منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، والعالم الإسلامي الحديث يشهد حركة متصاعدة في أزمنة تاريخية مختلفة لمشروعات النهضة والإصلاح والتجديد في الأمة.. رداً على واقع التخلف والتجزئة والتبعية والتغريب..
وقد ساهمت هذه المشروعات في تجديد الوعي ويقظة الروح وإحياء الفكر في الأمة. وتبلور من هذه المشروعات الخطاب الإسلامي الحديث بمكوناته الأساسية:
الوحدة مقابل التجزئة والفرقة، والحرية مقابل الاستبداد والديكتاتورية والاستقلال مقابل السيطرة والتبعية، والعدالة مقابل الظلم والاستغلال، والهوية مقابل التغريب والغزو الثقافي..
تاريخية هذه المشروعات كانت في مرحلة خضوع العالم الإسلامي للسيطرة والهيمنة الاستعمارية الأوروبية..
ورواد الإصلاح في هذه المرحلة يتقدمهم موقظ الشرق السيد "جمال الدين الإفغاني" (1254-1315هـ/1838-1897م)، والشيخ "محمد عبده" (1266-1323هـ/1849-1905م)، والشيخ "عبدالرحمن الكواكبي" (1854-1902م) وآخرين..
وهذه الفترة التاريخية تعد من الفترات الحساسة والخطيرة من تاريخ العالم الإسلامي الحديث حيث ارتبطت أحداثها وتطوراتها السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية بالأوضاع والتحولات التي وصل إليها العالم الإسلامي إلى هذا اليوم.. فهي فترة لم تنفصل ولم تنقطع عن الواقع الإسلامي..
من جهة أخرى أن تلك النهضات الإصلاحية شكلت مرجعيات فكرية وسياسية في الفكر السياسي والإصلاحي الإسلامي الحديث والمعاصر..
ومع تحولات المرحلة وانتقال العالم الإسلامي من مرحلة دولة الخلافة الإسلامية المتمثلة في الدولة العثمانية إلى مرحلة الدولة القطرية في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي وتحديداً بعد العشرية الثانية أي بعد سنة 1924م مع الإعلان عن نهاية دولة الخلافة العثمانية, هذه التحولات الخطيرة كان من الطبيعي أن يتبعها تحولات في مشروعات النهضة والإصلاح الإسلامي من مشروعات القيادات الفردية إلى مشروعات الجماعات المنظمة، وتبلورت مفاهيم جديدة في العمل الإسلامي وإدارة الجماعات الإسلامية..
ومن رواد هذه التاريخية الشيخ "حسن البنا" (1324-1368هـ/1906-1949م)، والأستاذ "أبوالأعلى المودودي" (1321-1398هـ/1903-1079م)، والسيد "محمد باقر الصدر" (1353-1400هـ/1935-1980م)..
وهذه الاستجابة بهذه الكيفية من التجديدات الثقافية والمنهجية كانت ضرورية وإيجابية في إنهاض الواقع الإسلامي بمعطياته الجديدة..
ولم تقف هذه التجديدات عند هذه المرحلة، بل كلما حصلت تحولات أساسية في الواقع أعقبتها تحولات في الثقافية والمنهجية، ففي النصف الثاني من القرن العشرين حصلت تحولات تجديدية في مشروعات النهضة والإصلاح الإسلامي تركزت هذه المرة على صعيد الفكر والثقافة بشكل أساسي ولا ينفصل في نفس الوقت عن حركية وفاعلية أنماط العمل الإسلامي لأن هذه التجديدات جاءت من مفكرين لا من قيادات ميدانية، ومن هؤلاء "سيد قطب" (1906-1966م)، "مالك بن نبي" (1905-1973م)، و "علي شريعتي" (1933-1977م)..
وتواصلت هذه التجديدات إلى نهاية عقد السبعينات بالتحول الإسلامي إيران وانطلاقة الصحوة الإسلامية الناهضة على طول امتداد البلاد الإسلامية.. وقد شهد عقد الثمانينات تحولات ساخنة وأحداث خطيرة تلاحقت على عقد التسعينات، في هذا العقد بدأ العالم يتحول ويتجدد على مختلف الأصعدة السياسية والفكرية والاقتصادية والتقنية وفي ثورة المعلومات والاتصالات ولا زالت هذه التحولات تتواصل وقد لا تتوقف، وتبعث على التأمل الدقيق والتفكير النوعي العميق، تجعلنا نتساءل أكثر من أي وقت مضى عن مستقبليات العالم الإسلامي! وإلى ماذا نخطط لأنفسنا، وأين موقعنا من العالم المتغير !
تساؤلات هي في جوهرها البحث عن مشروعات النهضة من جديد.. فإين هي مشروعاتنا للنهضة الإسلامية المعاصرة في هذه الظروف الجديدة والتحولات الجديدة!
لا نريد أن نلغي ونرفض المشروعات الإصلاحية السابقة فهذا ليس من منهجنا، وليس من منهجنا أيضاً أن نجتر ونعتمد كلياً عليها وكأننا قد توقفنا عن الابداع والتجديد واصبنا بالعقم والجمود.. فنحن في مرحلة جديدة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالة لها شروطها واحتياجاتها ومكوناتها وتحدياتها وآفاقها الجديدة.. من هنا نصل لنتساءل من أين تبدأ النهضة ؟
هذا السؤال لا نطرحه لأنفسنا فحسب، بل نطرحه لكل الساحة العربية والإسلامية.. وإن كان لنا رأي فنقول بكل وضوح أن النهضة تبدأ أولاً من نقد الذات (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ونقد الذات يحتاج إلى تشخيص الذات، وتشخيص الذات يحتاج إلى العودة إلى الذات.. لأن التغيير والنهضة يبدأ من الإنسان وليس من الظروف ولا من الأدوات والإمكانيات..
والتخلف في في نفوسنا وعقولنا وإراداتنا وليس في شيء آخر على الاطلاق.. فالحضارة يصنعها إنسان الحضارة، والتقدم يصنعه إنسان التقدم، والابداع يصنعه إنسان الابداع، والوحدة يصنعها إنسان الوحدة..