بسم الله الرحمن الرحيم
" واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا "
لم يبق ذو حس وشعور في شرق الأرض وغربها، إلا وقد احس – وشعر – بضرورة الاتحاد والاتفاق، ومضرة الفرقة والاختلاف، حتى أصبح هذا الحس والشعور أمراً وجدانياً محسوساً يحس به كل فرد من المسلمين، كما يحس بعوارضه الشخصية من صحته وسقمه وجوعه وعطشه، وذلك بفضل الجهود التي قام بها جملة من أفذاذ الرجال المصلحين في هذه العصور الأخيرة، الذين أهابوا بالمجتمع الاسلامي، وصرخوا فيه صرخة المعلم الماهر، وتمثلوا للمسلمين بمثال الطبيب النطاسي الذي شخص الداء وحصر الدواء وأصاب الهدف بما عين ووصف وبعث النفوس بعثاً حثيثاً وشوقها إلى استعمال الدواء لقطع مادة ذلك الداء الخبيث والعلل والأمراض المهلكة قبل أن تقضي على هذا الحس الحي ، فيدخل في خبر كان. ويعود كأمس الدابر .
صرخ المصلحون فسمع المسلمون كلهم عظيم صرخاتهم بأن داء المسلمين تفرقهم وتضارب بعضهم ببعض، ودواؤهم الذي لا يصلح آخرهم إلا به – كما لا يصلح إلا عليه أولهم – ألا وهو الاتفاق والوحدة، ومؤازرة بعضهم لبعض، ونبذ التشاحن ، وطرح بواعث البغضاء والإحن والأحقاد تحت أقدامهم ، ولم يزل السعي لهذا المقصد السامي والغرض الشريف إلى اليوم دأب رجالات أنار الله بصائرهم ، وشحذ عزائهم واشعل جذوة الاخلاص لصالح هذه الأمة، من وراء شغاف افئدتهم، فما انفكوا يدعون إلى تلك الوحدة المقدسة ( وحدة أبناء التوحيد ) وانضمام جميع المسلمين تحت راية : ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) من غير فرق بين عناصرهم ولا بين مذاهبهم .
يدعون إلى هذه الجامعة السامية، والعروة الوثقى ، والسبب المتين، الذي أمر الله باعتصام به، والحبل القوي الذي أمر الله به أن يوصل، يدعون إليها لأنها هي الحياة وبها نجاة الأمة الاسلامية، وإلا فالهلاك المؤبد والموت المخلد .
أولئك دعاة الوحدة، وحملة مشعل التوحيد، أولئك دعاة الحق وأنبياء الحقيقة ، ورسل الله إلى عبادة في هذا العصر ، يجددون من معالم الاسلام مادرس، ويرفعون من منار المحمدية ما طمس وكان بفضل تلك المساعي الدائبة، والجهود المستمرة من أولئك الرجال ( وقليل ما هم ) قد بدت بشائر الخير، وظهرت طلائع النجاح ودبت في نفوس المسلمين تلك الروح الطاهرة وصار يتقارب بعضهم من بعض، ويتعرف فريق لفريق، وكان أول بزوغ لشمس تلك الحقيقة، ونمو لبذر تلك الفكرة، ما حدث بين المسلمين قبل بضعة أعوام في المؤتمر الاسلامي العام في القدس الشريف، من اجتماع ثلة من كبار المسلمين ، وتداولهم في الشؤون الاسلامية، وتبادل الثقة والاخاء فيما بينهم ، على اختلافهم في المذاهب والقومية، وتباعد أقطارهم وديارهم – ذلك الاجتماع الذي هو الأول من نوعه، والوحيد في بابه، الذي علق عليه سائر المسلمين الآمال الجسام فكان قرة عين المسلمين، كما كان قذى عيون المستعمرين، والذي حسبوا له ألف حساب ، وأوصدوا دونه – حسب إمكانهم – كل باب .. ولكن على رغم كل ما قام به أولئك الأعلام من التمهيدات لتلك الغاية، وما بذلوه من التضحيات والمفاداة في غرس تلك البذور، وتعهدها بالعناية والرعاية، حتى تثمر الثمر الجني، وتأخذ حظها من الرسوخ والقوة لا نزال نحن – معاشر المسلمين – بالنظر العام نتعلق بحبال الآمال، ونكتفي بالأقوال عن الأعمال، وندور على دوائر الظواهر والمظاهر، دون الحقائق والجواهر، ندور على القشور ، ولا نصل إلى اللب ، على العكس مما كان عليه أسلافنا، أهل الجد والنشاط ، أهل الصدق في العمل قبل القبول، وفي العزائم قبل الحديث، تلك السجايا الجبارة التي أخذها عنهم الأغيار فسبقونا وكان السبق لنا ، وكان لنا الدائرة عليهم، فأصبحت علينا تلك ( سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً ) نحن نحسب أننا إذا قلنا قد اتحدنا واتفقنا وملأنا بتلك الكلمات لهواتنا وأشداقنا، وشحنا بها صحفنا وأوراقنا – نحسب بهذا ومثله يحصل الغرض المهم من الاتحاد ، ونكون كأمة من الأمم الحية التي نالت بوحدتها عزها وشرفها، وأخذت المستوى الذي يحق لها، ولذلك تجدنا لا نزداد إلا هبوطاً، ولا تنال مساعينا إلا اخفاقاً وهبوطاً ، لا تجد لأقوالنا وأعمالنا أثراً ، إلا أننا نأنس بها ساعة سماعنا لها ، وما هي بعد ذلك إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، ويستحيل لو بقي المسلمون على هذه الحال أن تقوم لهم قائمة ، أو تجتمع لهم كلمة، أو تثبت لهم في المجتمع البشري دعامة ولو ملأوا الصحف والطوامير، وشحنوا أرجاء الأرض وآفاق السماء بألفاظ الاتحاد والوحدة، وكل ما يشتق منها ويرادفها ، وبل ولو صاغوا سبائك الخطب منها بأساليب البلاغة، ونظموا فيها عقود جواهر الابداع والبراعة ، كل ذلك لا يجدي إذا لم يندفعوا إلى العمل الجدي والحركة الجوهرية ويحافظوا على اخلافهم وملكاتهم، ويكبحوا جماح أهوائهم ونفوسهم بإرسال العقل والروية والحنكة والحكمة، فيجد كل مسلم أن مصلحة أخيه المسلم هي مصلحة نفسه ، فيسعى لها كما يسعى لمصالح ذاته، وذلك حيث ينزع الغل من صدره، والحقد من قلبه، وينظر كل المسلمين إلى الآخر – مهما كان – نظر الاخاء لا نظر العداء ويعين الرضا لا بعين السخط، وبلحاظ الرحمة لا الغضب والنقمة.
ذاك حيث يحس بوجدانه، ويجد بضرورة حسه ، أن عزه بعز أخوانه ، وقوته بقوة أعوانه، وان كل واحد منهم عون للآخر.. فهل يتقاعس عن تقوية عونه، وتعزيز عزه وصونه .. ؟
كلا – ثم إذا كان التخلق بهذا الخلق الشريف عسيراً لا ينال ، وشأواً متعالياً لا يدرك، ولا يستطيع المسلم أن يواسي أخاه المسلم وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يجد أن صلاحه بصلاح أمته، وعزه بعزة قومه، فلا أقل من التناصف والتعادل والمشاطرة والتوازن، فلا يجحد المسلم لأخيه حقاً، ولا يبخسه كيلاً، ولا يطفف له وزناً، والأصل والملاك في كل ذلك : اقتلاع رذيلة الحرص ،و الجشع ، والغلبة ، والاستئثار ، والحسد ، والتنافس ، فإن هذه الرذائل سلسلة شقاء ، وحلقات بلاء ، يتصل بعضها ببعض ، ويجر بعضها إلى بعض، حتى تنتهي إلى هلاك الأمة التي تتغلغل فيها ، ثم تهوي إلى أحط مهاوي الشقاء والتعاسة، والبذرة الأولى لكل من تلك الثمار الموبوءة هو حب الأثرة وقد قيل : الاستئثار يوجب الحسد ، والحسد يوجب البغضاء والبغضاء توجب الاختلاف، والاختلاف يوجب الفرقة والفرقة توجب الضعف، والضعف يوجب الذل ، والذل يوجب زوال الدولة ، وزوال النعمة وهلاك الأمة .. والتاريخ يحدثنا والعيان والوجدان يشهدان لنا شهادة حق أنه حيث تكون تلك السخائم والمآثم ، فناك فناء الأمم، وموت الهمم وفشل العزائم، وتلاشي العناصر ، هناك الاستعباد والاستعمار والهلكة والبوار، وتغلب الأجانب، وسيطرة العدو .. أما حيث تكون الآراء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة والقلوب متآلفة، والأيدي مترادفة والبصائر متناصرة، والعزائم متوازرة، فلا القلوب متضاغنة، ولا الصدور متشاحنة ، ولا النفوس متدابرة، ولا الأيدي متخاذلة، فهناك العز والبقاء والعافية والنعماء ، والقهر والقوة، والملك والثروة، والكرامة والسطوة ، هناك يجعل الله لهم من مضايق البلاء فرجاً ومن حلقات السوء مخرجاً ويبدل لهم العز مكان الذل، والأمن مكان الخوف، فيصبحوا ملوكاً حكاماً، وأئمة أعلاماً.. وليعتبر المسلمون اليوم بحال آبائهم بالأمس كيف كانوا قبل الاسلام اخوان وبرٍ ودبرٍ . وأبناء حل وترحال، أذل الأمم داراً ، وأشقاهم قراراً ، لا جناح دعوة يأوون إلى كنفها، ولا ظل وحدة يستظلون بفيئها في أطواق بلاء ، وأطباق جهل، من نيران حرب مشبوبة، وغارات مشنونة، إلى بناتٍ موؤودة ، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، ودماء مهدورة.
ثم كيف أصبحوا بعد أن جمع الله بالاسلام كلمتهم ، وعقد بدين التوحيد وحدتهم، ونشر على دعوة الحق رايتهم، هنالك نشرت الرحمة عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول نعيمها، حتى تربعت الأيام بهم في ظل سلطان قاهر، وآوتهم الوحدة إلى كنف عز غالب، وتعطفت الأمور عليهم في ذرى ملك ثابت، فما عتموا أن أصبحوا – بعد ذلك الذل وتلك الهنات – حكاماً على العالمين، وملوكاً في أطراف الأرضين، يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم، ويمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم ، لا تغمز لهم قناة، ولا تقرع لهم صفاة، ذاك يوم كان للمسلمين وحدة جامعة وأخوة صادقة، يوم كانوا متحدين بحقيقة الوحدة، وصحيح الاخاء، يوم كانت مصالح المسلمين مشتركة، ومنافعهم متبادلة، وعزائمهم متكافلة، ولا يجد المسلم من أخيه فيما يهمه إلا كل نصر ومعونة، ورعاية وكفاية، ثم دارت الدوائر، ودالت الأيام ، والأيام دول، وأصبح المسلم لا يجد من أخيه القريب فضلاً عن البعيد إلا القطيعة بل الوقيعة، ولا يرتقب منه إلا المخاوف بل المتالف ولا يحذر من عدوه الكافر أكثر من حذره من أخيه المسلم فكيف يرجى وحال المسلمين هذه أن تقوم لهم قائمة، أو تشاد لهم دعامة .
وهيهات أن يسعدوا ما لم يتحدوا، وهيهات أن يتحدوا ما لم يتساعدوا. فيا أيها المسلمون لا تبلغون الاتحاد الذي بلغ آباؤكم ما بلغوا بتزويق الألفاظ وتنميق العبارات أو نشر الخطب والمقالات وضجيج الصحف وعجيج الأقلام، ليس الاتحاد ألفاظاً فارغة. وأقوالاً بليغة، وحكماً بالغة، بما بلغت من أوج البلاغة وشأو الفصاحة، ملاك الإتحاد – حقيقة التوحيد هنا – صفاء نية ، وإخلاص طوية ، وأعمال جد ونشاط .
الاتحاد سجايا وصفات، وأعمال وملكات ، وملكات راسخة وأخلاق فاضلة، وحقائق راهنة، ونفوس متضامنة، وسجايا شريفة، وعواطف كريمة.
الإتحاد أن يتبادل المسلمون المنافع ويشتركوا في الفوائد، ويأخذوا بموازين القسط، وقوانين العدل ونواميس النصف، فإذا كان في قطر من الأقطار كسوريا والعراق طائفتان من المسلمين أو أكثر فالواجب أن يفترضوا جميعاً أنفسهم كأخوين شقيقين قد ورثا من أبيهما داراً أو عقاراً فهم يقتسمونه عدلاً، يوزعونه قسطاً، ولا يستأثر فريق على آخر فيستبد عليه بحظه، ويشح عليه بحقه (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) فتكون المنافع عامة ، والمصالح في الكل مشاعة، والأعمال على الجميع موزعة.
وليس معنى الوحدة في الأمة أن يهضم أحد الفريقين حقوق الآخر فيصمت، ويتغلب عليه فيسكت ، ولا من العدل أن يقال للمهضوم إذا طالب بحق، أو دعا إلى عدل إنك مفرق أو مشاغب بل ينظر الآخرون إلى طلبه فإن كان حقاً نصروه، وإن كان حيفاً أرشدوه وأقنعوه وإلا جادلوه بالتي هي أحسن مجادلة الحميم لحميمه، والشقيق لشقيقه، لا بالشتائم والسباب، والمنابزة بالألقاب ، فتحتدم نار البغضاء بينهما حتى يكونا لها معاً حطباً، ويصبحا معاً للأجنبي لقمة سائغة، وغنيمة باردة .
وقد عرف اليوم حتى الأبكم والأصم من المسلمين أن لكل قطر من الأقطار الإسلامية حوتاً من حيتان الغرب، وأفعى من أفاعي الاستعمار فاغراً فاه لالتهام ذلك القطر وما فيه، أفلا يكفي هذا جامعاً للمسلمين ومؤججاً لنار الغيرة والحماس في عزائمهم؟ أفلا تكون شدة تلك الآلام وآلام تلك الشدة باعثة لهم على الاتحاد وإماتة ما بينهم من الاضغان والاحقاد؟ وقد قيل : (عند الشدائد تذهب الاحقاد) وكيف يطمع المسلم أن يكتسح أخاه أو يستعبده وهو شريكه في البلاد من أقدم العهود وأبعد الاجداد افلا تسوقهم المحن والمصائب ، التي انصبت عليهم صب الصواعق من الأجانب إلى إقامة موازين العدل والتناصف فيما بينهم ويحتفظ أهل كل قطر على التعادل الانتفاعي، والتوازن الإجتماعي.
ونحن أوشكنا أن نكون آيسين من حصول هذه الثمرة اليانعة، الجامعة النافعة، لما نرى من عدم التأثير والتقدير لكلمات المصلحين والناصحين من رجال المسلمين.
ومن نظر فيما نشر وطبع من جمهرة خطبنا وما فيها من بليغ الدعوة إلى الوحدة بفنون الأساليب، ويرى حالة المسلمين اليوم وإنهم لا يزدادن إلا تقاطعاً وتباعداً، فكأننا ندعوهم إلى التنابذ والجفاء، نقدم النار إلى الحلفاء .
ولكن من كل ذلك لا بأس من روح الله ورحمته، ولا قنوط من خفي ألطافه بدينه وشريعته، فعسى أن يرشد الله الغيارى على الاسلام من عقلاء الفريقين فيضربوا على الأيدي التي تنشر تلك النشرات الخبيثة – منا ومنهم – تلك النشرات التي هي السم المزهق لروح الاسلام، وهذا البصيص من الأمل هو الذي دعانا إلى الاذن في إعادة طبع هذه الرسالة ثانية ونشر ما يضاهيها من ارشاداتنا وتعاليمنا في الحث على قيام كل مسلم بهذه الفريضة اللازمة والقضية الضرورية، كل بحسبه ومقدار وسعه ألا وهي اعادة صميم الإخاء والوحدة بين عموم فرق المسلمين. وأول شرط ذلك سد باب المجادلات المذهبية وإغلاقها تماماً فإن أراد أحد التنويه عن مذهبه فعلى شرط أن لا يمس مذهب غيره بسوء ولا غميزة .
والشرط الثاني بل هو الأول في الأهمية – أن يعقد المسلم قلبه على الأخاء الصحيح لأخية المسلم وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويبرأ من كل حقد وحسد عليه جداً وحقيقة، لا لقلقة في القول ومخادعة في اللسان ومنافسة على المصالح الفردية والمنافع الذاتية كما هي الحال السائدة اليوم عند الجميع.
إنما الوحدة الحقة والاخاء الصحيح الذي جاء به الاسلام – بل جاء بالاسلام وتمشت عليه الأمم الراقية وبلغت أوج العز والقوة – أن يرى كل فرد من الأمة أن المصلحة النوعية هي عين المصلحة الفردية بل هي فوقها، وهذه الصفة خفيفة في اللسان، ثقيلة في الميزان، بعيدة في الإمكان، يكاد أن يكون تحققها عندنا معشر المسلمين من المستحيلات لاسيما من كل طائفة بالنظر إلى الأخرى التي تنظر كل منهما إلى الأخرى نظر العدو الألد والمخاصم المزاحم، وإذا جامله في القول أو أظهر له الولاء فلن يجامله إلا ليخاتله، ولن يصانعه إلا ليخادعه، إما ملقاً أو تزلقاً لغاية واهنة، أو توسلاً إلى أن يبتز ماله، أو يسلبه حقه، أو تكون له السلطة عليه والاستعباد له، وكلهم جارون على غلوائهم في هذه السخائم التي صارت لهم ضربة لازم، لا يصدهم عنها صرخة ناصح، ولا صيحة زاجر، ولا عظة بليغ .
ينسى الكل أو يتناسى عدوهم الصميم الذي هو لهم بالمرصاد والذي يريد سحق الكل ومحو الجميع، ويبث بذور الشقاق بينهم ليضرب بعضهم ببعض وينصب أشراك المكر ليصد الجميع ولا يسلم المسلمون من هذه الأشراك المبثوثة لهم في كل سبيل حتى يتحدوا عملاً لا قولاً، وجداً لا هزلاً، وأقرب وسيلة إلى تنمية تلك البذرة وتلك الفكرة – فكرة الاتحاد الجدي – هو عقد المؤتمرات في كل عام أو عامين يجتمع فيها عقلاء المسلمين وعلماؤهم من الأقطار النائية ليتعارفوا أولاً ويتداولوا في شؤون الاسلام ثانياً، بل وأوجب من هذا عقد المؤتمرات والمعاهدات بين ملوك المسلمين ( لو كان للمسلمين ملوك حقاً ) فيكونون يداً واحدة بل كيدين لجسد واحد تدفعان عنه الأخطار المحدقة به من كل جانب، وقد أملت عليهم الحوادث بعد الحرب العامة دروساً بليغة وعبراً محسوسة لو كانوا يعتبرون.
وفي ابتلاع الطليان مملكة الحبشة العريقة في القدم ببضعة أشهر ما يستوجب أن يقض مضاجعهم ويسهر عيونهم وينظروا إلى مستقبلهم بكل خيفة وحذر، وإلا فهم أعرف بالعاقبة وكيف يكون المصير.
وحسبنا بهذا القدر بلاغاً ودعوة وإنذاراً وإيقاظاً، ونحن تكميلاً للفائدة قد أكملنا في هذه الطبعة بعض نواقص هذه الرسالة واستوفينا ما فات في بعض مباحثها مما له دخل أو فضل في توسعة البحث وتوفيه الموضوع حقه، مع الحرص الشديد على الإيجاز والايصال إلى الغرض المهم من أقرب الطرق إليه ليسهل تناوله ومطالتعه لعامة الطبقات.
فالعصر الذي ألف أهلوه طي المراحل الشاسعة إلى البلاد النازحة ببضع ساعات وكانت لا تطوى إلا بالأيام أو الشهور لا يناسبه الإطالة والإطناب، حتى في الرسالة والكتاب، بيد أني لا ادعي الاحاطة ولا أبرىء نفسي من القصور، ويكفيني حسن النية والقيام بالواجب حسب الوسعة مع ابتكار الموضوع وابتداع الأسلوب .
وللافاضل في عصرنا وما بعده أن يتوسعوا إذا شاؤوا فقد فتحنا لهم الباب ونهجنا لهم السبيل الذي لا أمت فيه ولا عثار والذي هو أقرب إلى ما يتطلبه الوقت الحاضر والعلم الحديث والصق بالحقيقة الناصعة، والطريقة الناجعة من دون خدشة لمذهب، أو مس لكرامة، مع الإشارة الخفيفة أو الخفية لبعض الأدلة والبراهين والمساند والمصادر في الجملة، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
حرره منتصف ربيع الآخر سنة 1355هـ / 1935م
محمد الحسين آل كاشف الغطاء
* مقدمة الطبعة الثانية لكتاب أصل الشيعة وأصولها .