شعار الموقع

سؤال النهضة ومأزق حركة الإصلاح العربي ـ الإسلامي ـ جمال الدين الأفغاني متَّهماً ـ

إدريس هاني 2006-06-21
عدد القراءات « 1187 »

لم نقف عند الإيديولوجيا العربية المعاصرة ومؤرخي فكر النهضة والإصلاح العربيين على موقف موحد تجاه تياراته الكبرى. فإذا سلمنا بأن جيل النهضة نفسه لم يحظ بهذا التوافق ولا كان يمثل وجهة أو مدرسة موحدة، ولا ينهل من منابع مشتركة، أدركنا حينها، أنه من الطبيعي أن تتعدد الآراء وتختلف المواقف حول هذه التجربة، التي بقدر شموخها وصيتها الذائع، واجهت إخفاقات تاريخية مهولة. وهي لهذا السبب تحديداً خضعت ولا تزال للنقد والمراجعة؛ نقداً يفيض حسرة ويوحي بخيبات الأمل، كما لو أن مشروعاً ما، كان قيد الإنجاز، لكن عاصفة ما عجلت بنهايته، جارفة إياه بلا رجعة، ما يوحي حقًّا أننا وقعنا في مأزق تاريخي، لا نملك حياله تقديماً أو تأخيراً. يؤكد النقد الإيديولوجي لفكر النهضة، على أن ثمة أسباباً أخرى لهذا السجال الإيديولوجي الذي لا يزال يحتفظ بحماسته ويستحضر المضامين الحجاجية نفسها. فالأمر إذن، يبدو كما لو كان بمثابة تحيين للحظات التاريخية الموسومة بالإخفاقات المتتالية. لحظات لا تزال تنبض بالحياة في راهننا. أو لنقل: إنه استمرارية الوعي ذاته، وإن اختلفت آليات تداوله وحيله الإيديولوجية وتخريجاته الحجاجية. إذا أخذنا على سبيل المثال حركة الإصلاح الإسلامي، التي فجرها جمال الدين الأفغاني، نجدها قد استمرت بشكل ما، مع تلامذته، وتلامذة تلامذته حتى اليوم. كما استمر التيار الليبرالي والتقنوي مع أجيال جديدة. سيستمر محمد عبده ورشيد رضا من خلال حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين وتستمر مع الجماعات الإسلامية المنبثقة عنها. هل هي استمرارية أمينة، صاعدة، أم أنها استمرارية مغشوشة تراجعية؟ هذا ما سنقف عنده مليًّا. كما استمر لطفي السيد أو فرح أنطون في التيارات الليبرالية.. وسلامة موسى في التيارات التنموية. إنه بلاشك حضور مختلف وغير مباشر، من حيث عمق طرحه وتشعب إشكالياته وسعة إطلاعه واستيعابه؛ لكنه حضور واقع على أية حال. هذا الحضور المستمر والذي يبدو مستداماً، وإن بدا حضوراً متطوراً بحسب متوالية هندسية يحددها عمق الفكر وإيقاع النظر، كما ذكرنا، إلا أن ثمة تراجعاً كبيراً -أو نكوصاً حسب تعبير البعض- يلاحظ على حركة الإصلاح، التي استندت إلى المرجعية الإسلامية نظراً إلى كون روادها وممثليها هم علماء وشيوخاً ورجال دين. وحيث كانت التيار الأكثر رفضاً للهزيمة، وفي الوقت ذاته الأكثر رفضاً للانضمام إلى الآخر. كان رواد الإصلاح أكثر انهماماً بمشروع النهضة وأكثر انهماماً بأسلمتها. ولكنها اتسمت ببعد النظر وشموليته. لاسيما إذا استحضرنا ملهم هذه الحركة، فيلسوف الشرق جمال الدين الأفغاني، الذي وصفه، المستشرق الفرنسي المشهور إرنست رينان (Ernest Renan 1823 - 1892) بواحد من أساطين الحكمة الشرقيين(1). بما كان يتمتع به من عمق نظر وبعد مدى. إلا أن الأمر سوف يشهد تراجعاً ملحوظاً في مستوى الوعي النهضوي، حيث سرعان ما سيغيب الحديث عن النهضة بالمنظور نفسه. كي يخلي المجال لأولويات أخرى. ما يجسد ظاهرة نكوص هذه، في فكر النهضة الإصلاحي. إن ما يفصل بين الجيل الأول للنهضة والأجيال اللاحقة، هي مسافة محكومة بتراجعات مهولة، يمكن تلمسها حينما نمسك بطرف السلسلة الأول -الأفغاني، محمد عبده ورشيد رضا في مرحلته الأولى فقط- وننتهي بطرفها الآخر الذي يبدأ من حسن البنا، ويستمر مع سيد قطب وتنتهي الرحلة مع الشيخ عبد الرحمن إلى نهاية القائمة.. ومن مطلب النهضة والإصلاح إلى مطلب الثورة.. ومن الجامعة الإسلامية إلى الجماعة الإسلامية ومن الإصلاح إلى التكفير والهجرة. سوف يواجه هذا التيار الإصلاحي النهضوي، على الرغم من الدور الذي قام به رواده في نهاية القرن التاسع عشر، مساءلات وانتقادات إيديولوجية، وربما تمت محاكمتهم الأيديولوجيا وبأثر رجعي من قبل خصومهم الإيديولوجيين، الليبراليين واليساريين فيما بعد، النقد الذي يتفاوت من ناقد إلى آخر، بحسب انتمائه الإيديولوجي -وأيضاً بحسب شدة انتمائه الإيديولوجي- وحجم اقتداره على النقد الإيديولوجي.

وإذا كان جمال الدين الأفغاني -الملهم الكبير لحركة الإصلاح والنهضة- استطاع فرض احترامه على أعلام عربية وإسلامية، أمثال محمد عبده ورشيد رضا ومصطفى عبد الرازق ومحمد إقبال اللاهوري وأديب إسحاق، وسعد زغلول وجرجي زيدان وابن باديس ومالك بن نبي وأضرابهم، أو مستشرقين ومؤرخين غربيين، أمثال أرنيست رينان، وغولد زهير (1850- 1921م) وكارل بروكلمان وولفرد سكاون بلنت (1840- 1922م).. فكيف نظر إليه نقاد الإيدولوجيا الجدد؟ أو بالأحرى كيف نظر هؤلاء إلى الفكر الإصلاحي لعصر النهضة؟

من المؤكد أن الأدبيات الجديدة لحركات الإصلاح الإسلامي -أعني تحديداً الجماعات الإسلامية بمصر وتوابعها- وإن ظلت تحتفظ باحترام وتقدير خاص للمشروع النهضوي الإصلاحي ولرجالاته، إلا أن الملاحظ هنا، هو غياب مثل هذه الأطروحات أو لنقل غياب أي نقد أو تواصل أو تكامل بين هذه الأدبيات ومشروع النهضة والإصلاح. وقد لا يبدو غريباً أن تجد هذه الأدبيات تتبنى قطيعة صامتة -غير معلنة- مع ذلك المشروع. فما يدعو للدهشة هاهنا، هو أن هذه القطيعة الصامتة، لم تثمر قفزة إلى الأمام، بقدر ما شكلت تراجعاً ملموساً ونكسة فكرية بالغة. حتى ليبدو للناظر، أن فكر الإصلاح والنهضة، كان أكثر شمولاً من فكر الحركات الإصلاحية التي جاءت على أعقاب رشيد رضا، والذي حصل له هو أيضاً من الانتكاس في نهاية حياته ما أدى إلى ذلك الفصام النكد بين التيار الليبرالي والتيار السلفي، بعد أن تحول رشيد رضا من إصلاحي نهضوي، إلى واعظ سلفوي.

هذه الانتكاسة تظهر واضحة، وربما كان للظروف المحيطة الدور المؤثرة في تحول هذا الخطاب، من خلال الاشتغال على موضوع النهضة. إذا كان محمد عبده قد حاول جهده التمييز بين العقيدة والسلوك، جاعلاً من مفارقته هذه طريقاً للهروب من تهمة الغرب وتبرئة للإسلام من تخلف العرب المسلمين؛ إذا كان محمد عبده، هذا الذي سافر إلى الغرب ورجع بانطباع مفاده -تأكيداً للمفارقة نفسها- أنه وجد إسلاماً ولم يجد مسلمين وبأنه وجد في العالم الإسلامي مسلمين ولم يجد إسلاماً. فإن الرحلة (القطبية) نسبة إلى المرحوم سيد قطب -سوف تأتي بانطباع مختلف، هو أن الغرب جحيم وجاهلية جهلاء- في كتابه الموسوم؛ أمريكا التي رأيت(2)، وبأن في المجتمع الإسلامي أيضاً لا يوجد مسلمون. سوف تتفكك مفارقة محمد عبده مع سيد قطب لصالح هذه الحلولية (القطبية) التي وجدت في فكرة الحاكمية -المعيار الذي يفصل بين المجتمع المسلم والمجتمع الجاهلي- مسوغها العقائدي. سوف يغيب سؤال النهضة تماماً. وسيصبح الإسلام -أو تحديداً الحاكمية بمعنى الحكم الإسلامي- هو قضية نكون أو لا نكون. فنجد المرحوم سيد قطب في كتابه (نحو مجتمع إسلامي)، ينبه، كما حكى عن ذلك في مقدمة الكتاب -وهو هنا يخالف مالك بن نبي بل ويخطئه- إلى ألَّا داعي لوضع ضميمة (متحضر) إذ يكفي أن نقول: "مجتمع إسلامي" ليكون بالضرورة مجتمعاً متحضراً. ويبدو أن تحليلاً كهذا يستبطن رؤية عن هذا المجتمع الإسلامي (المتحضر) بالضرورة. حيث معيار أسلمته، تحقق الحاكمية، وإلا غدا مجتمعاً جاهلياً. وهاهنا، يغيب التحليل التاريخي والاجتماعي، لصالح قراءة عقائدية مغلقة نشأت وتكاملت في ظروف المحنة. حيث يعتبر (معالم في الطريق) الذي يمثل زبور الجماعات الإسلامية القطبية، ثمرة معانات داخل أقبية السجون، كتبت فصولها تحت بطش السلطة والقمع السياسي. حتى أن المرء ليتساءل، ماذا لو شاهد المرحوم سيد قطب، قيام دولة -مثل دولة طالبان مثلاً- تدعو إلى الحاكمية على الطريقة القطبية وتطبقها بصورة حرفية وإيديولوجية، فهل سيحتفظ بالانطباع نفسه؛ بمعنى أن مجرد وجود مجتمع إسلامي يسلم للحاكمية، يكون متحضراً؟ هذا مع أن المرحوم سيد قطب، استهان بالأسئلة التي تتعلق بماهية الحكومة الإسلامية وفقهها السياسي. لقد قمع السؤال عن طبيعة الحكومة الإسلامية وقيادتها المفترضة وتفاصيلها، واكتفى بالمناداة بالحاكمية، كمطلب لا تحقق له إلا عبر الخيار الثوري. وسيد قطب لا يمثل تحولاً في الوعي الإصلاحي والنهضوي فحسب، بل أيضاً يعكس قطيعة بين مرحلتين في تاريخ التطور السياسي العربي؛ أي من جيل الأفغاني ومحمد عبده، في ظل الاستعمار الإنجليزي، إلى جيل سيد قطب في ظل الدولة القومية المحكومة بمنطق الثورة.

ليس سيد قطب هو صانع هذا النكوص في فكر النهضة والإصلاح؛ بل إنه هو نفسه صنيعة مرحلة موسومة بصعود تيار الثورة والدولة القومية، وضحية لها. ولذا، كانت كتاباته في الفكر الإسلامي والنقد الأدبي إضافة أخرى للتراكم الفكري والمعرفي بقدر ما شكلت أفكاره الحركية منتهى التراجع عن مشروع النهضة الإصلاحي. إن مثل هذه القطيعة العامة، سوف نصادفها في عدد من الكتابات الإسلامية التي حاولت تقويض مشروع محمد عبده، من أسسه العقائدية، حيث اقتصرت على اتهامه بالخروج عن الإجماع وعن المتعارف عليه من الاعتقاد على مذهب الأشعرية، كما سنجد ذلك عند (دنيا)(3) مثلاً. وهذا لا يعني عدم وجود الاستثناء، حيث يحضر فكر النهضة والإصلاح في أدبيات التيار الوسطي في مصر، ممثلاً في بعض الرموز الإصلاحية، أمثال البهي وأمثال د. محمد عمارة الذي لا تخلو أعماله من آثار هذا الجيل من الإصلاحيين، محققاً لآثارهم أو مشتغلاً على أعمالهم أو ذائداً عنهم. وأمثال عبد الرحمن الرافعي الذي كتب عن جمال الدين كتاباً تحت عنوان: (جمال الدين الأفغاني باعث الشرق) ومحمود قاسم...

هذه النكوصية، على حد وصف رضوان السيد، سوف تبدأ من المرحلة الثانية من نشاط رشيد رضا، مع أول انفتاح له على رجلين؛ أحدهما ابن تيمية والثاني محمد ابن عبد الوهاب؛ "كان السيد محمد رشيد رضا من الإصلاحيين الذين انحازوا للسلفية في النصف الثاني من العقد الثاني من هذا القرن. وقتها اكتشف ابن تيمية ثم الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وانصرف للعناية بالسنة، والرجوع إليها في اجتهاداته الفقهية"(4). لكن وجود الاستثناء، لا يلغي القاعدة. فالموجة التي حكمت أذهان الجيل الجديد من الإصلاحيين الإسلاميين، لا صلة لها بمشروع النهضة في شموليته. بل لا يخفى أن حضور الإصلاحيين النهضويين في أدبيات من يمثلون التيار الوسطي في مصر، اقتصر على الشروح والتبني دون أي محاولة تذكر في النقد والمساءلة. فهم يفكرون بطريقة محمد عبده الذي كان يفكر وفق معطيات عصره، دون أن تكون لهم إضافات أخرى. على أن مآخذ أخرى على هذا التيار الوسطي، هو تمركزه حول الحركات الإصلاحية التي حدثت في مصر، وتجاهله وصمته عن تيارات نهضوية وإصلاحية، لا تقل أهمية -إن لم تكن تفوق أهمية- عن التيار الذي مثله محمد عبده وتلميذه رشيد رضا بعد ذلك. لقد شهدت البلاد الغربية الأخرى تحولات سياسية وأحداثاً لا تقل أهمية عما حدث في مصر وبلاد الشام. ونشأت نخب وتيارات إصلاحية ظلت أفكارها حبيسة الإطار القطري المحلي، ولم تعطَ الأهمية التي أعطيت لأدبيات محمد عبده ورشيد رضا أو شكيب أرسلان.. فثمة حركات إصلاحية مثَّلها رموز من المغرب الأقصى، أمثال المختار السوسي والحجوي، وعلال الفاسي.. وأخرى من الجزائر أمثال ابن باديس ومالك بن نبي.. وأخرى من تونس أمثال: ابن عاشور، وأسماء من العراق، مثل هبة الله الشهرستاني.. ما يعني أن حضور فكرة النهضة والإصلاح في أدبيات هذا التيار الوسطي ليس حضوراً نقدياً وشمولياً، بل تأبيداً لنزعة تمركزية اختزلت كل محاولات الإصلاح والنهضة في محمد عبده ورشيد رضا. ولم تطالعنا دراسات أكاديمية حتى الآن، لإعادة التأريخ لفكر الإصلاح والنهضة بصورة شاملة، وإعادة الاعتبار إلى ما كان قد مورس في حقه النسيان والتجاهل، رغم أهميته البالغة.

تجدر الإشارة إلى أن الشهيد مرتضى مطهري، هو عالم الدين الوحيد المحسوب على الحركة الإسلامية وأحد أعمدة الثورة الإسلامية في إيران الذي التفت إلى تجربة الإصلاح والنهضة بروح نقدية، متعاطياً معها من منظور المساءلة والمراجعة. وقد استحضر إيجابياتها مع الإشارة إلى نقائصها. وذلك حينما تحدث في كتابه الموسوم: (الحركات الإسلامية في القرن الأخير)، قائلاً: "أين سكت جمال الدين؟" يقول: "وحسب معلوماتي، أن السيد جمال الدين لم يبدِ رأيه تجاه النظام الإقطاعي الذي كان متفشياً في المجتمع الإسلامي، ذلك اليوم، وأيضاً النظام العائلي والنظام التعليمي الإسلامي الذي كان شديد العلاقة بجميعها ولا نعلم كيف كان يرى الأفغاني تلك النظم بالمقاييس والمعايير الإسلامية"(5).

ولكن، أيًّا كان الأمر، فإن جيل النهضة العربية والإسلامية وروادها، لم يخضعوا للسؤال النقدي من قبل الجماعات الإسلامية التي تبدو وكأنها تبحث عن حالات استئناف للمشروع -المشروع الذي لا يتجاوز السياسة الشرعية- ولكن بوتيرة أبطأ وشمولية أقل. لكن هذا لا يعدم وجود حملة إيديولوجية هوجاء، موجهة ضد مشروع الإصلاح كما دعا له رواد النهضة والإصلاح الإسلامي، لاسيما ذلك الهجوم الذي قد يبلغ أحياناً حد التجديف ضد شخص السيد جمال الدين الأفغاني. لعل أبرز مثال على ذلك الحملة التي قادها أحد أبرز الخصوم الإيديولوجيين للإصلاح الإسلامي: د. لويس عوض، الذي كتب دراسة وافية سنة 1975م بلوس أنجلس -وطبعاً استعان بوثائق وتقارير لمخبرين وعملاء للاستعمار الفرنسي والإنجليزي-. نشر لويس عوض دراسته هذه -بعد أن رُفض نشرها في مصر- بلندن، تحت عنوان: (الإيراني الغامض في مصر). وفيها بذل وسعه في إلقاء التهم على السيد جمال الدين، واصفاً إياه بشتى النعوت القدحية، مشككاً في عقيدته ومواقفه وأصله ونسبه، إلى حد اتهامه بالصفة ونقيضها، مثل اتهامه بالإلحاد والعلمانية وفي الوقت ذاته وصفه بالثيوقراطي المحافظ. أو اتهامه باللنتهازية (= إنتهازي من طراز نادر) وفي الوقت ذاته وصفه بالثوري والحالم والفوضوي. لقد بالغ لويس عوض في رسم ذلك (البورتريه) الفاوستي للسيد جمال الدين، لسببين رئيسين هما مناط ذلك السجال الإيديولوجي الذي بلغ قمة إسفافه وافتئاته مع لويس عوض:

1- السبب الأول يتمثل في إسلامية جمال الدين الأفغاني ومرجعيته الإسلامية، وكلاهما صفتان كفيلتان بإذكاء الخصومة الإيديولوجية بالنسبة لإيديولوجي مسيحي المولد وليبرالي الاتجاه، لم يفتر عن الدعوة إلى ترك اللغة العربية والاستعاضة عنها باللهجة المصرية وكتابتها بالأحرف اللاتينية. وهي دعوة يستهدف بها لويس عوض إخراج مصر من مجالها الحضاري، وفصلها عن الإسلام -فلا يكترث لذلك، لكونه مسيحي-، وعن عروبتها -ولا يكترث لذلك لأنه ليبرالي تغريبي متخصص في الأدب الإنجليزي-، ودعوة كهذه تجد خصمها الإيديولوجي مجسداً في الأفغاني، داعية الجامعة الإسلامية، والمتمسك بالمرجعية الإسلامية.

2- السبب الثاني أن جمال الدين الأفغاني وافد على مصر، إيراني غامض -على حد قوله-. وهي نزعة قطرية بل ربما شوفينية.

إن وراء كل ذلك التجديف الذي ساقه لويس عوض ضد الأفغاني -وهو بذلك يسعى لتقويض مشروع حركة الإصلاح التي دشنها هذا الأخير وترك بصماته غائرة على من آتى بعده- إعجاب مقموع. إنه -أي لويس عوض- وهو العلماني المنحى، يتهم الأفغاني، بأنه علماني وملحد. ومع ذلك يتمنى لو كان هذا الحالم الأفَّاق، الدولي، مصرياً. ما يؤكد أن نقمته على هذا الأخير تكمن في كونه إيرانياً دخل مصر مصلحاً. فهو كما يظهر من عنوان دراسته السابقة: إيراني غامض في مصر. يقول متحسراً: "آه لو كان الأفغاني مصرياً، إذن لحدد انتماؤه وغاياته، فلم يحلق هكذا بين النجوم والسحاب،ولربما وثبنا بقوة نحو التقدم والقوة والثبات. فقد كان طريقه طريق الثورة الثقافية، وليس طريق التطور الثقافي، كما هو الحال عند محمد عبده الجبان"(6).

إنه محلق بين النجوم والسحاب، ليكون عالمه (الجامعة الإسلامية). وذلك هو الخطأ الكبير الذي يجعل الأفغاني يدفع الثمن غالياً، لخصم إيديولوجي، آثر بناء رأيه حول فكر الأفغاني من خلال وثائق سرية وغامضة. إن وراء هذه الحملة، حملة على مشروع الأفغاني وحركته. ما يعني أن ما قدمه لويس عوض، لا يرقى إلى مصاف المراجعات النقدية التي تحدثنا عنها قبل قليل، بقدر ما هو ضرب من الهياج الإيديولوجي الذي تكرر عندنا كثيراً، لاسيما في المنطقة العربية مع الاجتياح الإيديولوجي الجديد الذي تلا عام النكسة. إذا كانت إيرانية السيد جمال الدين مصدر إزعاج لخصيمه الإيديولوجي لويس عوض، الذي اختار الطريق السهل في التأريخ لحركة الأفغاني، استناداً إلى وثائق خصومه من دوائر الاستخبارات الفرنسية والإنجليزية، فإن خلفيته الدينية هي مصدر آخر لا يقل خطورة في نظر لويس عوض، الذي اعتبرها سبباً رئيساً لتحريف مسار الثورة العرابية. إنه "غير صحيح ما يقوله محمد عبده وغيره من أن دور الأفغاني في تحريك الفكر المصري كان أهم عامل في إشعال الثورة العرابية بل العكس من ذلك، لقد أدت أفكار الأفغاني العثمانية إلى استقطاب ذلك النجاح المحافظ بين مجاهدي الحزب الوطني الحر ثم مجاهدي الثورة العرابية بما أحبط الثورة بتوجيهها في مسارات دينية بدلاً من تعميق جذورها المصرية"(7).

 

الهوامش:

(1) انظر د. محمد عمارة؛ جمال الدين الأفغاني المفترى عليه، ص 45 ط1 - 1984م، دار الشروق - القاهرة.

(2) على الرغم من ادعاء البعض بأن هذا الكتاب مفقود، وقد قيل إنه تعرض للحرق، إلا أن موقف المرحوم سيد قطب من الغرب، يمكن الوقوف عليه في أكثر كتبه بما فيها تفسيره الموسوم بـ(في ظلال القرآن). وربما كان كتاب أخيه محمد قطب: (جاهلية القرن العشرين) ثمرة لهذا الموقف نفسه.

(3) أعني (سليمان دنيا) صاحب كتاب (محمد عبده بين الفلاسفة والكلاميين)؛ حيث يقول : "هذه قضايا لا تكفي فيها مراعاة المصلحة الآنية. لا يغفر لعبده إشفاقه على المسلمين وتطوعه لرد شبه الخصوم إذ قال في أمور خطيرة بما يناقض إجماع أئمة السلف" عن عبد الله العروي : مفهوم العقل ص30.

(4) د. رضوان السيد؛ سياسيات الإسلام المعاصر، مراجعات ومتابعات، ص 42 ط 1997، دار الكتاب العربي - بيروت.

(5) من الناحية الشكلية يبدو الكتاب الأخير في غاية العمومية والتبسيط، بخلاف الأعمال الأخرى للأستاذ مرتضى مطهري. لكن هذا لا يمنع من الوقوف على بعض الإشارات المهمة في الكتاب المذكور. انظر مرتضى المطهري؛ الحركات الإسلامية في القرن الأخير، ص 44، ترجمة صادق العبادي ط 1 1982 دار الهادي ببيروت.

(6) د. محمد عمارة؛ المصدر السابق ص 192.

(7) المصدر نفسه ص 78. أقول : لقد حاول د. عمارة جاهداً أن يرد على لويس عوض في اتهامه للأفغاني بالتشيع. وعلى الرغم من أن عمارة لم ير في تشيعه عيباً، إلا أنه سرعان ما عاد وأجهد نفسه للدفاع عن (سنية) جمال الدين الأفغاني. وهو بذلك يعزز ما ذهب إليه لويس عوض من أن التشيع صفة قدحية تطلبت من د. عمارة اجتهاداً في دفعها عن جمال الدين الأفغاني. الأفغاني إذن محبوب. ولشرعنة هذا الحب لا بد من الاجتهاد في نفي ايرانيته (والقول بأفغانيته) ونفي تشيعه والقول بسنيته. في تصوري، كان د. عمارة قد وقع في فخ الأحكام القدحية للويس عوض. إنه لم يدافع عن جمال الدين الأفغاني كما هو؛ إيرانياً وشيعياً، بل ساير لويس عوض، وهو بذلك يكون قد سلَّم بقدحية هذا التصنيف من حيث لا يشعر.