شعار الموقع

التسامح تجاه الاقليات كضرورة للنهضة

عبدالملك سالمان 2006-06-20
عدد القراءات « 772 »

* مقدمـة

يواجه الفكر الاسلامي المعاصر تحدي وضع اللبنات الأساسية التي تمكن الأمة من تحقيق تجددها الحضاري، والسير مجدداً في طريق النهضة.

ومشكلة الأقليات غير الأسلامية في المجتمعات العربية الاسلامية هي احدى المشكلات التي تستدعي وضع صيغ كفوءة لاستيعابها على نحو يحقق غاية التعايش الخلوق، لا سيما إذا كانت الأمة ما زالت تواجه تحديات صعبة تستهدف وحدتها والإجهاز على مستقبلها.

وتتبنى هذه الورقة الدعوة لتبني قيم التسامح كسبيل لاحتواء مشكلة الأقليات ولا سيما الأقليات المسيحية العربية، ومن ثم تهيئة الأجواء المواتية لاطلاق طاقات الأمة باتجاه النهضة. وذلك باعتبار نهج التسامح شرطاً وضرورة تاريخية للتقدم الاجتماعي والنهوض الحضاري، وذلك سعياً وراء دفع أمتنا إلى تجاوز رقدتها الحضارية التي طالت.

فبعد ايضاح الدلالات المختلفة لمفهوم التسامح في الثقافتين الغربية والعربية – الاسلامية، واعطاء لمحة عن طبيعة التأثيرات الثقافية والسياسية التي حكمت التطور التاريخي للمفهوم في الثقافتين، تسعى الورقة إلى الاجابة على التساؤلات الرئيسية التالية:

1- هل اتسمت الخبرة التاريخية العربية – الاسلامية بالتسامح إزاء الأقليات أم لا ؟.

2- ما هي الضرورات الموجبة للالتزام بالتسامح تجاه الأقليات المسيحية في واقعنا المعاصر ؟.

3- كيف يمكن لسيادة نهج التسامح أن تفضي إلى وضع الأمة على طريق النهضة ؟

أولاً : عن مفهوم التسامح

  تتفاوت الآراء حول دلالات مفهوم التسامح في الثقافتين الغربية والعربية – الاسلامية. فهناك اتجاه يرى ان مفهوم التسامح، وفق ما بلورته الثقافة الغربية، بمعنى الاعتراف بالآخر المختلف عقيدة ورأياً واحتماله والتعايش معه، لا تتضمنه اللغة العربية أو الثقافة العربية.

وعلى النقيض من ذلك، هناك اتجاه آخر، يرى أن الفهم المذكور للتسامح، تتضمنه اللغة والثقافة العربية.

ومن أبرز من يتبنون الاتجاه الأول سمير الخليل الذي يلاحظ أن: " من الواقع المدهش حقاً، ان التسامح الذي يعتبر سمة عامة في الفكر العربي منذ النف الثاني من القرن السابع عشر، وفكرة معاصرة في زمننا هذا، هذا التسامح، يبدو في المقام الأول غائباً عن اللغة العربية، وبالتالي، غائباً غياباً طبيعياً عن أنماط التفكير كافة والتي تعمل عبر هذه اللغة "(1).

ويرى الخليل أن القاسم المشترك بين معنى التسامح في اللغة العربية واللغة الانجليزية ضئيل جداً، وأن الفوارق والاختلافات بينهما أكثر من المتشابهات وهو ما يرجعه إلى الاختلاف في الجذور :

"فكلمة Toleration الانجليزية مشتقة من الجذر اللاتيني Tolerare الذي يعني التحمل. بمعنى أن الفكرة الأساسية المتضمنة هنا فكرة التحمل أو التعايش مع شيء لا يحب في الحقيقة. أو يمكن أن يعتبر لا أخلاقياً، بل وربما لا شراً بصورة من الصور. وتناقضاً مع المعنى الانجليزي للتسامح، فإن المعنى العربي مشتق من سمح المضاد للمعنى الاستنكاري " لا سمح الله " . والجذر العربي هنا يستخدم للتعبير عن مرونة تكتيكية، فكرة ترك الأمور تمر، والتساهل في خلاف من الخلافات، والتنازل لشخص من الأشخاص كتعبير عن التهذيب، وهوما يلقى استحسان وثناء الآخرين ، والثناء هنا ينبع من ممارسة الكرم والأريحية والجود، وهو ما تراه تقريباً كل القواميس العربية، وبهذا المعنى العربي يصبح التسامح فضيلة "(2).

ويعزز هذا الاتجاه كاتب آخر بقوله: " ان التسامح في اللغة العربية يكون ضرباً من عطاء لا جوهراً انسانياً وفكرياً، وهو على الرغم من هذا موقف فكري وأخلاقي أيضاً، فإذا كان التسامح في الجذر اللاتيني أو "الانجليزي" يعني التحمل وقبول الآخر بامتياز له ولك. فإن التسامح في الجذر العربي يعني الجود والعطاء وهو امتياز لك وعلى الآخر "(3).

في حين يرى أنصار الاتجاه الثاني، أن معنى التسامح كما هو في المفهوم العربي، تتضمنه اللغة والثقافة العربية بمعنى من المعاني، وان لا حاجة اذن للحديث عن تناقض.

ومن أنصار هذا الاتجاه الثاني جابر عصفور الذي يرى " أن من حسن الحظ، ان المجاز اللغوي للترجمة العربية "سميح" يؤكد الدلالة الأصلية، ويرتبط بمعاني العطاء والرحابة والقبول والصفح ولين الجانب والتسامح، ومن ثم يؤكد حق المغايرة، وتدور دلالته حول تقبل وجود المخالف ، ومن ثم مجادلته بالتي هي أحسن، والانطلاق من أنه ليس "أدنى" أو أقل لأنه "آخر مختلف"(4).

ويؤكد وجود هذا المعنى في الثقافة العربية، ومنذ وقت مبكر من هذا القرن (1918) انطون الجميل في تعريفه الشامل للتسامح والذي جمع فيه، ببلاغة معظم المعاني العربية للتسامح أو التساهل بقوله: " فهو التساهل من السهل ضد الوعر أو الصعب، وهو الملاينة من اللين ضد الصلابة، وهو المياسرة من اليسر ضد العسر، وهو التسامح من السماحة، وهو الهوادة والرفق والإناة والاغضاء. وفي جميع هذه الألفاظ بالنسبة للغير معنى عدم كظم الغيظ والاحتمال لما لا يراد. أو بعبارة أخرى التسامح هو تلك الفضيلة الاجتماعية التي تجعلنا نحتمل ونحترم عقائد الغير وآراءهم "(5).

ويتضح من ذلك، ان اشارة الجميل إلى التسامح بمعنى "احتمال" الآخر المختلف في استلهمها من طروحات علماء النفس العرب آنذاك، وبما أن علم النفس في تكوينه الحديث هو نتاج آراء المدرسة الغربية وفرويد، فالأمر المرجح أن فكرة "التحمل" هذه قد انتقلت إلى علم النفس بتأثير الأفكار المتداولة عن التسامح في الثقافة الغربية.

وفي كل الأحوال، فإن الحديث عن التسامح مرهون تعريفاً بالمخالفة أو المغايرة وعدم التطابق. إذ لو كانت الأمور كلها تستدعي التماثل لما كانت هناك حاجة للتسامح أصلاً، وهذا يعني أن المرء يتسامح أو يتساهل أساساً مع خصومه أو من يخالفونه العقيدة والرأي.

* التطور التاريخي للمفهوم :

بالنسبة للتطور التاريخي لمفهوم التسامح في الثقافة الغربية، يشار إلى المساهمة البارزة للفيلسوف جون لوك ( 1632 – 1704 ) الذي ركز أساساً على التسامح الديني، وجاءت أطروحته "رسالة حول التسامح" (1688) نتاجاً لما عانته أوروبا من حروب دينية ومذهبية، ومحاولة للخروج منها فاعتبر التسامح هو "الحل العقلاني" الوحيد لحل الخلافات داخل المسيحية، والسبيل لتأسيس الدولة المدنية الحديثة الموجودة من أجل حماية حقوق الناس.

ثم جاء اسهام الفيلسوف الفرنسي فولتير ( 1694 – 1778 ) ليبرز اقتران التسامح بحقوق الانسان وضرورة أن يكون ذا طابع "تبادلي" وليس من طرف واحد: " ما هو التسامح " ؟ انه نتيجة ملازمة لكينونتنا البشرية. اننا جميعاً من نتاج الضعف: كلنا هشون وميالون للخطأ. لذا دعونا نسامح بعضنا البعض، ونتسامح مع جنون بعضنا البعض بشكل متبادل. وذلكم هو المبدأ الأول لقانون الطبيعة. المبدأ الأول لحقوق الانسان كافة " (6).

ثم جاء اسهام الفيلسوف الانجليزي جون ستيورات ميل ( 1806 – 1873 ) ليضيف مزيداً من توسيع نطاق المفهوم لينقل التسامح من المجال الديني إلى المجال القانوني والأخلاقي والقيمي وتأكيده على أهمية ممارسة التسامح على المستوى الاجتماعي.

بيد أن المفهوم سرعان ما اتسع نطاقه في الثقافة الغربية حتى بلغ التسامح السياسي، بعد أن أصبح المفهوم بمثابة العمود الفقري لليبرالية، وغدا المفهوم شاملاً، بحيث ينظر في الغرب اليوم إلى التسامح على أنه سياسي وعرقي واثني وقومي واجتماعي (7).

أما في الثقافة العربية، فمن المؤكد أن مفهوم "التسامح الديني" تجاه المخالفين عقيدة من نصارى ويهود، قد واكب الاسلام منذ بواكير دعوته.

فقد حمل الاسلام مبادىء الحرية الدينية من خلال التأكيد على أنه " لا إكراه في الدين " ، " ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " ، وحثه على الالتزام بالتسامح مع أهل الكتاب بمعاملتهم على أساس البر والقسط.

ويمكن القول اجمالاً، أن هذه الأقليات غير المسلمة قد لعبت دوراً أساسياً في إرساء مبدأ "التسامح الديني" إزاء الأقليات غير المسلمة في ديار الاسلام.

بيد أن الملاحظ، أن مفهوم التسامح في الثقافة العربية لم يشهد تطوراً شاملاً مماثلاً لذلك الذي شهدته الثقافة الغربية بالانتقال من التسامح الديني إلى التسامح السياسي والفكري عموماً.

ومرجع ذلك إلى أن الثقافة العربية ظلت أسيرة لهاجس الخوف ومن وقوع الفرقة والفتنة، والسعي بالمقابل لتأكيد وحدة الأمة.

فقد خشي أن السماح بالاختلاف في الآراء والأفكار قد يضعف تماسك الأمة، كما أنه قد يقوض نظام الحكم (الذي أصبح ملكياً وراثياً منذ الدولة الأموية) وفي الساحة الفكرية، زعمت كل فرقة من الفرق الكلامية لنفسها امتلاك الحقيقة والالتزام بصحيح الدين، واعتبرت نفسها ليست مجرد فرقة ضمن فرق أخرى، بل رأت في نفسها الوحيدة السالكة طريق الحق والنجاة (الفرقة الناجية)، وما عداها من فرق ضالة مفرقة(8).

ومن جانب آخر، فقد تأثر التسامح إزاء الأقليات المسيحية، سلباً برواسب وتأثيرات الحروب الصليبية، حين تزايدت شكوك المسلمين في تعاون قطاعات من مسيحيي الشرق مع الصليبيين. وظهر ذلك في فتاوي واجتهادات فقهاء بوضع قيود على حركة وحريات الأقليات المسيحية.

واستمر هذا التأثير السلبي خلال حقبة الغزوة الاستعمارية الأوروبية الحديثة للوطن العربي، حيث برر المستعمر الأوروبي تدخلاته في العالم العربي بدعوى حماية الأقليات المسيحية من الاضطهاد.

وأفضت هذه الأجواء، إلى وجود حالة من الحساسية تجاه مفهوم التسامح لدى مفكري النهضة العرب، فاعتبروه جزءاً من الأفكار الغربية الرامية لتمهيد الطريق للاختراق الاستعماري.

فحينما تحدث فرح انطون عن مبدأ التسامح وعلاقته بالدولة المدنية الحديثة، رد عليه محمد رشيد رضا بالتأكيد على مبدأ "التعصب" معتبراً إياه السبيل للوقاية من شرور الدولة المدنية.

وقبل ذلك، كان جمال الدين الأفغاني قد وقف ضد التسامح ودافع عن نقيضه أي "التعصب" إذ اعتبر الترويج للتسامح بمثابة دعوة تحمل قصداً خفياً هو النيل من وحدة الأمة مصدر قوة المسلمين.

فالتعصب لدى الأفغاني هو من "العصبية" أي الوحدة التي هي مبعث مبادرة الأمة ومدافعة الأجنبي، وليس للتعصب هنا من دلالة سوى " التضامن الديني" وهو ليس بمذموم بل ضروري حين تكون الأمة مهددة(9).

ويستفاد من ذلك، أن الضغط الاستعماري قد أثر على إمكانات توسيع مفهوم التسامح في الثقافة العربية، كما هو شأن أمور أخرى كثيرة. ولعل الأمر يتطلب اليوم، تطوير فهمنا للتسامح بحيث يتم تبنيه والإقرار به، ليس فقط تجاه الأقليات غير المسلمة، ولكن أيضاً باعتباره واجباً وحقاً وضرورة يستدعيها التقدم في كل شؤون الفكر والحياة. فإذا كانت سنة الله في خلقه الاختلاف فهذا ادعى للتسامح مع كل مختلف عقيدة وفكراً وتوجهاً سياسياً.

وإذا كان الاسلام قد أرسى قواعد التسامح فيما هو أسمى وأرفع وهو "العقيدة والدين" فمن باب أولى أن يجري الإقرار به فيما هو أدنى، وهو أمور السياسة وشؤون الدنيا.

وفي هذا السياق فإن الحديث عن التسامح كحق يهدف إلى تثبيته في الواقع العربي – الاسلامي، وإزالة النظرة الشائعة عنه في بعض وجوه الثقافة العربية باعتباره منحة أو "هبة" من قبل الأكثرية إلى الأقلية، فمن يستطيع أن يمنح، يمتلك القدرة على المنع والمصادرة والإلغاء.

وهو ما لا نريده أن يحدث لأن فيه استمرارنا في دوامة "الدائرة المفرغة" !

ثانياً : التسامح إزاء الأقليات في الخبرة العربية – الاسلامية

قد يكون من قبيل المفارقات الحديث الآن عن أزمة ثقة أو أزمة في التعايش بين المسلمين والأقليات المسيحية، في ضوء ما لمسناه من ارساء الاسلام لقواعد التسامح الديني إزاء أهل الكتاب، وفي ضوء ما نعرفه عن أن مسيحيي الشام واقباط مصر قد استقبلوا ، بترحيب شديد، الفتوحات الاسلامية لأنها خلصتهم من اضطهاد بيزنطة "المسيحية".

والواقع أن العلاقة بين الاسلام والأقليات المسيحية قد تعرضت لعملية تشويه كبيرة بدءاً من الحروب الصليبية وحتى الحقبة الاستعمارية وإلى الآن. وأسهمت في ذلك الدعاية الاستعمارية وكتابات المستشرقين الغربيين عن أضطهاد مسيحيي الشرق.

ووصل الأمر، على سبيل المثال، بفلاسفة القرن الثامن عشر إلى حد استخدام الاسلام كمثال على التعصب وعدم التسامح، ومنهم فولتير أحد أبرز المفكرين الذي أصلوا للتسامح في الثقافـة الغربية ، كما ذكرنا سـابقاً. فقد وضع فولـتير كتاباً هو : التعصب أو محمـد النبي ، ( 1741)(10).

ويمكن لكاتب عربي مسلم أن يكتب الكثير في تفنيد هذه الكتابات غير الموضوعية، ولكننا ودفعاً لشبهة الانحياز، سنكتفي بايراد عدد من آراء مستشرقي الغرب ومسيحيي الشرق، الذين عالجوا بموضوعية قضية التسامح إزاء الأقليات المسيحية على مدى تاريخ الخبرة العربية – الاسلامية، وذلك باعتبار أن "شهادة شاهد من أهلها" هي خير برهان على تبيان الحقيقة ونفي الانحياز.

فقد كتب عالم الاجتماع البارز كلود ليفي ستراوس في كتابه : مدارات حزينة – باريس 1955 يقول :" إن الاسلام هو الذي ابتكر التسامح في الشرق الأوسط.. والحق أنه حري بنا، بدل أن نتحدث عن التسامح، أن نقول إن هذا التسامح ضمن حدود وجوده هو بمثابة انتصار دائم للمسلمين على أنفسهم، فقد وضعهم النبي، حينما أوصاهم به، في وضع أزمة دائمة تنجم عن التناقض بين الدعوة العالمية للتنزيل، وبين التسليم بتعدد العقائد الدينية"(11).

وعن رحابة التسامح الاسلامي حتى شمل غير المؤمنين بالديانات السماوية، يقول المؤرخ الأمريكي برنارد لويس في كتابه (الشرق الأوسط والغرب، 1966): " لقد نجح الاسلام التقليدي، ولم تنجح المسيحية في الحقيقة يوماً، في جمع التسامح الديني مع الإيمان الديني العميق، فلم يشمل الاسلام بتسامحه غير المؤمنين فقط، بل الهراقطة أيضاً، وهذا اختبار أصعب بكثير.. وفي الصعيد الاجتماعي كان الاسلام ديمقراطياً على الدوام، أو كان بالأحرى يقول بالمساواة، فيرفض المجموعات المنغلقة كما في الهند، ويرفض الامتيازات الارستوقراطية كما في أوروبا"(12).

وإذا كان المسيحيون يشتكون من تعبير " أهل الذمة " والذي وفر لهم الحماية تحت الحكم الاسلامي، فإن المؤرخ اللبناني ادمون رباط يصف: ( نظام "أهل الذمة" في الاسلام بأنه ابتكار عبقري، لأنه سمح (لدولة دينية) بالاتساع لطوائف لا تنتمي إلى عقيدتها من خلال الالتزام بالمبدأ العظيم القائل بأن " لا أكراه في الدين" ، وقد كان ذلك أمراً فريداً في ذلك العصر ) (13).

ومن جانب آخر، يرصد المؤرخ الغربي آدم متزفي في كتابه: الحضارة الاسلامية في عصر نهضتها، ظاهرة غريبة لا نظير لها في حضارات أخرى هي كثرة الرجال غير المسلمين ذوي النفوذ في جهاز الحكم الاسلامي، ويقول "إن من الأمور التي تعجب لها كثرة عدد العمال والمتصرفين غير المسلمين في الدولة الاسلامية، فكأن النصارى يحكمون المسلمين في بلاد الاسلام، وكان تشكي المسلمين من ذلك كثيراً ! " (14).

ويظهر الأستاذ فيكتور سحاب في كتابه "من يحمي المسيحيين العرب ؟"، بجلاء كيف أن المسيحيين العرب لم يتعرضوا للاضطهاد إلا كما امتدت يد الغرب إلى المنطقة العربية، سواء أيام بيزنطة قبل الفتح الاسلامي، أم أيام دولة الصليبيين فأيام السيطرة الغربية المعاصرة، فخلال هذه الحقب كانت المجتمعات المسيحية العربية تتعرض لمخاطر الاضطهاد والقمع والإبادة، وكلما كان التدخل الغربي ينحسر، كان الاضطهاد معه ينحسر، وهذا ما تؤكده وثائق التاريخ.

إن هذه الشهادات جميعاً، وهي قليل من كثير، تؤكد أن أي حديث عن اضطهاد المسيحيين في ظل الحكم الاسلامي، ومنذ بواكير الحكم الاسلامي في القرن السابع الميلادي، سمح لغير المسلمين باختيار العقيدة التي يرغبون في اعتناقها، في حين أن معاهدة وستفاليا في القرن السابع عشر ، أي بعد الاسلام بألف سنة (عشرة قرون) أعطت أمراء ألمانيا حق الاختيار بين اعتناق البروتستانتية والكاثوليكية.

وفي بريطانيا، ورغم صدور قانون التسامح عام 1689، إلا أن التمييز التشريعي ضد الكاثوليك واليهود ظل قائماً من الناحية الفعلية حتى أواسط القرن التاسع عشر.

ولعل في هذه الوقائع ما يؤكد حقيقتين:

الأولى: بالنسبة لمسيحيي العرب، وتكمن في أن ما يساورهم من هواجس الاضطهاد في ظل حكم اسلامي، هي هواجس مبالغ فيها، ولا تستند إلى مبررات صحيحة وأن من الحكمة أن يطرحوا تلك الهواجس جانباً، بعد ما ثبت أن الغرب هو من يحركها ويثيرها، ويكفي مثالاً للتأمل، أن الأقليات المسيحية العربية، قد حظيت بالعيش الآمن في وطنها بديار الاسلام كل هذه القرون المتوالية دون أن ترغم على تغيير عقيدتها، على غرار ما حدث لمسلمي الاندلس الذي خيروا بين ترك الاسلام أو الموت، تحت سطوة محاكم التفتيش المعروفة، حتى اختفى المسلمون من أسبانيا الحالية.

والثانية: بالنسبة للمسلمين، فقد ثبت أن نهج التسامح هو نهج اسلامي أصيل، وليس فكرة غربية مستوردة، تستدعي تلك الحساسية التي أبداها بعض مفكري عصر النهضة، وبالتالي فمن المهم أن تطرح تلك الحساسية، جانباً ويتم الإقدام على تبني التسامح بآفاقه الرحبة بلا تردد.

ولعل من المهم التأكيد على أن كلا الجانبين الاسلامي والمسيحي مطالب بالتحرر من هواجس حقب التخلف والتراجع الحضاري. فلن يصنع المستقبل من يعيشون أسرى هواجس الماضي، ولن يربح سوى أعداء تقدم أمتنا إذا فشلنا في تأسيس تعايش مستقر على أساس من الثقة المتبادلة ومبدأ " الشراكة الحضارية " .  

ثالثاً : ضرورات الالتزام بالتسامح في واقعنا المعاصر

يمكن القون أن هناك مجموعة من الدوافع والظروف المعاصرة التي تفرض علينا الالتزام بقيم وممارسات التسامح سواء تجاه الأقليات غير المسلمة ، أم في كل شؤون الحياة، وهو ما نجمله في الآتي:

(1) الاسلام كبديل حضاري للبشرية :

فرغم ان النموذج الرأسمالي الغربي يحاول تقديم نفسه كخيار حضاري وحيد أمام البشرية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. وذلك كما برز في أطروحة فوكوياما عن نهاية التاريخ، إلا أن الواقع يشير إلى أن الحضارة الغربية تعاني أزمة عميقة تظهر افتقارها لأن تكون نموذجاً عالمياً للتسامح والقبول بالآخر، وهو ما تبرزه المظاهر التالية:

(أ) اهتزاز صيغة العلمانية التي قامت على أكتافها الدولة المدنية الغربية الحديثة، وهي الصيغة التي اقترن بها الالتزام بالتسامح على أساس قي المساواة واحترام حقوق الانسان.

ويظهر هذا التراجع في مظاهر التطرف والعنف ضد الآخر التي تشهدها المجتمعات الأوروبية. وهو ما يفسر بانتشار البطالة وتأزم الأحوال الاقتصادية. وكأن التسامح هو صنو الرغد المعيشي، فإذا ما تعرض هذا الرخاء لاهتزاز أو أزمة انهار التسامح، وانهار معه كل الحديث عن المساواة والاخاء واحترام الانسان كإنسان.

(ب) فشل النموذج الاشتراكي في استيعاب مشكلة الأقليات والقوميات، من خلال صيغ الدمج القسري، وإلغاء الخصوصيات وهو ما نشهده في الانبعاث المتفجر للعرقيات والقوميات في الاتحاد السوفييتي السابق ويوغسلافيا السابقة. وأكثر من هذا أن أوروبا عمدت إلى تقويض نموذج تاريخي لتعايش الأعراق والأديان في البوسنة من خلال إصرارها على تقسيمها على أساس عرقي وطائفي.

(جـ) انكسار الفكر اليساري الأوروبي، ودخوله في أزمة عميقة، وهو الفكر الذي كانت طروحاته عن العدل الاجتماعي بأبعادها الانسانية، تعزز روح التسامح.

ولكن بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، دخل الفكر اليساري في حالة ردة وتشوش رؤى. فتحولت قطاعات مهمة من تيارات اليسار الراديكالي، في مواقفها من النقيض إلى النقيض، وانخرطت في تنظيمات أقصى اليمين المتطرف كحركات الفاشية والنازية الجديدة. وهي حركات كارثية وفقاً لما تظهره من نزعات عنصرية، وتقويض للتسامح عبر كراهية الأجانب والمهاجرين والسعي لطردهم خارج أوروبا.

(د) وصول حالة "الخواء الروحي" في الغرب إلى منتهاها، تقريباً وبروز ظاهرة العودة إلى الدين، ومحاولة إعادة إكتشافه، مجدداً بحثاً عن درجة من اليقين في عالم يتسم بالاضطراب وغموض المستقبل.

وهنا يأتي دور الاسلام، برسالته العالمية المتجددة، ورصيده التسامحي الكبير، ونزعته الإنسانية والايمانية العميقة، ليقدم النموذج والبديل المرتجى، ولكن ذلك رهن بالنجاح في تمثل قيم التسامح واستيعاب مشكلة الأقليات غير الاسلامية بروح حضارية وتعايش خلاق.

فإذا ما تجسد ذلك على أرض الواقع، فبلا شك سيكون النموذج الحضاري الاسلامي هو البديل الذي يبحث العالم عنه.

ولعل تميز الاسلام، ان التسامح المسلم إزاء غير المسلم ينطلق، ابتداءاً وبالأساس من القناعة الايمانية للمسلم، فتصبح ممارسة التسامح تجاه "الآخر" جزءاً من الالتزام العقيدي الذي يبتغي به مرضاة الله .

فإذا كان التسامح سياسة أو توجهاً عاماً للدولة الاسلامية، فإن ذلك يحقق الشرطين الأساسيين اللذين تحدث عنهما أركون كضرورة لترسيخ التسامح، وهما: الأول ارادة الفرد في التسامح، والثاني : ارتباط هذه الارادة الفردية بالارادة السياسية الجماعية على مستوى الدولة(15).

هذا ناهيك عن أن التمسك بالتسامح انطلاقاً من الالتزام الديني لدى المسلم انما يسهم في تجنيب علاقة التسامح مع غير المسلم احتمالات تقلب الأمزجة لدى حدوث أي اختناقات اقتصادية أو معيشية ( خلافاً لما يحدث في أوروبا الآن ).

فالمسلم عميق الايمان، والذي يتحكم في سلوكياته شعوره بخشية الله، يدرك كما يقول د. اسماعيل الفاروقي : " ان طلب السعادة في هذه الدنيا في ظل الاسلام هو موضوع القانون الخلقي، ويتحقق ذلك عن طريق خشية الله. وفي الماضي أعطى ذلك لمنهج المسلم في الحياة نوعاً من الصفاء والتنوير والأخلاقية والروحانية، ويجب أن يكون هدف التعاون الاسلامي – المسيحي احياء تلك الأخلاق وإعلاء النزعة الأخلاقية للانسان، فهي وحدها سبيل القوة الحضارية الخلاقة"(16).

(2) الاستغلال الغربي لمشكلة الأقليات :

ان تاريخ سياسات القوى الغربية في السعي لاختراق المنطقة العربية، عبر التذرع بحماية الأقليات المسيحية فيها من خطر الاضطهاد، هو تاريخ معروف منذ الحقبة الاستعمارية.

وسوف تستمر هذه الممارسات طالما لم يعدل الغرب عن توجهه لاضعاف وتفكيك الوطن العربي، وكما يقول برنارد لويس " فإن إلحاق المنطقة بالغرب، لم يكن ممكناً إلا عن طريق تفكيكها وتجزئتها. ولو أعطيت لأي سياسي في العالم، مسألة يسألونه فيها أن يسعى إلى إلحاق المنطقة العربية بالغرب، لما اختار غير الأسلوب الذي اختاره الغرب فعلاً، وهو تفكيك المنطقة بالفتن الطائفية، والتفتيت الاجتماعي الثقافي، وافتعال الخصومات والفروقات، وتوسيع مواطن الاختلاف والمبالغة في ابرازها. وليس من شك في أن من يسعى إلى هذا، يحزنه مشهد السلام بين الطوائف، ويسعده اندلاع التقاتل بينها. ولعل من يستعيد دور الغرب في اشعال فتيل هذا التقاتل، هو واحد من اثنين: خادع أو مخدوع" (17).

وحتى لا يظل مصير مجتمعاتنا "ألعوبة" في أيدي الغرب، فإن من شأن اشاعتنا لقيم وممارسات التسامح أن تقطع الطريق على ذرائع الغرب، وتعمل على إزالة الذرائع التي تسوقها بعض الطوائف المسيحية مثل "الموازنة" لطلب الحماية الغربية.

(3) المخططات الصهيونية لتفتيت المنطقة :

على مدى سنوات الصراع العربي – الاسرائيلي، ظهرت كتابات ودراسات عديدة تتحدث عن المخططات الصهيونية لتفتيت المنطقة العربية وبلقنتها، بهدف تحويلها إلى خارطة فسيفسائية، تضم "موازييك" من الدويلات الدينية والطائفية المنفصلة، والمتنافرة على غرار نموذج اسرائيل "كدولة دينية لليهود" وتهدف اسرائيل إلى أن تكون الأقوى بين هذه الدويلات وتتمكن من اضفاء شرعية على وجودها، باعتبارها جزءاً من منطقة تغص بالدويلات الدينية والطائفية.

ولكن ما يتعين لفت الانتباه إليه. أنه رغم توقيع الاتفاق الفلسطيني الاسرائيلي، والحديث عن السلام في الشرق الأوسط، فإن المخطط الصهيوني لتفتيت المنطقة مستمر حتى بعد احلال السلام.

إذ يبدو ان اسرائيل ترهن بقاءها بنجاح هذا المشروع، وهو ما كشفت عنه دراسة نشرت حديثاً، وضعها البورفيسور ياكوبي من معهد جافي الاسرائيلي للدراسات الاستراتيجية(18).

وتتحدث هذه الدراسة عن أن القيمين على المستقبل العربي غالباً ما يديرون ظهورهم للحقائق، فالأقليات تعيد بناء شخصيتها بهدوء وثبات بانتظار لحظة الانفجار، وترى أن الآلية السوسيولوجية العربية لا تملك، ولا تستطيع أن تملك الديناميات اللازمة لصهر الأقليات.

وتطالب الدراسة اسرائيل بأن تفكر وبصورة جدية في اقامة جامعة للحضارات القديمة تستقطب طلاباً من مختلف الدول العربية التي تحتوي على الأقليات، ويكون هدف هذه الجامعة احياء اللغات التي اندثرت مثل اللغة القبطية مثلاً. وتلح الدراسة على اسرائيل ان تتحرك سريعاً لتنفيذ هذا المشروع حتى لا تتحول اسرائيل مع الزمن إلى أقلية مجهرية لا تجدي معها تلك الترسانة التكنولوجية التي لن تكون، في هذه الحال، أكثر من دمية الكترونية.

ومن الواضح، ان مثل هذه الأفكار ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد، لا سيما ان النظام الشرق الأوسطي الذي يطرح الآن كهوية جديدة للمنطقة، يمثل الفرصة المواتية لاسرائيل لتنفيذ مثل هذه المخططات وبخاصة إذا نجحت في اختراق الوطن العربي عبر التطبيع.

ويهدف احياء اللغات القديمة للأقليات، التي اندثرت بعد أن تعربت الأقليات وكناءها، إلى تقويض الثقافة العربية – الاسلامية كهوية جامعة للمنطقة العربية. ولا ينبغي الاستهانة بهذا المخطط في ضوء خبرة اسرائيل في احياء اللغة العبرية بعد أن اندثرت منذ قرون. ومرة أخرى، لا نجد من سبيل سوى الحض على إشاعة التسامح الشامل في سياق تحالف مع الأقليات المسيحية لصد مخططات الغزوة الصهيونية.

(4) مسيحيو " الاسلام الحضاري " ووجوب نصرتهم :

يخطىء من يظن أن الأقليات المسيحية العربية، هي بمثابة طابور خامس للغرب في المنطقة. فهناك تيار كبير، هو الغالبية فيما نعتقد، من مسيحيي العرب يقفون بذات صلابة المسلمين في وجه مخططات الهيمنة الغربية.

وفي طليعة هذا التيار، تأتي الكنيسة الارثوذكسية الشرقية، التي عانت وناضلت طويلاً من أجل الاحتفاظ باستقلاليتها، ورفض هيمنة السلطة البابوية في الفاتيكان عليها.

ومن بين هذا الفريق من المسيحيين العرب خرجت أصوات عديدة تؤكد على أن لا وجود لهم ولا مستقبل إلا في كنف " الاسلام الحضاري ".

ومن بين هؤلاء كان السياسي القبطي المصري مكرم عبيد الذي قال قولته المشهورة "أنا مسيحي في ديني، مسلم في وطني" (1930) ومن بينهم السياسي السوري المسيحي فارس الخوري الذي طالب المسلمين بحماية نصارى العرب من مرامي الدول الغربية ونوازعها.

وهو ذات الاتجاه الذي عبر عنه بابا الأقباط في مصر، حديثاً بقوله: "ان الكنيسة القبطية في مصر لم تطلب تدخل أية جهة خارجية لحماية الأقباط، وانه إذا تدخلت أية دولة لحمايتنا، مهما حدث لنا، فسنعتذر لها فوراً"(19).

وما زال هذا التيار يلعب دوراً وطنياً مشرفاً في تعميق الوعي في الثقافة العربية، ولدى المسيحيين العرب بضرورة الاعتزاز بهوية "الاسلام الحضاري" وخبرة الحضارة العربية – الاسلامية التي كانت نتاجاً للتفاعل الخلاق بين المسلمين والمسيحيين العرب في ديار الاسلام.

ومن أبرز رموز هذا التيار الأستاذ فيكتور سحاب، والمطران الارثوذكسي اللبناني جورج خضر.

يقول سحاب في دفاعه عن " الاسلام الحضاري" ان النصراني لا يمكنه أن يكون عربياً إذا لم ينتم إلى حضارة الاسلام. فكيف يكون عربياً ذلك النصراني الذي لا يتكلم لغة القرآن، ولا يطرب للموسيقى العربية المتحدرة من التجويد القرآني، ولا يهتز قلبه للشعر العربي، ولا تسحره العمارة الاسلامية، ولا تلتهب شرايينه بنار مجاهدة الغرب الاستعماري، لا تسير حياته مفاهيمنا العربية الاجتماعية الموروثة والمتجددة. النصراني العربي ابن الحضارة الاسلامية، وليس أجنبياً عن التراث الاسلامي، فنحن أبناء حضارة واحدة(20).

أما المطران جورج خضر فيقول: "ان حضارة اوروبا هي حضارة الأوروبيين، وأنا لم أساهم فيها. قد أتذوق أوروبا ولكني لا أكونها.. غير أني على هذه الأرض ابن الحضارات التي توالت علينا منذ فجر التاريخ إلى اليوم وورثتها جميعاً الحضارة الاسلامية. وأنا في قلب هذه الحضارة منذ بزوغها.. والمسألة المطروحة ليست مسألة الانتقاء بين حضارة الغرب وحضارة بلادنا، تبختر حيث شئت ان كنت خلاقاً، ولكن المسألة ان تحس انك في دارك في حضارة العرب، وان حضورك ليس إزاء المسلمين بل مع المسلمين.. ان تأصلنا في تراب بلادنا واطلالتنا على مستقبلها لخير خدمة نؤديها للمسلمين في نهضة لهم نرجوها صحيحة طيبة صاحية مضاءة بالايمان الكبير والعمل الكبير"(21).

ان هذا التيار المسيحي العربي المدافع عن الحضارة العربية – الاسلامية دفاع المسلمين أنفسهم، لا ينبغي أن يخالط المسلمين أي تردد في ضرورة التجاوب معهم ونصرة حجتهم، وتدعيم مصداقية توجههم داخل الأقليات المسيحية ذاتها، كيما نساعدهم على دحض دعاوى القلة المحدودة داخل المسيحيين العرب التي تراهن على الغرب، وتزعم أن نهوض المسلمين أمر رجاء فيه!

رابعاً : التسامح والنهضة

إذا كنا نلح على الحاجة لتبني التسامح، فكراً وممارسة، كسبيل لتجاوز كثير من التعقيدات السياسية والاجتماعية والدينية في الواقع العربي – الاسلامي. فإن ذلك يعود لادراك خطورة المال فيما لو حل البديل النقيض، وهو الافتقار إلى التسامح، ذلك أن غياب التسامح سيعني غياباً للتوافق الاجتماعي والتفاعل الخلاق بين أبناء المجتمع وفئاته. فضلاً عن حضور احتمالات التناحر الطائفي والمذهبي والسياسي، وما سينجم عن ذلك من ويلات ستعرقل أي تحرك باتجاه النهضة.

ولكن كيف يمكن للتسامح أن يقود مسيرة المجتمع إلى النهضة ؟ للاجابة على هذا التساؤل نتناول ثلاثة محاور أساسية :

(1) المشاركة السياسية للأقليات :

أول ما يساور الأقليات المسيحية في ظل حكم اسلامي، هو الخوف من ألا يكون لها دور في ظله. والخشية من أن يلقى أبناؤها معاملة كمواطنين من الدرجة الثانية في عصر حقوق الانسان.

وإذا كان التسامح الديني هو من تقاليد الاسلام الثابتة، فإن التحدي هو في توسيع نطاق المفهوم ليشمل التسامح السياسي بمعنى اتاحة الفرصة لأبناء الأقليات المسيحية لتولي مناصب رئيسية في الدولة والمشاركة في السلطة بتمثيل ملائم.

وفي التقدير الصحيح، فإنه في دولة اسلامية مدنية تلتزم بمبادىء المساواة وحقوق الانسان، وتلتزم مقاصد الشرع في الالتزام بالبر والقسط معهم، وتطبيق مبدأ "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" وحفظ كرامة الانسان، فإنه باستثناء منصب رئيس الدولة الذي يمثل واجهة الدولة وغالبية سكانها، وباستثناء بعض المواقع التي تستلزم ان يكون شاغلها مسلماً، فإنه يتعين إطلاق الباب مفتوحاً بلا تمييز أمام المواطنين كافة، بمن فيهم أبناء الأقليات المسيحية، لتولي المواقع السياسية والادارية الرفيعة في الدولة على أساس من الكفاءة والجدارة.

وقد مر بنا في الخبرة الاسلامية أن المسيحيين شغلوا مواقع رفيعة في جهاز الدولة، حتى لكأنهم يحكمون !.

أي أن التسامح السياسي تجاه الأقليات بمعناه المعاصر، قد مارسته الخبرة الاسلامية منذ وقت مبكر، وربما لا يليق بتجربة حكم معاصرة أن تكون أقل من تجارب سابقة في تمثل التمثيل العادل والمتوازن إزاء الأقليات.

وفي واقع الحال، فإن الحوارات الاسلامية – المسيحية عادة ما تتناول قضايا فكرية ودينية عامة، وقلما تتطرق إلى بحث في التفاصيل لكيفية إدارة شؤون دولة حديثة، وماهية التمثيل المتوازن والعادل الذي بمقتضاه تتراجع شكوى الأقليات المسيحية، فإذا ما تم تناول هذه القضايا في حوار يتسم بالتسامح والمصارحة ويقوم على أساس القناعة بفكرة "الشراكة الحضارية" فإن كثيراً من الهواجس والالتباسات سيسهل تبديدها، الأمر الذي سينعكس ايجاباً على تماسك المجتمع وقدرته على إدارة شؤونه برشادة وتوازن يحفزه على تحقيق التقدم المرجو في مسار المجتمع .

(2) التسامح في الحياة السياسية :

تشهد الحياة السياسية المعاصرة تعدداً في تركيبة التنظيمات والحركات والأحزاب السياسية، وإذا ما سادت روح التسامح فيمكن لأحزاب اسلامية أن تضم في عضويتها أعضاء من أبناء الأقليات المسيحية دون أي احساس بالحرج، كما يمكن أن يتم تقبل قيام أي أقلية دينية بتشكيل حزب سياسي يمثلها، ويجري تقبله في الحياة السياسية.

فالعامل المهم هو ما إذا كان التسامح السياسي هو الذي تجري في ظله إدارة العملية السياسية أم لا ؟ فإذا ما سادت أجواء التسامح فإنه يكون من اليسير الاعتراف بالتنوع السياسي في المجتمع، والاقرار بوجود تيارات مختلفة لها رؤى وطروحات متباينة لها الحق في التعبير عنها والترويج لها بين أنصارها خارج نطاقهم، وتكون لغة التحاور بين المتنافسين هو الحوار العقلاني والمبارزة الفكرية الشريفة. دون أن يدعي أحد الأطراف لنفسه حق امتلاك الحقيقة السياسية والاجتماعية ومصادرة حرية الآخرين في التعبير عن آرائهم.

فمثل هذه الأجواء من التحاور والتسامح الحضاري هي الكفيلة بالمساعدة على بلورة الآراء والحلول الأصوب لمشكلات المجتمع.

(3) التسامح في الحياة الفكرية :

ان شيوع حالة التسامح في الساحة الفكرية، بمعنى حرية التعبير عن الأفكار المتنوعة دون خوف أو مصادرة للرأي. هو المناخ الذي يسمح بتلاقح الأفكار وتطورها من خلال عملية النقد والنقاش البناء وهو ما يهيء لامكانات الخلق والابداع.

وكما يقول عالم النفس المصري مصطفى سويف: " فإن التسامح هو الشرط الأول بين الشروط الاجتماعية للابداع، وان أية شائبة تصيب مناخ التسامح لا تلبث آثارها ان تصيب المواطنين عامة، والمبدعين خاصة بنوبات الشعور وبالخطر قد تكون قاضية على الدوافع الابداعية والسلامة النفسية"(22) .

ويستفاد من ذلك ان الافتقار إلى التسامح يؤدي إلى سيادة حالة من الغيبوبة العامة في كل أنحاء المجتمع، تقوض كل ملكات الابداع فيه.

والأمر الأكثر خطورة ان غياب التسامح عادة ما يقترن بسيادة أجواء من الارهاب الفكري تنتهي عملياً إلى تقويض احتمالات وإمكانات النهوض سواء في المجال الفكري أو العلمي.

إذ يرى كارل بوبر " ان تحقق تقدم حقيقي في ميدان العلوم، يبدو مستحيلاً من دون تسامح، من دون احساسنا الأكيد بأن بامكاننا أن نذيع أفكارنا علناً، مهما كان شأن النتائج التي تقودنا إليها تلك الأفكار. ومن هنا فالتسامح والتفاني في سبيل الحقيقة هما اثنان من المبادىء الأخلاقية المهمة التي تؤسس للعلوم من جهة، وتسير بها العلوم من جهة ثانية "(23).

ومن هنا، فإنه إذا سادت قيم التسامح، فكرياً وسياسياً ودينياً وأصبحت أفقاً رحباً تتفاعل فيه بإبداع كل خلايا الأمة، تحفزها روح الرغبة في الانجاز والتجديد الحضاري.. فيمكن حينئذ الحديث عن بداية الطريق إلى النهضة.

 

 

************************

الهوامش

 

* ورقة مقدمة إلى ندوة : التعددية الحزبية والدينية والطائفية والعرقية في قلب العالم الاسلامي (الوطن العربي) التي نظمها "المعهد العالمي للفكر الاسلامي" بواشنطن في الفترة ما بين 26 – 30 نوفمبر 1993 ، تنشر باجازة من المعهد العالمي للفكر الاسلامي .

** باحث في العلوم السياسية قسم الدراسات والبحوث جريدة أخبار الخليج – البحرين .

(1) انظر : سمير الخليل: التسامح في اللغة العربية ، في كارل بوبر ، وآخرون : التسامح بين شرق وغرب: دراسات في التعايش والقبول بالآخر ، دار الساقي ، لندن 1992 ، ص 5 – 25 .

(2) نفس المرجع السابق ، ص 6 ، 10 ، 11 .

(3) انظر : محمد علي بن كامل : رأي في التسامح ، الحياة ، 29/8/1993 .

(4) انظر : جابر عصفور : عن التسامح ، الحياة ، 27/6/1993 .

(5) انظر : انطون الجميل ونص عن التسامح يعود إلى 1918 ، الحياة 3/7/1993 .

(6) انظر : كارل بوبر : التسامح والمسؤولية الفكرية في : كارل بوبر ، وآخرون : التسامح بين شرق وغرب ،مرجع سابق ص 76 .

(7) راجع : سمير الخليل ، التسامح في اللغة العربية ، مرجع سابق ، ص 6 .

(8) راجع : على أومليل ، خلاصة كتاب في شرعية الاختلاف ، نشرة المنتدى ،منتدى الفكر العربي بعمان ، العدد 90 ، مارس ،ص 10 – 14 .

(9) علي أومليل ، الاصلاحية العربية والدولة الوطنية ،دار التنوير ، بيروت 1985 ، ص 117 .

(10) انظر : محمد أركون : أين هو الفكر الاسلامي المعاصر ؟ دار الساقي لندن 1993 ، ص 110 .

(11) انظر : فيكتور سحاب ، ضرورة التراث ، دار العلم اللملايين ، بيروت 1984 ، ص 188 ،نقلاً عن : جورج قرم : تعدد الأديان وأنظمة الحكم ، دار النهار ، بيروت 1979 .

(12) انظر : فيكتور سحاب ، من يحمي المسيحيين العرب ؟ دار الوحدة ، بيروت 1981، ص 64 .

(13) انظر : فيكتور سحاب ، ، ضرورة التراث ، مرجع سابق ، ص 126 – 127 .

(14) انظر : راشد الغنوشي ، الحريات العامة في الدولة الاسلامية ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 1993 ، ص 291 – 292 .

(15) انظر : محمد أركون ، أين هو الفكر الاسلامي المعاصر ، م.س.ذ ، ص115 .

(16) راجع: د. اسماعيل الفاروقي ، الأسس المشتركة ومواطن الالتقاء بين الاسلام والمسيحية ، في المعتقدات وميادين الحياة، في ملف : الحوار الاسلامي المسيحي ، مجلة الغدير ، المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى ، العدد (17-18) بيروت ، خريف 1991 ، ص87 .

(17) انظر : فيكتور سحاب ، من يحيمي المسيحيين العرب ؟ م.س.ذ ، ص 56 .

(18) انظر : عرضاً لأهم محتويات هذه الدراسة في : نبيه البرجي ، خطة يهودية لتفخيخ الأقليات في العالم العربي ، صحيفة القبس الكويتية ، 17/10/1993 .

(19) راجع مقال : رغيد الصلح : الأقليات في البلدان العربية ، الحياة ، 16/7/1992 .

(20) انظر : فيكتور سحاب ، ضرورة التراث ، م.س.ذ ، ص 146 .

(21) راجع : جورج خضر ، المسيحية العربية والغرب ، في : قسطنطين زريق ،وآخرون ، المسيحيون العرب ، مؤسسة الأبحاث العربية , بيروت ، 1981 ، ص 96 – 97 .

(22) جابر عصفور ، التنوير ومعركة الدفاع عن التسامح والعقل والتجديد ، أخبار الخليج 26/9/1993 .

(23) كارل بوبر ، التسامح والمسؤولية الفكرية ، م.س.ذ ، ص93 .