شعار الموقع

التطرف... والثقافة

راشد المبارك 2006-06-18
عدد القراءات « 761 »

كلمة حول المنهج

عمد الباحث في إعداد بحثه هذا أن يلتزم بمنهج يتمثل في الاعتبارات التالية:

الأول: ألَّا يستشهد فيما يكتبه عن التطرف في الغرب -ومنه الولايات المتحدة- إلا بما كتبه الغربيون أنفسهم وأكثرهم من الولايات المتحدة الأمريكية. وذلك حرصاً على الموضوعية والوثوق من صحة الوقائع والأحداث.

الثاني: ألَّا يجيء بشيء في البحث عن التسامح لدى المسلمين إلا ما هو من مصدري التشريع الإسلامي “القرآن والسنة” أو من شواهد موثقة من تاريخ المسلمين، وقد جاء أكثرها شهادة للمسلمين من غيرهم مراعاة للاعتبار السابق.

الثالث: مع رغبة الباحث في خلو البحث من غير الحرف العربي إلا إنه اضطر لذلك في الحالات التي يكون فيها اسم العلم أو المنظمة أو الموضوع غير معروف أو متداول لدى قراء العربية وذلك لإمكان الرجوع إليه في مصدره. وجاءت أسماء الأعلام أو المنظمات أو المواضع المعروفة المتداولة مكتوبة بالحروف العربية.

الجزء الأول: التطرف

توطئة

التطرف أكثر الأحداث التي تشغل العالم في وقتنا الحاضر، حديثاً عنه ومقاومة له وتتبعاً لأثاره وبحثاً عن دوافعه، ولعل تاريخ البشر لم يعرف حشداً لجهود وإعداداً لوسائل ودعوة إلى ملاحقة كما حشد من جهد وأعد من وسائل ودعا إلى ملاحقة ومحاربة التطرف الذي أثمر إرهاباً أو ردّ فعل لإرهاب، لقد بُذلت أموال وأهدرت دماء بسبب الإرهاب - الذي من أقوى أسبابه التطرف - أو مقاومته ومع أن التطرف ظاهرة شاذة في الشعوب والمجتمعات وبين أتباع المذاهب والأديان، وأن المتطرفين في كل شعب أو مجتمع ومن أتباع كل مذهب ودين قليلو العدد صغيرو النسبة إذا ما قورنوا بالغالبية العظمى من أفراد الشعوب والمجتمعات إلا أن أثرهم وخطرهم لا يجوز أن يُنظر إليه من خلال ذلك لان حجم الأثر والخطر يتجاوز حجم الظاهرة من حيث عدد أفرادها، لذلك فإن ما يبذل من جهد لدراسة هذه الظاهرة ومعرفة جذور نشأتها وعوامل بقائها ونمائها وأسباب انتشارها والمعالجة المؤدية إلى انحسارها من أنبل وأفضل ما يُقدم لحماية الحياة والإنسان.

التطرف

التطرف أكثر الكلمات شيوعاً وتداولاً في وقتنا الحاضر بحيث ترى فئة من الناس في أي تعريف له أو تحديد جهداً يسقط من اعتباره وضوح مدلوله لدى المتلقي فيكون ذلك الجهد مما يدخل في القاعدة القائلة: إن “توضيح الواضح خفاء” على أن الحقيقة هي أنه مع شيوع هذا الكلمة وكثرة تداولها في وسائل النشر فلا تزال هناك حاجة لتعريف ما نعنيه بهذه الكلمة في هذا البحث لسببين:

الأول: أنه لا يوجد تعريف كاف لكلمة التطرف في المعاجم العربية، إذ لم يرد لها ذكر في القاموس المحيط أو الصحاح، وما جاء في لسان العرب لم يزد عن القول “رجل طرف ومتطرف ومستطرف لا يثبت على أمر” وفي المعجم الوسيط “تطرف في كذا تجاوز حد الاعتدال ولم يتوسط” وذكر ALBERT BRETON وآخرون أن القواميس الفرنسية والألمانية والإيطالية تعرف التطرف بأنه الإفراط على حين تعرفه القواميس الإنكليزية بأنه عنف الوسائل المتبناة(1).

الثاني: أن التعريف حاجة يوجبها أن يكون هناك مرجع محدد الدلالة لموضوع هذا البحث.

تعريف التطرف

التطرف هو الشطط في فهم مذهب أو معتقد أو فلسفة أو فكر والغلو في التعصب لذلك الفهم واتخاذه حاكماً للسلوك.

منشأ التطرف

عدم ورود تعريف للتطرف في المعاجم أو قصور هذا التعريف يماثله أو يقاربه ندرة التأليف في هذا المجال مما يضطر الباحث إلى تسقُّط مفردات هذا الموضوع في مضان كثيرة من تاريخ وثقافة أية أمة يكون التطرف فيها موضع البحث.

كلمة التطرف في وقتنا الحاضر تحمل كثيراً من الظلال والايحاءات التي لم يكن لها وجود في تاريخ الكلمة اللغوي - وهو شحيح - وتطلق هذه الكلمة في وقتنا الحاضر للدلالة على عدة حالات من التطرف، منها السياسي والديني والمذهبي والعرقي وغير ذلك من دوافع التطرف وهو في منشئه استعداد ذاتي بمعنى أنه خصلة تنشأ مع الذات وليست شيئاً يسقط عليها من الخارج، فهو بذرة مستجنة في الذات مصاحبة لتكوينها، والعوامل الخارجية مهما كانت ضاجة ومحتشدة لا تخلق بذرة التطرف إذا لم تكن موجودة وإذا لم يكن من طبيعة متلقي هذه العوامل الاستعداد للتطرف، على أن العوامل الخارجية مثل التربية والتعليم والبيئة الدينية والاجتماعية ذات أثر كبير على ذلك الاستعداد من ناحية تحفيزه وتحويله من وجود بالقوة إلى وجود بالفعل أو إضعافه وتواريه، فهي عوامل تأثير في الدرجة لا في الوجود، ولا يحتاج الباحث إلى كثير من التأمل والبحث لاستجلاء هذه الحقيقة، فالمجموعة من الناس أو الأخوة الذين يولدون لمورث واحد وتحيط بهم نفس النشأة والتربية والتعليم والمخالطة والظروف الأخرى لا يكونون - بالضرورة - متحدين في ميولهم وسلوكهم وتوجهاتهم.

صفات المتطرف

من صفات المتطرف الظاهرة سرعة الانفعال والتوتر وفورة العاطفة، وهو غالباً سريع التصديق لما يسمع والاقتناع والاتِّباع لما يُوجّه إليه وعلى الأخص إذا سمع القول أو جاء التوجيه ممن يطمئن إلى صدقه أو يُعجب بمسلكه، وبقدر قربه من التصديق والوثوق يكون بعده عن محاكمة الأفكار والمواقف وتفحُّص المذاهب والمعتقدات، وليس من طبيعة المتطرف التحليل والتعليل والموازنة، وهو في انحيازه إلى فكر أو مذهب أو معتقد يُفرط في موالاته لما ينحاز إليه إفراطاً يمنعه من وضعه موضع التحليل أو المساءلة إذ إنه يعتقد اعتقاداً جازماً أنه الصواب الذي لا خطأ فيه والحق الذي لا باطل معه، ولا يرى في جانب المخالف له حقًّا يجب أن يسعى إليه أو صواباً ينتفع به، وإذا كان التطرف ذا منشأ ديني أو مذهبي أضفى على ذلك المنشأ هالة من القداسة تجعله يرى كل نقد له عملاً من أعمال الشيطان أو من إملاءات الهوى، وإذا حدث أن أُلجِئ إلى محاكمة ذهنية فإنه غالباً ما يروض عقله ليكون شاهد زور لما ينحاز إليه، ولا يجد معاناة في ذلك لأن الألف الطويل لما هو يجعل عقله مستجيباً لما يدعوه إليه، وعلى ذلك لا تكون لديه كوابح تَرُدُّه عما ينوي الإقدام عليه على أن ذلك لا يعنى أن المتطرف - بالضرورة - شرير بطبعه فهو يتوجه في كثير من حالاته بدوافع يعتقد قدسيتها أو نبلها، وظهور التطرف أو انتشاره لا يتوقف على عامل واحد أو سبب مفرد - كما مر - فهو قد يظهر أو ينتشر أو ينتقل من حالة إلى أخرى بسبب ديني أو عرقي أو سياسي أو اجتماعي أو غير ذلك من المسببات إذ إنه مخلوق لا يتغذى بطعام واحد بل يستمد بقاءه ونماءه من كثير من الأطعمة وقد يستمد غذاءه من السنابل الميتة ويستنجد بالغابر من الأفكار والمعتقدات.

التطرف خبز عالمي

لا ينفرد بالتطرف شعب دون سواه ولا طائفة من البشر دون غيرها ولا أتباع دين بعينه أو معتنقي مذهب سياسي أو اجتماعي واحد، ولم تعرف دفاتر التاريخ ثقافة واحدة خلت من أفراد زرعوا فيها ما يوقظ الصراع أو يشعله بسبب تطرفهم، وُجد التطرف في كل الشعوب ومُورس من قبل أفراد وجماعات من أتباع كل الديانات والمذاهب على اختلاف أطيافها. ظهر في مجموعات وأفراد ومورس على مجموعات وأفراد، ولم تكن الحروب والصراعات التي عرفها البشر لتقع أو تقع بنفس الحدة والاتساع لو لم يكن في مكان القيادة من المتنازعين أفراد تختزن طباعهم موروثاً متوحشاً من الماضي البعيد، فالبوذية التي عرفت منذ 2500 عام أو نحوها بدعوتها إلى التسامح لم تمنع أتباعها من توظيف معتقدها في حشد الجيوش في القديم والحديث لاستبقاء مصالحها ومحاربة جيرانها(2)، ولم يتورع اليابانيون عن توظيف نفس المعتقد لدفع مجتمعهم إلى الحروب التي خاضوها في أوائل القرن المنصرم، ومن المرجح ألَّا تشتعل الحروب الصليبية أو لا تكون كما كانت عليه من العنف والاتساع لولا تطرف بطرس الناسك وتطرف بعض سلاطين السلاجقة من المسلمين(3) وليس من المظنون أن تشتعل الحربان العالميتان الأولى والثانية بما أدت إليه من كوارث كونية لولا التطرف الشديد الذي تنطوي عليه الأفكار النازية والفاشية، وليس الخوارج في تاريخ المسلمين ولا أتباع بعض الجماعات الإسلامية المعاصرة إلا بعض التعبير والترجمة لذلك التطرف المدمر، والفرنسيون الذين يعرفون في العبرية باسم فيروشيم وتعني الذين انعزلوا عن سواهم لأنهم يرون أنفسهم صفوة الله المختارة هم الآباء الروحيون للصهيونية المعاصرة بما اقترفته وتقترفه من مظالم(4) ولعل ذلك ما دعا الحاخام GEREMY MILGROM مؤسس رابطة المتدينين من أجل السلام إلى القول: “من أعظم أحزان حياتي الروحية أن الفرد يمكن أن يجد بسهولة قضية مستمدة من المصادر اليهودية تؤكد العنف.....”(5).

ومع أن التطرف والتعصب والغلو ذات مدلولات واحدة أو متقاربة عند كثير من الناس فإن الأقرب إلى الحقيقة هو أن التعصب و الغلو فرعان لشجرة التطرف؛ إذ من المعتذر أن يوجد متطرف غير غال أو متعصب بما يعتنق من معتقد ديني أو سياسي أو اجتماعي أو عرقي أي أن يكون ذا اعتدال، كما لا يوجد ذو غلو أو تعصب لا يتطرف في رأيه أو موقفه ويمكن أن يجمع هذه الصفات الثلاث تعبير عدم الاعتدال ويشملها جامع واحد هو أن أيًّا منها ثمرة من ثمار معتقد (DOGMA)، فالمعتقد لدى فئة من الناس يدخل صاحبه في سبات قَلَّ أن يفيق منه، إنه عامل أول آثاره أن يكف العقل عن عمله فلا يعمل بل إنه يجعل العقل خادماً لما تمليه مشاعر ذلك الفرد وانفعالاته وعاطفته، إنه يجهد في حشد كل الحسنات لذلك الرأي أو المذهب أو المعتقد إن وجدت له حسنات أو قد يختلقها أو يتخيلها، فهو يجعل العقل في كثير من الحالات شاهد زور.

أقوى صفات بعض المعتقدات المذهبية وأخطرها أنه يجعل صاحبه يقدم على أكثر الأشياء خطراً وترويعاً في بسالة وقد يقترف أكثر الأفعال ضرراً وهو على بساط وثير من راحة الضمير، ولم يزدحم التاريخ في مساره الطويل بشواهد دالة على ظاهرة معينة كما ازدحم بالشواهد الدالة على مثل هذا السلوك في الماضي والحاضر فلا تزال هذه الظاهرة هي الوقود الذي يشعل وجدان وانفعالات بعض الأفراد والجماعات، فأفكار جماعة إعادة البناء Reconstruction كانت النبع الذي استمد منه MIKE BRAY دافعه لإحراق عيادة الإجهاض في مدينة دلوير(6)، وBARUCHGOLDSTEIN الذي وجد في قتل عشرات المسلمين بينما كانوا يؤدون صلاتهم في المسجد عام 1994 شيئاً من النشوة الروحية نشأ في بروكلين وكان طبيباً تلقى تعليمه في كلية البرت انشتاين(7)، والقس BONHO EFFER ترك منصبه وعمله في نيويورك وعاد إلى ألمانيا ليشترك في محاولة لم تنجح لاغتيال هتلر(8)، والذي قام باغتيال أنديرا غاندي - أحد القائمين على حمايتها - من أتباع طائفة السيخ، وYAGAL AMER الذي اغتال إسحق رابين من جماعة تعمل على إعادة بناء الهيكل في القدس ومن أتباع الحاخام MEIR KAHN مؤسس الجناح اليمنى لحزب KAHO (9) وTOM HARTLEY رئيس حزب سياسي وكاثوليكي، وغريمه البروتستانتي IAN PAISLEY وهو من اتخذ العامل المذهبي وقوداً للصراع بين الفريقين المتصارعين في أيرلندا الشمالية عضو في البرلمان البريطاني وممثل لبلاده في البرلمان الأوروبي(10)، والذين قاموا بإطلاق الغاز القاتل في قطار الأنفاق بمدينة طوكيو شباب لم تمنعهم ثقافتهم العلمية الجامعية مما أقدموا عليه لأنهم واقعون تحت تأثير العقيدة الهندوسية البوذية(11)، وخالد الإسلابولي الذي قام باغتيال الرئيس أنور السادات كان من الضباط في الجيش المصري.

وإذا اختلفت أديان وثقافات وأعراق من اقترفوا هذه الأحداث فقد تباينت أعراق وديانات وثقافات من وقعت هذه الأحداث عليهم، إن قائمة طويلة من البشر فقدوا حياتهم أو أمنهم بسبب التطرف أو الهوى من كل الأعراق والثقافات، وليس سقراط وابن المقفع بن درهم والحلاج ولسان الدين بن الخطيب وموسى بن ميمون وباندت سبينوزا وموسى مندلسون وجاليلي وجان روسو وجون لوك وبرنو وجان دارك والمهاتما غاندي إلا أمثلة قليلة لضحايا الأهواء السياسية أو التطرف الأعمى إذا كان في التطرف بصير.

التطرف في الولايات المتحدة

لم نخص الولايات المتحدة بهذا الحديث لأن شعبها أكثر الشعوب تطرفاً أو قبولاً للإغواء والإغراء، إلا أن إفرادها بهذه الوقفة جاء لأمرين:

الأول: أن الولايات المتحدة هي الأولى من بين الدول قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية ومن ثم فهي أقدرها أثراً فيمن حولها وما حولها، وهذا الأثر لا ينحصر داخل حدودها بل يمتد إلى خارج هذه الحدود، ويزداد هذا الأثر إذا وصل إلى موضع السيطرة والنفوذ فيها من يحمل بذرة التطرف أو يكون ذا ميل إليه.

الثاني: أن الإدارة الأمريكية الحاضرة تقوم بحملة واسعة على ما دعته إرهاباً ولم تسلم - وهي تقاوم إرهاب الأفراد والجماعات - أن تمارس إرهاب الدول والحكومات، وهذا الأمر ليس جديداً يكشف عنه هذا البحث ولكنه ظاهرة سالت بها الأقلام وفاضت بها مصادر الإعلام في داخل الولايات المتحدة نفسها.

مما هو جدير بالتأمل والملاحظة أنه مع ما جاءت به الكشوف العلمية التي تمت على يد كل من كوبر نيقوس وكبلر ونيوتن وجاليلي وما أثاره فلاسفة ومفكرون نظريون من أمثال فرانسس بيكون وديكارت وسبينوزا وفولتير وما أحدثه ذلك من هزة عنيفة في أفكار الناس وما تصوروه وألفوه عن الكون والحياة فقد عادت موجه من التطرف الديني غمرت أوروبا - وبريطانيا بوجه أخص - في القرن السابع والثامن ونشأت طوائف متشددة وضيقة الرؤية ترى كل واحدة منها أنها المرجع للتفسير والفهم الصحيح للكتاب المقدس(12)، وفي أوائل القرن الماضي بذلت جهود بين الأمريكان والأوروبيين لتكوين رابطة حول ما عرف بالحق الفطري أو الأساسي (RADICAL RIGHT) وبدأ نشاطها يقوى ويتسع منذ الستينات، وقد تعددت المجموعات الأصولية المتشددة وأغلبها من الإنجيليين (EVANGELICAL)، ويشير STUARTSIM إلى التشابه القوي بين الأصولية الأمريكية المعاصرة والتطرف الديني الذي ظهر في بريطانيا في القرن السابع عشر، فكلا الفريقين شديد الميل إلى اليهود حرفي في قراءته للنصوص الدينية، والاعتقاد بالعصمة المطلقة هي مصدر اقتناعهم بما يتبنونه من معتقد، وكتب الرؤية VISIONARY BOOKS هي مصدر الإلهام لدى الطرفين بما فيها من نبوءات مثيرة ومخيفة عن هزيمة ما يدعونها قوى الشر بغضب من الرب، وعقيدة المانوية المؤمنة بإله للخير وآخر للشر تكاد تسيطر عليهم(13).

الولايات المتحدة في الوقت الحاضر كما تراه MALISE RUTHVEN سوق موسعة للمقدس، توجد فيها الكنيسة أو تُكيف أو تخترع لتناسب أي توجه(14) وكما يقول STUARTSLM نفسه فإن الأصولية المسيحية هي اللاعب الرئيس في سياسة الجناح اليميني الأمريكي، ونظرته المنحازة لإسرائيل هي المؤثر الأساسي في سياسة أمريكا الخارجية، والأصولية اليهودية هي العقبة العائقة عن السلام في الشرق الأوسط(15).

الشواهد على الدعوة إلى سيطرة التوجه الديني وسلطة الكنيسة صارت من الكثرة كما أشارت RUTHVEN بحيث يتعذر إحصاؤها، وقد يكون مما يلقي مزيداً من الضوء على هذا الجانب إيراد بعض ما جاء في ذلك ومنه قول GARY BAUER المستشار للرئيس REGAN والرئيس لمركز أبحاث العائلة: “نحن ملتزمون بحرب سياسية واجتماعية وثقافية، هناك حديث كثير عن التعددية في أمريكا ولكن المؤكد أن قيم فئة ما ستسود...” وتعلق BLAKER على ذلك بقولها: “الحرب التي يتحدث عنها BAUER ليست حرباً على الأعداء السابقين من الشيوعيين أو الحرب الحديثة على ابن لادن أو الإرهابيين الإسلاميين، إنه يدعو إلى حرب بين الأمريكيين من أجل الحق في إملاء الأخلاق والسلوك الاجتماعي لأي فرد في الولايات المتحدة”(16)، ومثال ذلك ما قاله COACH McCARTNEY رئيس منظمة حافظي العهد POMISE KEEPERS وهو: “جيشنا قائد للحرب وسلاحه الله في هذه الحرب، وما على رجال هذه الأمة أن يسمعوه هو كلمة الله... إننا ذاهبون إلى الحرب كما لو كانت الليلة....”(17) ومثل ذلك ما قاله WILIAM MARTIN أستاذ الديانة بجامعة RICE وأحد أعضاء منظمة إعادة البناء عن اعتقاد وتصور المنظمة بقوله: “لدى المسيحيين تفويض بإعادة بناء المجتمعات البشرية، وهم مقتنعون أن الكتاب المقدس يقدم المخطط لشكل العالم الصحيح الذي يعاد بناؤه...”(18) ويعبر GARY NORTH أحد منظري منظمة الحق المسيحي CHRISTIAN RIGHT عن الاتجاه السابق بقوله: “للمرة الأولى في ثلاثمائة عام يُظهر عدد متنام من المسيحيين أنفسهم على أنهم جيش في الحركة (الحق المسيحي) وهو جيش يزداد نموه، ونحن نطلق - عن وعي - الطلقة الأولى...”(19) وينقل RANDAL TERRY عن EDWIN KAGIN مؤسس منظمة مقاومة الإجهاض قوله: “أريدك أن تدع موجة من الكراهية وعدم التحمل تغمرك، نعم الكراهية شيء طيب، هدفنا المسيحية وعلينا واجب إنجيلي، إننا مدعوون من الله أن نستولي على البلاد وألَّا تكون هناك تعددية في الرأي...”(20) وقد ارتفع أتباع الكنيسة التي ينتسب إليها KAGIN من 32% إلى 37% خلال الأعوام الأربعة الأخيرة من عشر الثمانينات من القرن المنصرم(21). مما يستدعي الانتباه والقلق معاً تنامي هذا الاتجاه الأصولي في المجتمع الأمريكي، فقد بلغ عدد هذه التنظيمات تسعة وخمسين تنظيماً أو أكثر من ذلك، ممن أسماهم كل من WEINBERG و KAPLAN نخبة جماعة الكراهية ومنهم ذوو أصول يهودية ومن ذوي الأسماء البارزة في الكونغرس أو في مناصب رسمية عالية، وقد أورد المؤلفان مقتطفات مما أذاعته بعض هذه التنظيمات مثل KKK والأمة الآرية (A.N) والحلفاء القوميون (N.A) وكنيسة الخالق العالمية تحمل أفكارهم الدالة على مدى التطرف الذي وصلوا إليه(22).

هذه الظاهرة التي تبدو غريبة وغير منتظرة تُفسر ما ذكره DE TOQUEVILL من أن المجتمع الأمريكي من أكثر المجتمعات قبولاً لما يسمع أو يوجه إليه عكس ما يظن به عقلانية...(23) ويوجز NOAM CHOMSKY هذا المعنى بقوله: “تقوم الولايات المتحدة منذ الثلاثين عاماً بنسف السلام (سلام الشرق الأوسط)، وإذا حدّثت جمهوراً من الأكاديميين أو المتعلمين فلن يعرفوا عما أتحدث لأنهم لا يعرفون أن الولايات المتحدة هي التي تنسف السلام(24).

هذه الصورة تلقي ضوءاً كاشفاً لفهم ما يحدث في الولايات المتحدة في الوقت الحاضر، لقد وضع مخططو الحرب ما عرف باسم (القرن الأمريكي الجديد) قبل حادث 11 سبتمبر بأعوام، وهو يقضي بإسقاط نظام صدام وإقامة حكم في العراق موال لأمريكا وإسرائيل(25)، ومن الممكن أن يكون حادث 11 سبتمبر مما عجل في الشروع في التنفيذ بإدراة الرئيس جورج بوش، لقد بلغت هذه الرغبة المتأججة في تنفيذ هذا المشروع إلى تقديم قائمة ظهرت بالغة الدقة والتفصيل عن مفردات أسلحة الدمار الشامل(26) التي يملكها العراق يهدد بها أمن الولايات المتحدة والبلاد المجاورة وبقية العالم، وبعد أعوام من البحث والتفتيش في كل الأماكن لم يستثن منها غرف نوم الحاكم بأمره في بغداد وبعد أكثر من عام من الاستيلاء على العراق وتجنيد آلافاً مزودين بكل وسائل الكشف لم يعثر إلا على شيء واحد هو السراب. وإذا كان إسقاط نظام بالغ الوحشية والتدمير مثل نظام صدام أمر مطلوب ومرغوب فيه إلا أن شن الحرب على بلد مستقل سُوِّغت بذرائع مكذوبة أو غير موثوق بصحتها بادرة غير مسبوقة في التاريخ الحديث.

الصلة بين التطرف والكراهية

الكراهية ترتبط بالتطرف ارتباطاً وثيقاً يصل أحياناً إلى الملازمة والاقتران وقَلَّ أن يخالط متطرفاً شعور محبة لمن يخالف ما يذهب إليه من مذهب أو اعتقاد. على أن العلاقة بينهما -التطرف والكراهية - ليست علاقة جدلية تسلك هذين الأمرين في دائرة مغلقة يتعذر منها معرفة أي الأمرين يكون مقدمة أو نتيجة، ذلك أن الكراهية قد تطرأ على الذات أي تكون ضيفاً حالاً عليها من الخارج وليست -في اغلب حالاتها- صفة متأصلة في الذات، وعندما كتب أرسطو عن النفس في دوافعها وميولها لم يزد عن الإشارة العابرة إلى الكراهية جاعلاً إياها مفردات العاطفة(27)، وفي بداية علم النفس التجريبي الذي بدأه Weber في القرن الثامن عشر محاولاً أن يسلك في بحثه مسلك العلوم الفيزيائية لم يستطع على هذا الشأن ما يجليه من وضوح، وقد أسفرت الاختبارات التي قام بها Iippitt على ثلاث مجموعات من الصغار عن تأثير أسلوب التربية والمعاملة على سلوك كل مجموعة أن أكثرهم ميلاً إلى الكراهية والعنف تلك المجموعة التي تعرضت لتربية قسرية(28)، فالكراهية إذن نبتة يمكن أن تغرس في الذات وهي الوقود الذي يستغله الطامعون والمغامرون للوصول إلى غايتهم وقد نقل قوبلز وزير الدعاية في العهد النازي عن هلتر قوله: “لقد أعطى الله كفاحنا أشمل بركاته وأكثر هداياه روعة... إنها بغض أعدائنا أولئك الذين نكرههم من قلوبنا”(29) فالكراهية هنا جاءت نتيجة للمعاداة، والتطرف من أسباب الكراهية والعوامل الجالبة لها، وهذا أمر مفهوم ومتوقع طالما أن المتطرف يخلع على عقيدته أو موقفه كل صفات الحق والكمال ومن ثم يخلع هذه الصفات عمّن يخالفه في موقفه أو معتقده.

الثقافة

كما لم يرد ذكر لكلمة التطرف في أكثر المعاجم فإنه لم يرد تعريف في هذه المعاجم لكلمة الثقافة بالمحتوى والايحاءات التي تحملها في وقتنا الحاضر. فلم يزد القاموس المحيط عن القول: “ثقف كَكَرُمَ صار حاذقاً فَطِناً خفيفاً، وثقَّفه سوَّاه، وثاقفه غالبه فغلبه” وفي الصحاح “ثَقُف الرجل صار حاذقاً خفيفاً” وفي اللسان شيء قريب من ذلك، وعرف المعجم الوسيط الثقافة بأنها “العلوم والمعارف والفنون التي يُطلب الحذق فيها” وعرف قاموس WEBSTER الثقافة بأنها “نمط متكامل للمعرفة الإنسانية والاعتقاد والسلوك القائم على مقدرة الفرد على التعلم ونقل المعرفة إلى الأجيال التالية....” وفي قاموس OXFORD “الثقافة مرحلة أو حالة من التطور الفكري والحضاري شاملة العلوم والأدب...”.

وفي الغرب لعل هذا المصطلح لم يُعرف بمفهومه الحاضر أو قريب منه إلا بعد الثورة الصناعية، وقد حاول كثير من كتاب الغرب وضع تعريف لهذا المصطلح كما فعل ريموند وليمز في مجلة السياسة والأدب POLITICS & LETTERS، إلا أنه لم يفلح في وضع تعريف مانع جامع لها.

يمكن القول: إن تثقيف النفس هو الرقي بها من طورها الأدنى في مكانة الإنسان إلى مكانها الأعلى من قيادة الإنسان، والحد الأدنى من الثقافة زاد من المعارف ونصيب من التجربة تعين على سداد الفهم وإصابة الحكم، وليس هناك تخوم لحدها الأعلى حيث تكون وقود الفكر وإضاءة له في إشراقه وإيراقه.

وفي واقع الناس تقوم تلك العلاقة الطردية الواضحة بين نصيب أي شعب من الثقافة ومكانه من سلم الرقي الإنساني قيادة وريادة قبضاً على ناصية القوة واكتشافاً لأسرار الكون واستفادة من سننه.

وحيث إن الفكر سابق للحدث، بل مقرر له ومفض إليه فإن إصابة أي حدث وسلامة أي موقف تحكمه علاقة لازمة بين حدوثه ومحدثه وسلامة وإصابة المحدث وتأديته لغايته ذو صلة بالحظ من الثقافة خف وزنه أو ثقل، ولا يجد الباحث عناءً في إدراك صحة هذا التحليل في واقع المجتمعات وما تدل عليه إحصاءات المنظمات الدولية ومنها منظمة التربية والعلوم والثقافة، وعلى ذلك يمكن أن نُعرف الثقافة بما يلي:

تعريف الثقافة

الثقافة هي جماع المعارف والتجارب والخبرات وأثر البيئة ونمط الحياة على الف