار محاربة الزنادقة، حيث بدأت تنتشر بعض أفكار التشكيك في الدين، وبدلاً من مواجهتها بالعلم والمنطق، شهر الحاكم في وجوههم السيف، وكان هناك تسرع كثير في إراقة الدماء واستخدام العنف.

جاء في تاريخ الدولة العباسية للشيخ محمد الخضري بك:

وكان المهدي مغرىً بالزنادقة الذين يرفع إليه أمرهم، فكان دائماً يعاقبهم بالقتل، ولذلك كانت هذه التهمة في زمنه وسيلة إلى تشفي من يحب أن يتشفى من عدو أو خصم..

كان كاتب الدنيا وأوحد الناس حذقاً وعلماً وخبرة الوزير أبو عبيد الله معاوية ابن يسار مولى الأشعريين، وكان متقدماً في صناعته، وله ترتيبات في الدولة، وصنف كتاباً في الخراج وهو أول من صنف فيه..

حصل حقد عليه من الربيع الحاجب، فوشى عليه عند المهدي بأن ابنه محمداً متهم في دينه، فأمر المهدي بإحضاره (الولد) وقال: يا محمد اقرأ فذهب ليقرأ فاستعجم عليه القرآن، فقال المهدي لأبيه الوزير أبي عبيد الله معاوية بن يسار: يا معاوية ألم تخبرني أن ابنك جامع للقرآن؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، ولكنه فارقني منذ سنين وفي هذه المدة نسي القرآن.

فقال المهدي: قم فتقرب إلى الله بدمه. فذهب ليقوم فوقع.

فقال العباس بن محمد: يا أمير المؤمنين إن شئت أن تعفي الشيخ، ففعل، وأمر المهدي بابنه فضرب عنقه(21).

هكذا يكون مجرد الاتهام في الدين، والارتباك في قراءة القرآن مبرراً لقتل هذا الإنسان، وأن يُطلب من أبيه مباشرة عملية القتل!!.

وخلفاء آخرون مارسوا العنف والقمع تجاه من يقولون برأي مخالف في مسألة عقدية جزئية، كما حصل فيما عرف بمحنة القول بخلق القرآن.

فقد كان الخليفة هارون الرشيد يتبنى القول بأن القرآن ليس مخلوقاً، ويقمع القائلين بفكرة خلق القرآن، حتى قال يوماً: بلغني أن بشر المريسي يقول: القرآن مخلوق. والله والله لئن أظفرني الله به لأقتلنه قتلة ما قتلها أحد. ولما علم بشر ظل متوارياً أيام الرشيد.

وقال بعضهم: دخلت على الرشيد وبين يديه رجل مضروب العنق، والسياف يمسح سيفه في قفا الرجل المقتول، فقال الرشيد: قتلته لأنه قال: القرآن مخلوق.

وفي عهد الخليفة الواثق العباسي تغير رأي الحاكم، فتعرض من يقول بأن القرآن ليس مخلوقاً للقتل والتنكيل، كما حصل لأحمد بن نصر الخزاعي الذي قبض عليه والي بغداد، وامتحنه الواثق فأصر على رأيه أن القرآن ليس بمخلوق، وأن الله يُرى في الآخرة، فدعا الخليفة بالسيف، وقال: إني احتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد رباً لا نعبده، وضرب عنقه، وأمر به فحمل رأسه فنصب بالجانب الشرقي أياماً، ثم بالجانب الغربي أياماً، وعلقت برأسه ورقة «هذا رأس أحمد بن نصر الذي دعاه الإمام الواثق إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إلا المعاندة، فعجل الله به إلى ناره»(22).

طريق الأنبياء

إن الطريق المشروع والنهج الصحيح لنشر أي فكرة ومبدأ، هو عرضها بأحسن بيان، والدعوة إليها بالمنطق والبرهان، والجدال عنها بأفضل أساليب التخاطب مع العقول والنفوس، وذلك هو النهج الإلهي الذي قرره القرآن الكريم، يقول تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(23).

كذلك فإن مواجهة الأفكار الباطلة، والآراء الخاطئة، يكون بنقدها ومناقشتها، وتسليط الأضواء على مكامن انحرافها، ونقاط ضعفها.

إن الرسالات الإلهية تتعامل مع الإنسان باعتباره كائناً عاقلاً مريداً، ولذلك تحترم عقله وتتخاطب معه، وتراهن على الثقة به وحسن اختياره.

كما ترفض أساليب الهيمنة وممارسة الوصاية الفكرية، بما تعني من تجاهل لدور العقل، ومصادرة لحرية الإنسان.

فالتخاطب مع العقل لا يكون بلغة العنف والقمع، وإنما بمنطق الحجة والبرهان: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}(24). {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}(25). {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَة}(26). {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(27).

تلك هي المبادئ الناظمة للمواجهة الفكرية، لإثبات حقانية الدين وبطلان ما عداه.

ولا يقبل الإسلام الإساءة إلى المخالف في الدين والرأي لمجرد مخالفته، ما لم يمارس عدواناً يستلزم الردّ والردع.

كما لا ينصح الإسلام بالقطيعة مع المخالفين، بفصل وشائج العلاقات الإنسانية والاجتماعية معهم. بل على العكس من ذلك يوصي بالبر بهم والإحسان إليهم ما داموا مسالمين غير معتدين.

يقول تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(28).

وقد ورد في أسباب نزول هذه الآية أن أسماء بنت أبي بكر، قدمت عليها أمها وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية، فقدمت على ابنتها أسماء بهدايا: زبيب وسمن وقرظ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، وأرسلت إلى عائشة: سلي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: «لتدخلها». وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستفتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: «نعم صلي أمك»(29).

وفي وصية القرآن الكريم بالبر بالوالدين، يشير إلى أن واجب البر بهما، وحسن العلاقة معهما، لا يتأثر بالاختلاف الديني معهما، حتى وإن كانا يضغطان على الولد باتجاه الشرك بالله، يقول تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}(30).

وكذلك الحال بالنسبة إلى الأرحام والأقرباء، فإن الاختلاف الديني والفكري لا ينبغي أن يؤثر على مستوى التواصل معهم كأرحام، جاء عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنه سأله الجهم بن حميد قائلاً: يكون لي القرابة على غير أمري ألهم عليّ حق؟ قال: «نعم حق الرحم لا يقطعه شيء»(31).

إن على المسلم أن يلتزم حسن الخلق مع كل من يتعامل ويتعاطى معه، حيث ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «أحسن صحبة من صاحبك تكن مسلماً»(32)، وجاء عن حفيده الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): «ليس منا من لم يحسن صحبة من صحبه، ومرافقة من رافقه»(33).

مرض الساحة الدينية

من أسوأ أمراض الساحة الدينية في مجتمعاتنا، ما يسود معظم أجوائها من حالات الصراع والخصام الداخلي، وسعي بعض الجهات لممارسة دور الوصاية على أفكار الآخرين. فما تراه هي هو الحق المطلق الذي لا يجوز لأحد الخروج عليه، وإلا استحق النبذ والطرد، والمحاصرة والإلغاء، وأصبح مستهدفاً في وجوده المادي والمعنوي.

نجد ذلك على صعيد الخلافات المذهبية، حيث تتبادل الأطراف مع بعضها تهم التكفير والتبديع والمروق من الدين، ويجري التحريض على الكراهية في أوساط الأتباع، وقد يصل الأمر إلى إباحة هدر الدماء وانتهاك الحقوق والأعراض.

كما نجد ذلك على مستوى الخلافات داخل المذهب الواحد، حين تتعدد المدارس، وتختلف الآراء في بعض التفاصيل العقدية والفقهية في إطار المذهب نفسه.

إن اعتقاد كل طرف صوابية رأيه وخطأ الرأي الآخر أمر مقبول، بناءً على مشروعية حق الاجتهاد، لكن إنكار حق الطرف الآخر في الاجتهاد وإبداء الرأي، والتعبئة ضده بالتشكيك في دينه واتهام نواياه، هو مزلق خطير يؤدي إلى تمزيق الساحة الدينية، وتشويه سمعتها، ودفع أبنائها إلى الصراع والاحتراب، كما حصل بالفعل.

إن التعبير عن الرأي الاجتهادي عقدياً وفقهياً ضمن الضوابط المقررة أمر مشروع، وحق مكفول للجميع، ولا يصح أن تحتكره جهة وتصادره من الآخرين، فإن ذلك إرهاب فكري، وإغلاق فعليّ لباب الاجتهاد، وحرمان للساحة العلمية من الثراء المعرفي.

أما الحذر من وجود آراء خاطئة، وطروحات منحرفة، تخالف المعتقدات السائدة، والاتجاهات الفقهية المشهورة، فهذا لا يقف أمامه القمع والتهريج، وإنما المواجهة العلمية الفكرية، التي تثبت ضعف الرأي الآخر وخطأه، ومكامن الانحراف والثغرات فيه، وتظهر صحة الرأي المتين وأصالته، وتعالج الإشكالات المثارة حوله.

إن أساليب القمع والإرهاب الفكري لا تستطيع أن توقف زحف الرأي الآخر، بل قد تخدمه بإثارة الاهتمام به، وتكتل أتباعه للدفاع عنه، ولتعاطف الكثيرين مع ظلامتهم بسبب ما يستهدفهم من قمع وتشويه. وخاصة في هذا العصر الذي سادت فيه شعارات الحرية والانفتاح، وتطلعات التغيير والتجديد.

إن تمزيق صفوف المؤمنين وتحويل ساحتهم إلى خنادق للصراع والاحتراب، ودفعهم إلى انتهاك حرمات بعضهم بعضاً، وإسقاط كل طرف وتشويهه لرموز وشخصيات الطرف الآخر، جريمة أكبر وخطر أعظم من وجود رأي في قضية جزئية نعتبره خاطئاً باطلاً.

ثم إن تعاليم الإسلام وأخلاقياته، وسيرة الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) لا تقبل مثل هذه الأساليب ولا تتطابق معها.

وهناك روايات وردت عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، يحذرون فيها شيعتهم وأتباعهم من نهج الإقصاء والإلغاء لبعضهم بعضاً، على أساس الاختلاف في بعض الجزئيات العقدية.

جاء في الكافي عن يعقوب بن الضحاك، عن رجل من أصحابنا سرّاج وكان خادماً لأبي عبد الله (عليه السلام) قال: جرى ذكر قوم عند أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام)، فقلت: جعلت فداك إنّا نبرأ منهم، إنهم لا يقولون ما نقول.

قال: فقال (عليه السلام): يتولّونا ولا يقولون ما نقول تبرؤون منهم؟

قال: قلت: نعم

قال (عليه السلام): فهوذا عندنا ما ليس عندكم فينبغي لنا أن نبرأ منكم؟ قال: قلت: لا -جعلت فداك- قال: وهو ذا عند الله ما ليس عندنا، أفتراه اطّرحنا؟ قال: قلت: لا والله جعلت فداك، ما نفعل؟.

قال (عليه السلام): فتولّوهم ولا تبرؤوا منهم، إن من المسلمين من له سهم، ومنهم من له سهمان، ومنهم من له ثلاثة أسهم؛ ومنهم من له أربعة أسهم؛ ومنهم من له خمسة أسهم، ومنهم من له ستة أسهم؛ ومنهم من له سبعة أسهم، فليس ينبغي أن يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة، ولا صاحب الثلاثة على ما عليه صاحب الأربعة، ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة، ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب الستة، ولا صاحب الستة على ما عليه صاحب السبعة(34).

وقد عقب العلامة المجلسي في (بحار الأنوار) على العبارة الواردة في الرواية «إنهم لا يقولون ما نقول» بقوله: «أي من مراتب فضائل الأئمة (عليهم السلام) وكمالاتهم ومراتب معرفة الله تعالى، ودقائق مسائل القضاء والقدر، وأمثال ذلك مما يختلف تكاليف العباد فيها، بحسب أفهامهم واستعداداتهم، لا في أصل المسائل الأصولية، أو المراد اختلافهم في المسائل الفرعية، والأول أظهر»(35).

وفي الكافي أيضاً عن عبد العزيز القراطيسي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا عبد العزيز إن الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شيء، حتّى ينتهي إلى العاشر، فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فأرفعه إليك برفق، ولا تحملنّ عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنّ من كسر مؤمناً فعليه جبره(36).

وعن الصباح بن سيابة، عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: ما أنتم والبراءة، يبرأ بعضكم من بعض، إن المؤمنين بعضهم أفضل من بعض، وبعضهم أكثر صلاة من بعض، وبعضهم أنفذ بصراً من بعض، وهي الدّرجات(37).

وفي بحار الأنوار عن كتاب الخصال عن عمار بن أبي الأحوص قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن عندنا أقواماً يقولون بأمير المؤمنين (عليه السلام) ويفضلونه على الناس كلّهم، وليس يصفون ما نصف من فضلكم أنتولاهم؟ فقال لي: نعم، في الجملة، أليس عند الله ما لم يكن عند رسول الله، ولرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) [من] عند الله ما ليس لنا، وعندنا ما ليس عندكم، وعندكم ما ليس عند غيركم؟(38).

وجاء عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلنا له: من وافقنا من علوي أو غيره تولّيناه، ومن خالفنا برئنا منه من علوي أو غيره، قال: يا زرارة قول الله أصدق من قولك، أين الذين {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا}(39).

وعن محمد بن عيسى، عن القاسم الصيقل رفع الحديث إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كنّا جلوساً عنده، فتذاكرنا رجلاً من أصحابنا، فقال بعضنا: ذلك ضعيف، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن كان لا يقبل ممن دونكم حتى يكون مثلكم لم يقبل منكم حتى تكونوا مثلنا(40).

إنارة العقول أو تجييش العواطف

في مواجهة التحديات المعرفية الخطيرة أمام الفكر الديني، وفي مقابل الطوفان الثقافي العالمي الجارف الذي يقتحم كل زوايا مجتمعنا وغرف بيوتنا، ويستقطب بوسائله الإعلامية والمعلوماتية المتطورة اهتمامات أبنائنا وبناتنا، هناك حاجة ماسة لتكثيف العطاء الفكري والثقافي من قبل المرجعيات والجهات الدينية.

كما أن تطور الحياة وتقدم مستوى العلم والمعرفة يستوجب تطوير استراتيجيات الطرح الديني، وتجديد خطط التثقيف والتوجيه.

إن على الساحة الدينية أن تثبت قدرتها على مواكبة التغيرات والاستجابة للتحديات. وذلك لا يتحقق إلا بتوجيه الاهتمام نحو التحديات الكبيرة، وبتضافر الجهود نحو الأهداف المشتركة، أما الانشغال بالخلافات الجانبية والقضايا الجزئية، فإنه يشكل هروباً من المعركة الأساسية، ويضعف كل القوى الدينية.

لقد أصبحت حرية الرأي شعاراً ومطلباً لكل المجتمعات والشعوب، وأصبح الانفتاح والحوار بين الحضارات والثقافات نهجاً يتطلع إليه عقلاء البشر على مستوى العالم، فكيف سيقدم المتدينون أنفسهم أمام الآخرين، وهم لا يتحملون بعضهم بعضاً، ولا يحتكمون للحوار في خلافاتهم، ولا يستطيعون التعايش فيما بينهم واحترام بعضهم بعضاً؟.

إن السمة الغالبة على من يمارسون الوصاية الفكرية استثارتهم لانفعالات المتدينين وتجييشهم لعواطفهم، بعنوان حماية العقيدة والدفاع عن الثوابت والمقدسات، لكنهم لا يبذلون جهداً يناسب التحديات المعاصرة في تبيين أصول العقيدة، وكأن العقيدة تتلخص عندهم في القضايا الجزئية التي يختلفون فيها مع الآخرين، كما أن بعضهم يخلطون الأوراق في تحديد الثوابت والمقدسات، وكأنها قضايا اعتبارية، فالثابت والمقدس ما يعتبرونه هم كذلك دون مقاييس واضحة متفق عليها.

إننا بحاجة إلى تنوير العقول بالبحث العلمي والطرح المنطقي، وليس مجرد تجييش العواطف وإثارة الأحاسيس.

 

الهوامش :

* عضو الهيئة الاستشارية في مجلة الكلمة (السعودية).

(1) سورة الكهف آية 29.

(2) سورة الإنسان آية 3.

(3) سورة الإسراء آية 20.

(4) سورة يونس آية 99.

(5) سورة البقرة آية 256.

(6) الطباطبائي: محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج2 ص351، الطبعة الأولى 1991م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.

(7) سورة النحل آية 35.

(8) سورة آل عمران آية 20.

(9) سورة المائدة آية 92.

(10) سورة النور آية 54.

(11) سورة الغاشية آية 21-22.

(12) سورة ق آية 45.

(13) سورة النساء آية 80.

(14) سورة الغاشية آية 23-26.

(15) سورة الرعد آية 40.

(16) سورة المؤمنون آية 117.

(17) سورة الحـج آية 17.

(18) سورة السجدة آية 25.

(19) سورة المائدة آية 48.

(20) الطباطبائي: محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج5 ص362، الطبعة الأولى 1991م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.

(21) الخضري بك: محمد، الدولة العباسية، ص89.

(22) حيدر: أسد، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، ج4 ص443.

(23) سورة النحل آية 125.

(24) سورة النمل آية 64.

(25) سورة الأنعام آية 148.

(26) سورة الأنفال آية 42.

(27) سورة البقرة آية 256.

(28) سورة الممتحنة آية 8.

(29) البخاري: محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، حديث رقم 2620.

(30) سورة لقمان آية 15.

(31) المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار، ج71 ص131، الطبعة الثانية 1983م دار التراث العربي، بيروت.

(32) المصدر السابق ص159.

(33) المصدر السابق ص161.

(34) الكليني: محمد بن يعقوب، الكافي، ج2 ص42، دار الأضواء، بيروت.

(35) المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار، ج66 ص163، الطبعة الثانية 1983م دار التراث العربي، بيروت.

(36) الكليني: محمد بن يعقوب، الكافي، ج2 ص45، دار الأضواء، بيروت.

(37) المصدر السابق.

(38) المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار، ج66 ص169، الطبعة الثانية 1983م دار التراث العربي، بيروت.

(39) المصدر السابق ص174.

(40) المصدر السابق.