- الحداثة والتحديث السياسي:
فكرة الليبرالية في المغرب
- أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في الفلسفة
- إعداد الباحث: فريد لمريني الوهابي
- تحت إشراف: د. محمد سبيلا
- الموسم الجامعي: 2002 - 2003
- جامعة محمد الخامس - اكدال
- كليه الآداب والعلوم الإنسانية - الرباط
-1-
نحو موضوع البحث
ينخرط هذا البحث بصفة عامة، في معالجة سؤال الحداثة في المغرب، أو بعبارة أخرى، في طرح مختلف الأسئلة التي تحوم حول علاقة المغرب بالعصر الحديث. غير أنه بالتخصيص، يتوجه نحو سؤال التحديث السياسي أو الإيديولوجي، من خلال محور فكري/ تاريخي تختصره الفكرة الليبرالية.
نشأت فكرة إعداد بحث حول هذا الموضوع، بناءً على اهتمام علمي سابق، كان يندرج بصفة خاصة في سياقين:
1- السياق الأول: كان يتعلق بموضوع الظواهر الإيديولوجية في العصر الحديث والزمن المعاصر.
2- السياق الثاني: كان يتعلق بتتبع القراءات الفلسفية أو الفكرية للعصر الحديث، أو بعبارة أخرى فلسفة الحداثة.
في السياق الأول والثاني، أي في إطار الاهتمامين معاً، كانت المفاهيم، كمنتوجات فكرية وتاريخية دينامية وشائكة، تثير دائماً نهمنا المعرفي، وتدفعنا إلى الإنصات لها باستمرار.
كانت هذه الاهتمامات، بصفة عامة، مدخلنا نحو العناية بأحوال وقضايا الحقل الإيديولوجي المغربي، وهو المدخل الذي تهيكل فكرياً، على أرضية بعض الإشكاليات التي تحسب عادة، على المستوى الأكاديمي، في عداد مواضيع الفلسفة السياسية أو علم السياسة المعاصر.
لقد أحسسنا منذ البداية، أن الأنظمة المركزية الدالة، التي يمكنها تفسير حقيقة الحقل الإيديولوجي المغربي وتوضيح صورته، توجد في تاريخ المغرب، وبشكل خاص في تاريخ مغرب القرن التاسع عشر.
بعودتنا إلى الحياة السياسية المغربية المعاصرة، تبين لنا أن هناك ظاهرة مثيرة للانتباه، وهي ظاهرة التداول الكثيف للمصطلح السياسي، سواء في خطاب الدولة الرسمي، أو خطاب النخب والشرائح الاجتماعية المختلفة. إنها في الحقيقة ظاهرة الاستخدام المطمئن واللامبالي بحقيقة المفاهيم وهوية المصطلحات المتداولة.
هذه “الخصوبة” الاصطلاحية، تعبّر عن زخم أو غليان في الوعي السياسي والاجتماعي الراهن في المغرب، ولذلك، طرحنا السؤال التالي: لماذا لم يستطع هذا الغليان المشار إليه أن يتحول إلى خطاب سياسي قوي؟ بعبارة أخرى، ما هي إمكانياته الحقيقية لبلوغ هذا المسعى؟.
هنا بدت لنا فرضيتان في تفسير هذه الظاهرة:
أولاً: أن هذه الكثافة الاصطلاحية، تعبر عن ظاهرة تاريخية أشمل، هي أن الحاضر المغربي مثقل بكل تناقضات وقضايا الماضي. وفي هذه الحالة، يفترض أنه تم تعطيل حلولها الحقيقية، على أرضية توافقية صلبة بين الدولة والمجتمع، أو أنها كانت ضحية لتأجيل دائم.
ثانياً: هذه الظاهرة المشار إليها كانت لها نتائج كثيرة، من أهمها ظاهرة عدم تهيكل المعرفة المغربية الراهنة. أو بعبارة أخرى، خضوع هذه المعرفة لإكراهات تاريخية قوية، وتتجسد حاضراً في هذا الغليان التائه أو الحائر إيديولوجياً.
في هذا الأفق الافتراضي والاستفهامي، مررنا إلى طرح أسئلة المغرب والعصر الحديث، وبالتخصيص علاقته بالفكرة الليبرالية.
إن اللغة السياسية مرتبطة دائماً بالوضع الإيديولوجي للشرائح الاجتماعية، التي يفترض أنها تدافع عنها أو تروجها في سوق البضاعة السياسية. وقد نظرنا إلى ظاهرة التداول المفاهيمي السياسي الكثيف في المغرب على هذا الأساس. غير أن هذه اللغة كمفاهيم متداولة بهذه الدرجة أو تلك من الوعي والعمق الفكري، ليست فقط نتيجة لمطامح الخطاب وميوله أو آليات إنتاجه الذاتي، بل أيضاً نتيجة لنضج حقل الممارسة السوسيو-سياسة. وبكلمة واحدة، فإن إشكالية اللغة السياسية أو المفهوم السياسي، في تقدير هذا البحث، سؤال تاريخي بكل معنى الكلمة.
إن المفاهيم، بهذا المعنى السالف الذكر، تصورات لمشاريع سياسية معينة، وهذا معيار جوهري في تمييز الثقافات السياسية بعضها عن البعض الآخر على المستوى الإيديولوجي.
إن مفهوم الليبرالية، الذي يستجيب بدوره لهذا المعيار، يطرح مشكلاً خاصاً: فهو يجسد إيديولوجية سياسية من بين إيديولوجيات أخرى، كما يجسد أيضاً إحدى المكتسبات الكبرى للعصر الحديث، بحيث تصبح الليبرالية بهذا المعنى الثاني إحدى علامات عصر بكامله، كما هو الشأن تماماً بالنسبة لمكتسب العلم أو التقنية أو العقلانية.
قبل أن ننهمك في البحث عن أصول وتجليات الفكرة الليبرالية في المغرب، طرح علينا السؤال “الصعب”:
أين يمكن أن نعثر على هذه الفكرة، أو على بعض إيحاءاتها وملامحها؟ هل في النصوص؟ أم في الأفكار؟ أم في مظاهر التحولات المؤسساتية التي بدأ يشهدها المغرب منذ دخوله الملتبس إلى العصر الحديث؟.
إن هذا السؤال مرتبط بكل الأسئلة التي طرحت أو يمكن أن تطرح، حول موضوع المغرب والحداثة، وهي الأسئلة التي تبين لنا أنها خضعت لمقاربة المؤرخ والسوسيولوجي والأنثروبولوجي والباحث السياسي والاقتصادي، وكانت ملاحظتنا هذه كافية لاستخلاص الطابع الشائك لهذا الموضوع.
ليست الليبرالية منتوجاً فكرياً عادياً، أو إيديولوجية سياسية حزبية فقط، رغم ارتباطها الأكيد بهذا المعنى، بمصالح طبقة اجتماعية تاريخية هي الطبقة البرجوازية الحديثة.
نشأت الليبرالية في العصر الحديث كتصور عام للعالم، يختزل كثيراً من الثوابت التي كانت عاملاً قوياً في إحداث كل الثورات الكبرى، التي سبق أن أعلنت في وقتٍ ما قدوم الحداثة على أنقاض عصر تم اعتباره بائداً.
إن سؤال الليبرالية في المغرب سؤال صعب كسؤال الحداثة ذاته، غير أنه السؤال الأول، الذي يطرح بالتخصيص، مشاكل من طبيعة مختلفة.
فالإحاطة بأصول وتشكلات الفكرة الليبرالية في المغرب، منهجاً ورؤية نظرية، يتطلب رصداً تاريخياً لآليات وكيفيات اشتغال الحقل السياسي المغربي، وهو ذلك المنتوج التاريخي العريق، وباستقراء الحياة السياسية المغربية عبر التاريخ، يظهر أن هذا الحقل، منذ دخوله الاضطراري في زمن الحداثة، يسير ببطء شديد، سواء على صعيد الحياة الخاصة بالفكر، أو على صعيد المؤسسات السياسية القائمة، ولم يكن ذلك إلا نتيجة للجمود الفكري والمؤسساتي لمغرب القرون الماضية.
إن الفكرة الليبرالية في المغرب، ليست خطاباً فكرياً أو سياسياً تم الانتهاء من تشييده وهيكلته؛ فهي إحالات أو ميول أو تطلعات قد تعبر عنها فئة اجتماعية أو أخرى، وقد تكون مطلباً لهذا المثقف أو ذاك السياسي. إن الأمر لا يتعلق بخطاب يكشف عن ذاته دفعة واحدة، أو بخطاب يملك حسًّا فكرياً رفيعاً. فأصول هذه الفكرة أصول ملتبسة أو مركبة، بحيث قد نعثر عن نتف من الفكرة الليبرالية في نص رسمي للدولة أو في قرار يصدره السلطان، أو في فتوى فقهية مجتهدة، أو في صيحة سياسية أو دستورية أو حزبية، تدعو إلى العدل وإيقاف زحف الاستبداد، أو تدعو إلى بعض المطالب المسطرية الحقوقية كالحد من تداخل السلط، أو تطالب بتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية...
إن الفكرة الليبرالية في المغرب فكرة ملتبسة ومرتبكة معرفياً، ولا تجسد تياراً أو منعطفاً أو صيرورة من الصيرورات التي تسم حياة مجتمع من المجتمعات. إنها تجسد فقط أوضاعاً تاريخية هامشية، يشوبها الكثير من الغموض والتردد الفكري، وعدم الاستعداد المعرفي الناضج.
-2-
هيكلة البحث ومنهجيته
يتشكل هذا البحث من ثلاثة أقسام. يعالج كل قسم على حدة سؤالاً جوهرياً من تلك الأسئلة الكبرى التي انصب على تحليلها ودراستها.
يشكل القسم الأول وعنوانه “الحداثة والليبرالية”، السير نحو التشميل والنمذجة الكونية، ويتكون من أربعة فصول، جعلنا منها محطة نقدية واصطلاحية، لطرح كل القضايا المفاهيمية والتاريخية التي تحيط بالمفهومين المركزيين، أي مفهوم الحداثة ومفهوم الليبرالية.
ويتشكل القسم الثاني وعنوانه “الحداثة والتباساتها التاريخية: المغرب والعصر الحديث”، من تمهيد نظري وثلاثة فصول، حاولنا من خلالها موضعة المغرب الحديث في قلب التاريخ، وبناءً على الثوابت والمتغيرات التي احتكمت إليها تاريخياً علاقة المغرب بأوروبا. وقد حاولنا في هذه الفصول، طرح سؤال جوهري حول إمكانيات التحول الليبرالي في مغرب نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين.
أما القسم الثالث فيتشكل من خمسة فصول، سعت إلى رصد والتقاط بعض تجليات الفكرة الليبرالية، أو فكرة التحديث السياسي في المغرب، قبيل وأثناء المرحلة المولونيالية، وما بعد الحصول على الاستقلال، إن الأمر يتعلق هنا بنماذج فكرية أو مؤسساتية، وليست هذه الأخيرة حصرية وجامعة في وصف أحوال ومواقع الفكرة الليبرالية في المغرب.
اعتمد هذا البحث، على المستوى المنهجي، مقاربة مفاهيمية تاريخية، تتعقب الأفكار في حركيتها وتحولاتها المفترضة ومداراتها المختلفة، وتستخرج روحها الفكري من خلال مناطق البياض التي تسلكها لزوماً، وفي ضوء إكراهات تاريخ المغرب الحديث وبعض أعطابه المزمنة.
يمكن وصف هذه المقاربة المشار إليها بعملية الرصد المفاهيمي، أي تلك العملية التي تعني رصد كل المفاهيم التي تحوم، بطريقة أو أخرى، حول مفهوم الليبرالية بالذات، كما استقر في التربة الاجتماعية والثقافية المغربية. غير أن هذه العملية ذاتها لم تكن ممكنة ومفيدة، في تقدير هذا البحث، دون العودة إلى المفهوم الأصل، أي في تربته التاريخية والفكرية الأوروبية. ومن هذا المنطلق، اعتنينا بمفهوم الليبرالية الغربي، كما اعتنينا بجهازه المفاهيمي التأسيسي.
يتعلق الأمر بمنهجية تستند على الاستقصاء المفاهيمي التاريخي، لتراكمات تاريخية ثقيلة وكثيفة المعنى وعميقة الإحالة، يعبّر عنها عدد كبير من الأفكار السياسية والميول الثقافية، التي انبجست الفكرة الليبرالية من دروبها الملتبسة، أو يفترض أنها نمت بجوارها.
ترعرعت الفكرة الليبرالية في المغرب، إما في سياقات سياسية مضادة لليبرالية، أو في خطابات غير الليبرالية على مستوى هويتها الإيديولوجية الحقيقية، وهذه الخاصية الجوهرية لعلاقة المغرب بالليبرالية، سببت لنا كثيراً من المصاعب المنهجية، حيث قللت من إمكانية التوصل إلى الهيكلة الإيديولوجية للأفكار التي تدور في فلك الفكرة الليبرالية. غير أن المنهج المعتمد - لكونه سمح لنا بالقيام برصد مفاهيمي عميق لبعض المرجعيات المتناثرة هنا وهناك في معركة التاريخ، في ضوء مفهوم مرجعي- قلل من هذه الصعوبات المشار إليها آنفاً.
تبين لنا أنه لا يمكن استقصاء أصول وملامح الفكرة الليبرالية في المغرب، دون العودة إلى النسق المرجعي للفكرة في حد ذاتها. أي إلى أصلها. فالليبرالية كمذهب أو تصور عام للعالم، مكسب جوهري من مكاسب الحداثة. والليبرالية بالمعنى الذي عالجه هذا البحث، هي كثير من قيم وثوابت الحداثة السياسية أو التحديث السياسي بمعنى أدق، وفي هذا الإطار قدّم هذا البحث سؤالين جوهريين:
1- ما هي الحداثة؟
2- ما هي الليبرالية؟
لقد كان ضرورياً أن نرصد تاريخياً ومفاهيمياً هذه المرجعية، وقد سعينا في إطار هذا التوجه المنهجي إلى تحقيق غايتين:
أولاً: توضيح ذلك الالتباس الذي يحوم حول مفهومي الحداثة والليبرالية، ثم التعرف على الكيفية التي فكر بها الوعي الأوروبي الحديث في هذين المفهومين.
وفي هذا الإطار اعتنينا بفلسفة الحداثة، نظراً لإيماننا بأن المفاهيم بصفة عامة منتوجات تاريخية، تتهيكل ثقافياً وسوسيولوجياً استناداً على نسبة تأصيلها الفكري.
إن فلسفة الحداثة أو بعبارة أخرى، القراءة الفكرية الأوروبية للعصر الحديث لحظة لا غنى عنها من أجل موضعة الحداثة والليبرالية كظواهر تاريخية متميزة.
ثانياً: تحديد نقطة البدء، أي ذلك الإطار التاريخي العريض الذي شهد ميلاد الحداثة والليبرالية، كظواهر اكتساحية لا يمكن نزوعها نحو التشميل الكوني، إلا في ضوء الاطلاع على مرجعياتها الأصلية والحقيقية.
إن البحث في علاقة المغرب بالفكرة الليبرالية بناءً على المقاربة المعتمدة، فرض علينا على المستوى المنهجي، إنجاز مسح تاريخي وفكري، حاول قدر الإمكان أن يكون شمولياً، لمرحلة زمنية طويلة نسبياً تناهز القرن، وتمتد زمنياً منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى حدود ستينات أو سبعينات القرن العشرين.
وبما أن الفكرة الليبرالية في المغرب ليست بعدُ خطاباً قائماً وسهل التصنيف؛ فإن هذا البحث لا يدعي الإحاطة بكل الأفكار أو التصورات أو التلميحات، التي يفترض فكرياً أن لها علاقة ما بالفكرة الليبرالية، وبناءً على ذلك، فإن هذا البحث ليس سوى محاولة أولية في هذا الإطار، وقد اكتفى في تحليله لعلاقة المغرب بالفكرة الليبرالية، بالاحتكام إلى الإطار المفاهيمي والمؤسساتي الذي تتهيكل في ضوئه تاريخياً الدولة والمجتمع والثقافة السائدة.
إن رصد هذا البحث للحداثة والليبرالية والتقليد كمنتوجات أو ظواهر تاريخية غنية سوسيولوجياً، وعميقة الدلالة فكرياً ومفاهيمياً، تم بطريقتين:
أولاً: بالطريقة التي يقرأ بها كل منتوج تاريخي ذاته، بحيث يخلق تصوراً شمولياً عن ذاته.
ثانياً: بالطريقة التي ينظر إليه غيره، أي بالطريقة التي تتأمله من خلالها منتوجات تاريخية أخرى.
يتعلق الأمر إذن بعلاقات صيرورية بين المنتوجات التاريخية. وفي هذا الأفق الصيروري اعتنت هذه الدراسة بمفاهيم الحداثة والليبرالية والتقليد.
لقد اقتضى منطق التاريخ ضرورة، أو على الأقل، قابلية التقاء هذه المنتوجات التاريخية ببعضها البعض، وفي داخل اللقاء تشتغل الصيرورة التاريخية، وتقع أحداث كثيرة مسببة رجّات عنيفة، أو شروخاً لها تضاريس تشبه المتاهة أحياناً، أو حالات صمت ملتبس، قلق وماكر أحياناً أخرى. ووراء هذه الأحداث كبيرة أم صغيرة تقبع أفعال وردود أفعال، أفكار وأفكار مضادة، خلفيات ومصالح ومواقف متوافقة أو متعارضة.
وفي هذا السياق التاريخي الشائك والطويل، عالج هذا البحث علاقة المغرب بالحداثة بصفة عامة، وبالتحديث السياسي بصفة خاصة.
إن المفاهيم على المستوى التاريخي تنتمي إلى أزمنة متعددة، كما أن مادتها ومضمونها خلاصة لتراكمات دلالية وفكرية وتوقعية عميقة جداً. إنها مكتسبات معرفية ومعجمية في الوقت نفسه، تنبجس من التقاطعات الضدية لسيرورات التاريخ، فكلما تم وضع المفهوم في التاريخ -لكي يتأمل ذاته ويتأمل غيره من المفاهيم الأخرى- انكشفت حقيقته الخاصة أكثر فأكثر.
هذه فرضية أساس في هذا البحث، حاولنا من خلالها أن نلتقط ونرصد المفاهيم انطلاقاً من زمانيتها المتعددة، أي بالكيفية التي تعمل عملها في الأفق الواسع للتاريخ.
إن المفاهيم “تجارب بشرية” كما يقول عبد الله العروي، من خلال تموقعها في سيرورة التاريخ. وقد تمت معالجة هذه الأخيرة في البحث، في سياقين:
1- سياق التماس المعرفي.
2- سياق الشرعنة التاريخية.
يعني السياق الأول سيرورة التأسيس الفكري أو التأصيل النظري للمفاهيم، من خلال معارك ونضالات أو جهود ثقافية أو اجتماعية أو سياسية كثيرة. ويعني السياق الثاني نسبية حصول المفاهيم على شرعية سوسيو-ثقافية، أي درجة قبولها أو الوعي بها أو رفضها ومقاومتها من طرف المجتمع.
في الإطار النظري المنهجي العام، وضع هذا البحث موضوع المغرب والفكرة الليبرالية.
إن مفهوم الحداثة كما تم الاشتغال عليه، أو تداوله وإجراءاته في هذا البحث، يعني مشروعاً حضارياً للتغيير له صفة الكونية. كما أن هنالك مشاريع حضارية أخرى عريقة وضخمة يختزلها مفهوم التقليد. وفي المقاربة المعتمدة، لا ينكشف المفهومان إلا إذا وُضِعَا في تقابل ذاتهما أولاً، وفي تقابل مع بعضهما البعض ثانياً.
ليس مفهوم الحداثة صفة جوهرية “للحديث” فقط، بل أيضاً نمذجة لتعريف الزمن الأوروبي الحديث كما يقول (Jean Baudriard)، ومن ثمة استطاع أن يتحول إلى نموذج مثالي للتحضر، وكسب الترخيص بالانتماء إلى العصر.
تحولت الأزمنة الحديثة إلى حداثة في نطاق التغيير الجذري الذي خضع له مفهوم الزمن. وتم ذلك في حقلين مختلفين:
أولاً: في حقل المعرفة العلمية - التقنية وثورتها المنهجية العارمة.
ثانياً: في حقل الفكر الديني والفكر الفلسفي، خاصة منذ الأطروحة الهيجلية حول التاريخ والتقدم التاريخي.
في هذا الإطار، انتصبت الحداثة في أفق الكون، معبرة عن قوة عصر استثنائي كان مدعماً بأفكار وعلوم وتقنيات وقيم جديدة. وقد قدم لنا الدرس الفلسفي الحديث والمعاصر، في تأمله وتحليله الغنيين للحداثة، دليلاً قوياً على أنه ليس هناك “نظرية نهائية للحداثة” على الأقل، لأن فعل التغيير الذي يؤسس روحها ويؤثث عوالمها الخاصة لا يسمح بذلك.
حين تلتقي الحداثة بالتقليد، وتتجلى بصيغة مختلفة، فهنا “لا توضع الحداثة في تقابل مع ذاتها”، بل كما تتأمل نمطاً حضارياً مختلفاً عنها جذرياً. وفي هذه النقطة بالذات، تكمن قوة الدرسين المعاصرين، السوسيولوجي والإنثروبولوجي، في مقاربتهما للتحديث والتقليد.
إن النتيجة الجوهرية التي يمكن استخلاصها من هذين الدرسين المشار إليهما، هو أن كل مجتمع على حدة يمتلك بدائل خاصة، أو استعدادات أو تصورات حول التحديث أو التغيير، أو كيفية الانتماء إلى العصر وشروطه منذ تعرضه لاختراق الحداثة له، لذلك فإن التعارض المطلق بين التحديث والتقليد مخادع إلى حد كبير في وصف الارتباط بينهما.
إن التغيير من التقليد إلى الحداثة سيرورة تاريخية معقدة، والتغيير السياسي يمثل الحلقة الأصعب في هذه العملية. فهو يتميز في هذا الإطار ببطء شديد مقارنة مع غيره من أشكال التغيير الأخرى. فالتحديث السياسي، بالنظر إلى الأنواع الأخرى، هو شرط التغيير كله وهدفه في الوقت نفسه.
لقد بدت الحداثة نسبية دائماً، أو بمعنى آخر مرهونة في سيرورة التحديث، بحيث تحولت إلى “حداثات” بصيغة الجمع، كما أن التقليد أيضاً أبان عن نسبيته ومرونته وتعدد ألوانه، رغم أنه كمنطق للتفكير، يتميز بالشمولية والتطابق الكامل مع ذاته.
إن رصد وتحليل سيرورة التحديث في مجتمع من المجتمعات، يقتضي وضعه في إطار الظاهرة الكولونيالية. ففي نطاق هذه الظاهرة بالذات، يظهر لنا كيف كان خيار التحديث خياراً مفروضاً من الخارج إلى حد كبير، بحيث لم يكن ذلك القرار التاريخي المحلي الذي تم التخطيط له من داخل المجتمعات التي تسمى “تقليدية”، غير أن التحديث كإيديولوجية لتغيير هذه المجتمعات ليس له معنى متماثل، ولم يكن دينامية تاريخية لها نفس الشحنة الوجدانية والتصورية والسلوكية لدى هذه الأخيرة. وذلك أحد العوامل التي أدت إلى اختلاف النتائج والمكاسب المحققة من مجتمع إلى مجتمع آخر. وفي هذا الإطار بالذات لعبت الدول أو الأنماط الدولتية في ذلك الوقت، كما لعبت الحركات الوطنية المقاوِمة للاستعمار، ومن ضمنها الحركة الوطنية المغربية أدواراً لا يمكن إغفالها.
-3-
استخلاصات
كان المغرب يواجه العصر الحديث، من القرن الخامس عشر إلى حدود القرن الثامن عشر، دون أن يعبر عن إحساس حقيقي بهذا العصر، ولم يكترث به بصفة عامة، وقد واجه المغرب، وفي نهاية القرن التاسع عشر، العصر الحديث بعد اكتماله، أي حين أصبح حداثة كان عليه أن ينصاع لأوامرها ومقتضياتها.
صحيح أن المغرب، قبل تعرفه الفعلي على العصر الحديث، كان دولة قوية ومهابة الجانب كما يقول محمد المنوني. وكان في مراحل متعددة ينجز سياسة الإصلاح، أي إصلاح ذاته وتغيير بعض أحواله من حين لآخر. غير أنه كان ينجز “تغييره” الخاص في قلب زمن دائري، ومن خلاله كان ينظر لذاته ولـ”الآخر” إن كان حقًّا قد امتلك آنذاك إحساساً حقيقياً بوجود “آخر” ما بجواره، إلى أن داهمته الحداثة بالقوة والعنف، فأصبح عليه تغيير ذاته بناءً على منهجية لم يعرفها أبداً، وفي ضوء منطق مختلف كان ضاغطاً ومستعجلاً.
هذا ما يمكن ملاحظته في وصف علاقة المغرب بالحداثة، إذا ما عدنا إلى أبحاث تاريخية جادة ساهم المؤرخون في إنارة كثير من جوانبها.
في هذا الإطار بالذات اشتغلت آلة التقليد في المغرب، إما كدعوة إلى الجهاد والمقاومة المسلحة، أو كدعوة إلى الاجتهاد وفعل الإصلاح، أو كدعوة إلى الانفتاح والاستفادة من مدنية أوروبا وحضارتها القوية. وهكذا، انخرط التقليد في المغرب، قليلاً أو كثيراً بوعي حاد أو محتشم بالتوافق أو المعارضة والرفض، في عملية التغيير التاريخي الكوني، التي كان قد بدأ يشهدها العالم في ذلك الوقت، أي في التحديث بالذات.
إن منطوق التغيير كما مارسه المغرب، كسياسة إصلاحية منذ القرن الثامن عشر على الأقل، كمعتقد ديني فقهي قوي، أو كتدبير سياسي - ثقافي أو اجتماعي - اقتصادي، ظل في القرنين اللاحقين يدور في فلك التقليد، ويعمل فقط على إعادة إنتاجه، إلى أن تحقق عملياً تناسبٌ، بين معنى التغيير بمفهومه الأوروبي الحديث، ومفهوم الإصلاح بمفهومه الإسلامي المغربي العريق. هكذا اندمجت الحداثة في التقليد، في حالة المغرب.
لقد عانى المغرب في هذا الإطار من ثلاثة تناقضات هيكلية:
1- التناقض الأول يهم البنية السوسيو - اقتصادية، وهو ما يمكن اختزاله في ركود الدورة الاقتصادية، ولم يتوفر المغرب - سواء في القرن التاسع عشر أو في القرن العشرين- على طبقة أو طبقات اجتماعية، تستطيع أن تتحول إلى فاعل استراتيجي في قيادة عملية التحديث بصفة عامة، أو التحديث الاقتصادي بصفة خاصة.
2- التناقض الثاني يهم الحقل السياسي، وطبيعة ميزان القوى الإيديولوجي داخله، وغلبة التيار المحافظ والمضاد للتحديث داخل أجنحة السلطة المخزنية.
3- تناقض ثقافي يمكن اختزاله في ثبات أو تصلب المرجعيات الإيديولوجية، أو المذهبية للمجتمع المغربي. أضف إلى ذلك، قلة معرفته واطلاعه على حقيقة جارته أوروبا القوية.
نتيجة لهذه التناقضات، جاء التحريض الجوهري على ضرورة إنجاز التحديث دائماً من الخارج، وكما تحول التحديث ذاته إلى مشروع مخزني أو شبه مخزني، بحيث ضاعت معظم المبادرات أو النصائح التحديثية في الدهاليز المظلمة للبيروقراطية المخزنية.
يعتبر المخزن أهم معطى تاريخي، في تفسير وتحليل تميز التجربة التحديثية، كما جرت ومازالت تجري أطوارها في المغرب، بالمقارنة مع تجارب أخرى. إن المخزن كدولة، على خلاف تجارب دولتية أخرى، لم يكن وليد المرحلة الكولونيالية، بل هو خلاصة العمق الديني والمؤسساتي، والرمزي والطقوسي لمجتمع تاريخي هو المجتمع المغربي.
اعتنى هذا البحث فيما يتعلق بالمخزن كمنتوج تاريخي جوهري، في تدبير علاقة المغرب بأوروبا الرأسمالية والليبرالية، بالكيفية التي كان ينسج بها علاقاته مع المجتمع ووظائفه، في عملية التحديث العسيرة، وبالتالي بأدواره في إشاعة أو إعاقة أو تأجيل تأسيس مشروع حضاري تحديثي، في تمثله الفكري والمؤسساتي لمكاسب الليبرالية الحديثة.
بالعودة إلى كثير من الدراسات تاريخية أو سياسية أو سوسيولوجية، فإن المخزن كجهاز دولة، في تقدير هذا البحث، ليس متماثلاً مع دولة الإقطاع الأوروبية، وليس تماماً تلك الدولة الشرقية الاستبدادية، كما أنه ليس بإطلاق، ذلك النظام الدولتي الذي ينعت بالباترمونيالي. لكنه مع ذلك، يمتلك بعض الخصائص التي تجعله قريبًا من هذا النمط الدولتي أو ذاك.
ينبني تجذر المخزن في النسيج السوسيو-ثقافي للمجتمع المغربي الحديث على مشروعية مرجعية يختزلها: الإسلام والبيعة والنسب الشريف. لهذا فإن ما انصرف إليه هذا البحث، في هذه النقطة، هو تحليل نوعية العلاقات التي تربط المخزن بالمجتمع اجتماعياً وثقافياً، وليس المخزن في حد ذاته، وهذا الاهتمام سعى إلى تقويم نسبة نجاح أو فشل المقاربة المخزنية للتحديث بصفة عامة. والتحديث السياسي بصفة خاصة، في ضوء عواملها التاريخية الموضوعية. إن الاهتمام انصب على سؤال جوهري حول قدرة أو عجز المخزن على توفير أو تفعيل، وتنشيط إمكانيات التحول الليبرالي.
وفي هذا الإطار، استرعت انتباهنا ظاهرتان:
الظاهرة الأولى: أن نسق السلطة المخزنية ينبني إيديولوجياً ويتوطد دينياً وثقافياً وسوسيولوجياً، على نموذج ثقافي مرجعي أو معياري، ينظم فضاء السلطة وسلوكات الزعامة والخضوع، أو “القيادة والولاء” في حقل المجتمع ذاته.
الظاهرة الثانية: أن المخزن وبيروقراطيته بصفة عامة، رغم المفعولات القوية للتغلغل الرأسمالي داخل المغرب، ظل أثناء الحماية (المرحلة الكولونيالية) قوياً ومحافظاً على خصائصه الجوهرية التي تهيكله تاريخياً، كشكل دولتي متميز.
يحيلنا مفهوم البيعة من الحقل الديني إلى مفهوم سياسي، هو مفهوم التعاقد بسماته الليبرالية، وباستقراء معطيات التحديث السياسي في المغرب، يمكن القول: إن النبرة والمضمون والأفق الفكري يختلف من المفهوم الأول إلى المفهوم الثاني.
إن خصوصية البيعة في هذا الإطار، ورغم أهمية الاجتهاد الحقوقي المبذول في هذه النقطة، في أطروحة محمد لحبابي المشهورة، على سبيل المثال لا الحصر، هو توجهها المزدوج إلى رعايا ومواطنين، منذ أصبح المغرب “دولة حديثة”، في حين أن التعاقد الليبرالي يتوجه إلى مواطنين فقط. ولا تخرج البيعة المشروطة التي عرفها المغرب في بعض المراحل، خاصة في العهد الحفيظي، عن هذا الإطار.
إن المجتمع المغربي مجتمع ثوابت وأصول، أي مجتمع الإجماع المذهبي والعقائدي. والإجماع، كما جرت مغربته تاريخياً في ظل المرجعية الإسلامية السنية، وفي ضوء معطيات التحديث، يقوي ظاهرة تمركز السلطة السياسية المخزنية واحتكارها، وليس تداولها الواسع والمتعدد، وإذا كان مبدأ الفصل القانوني الصارم بين السلطات والمؤسسات المختلفة، أحد ثوابت الفكر الليبرالي، فمن اللازم الانتباه لهذه الظاهرة في حياة المغرب الحديث والمعاصر، الذي أقام علاقة خاصة جداً بالتحديث السياسي.
لقد اعتنى هذا البحث بقياس نسبة الاستعداد الفكري في المغرب انطلاقاً من عملية تدبير وإنجاز التحديث السياسي، وبالتالي إدخال بعض الإصلاحات الليبرالية في بعض الأحيان. وفي هذا الإطار بالذات بدا لنا أن نقص هذا الاستعداد أو هشاشته وطراوته، أحد العوامل التاريخية في تفسير صعوبة استقلالية المجتمع عن الدولة في المغرب. وهذه الاستقلالية اليوم معيار حاسم، ومؤشر جوهري في قياس نسبة التحديث السياسي في أي مجتمع من المجتمعات.
لقد عانى الجهد الفكري المبذول من أجل تكييف بعض المفاهيم التراثية التقليدية، كالإصلاح والاجتهاد والبيعة والإجماع والشورى، مع بعض المفاهيم الليبرالية، كالتعاقد والنظام والتمدن والديموقراطية والدستور والقانون والحرية، من متاعب وارتباكات مفاهيمية كثيرة، وقد عانت كل النصوص أو الأفكار أو الوثائق السياسية المغربية من هذه المصاعب الفكرية، وقد لاحظنا في هذا البحث جهداً فكرياً متميزاً بذله أشهر ليبرالي مغربي في القرن العشرين، وهو الوطني محمد بلحسن الوزاني.
في هذا الإطار توقفنا عند ظاهرتين:
الظاهرة الأولى: قلة الكتابة السياسية المحترفة، بمعنى ضآلة الإنتاج السياسي، وامتناعه عن المعالجة الشمولية لقضايا سياسية ذات طابع فكري. أضف إلى ذلك، عدم استقلالية النص السياسي التنظيري عن غيره من النصوص.
الظاهرة الثانية: حالة الاطمئنان الفكري أو الارتياح النظري، في معالجة قضايا التحديث السياسي، كما أن انخفاض نسبة التحليل الفكري أحياناً، يمكن تفسيره بمحدودية الاطلاع على الفكر الأوروبي الحديث في هذه الحالة.
عالج الفكر السياسي المغربي إشكالية تحديث الدولة، في إطار البحث عن تجديد مفهوم السلطة السياسية التقليدية. وطغى هذا الهاجس، سواء على بعض التدخلات الفقهية، كنص البيعة الحفيظية، أو في بعض الملاحظات النقدية الذكية للسفراء - الرحالة المغاربة، أو في بعض المقترحات الدستورية في بداية القرن العشرين، أو في ذلك الإنتاج الفكري القليل، الذي اقترن بالعمل السياسي للحركة الوطنية المغربية. هنا بالذات تظهر لنا جسامة الإصلاح، وجسامة المصاعب الفكرية، وملامح التردد الفكري، التي انطبعت بها علاقة الإصلاحية المغربية بأوروبا الحديثة. وقد كان هذا الوضع التاريخي، على المستوى الفكري، نتيجة موضوعية لذلك السياج المفاهيمي الذي يحيط بمفهوم الإصلاح، أي ذلك المفهوم المحلي الثقيل، الذي أراد به المغرب أن يتكيف مع مفهوم كوني قوي عنانه: “التغيير”.
إن أوضاع وآفاق الفكرة الليبرالية في المغرب، حصيلة ظاهرة تاريخية أخرى، هي ظاهرة هيمنة الفكرة السلفية.
وقد كان لدخول الأفكار السلفية الوهابية إلى المغرب، على يد السلطان محمد ابن عبد الله في القرن الثامن عشر، دوراً بارزاً في رسم معالم المراحل اللاحقة. إنها منذ ذلك الوقت، ظاهرة التلقيح للإيديولوجية المحلية، وهي على كل حال، ظاهرة دائمة وعامة في علاقة المخزن بالإصلاح والتحديث.
وستتوطد دعائم الفكرة السلفية أكثر فأكثر، بدخول السلفية النهضوية إلى المغرب منذ بداية القرن العشرين، بعد عودة الشيخ عبد الله السنوسي من المشرق.
لقد نجحت السلفية في المغرب “بدرجة لم تحصل عليها حتى في بلاد محمد عبده وجمال الدين” كما يقول علال الفاسي بكبرياء واضح. وأهمية هذه الملاحظة في تقدير هذا البحث، هو تأثير هذا النجاح الإيديولوجي على الآفاق الضيقة في ذلك الوقت للعلاقة الفكرية بين المغرب وأوروبا. وبشكل خاص، على تمثله الفكري والسياسي للفكرة الليبرالية الحديثة.
في ضوء هذه الملاحظات والاستنتاجات، يمكن تفسير إمكانيات التحول الليبرالي في المغرب، إضافة إلى أوضاع الفكرة الليبرالية داخله، في الفترة التاريخية التي اهتم بها هذا البحث من خلال مجموعة من العوامل أهمها:
1- غياب تقليد فكري في تأصيل المطلب السياسي. على المستوى النظري.
2- قلة المعرفة الفكرية المغربية بأوروبا.
3- طغيان العمل السياسي المباشر على اهتمامات الحركة الوطنية المغربية، وقد أدى ذلك إلى محدودية الجهد الفكري المبذول، كما لاحظنا ذلك حتى في مرحلة ما بعد الحصول على الاستقلال.
4- عملت المرحلة الكولونيالية على تقوية المقاربة المخزنية التقليدية للإصلاح و التحديث، وقد تم فيما بعد اختزال إشكالية التحديث السياسي العسير في المسالة الدستورية، كمسألة تقنية وليس سياسية بالدرجة الأولى.
5- ارتباط الأفكار الليبرالية بالظاهرة الاستعمارية في ذهنية النخبة المغربية، أو ارتباطها أحياناً بالمطامح الإمبريالية للرأسمالية العالمية. وقد تمت ملاحظة ذلك حتى في السبعينات من القرن العشرين، في أقوى وثيقة سياسية اشتراكية ديموقراطية في المغرب المعاصر.
6- عدم تشكل قطب اجتماعي طبقي قوي، أو برجوازية وطنية مستقلة عن الدولة وخياراتها أو حساباتها الخاصة، تؤمن بالتحديث كرهان تاريخي طويل الأمد.
7- الانتماء المخزني أو شبه المخزني للنخبة المغربية، والطابع التقليدي المحافظ لعملية إعادة الإنتاج الاجتماعي.
8- الموقف المحافظ - الذي عبرت عنه الحركة الوطنية - من التجربة السياسية لمحمد بن عبد الكريم الخطابي، كتجربة نهضت على دعائم محاولة دستورية ذات نفحة ليبرالية.
9- التطور الفكري الضعيف للظاهرة الحزبية، وانحسار الأفق الإيديولوجي لدى المؤسسات الحزبية المغربية، رغم أن المغرب نهج باكراً سياسة التعددية الحزبية.
إن هذا البحث لا يدّعي الإحاطة الشاملة بموضوعه، وهو ليس سوى محاولة أولية، من أجل معالجة إشكالية شائكة، تتطلب تضافر جهود علمية ومنهجية متعددة، وحسبه أنه حاول المساهمة في إنارة بعض الأسئلة المرتبطة بهذا الموضوع.
إن هذا البحث يحاول أن يقدم -شكلاً ومضموناً- مقاربة تنضاف إلى غيرها، وتستنير بكل المقاربات التي سبق اعتمادها في معالجة إشكالية التحديث السياسي في المغرب، سواء من طرف أساتذتنا أو زملائنا الباحثين. وهو يدين، في شكله ومضمونه، لكل الجهود العلمية المبذولة سابقاً في هذا الإطار، وقد فاته الاطلاع على بعضها، كما يدين للتوجيهات الثمينة لأستاذنا المشرف محمد سبيلا الذي شمله بالرعاية والتشجيع.
من المؤكد أن هذا البحث، أغفل بعض جوانب هذا الموضوع الخصب والحساس، في حياة الفكر المغربي والمغرب المعاصر، أو أنه على الأقل فاته الانتباه إلى بعضها الآخر.
هذا البحث يعول على توجيهات اللجنة العلمية المحترمة، من أجل تصحيح كل ما ينتابه من النقائص. ونتمنى مخلصين، أن نتمكن مستقبلاً من بذل مجهودات علمية أخرى، من أجل إغنائه وتطويره بشكل أفضل.
الهوامش:
* باحث - المغرب.