ثقتنا تزداد من وقت لآخر، بالخطاب الثقافي الاسلامي، الذي حاولنا في مجلة (الكلمة) أن نعبر عنه، وننسب أنفسنا إليه، وأن نسهم في حضوره وتراكمه وتفعيله، في الساحة الثقافية، العربية والاسلامية.
نبني ثقتنا هذه، على وضوح كبير بهذا الخطاب، وإدراك يتنامى حول أبعاده وتطلعاته وعلائقه، مما يضيف ويجدد ارتباطنا بهذا الخطاب وتمسكنا به، ونحن نلقي بنظرنا على الأحوال التي مرت بنا، والأوضاع التي تحيط بنا، والتغيرات التي تعصف بنا، والمستقبل الذي ينبغي أن نبحث عنه في ظل عالم ينتقل إلى قرن جديد، لم نعدّ أنفسنا إليه، ولا ندرك موقعنا فيه، ولا إلى أين سنمضي! هذا الخطاب في أحد مكوناته الأساسية التي تضفي عليه أهم ملامحه البارزة، هو (إحياء كل ما هو جامع في الأمة، ورفض كل ما هو مفرق) هذا المبدأ بحاجة إلى إحياء وشياع وتعميم، لأن فيه عافية الأمة إذا تمسكت به، وهي الأمة التي بحاجة إلى العافية، بعد كل هذا الذي أصابها من هزائم وانكسارات واحباطات وصدامات.
وقد مضى على الأمة زمن طويل وهي على هذا الحال، ولا نعلم متى يرتفع عنها، هذا الواقع الرديء لسنا بحاجة إلا لمن يكبره، لأنه كبير لمن يريد أن يصغره، وظاهر لمن يريد أن يخفيه، وحاضر لمن يريد أن يبعده.
لقد حاولنا أن نجعل (إحياء كل ما هو جامع في الأمة) مبدأ أساسياً في خطاب المجلة الثقافي، المبدأ الذي هو حاضر في كل ما نكتب، وفي كل ما نراقب من المواد التي تصلنا للنشر.
وهذا المبدأ يتطلب اعادة النظر في الأولويات وتراتبها، بحيث تتقدم الأمة الجامعة بمضامينها ومكوناتها، وكل ما يعبر عنها ويجسد حقيقتها، على أي مفهوم أو قضية أخرى، أن تتقدم الأمة على الاقليم والطائفة والجماعة والفئة والعرق. لا أن تنقلب المعادلة إلى اتجاه معاكس، وهذا هو الخطر الذي حصل، فالأمة هي المفهوم الغائب، وهي العنوان التي يتقدم عليه كل العناوين الأخرى. وهذا يعني اننا بحاجة إلى الوعي الذي عبر عنه وتمثله السيد جمال الدين الأفغاني حينما جعل القضية التي يدافع عنها ويبشر بها ويحملها معه أينما ذهب، وهي قضية (الجامعة الاسلامية).
وإذا كان هناك ما يتقدم على الأمة فهو الدين، وهذا لا يعني أن نضع الدين في علاقة جدلية مع الأمة، لأن الدين هو الذي صنع هذه الأمة وكوّن لها شخصيتها وحضارتها وكان أكبر وأعظم باعث على إحيائها ونهوضها وانطلاقتها، وانفتاحها على العالم، والاتصال بالحضارات والمجتمعات الانسانية كافة.
والدين هو الذي جمع هذه الأمة، وهو الذي يجمعها بعد تفرقها وتمزقها وتشتتها، {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} ـ آل عمران: 103 ـ.
ومن المصاديق الحقيقية لتجسيد مبدأ (احياء كل ما هو جامع في الأمة) هو أن نكون مع الجميع، لا أن نصبح مع جماعة مقابل جماعة أخرى، ولا مع فئة مقابل فئة أخرى، ولا مع منطقة مقابل منطقة أخرى، ولا مع مرجع مقابل مرجع آخر، ولا مع فرقة مقابل فرقة أخرى. وهذا هو الخيار الصعب أمامنا، لأن الواقع في تضاريسه وقسماته وعلائقه ومصالحه، قد تشكل على غير هذه الصورة، بل وعلى تعارض معها في مساحة كبيرة منه، فقد تحولت الأمة إلى أجزاء مفككة ومقطعة، غاب الأصل وهو الأمة، وأصبح الفرع ـ الفئة والجماعة بأشكالها كافة ـ في مكان الأصل، وتوزع الناس أو كثير منهم على فئات وجماعات، كل منهم يعمل لجماعته أو فئته، أو الأغلب منهم، وتلوّن الواقع بهذه الخريطة من الانقسامات، وتوارثه الناس فيما بينهم، وتكيفت على أساسه المصالح المادية والمعنوية، وحين يتحرك الواقع على غير هذا الإيقاع،، يلتفت الجميع أو الكثير منهم إلى ظاهرة تفتقد الانسجام والتجانس مع طبيعة الواقع والايقاعات التي تحركه.
أردنا من خطاب الكلمة وبكل وضوح وثقة وإصرار أن نكون مع الجميع في الدائرة الاسلامية، لا نعادي أحداً، ولا نجافي أحداً، ولا ننحاز إلى أحد، ولا نقبل غير هذا الخيار، ونرفض أن يمارس علينا منطق التصنيفات المشبع بالكراهية، نقبل النقد لكن لا نقبل أن يتعامل معنا غير ما نعبر به عن أنفسنا.
نريد أن نكون مع الجميع لأننا نحترم الحرية للجميع، نريد أن نكون مع الجميع لأننا نجد في التعددية مكسباً وثروة وتنوعاً للعقول والطاقات والأبعاد، نريد أن نكون مع الجميع لأن الاختلاف حق لا يمكن أن يصادر أو يلغى، ولأن من العقل أن نختلف، ومن الضرورة والطبيعة الانسانية كذلك. والدين لا يمنع الاختلاف في مناهج العمل، وإنما يمنع التصادم والنزاع وادخال المصالح والأهواء في الاختلاف. وهذا الحق ليس امتيازاً لمن يملك القوة والقدرة فقط، ولا لأصحاب السيطرة والنفوذ فحسب، بل هو حق للجميع، لكل من يريد أن يكون شريكاً في تحمل المسؤولية والنهوض بالواقع وتحسين الأوضاع، ولكل من يجد في نفسه القدرة على العطاء والانتاج.
نريد أن نكون مع الجميع لأننا نريد من الجميع أن يجدوا الجميع في أنفسهم، أن يرى كل طرف في مرآته الطرف الآخر مكملاً له، متضامناً متراحماً معه. وأخيراً نريد أن نكون مع الجميع لأننا نريد المستقبل للجميع، والذي يصنعه الجميع.
هذا ما نحاول أن نجتهد ما استطعنا للتعبير عنه في خطاب الكلمة.
ومن الله نستمد العون