شعار الموقع

الثقافة وتحديات التحضر في المملكة العربية السعودية.. الشعر نموذجاً

سعد البازعي 2004-09-21
عدد القراءات « 902 »

الدكتور سعد البازعي(*)

في عام 1327هـ, حوالي 1909م, نظم الشاعر محمد بن عثيمين قصيدة في المديح استهلها كما تستهل القصائد العربية القديمة بالغزل والوقوف على الأطلال منتقلاً من موضوع إلى آخر كما كان الشاعر الجاهلي يفعل, إلى أن وصل في منتصف القصيدة تقريباً إلى ثلاثة أبيات تخرج عن موضوعه, وتصور أزمة شخصية ثقافية لربما أن أكثر مستمعيه لم يعها ناهيك عن أن يعيشها:
جعلت سميري حين عز مسامري دفاتـر أملتهــا القرون السوالف
فطوراً أناجي كل حبر موفـــــــق إذا ما دعــا لبت دعاه المعارف
وطوراً كأني مع زهير وجـــرول وطوراً يناجيني ملوك غطارف
(العقد الثمين, ص421)

هذه المناجاة بين شاعر نجدي من القرن العشرين وأسلافه في الجاهلية قد تبدو غريبة لنا الآن. لكن البيئة الثقافية التي ترتسم في الأبيات لا تقل غرابة ليس بالنسبة لنا في عصر انتشار التعليم وفصاحة اللغة فحسب, وإنما بالنسبة للشاعر نفسه بين دفاتره ومحاولاته أن يعبر القرون بحثاً عن السلوان مع السلف. فمن الواضح أن ابن عثيمين, الذي عاش ما بين 1270 و1363هـ (1853 ـ 1943), قد عاش غربة ثقافية في بيئة تهيمن عليها الأمية ويتحوطها الجهل, خاصة وأنه قد اكتسب هذه الثقافة التراثية العريقة بلغتها وشعرها وعرف ما لم تكن تعرفه الكثرة الكاثرة من حوله. وإذا كانت موهبة ابن عثيمين الشعرية قد انتهت إلى محاولة مستميتة لإحياء الشعر الجاهلي بترسم خطاه وتبني لغته الغريبة إلى حد كادت معه شخصية الشاعر أن تغيب تماماً فماذاك إلا لأن ثمة علاقة حميمة قد تولدت بين الشاعر وموروثه العربي القديم في إطار من المعاناة لما تردت إليه حال الثقافة العربية في وسط الجزيرة العربية آنذاك. وإذا كنا الآن لا نستسيغ أسلوب الشاعر في الصياغة أو في المديح المبالغ به أحياناً كثيرة فإن ذلك لا ينبغي أن يحول بيننا وبين فهم سياقه الثقافي العام الذي يصله بالإحيائيين في الثقافة العربية الحديثة كالبارودي, ولا بيننا وبين سياقه الثقافي الخاص الذي يهمنا لفهم التجربة الثقافية الحضرية للمنطقة التي عاش فيها.
كان ابن عثيمين نتاج ثقافة تدوينية خافتة الضوء, ضئيلة الحجم, تقتات الحياة في الكتاتيب والمساجد, وتعتمد الفصحى لنشر تعاليم الاسلام والاحتفاظ بالموروث العربي ومنه الشعر. تلك الثقافة التي عاشت بياتاً متواصلاً عبر قرون طويلة مظلمة طغى عليها الجهل والخرافة والأمية هي التي أنتجت في القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) الشيخ محمد بن عبد الوهاب والدعوة السلفية التي غيرت تاريخ الجزيرة العربية وزرعت في أفق المستقبل وعود تغيرات أخرى كثيرة. ومع أن سلفية ابن عثيمين الأدبية لم تكن غريبة في ذلك الخيط الخافت المتصل من الحياة الثقافية, فإنها كانت غريبة في المحيط الاجتماعي الضخم الذي يحيط بذلك الخيط ويتهدده بالانقطاع في أية لحظة.
بعد أربعة أعوام على إنشاء أبياته المشار إليها أعلاه اتجه ابن عثيمين إلى الاحساء لتهنئة الملك عبد العزيز بفتحها, وإلقاء قصيدة مغتربة أخرى في السياق السائد حينئذ. والأرجح أن قليلاً من الموجودين في المكان قد استوعب مفردات الشاعر الموغلة في الغرابة أو علاقة القصيدة بقصيدة أبي تمام, النموذج الذي عارضه ابن عثيمين بقوله:
العز والمجد في الهـــــــــندية القضب لا في الرسائل والتنميق للخطـــــب
تقضي المواضي فيمضي حكمها أمما إن خالج الشك رأي الحاذق الأرب
(العقد الثمين, ص29)
غير أن الجموع وإن لم تفهم دلالات كل الألفاظ الفصيحة فقد فهمت بكل تأكيد الدلالة الأساسية, دلالة أن السيف وليس الرسائل هي مصدر العز والمجد آنذاك, وهي دلالة لم يكونوا بحاجة للشعر لإيضاحها على أية حال.
ومع ذلك فإن الملك عبد العزيز وإن اعتمد السيف في ضم الاحساء إلى مملكته المتنامية فقد أدرك تمام الإدراك أهمية «الرسائل» وما تمثله من ثقافة كتابية لابد من العمل على تأصيلها كجزء أساسي من تكوين الوطن الجديد, ففي العام الذي شهد فتح الاحساء أسس عبد العزيز أول هجرة في مشروعه لتوطين البادية وتكثيف التحضر في بلاد تعاني من غلبة البداوة والأمية. كانت الهجرة مشروعاً طموحاً لربط وسط الجزيرة وشمالها بأسباب المدنية التي كانت مناطق أخرى من الجزيرة كالحجاز تعرفها منذ وقت طويل. وببداية ذلك المشروع بدأت عدة رحلات: رحلة من البداوة إلى التحضر, ومن الصحراء إلى المدينة, ومن الشفوي إلى المكتوب, رحلات تشكل في مجموعها فصول المسيرة الثقافية للمملكة التي أتناولها من خلال ما أشرت إليه بـ «تحديات التحضر», وهو الجانب الذي أحاول من خلاله أن أقف على الإشكاليات التي واجهتها البلاد لتحقيق الإنجازات المشاهدة حالياً وذلك في إطار قراءة تفسيرية نقدية تحاول أن تصل إلى ما لا تصل إليه الأرقام والتواريخ المجردة. فقراءة التحديات هي قراءة مؤشكلة بالوعي الانساني للتحضر, هي تتبع لدراما النمو والتغير بما تنطوي عليه من صعوبات ونجاحات. وإن كنت قد اخترت الشعر السعودي مدخلاً ونموذجاً تتناوله تلك القراءة فإنما ذلك لأنه, من ناحية, أحد أكثر الزوايا حيوية وإثراء لتأمل الجوانب الإشكالية للتحضر, ولأنه من ناحية أخرى قريب إلى خبراتي الشخصية فيما يتصل بالثقافة في المملكة.

أ) تحديات التحضر: التاريخ والوقائع
إن سعي هذه القراءة إلى استكناه التجربة التحضرية من داخلها, لا يجعلها بغنى عن بعض الجوانب الخارجية لتلك التجربة, ومنها الوقائع الإحصائية والزمنية. فمن هذه يمكن أن ندرك الكثير من الدلالات المتجاوزة للوقائع نفسها. ولكن كثرة المجالات التي يمكن استجلاء المعلومات منها تجعل من الضروري اختيار مؤشرات محددة, وقد اخترت أن أعرض لمؤشرين فقط من تلك المؤشرات التي تتصل مباشرة بالنمو الثقافي في المملكة, أحدها يمثل قاعدة الثقافة وإطارها الأساسي, وهو التعليم, والآخر يمثل نتاجاً هاماً من نواتج التعليم ورافداً من روافده في الوقت الذي يتصل اتصالاً وثيقاً بالناحية الاقتصادية وهو الطباعة والنشر.
المؤشر الأول: التعليم
لم يكن إنشاء المؤسسات التعليمية بشكلها الحديث, أي بإقامة المدارس والمعاهد ووضع المناهج وما إلى ذلك, هو المشكلة الكبرى الوحيدة بالنسبة للمملكة في نشأتها, وإنما كانت هناك عدة مشكلات ربما كان في طليعتها التحدي السياسي والاجتماعي المتمثل بتسيير التعليم ضمن سياق عملية التوحيد السياسي لأجزاء البلاد المترامية. ذلك أن التوحيد كان مرتكزاً أساسياً لكل حركة تنموية في البلاد وفي طليعتها التعليم, لكن كان أيضاً من الصعب جعل ذلك المرتكز يطغى على اعتبارات أخرى ومن أهمها وأوضحها التفاوت الاجتماعي والثقافي بين المناطق الموحدة حديثاً. وقد أدى وعي الملك عبد العزيز وحكومته لذلك إلى جعل عملية التأسيس لتعليم قوي وشامل تسير بسرعات متفاوتة على الرغم من الحرص الشديد على شمولية النهضة.
نلمس ذلك في بداية التعليم في الحجاز الذي دخله الملك عبد العزيز فاتحاً عام 1343. فقد كانت الحجاز قبل ذلك تحت إدارة الأشراف ومن قبلهم الإدارة العثمانية, بالاضافة إلى أن الحرمين الشريفين ظلاّ طوال العصور مقصداً للعلماء وطلبة العلم, فلم يكن والحال كذلك غريباً أن يترسخ التعليم في الحجاز ويسبق المناطق الأخرى من المملكة في ذلك المجال. يذكر الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ في كتابه «لمحات عن التعليم وبداياته في المملكة العربية السعودية», وهو كتاب اعتمدته في معظم معلوماتي عن بدايات التعليم في المملكة, انه كان في مكة حين دخلها الملك عبد العزيز أربع مدارس ابتدائية وعدد قليل جداً من المدارس الثانوية, ولكن مع ضآلة ذلك العدد فإنه كان كبيراً بالقياس إلى منطقة نجد مثلاً التي لم يكن بها أي نوع من التعليم غير الكتاتيب في المساجد وما تلقنه من علوم دينية. لذا كان من الطبيعي أن تعمد الحكومة السعودية في بداية سلطتها على الحجاز إلى أخذ ذلك التباين الواضح بعين الاعتبار فتدعم الكثير من المؤسسات القائمة في الحجاز وتتوسع في بعض مجالاتها إضافة إلى التأسيس لنهضة أشمل وأحدث وأكثر رسوخاً, بينما تؤجل تأسيس التعليم الحديث في نجد وبعض المناطق الأخرى إلى ما يقل عن العشرين عاماً.
كان من أول الخطوات التأسيسية التي تبنتها الحكومة السعودية إقامة مديرية للمعارف العامة عام 1344 / حوالي 1925م. وقد نص مرسوم إنشاء المديرية على أنها تسعى «لنشر العلوم والمعارف والصنايع» ضمن أهدافها التي تأتي في طليعتها المحافظة على تعاليم الدين الحنيف. كما تضمن المرسوم أن المديرية مسؤولة عن «المملكة الحجازية» فقط. ثم انشئ مجلس للمعارف ارتبط بنائب الملك في الحجاز, واعتبر السلطة التعليمية العليا, أما أعضاؤه فتألفوا من بعض العاملين في الدولة إلى جانب بعض المواطنين. ثم لم يمض عام واحد على ذلك حتى أنشئ أول معهد للتعليم الثانوي الحكومي سمي بالمعهد العلمي السعودي جاءت ظروف افتتاحه غنية بالدلالة على نوع الصعوبات التي واجهتها الدولة للتأسيس لتعليم متطور. فقد أقفل المعهد بعد افتتاحه بعام واحد نتيجة لقلة الإقبال عليه, ثم أعيد افتتاحه بعد تخفيف شروط القبول وإغراء الطلاب بالمرتبات, فكثر الإقبال, وكان من نتائج ذلك ازدياد عدد المدرسين المستقدمين من الخارج والذين تضمنوا ربما لأول مرة في تاريخ البلاد مدرساً للغة الإنجليزية أتي به من الهند. وفي عام 1352/1993 أعيدت شروط القبول السابقة. وبعد ذلك بأربعة أعوام افتتح فرع للمعهد في المدينة المنورة ليتلوه بعد عشرة أعوام فرع آخر في عنيزة, حيث كان خطوة تعليمية هائلة بالنسبة لمنطقة نجد. وكان الملك عبد العزيز حريصاً على دخول أبناء المناطق المختلفة إلى ذلك المعهد, مثلما حرص على دخولهم معاهد أخرى سيأتي ذكرها وذلك توطيداً لدعائم الوحدة والإخاء بين أبناء الوطن الجديد.
على صعيد آخر من أصعدة التعليم خطت البلاد خطوة أخرى بإنشاء مدرسة تحضير البعثات عام 1955/1936 لكون «البلاد بحاجة ماسة إلى أطباء وحقوقيين واختصاصيين في العلوم العالية كالهندسة والزراعة وغيرها...» تلت ذلك خطوة أخرى بإنشاء دار التوحيد بالطائف التي قصد منها تخريج القضاة. والطريف حول هذه المدرسة أنها كانت داخلية, وقد حرص الملك عبد العزيز أن تضم هذه الدار كغيرها أعداداً من أبناء المناطق الأخرى غير الحجاز وذلك لتوثيق عرى التعارف والوحدة الوطنية بينهم, ولاقى رحمه الله في ذلك صعوبات جمة لعدم تعود ابناء بعض المناطق كنجد أن يرسلوا أبناءهم بعيداً للتعلم, على الرغم من أنه لم يكن لديهم متسع لإبداء تحفظهم التقليدي على التعليم في الدولة الجديدة لكون المدرسة دينية ومحافظة جداً. لكن كان لابد للمدرسة الجديدة أن تمارس مهمتها لا بتدريس التوحيد كعقيدة ومبحث إسلامي فحسب وإنما بتجسيده كقيمة اجتماعية ووطنية بين طلابها الذين لم يسبق لأهلهم أن عرفوا التوحد بمناطق الجزيرة الأخرى من قبل. ولعل من بليغ الدلالة أن من أوائل أبناء نجد الذين تلقوا تعليمهم في الحجاز الشيخ حمد الجاسر الذي التحق بالمعهد العلمي السعودي المشار إليه عام 1348, وكذلك الأستاذ عبد الكريم الجهيمان أحد خريجي المعهد نفسه عام 1351, وهو عام إعلان توحيد المملكة. وكان الأستاذ الجهيمان ضمن أول دفعة نجدية رشحت للدراسة في الحجاز. وكما هو معروف فقد أسهم الجاسر والجهيمان, كل بأسلوبه ومن موقعه, في قيادة الحركة التعليمية والثقافية من خلال الصحافة والنشر والتعليم في المنطقتين الوسطى والشرقية, على التوالي.
دخل التعليم الثانوي منطقة نجد لأول مرة عام 1370 وذلك عن طريق ما يعرف بالمعاهد العلمية التي تدرس العلوم الشرعية, وكان لابد مع ذلك من أن يتولى الاشراف عليها مفتي المملكة آنذاك الشيخ محمد بن إبراهيم ليوليها الناس ثقتهم. فقد وقف أهل نجد بالذات موقفاً حذراً من التعليم الحديث بجميع أنواعه, لكن الدولة كانت بعيدة النظر حين قربت أولئك إلى التعليم النظامي عن طريق المعاهد الشرعية, ثم حين اتبعت السياسة نفسها في الخطوة الأشد صعوبة وهي تعليم البنات تعليماً نظامياً عام 1379/1959. فقد تولى الشيخ محمد بن ابراهيم الاشراف على ذلك التعليم في بدايته, وحين أسست الرئاسة العامة لتعليم البنات, وهي التي تشرف على تعليم البنات حتى اليوم, روعي أن تكون إدارتها من المعروفين بالورع والتفقه في العلوم الاسلامية.
تعتبر رئاسة تعليم البنات خطوة تالية في إنشاء المؤسسات العليمية, فقد سبقتها خطوة أكثر أساسية وهي إنشاء وزارة للمعارف عام 1373/1953, وذلك لتكمل الدور الذي بدأته مديرية المعارف بإيصال التعليم إلى مراتب أرفع. وكانت الوزارة, التي قادها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد كأول وزير للمعارف, البطلة الحقيقية لقفزة التعليم في المملكة منذ تأسيسها وحتى مرحلة متأخرة شاركتها فيها رئاسة تعليم البنات ثم وزارة التعليم العالي وجهات تعليمية أخرى. ومن مؤشرات تلك القفزة إنشاء 406 مدارس ابتدائية و79 مدرسة متوسطة و26 ثانوية و18 معهداً صناعياً وزراعياً ما بين عامي 1954 و1961. كما أن من المؤشرات الأخرى تعليم الكبار ومحو الأمية الذي بدأ عام 1954 بـ 1713 طالباً تضاعفوا بعد سنة واحدة إلى 5442 ثم إلى 16843 بعد خمسة أعوام.
وحين نقترب من أيامنا هذه سنجد المفارقات الرقمية هائلة بالفعل. ففي عام 1987, أي بعد ربع قرن من الفترة المشار إليها أعلاه, بلغ عدد المدارس الابتدائية للبنين 4560 مدرسة في مقابل 3226 للبنات. وفي العام الماضي 1995 وصل عدد المدارس الابتدائية للبنين إلى 5404 مدرسة, والثانوية إلى 859 مدرسة, بينما كان عدد الثانويات عام 1987: 550 للأولاد فقط. أما التعليم الجامعي, فيوجد في المملكة حالياً سبع جامعات أكبرها وأقدمها جامعة الملك سعود التي يمكن تبين القفزة التعليمية من تأمل أعداد طلابها. فمن الثمانية عشر طالباً الذين التحقوا عام إنشاء الجامعة 1957, قفز العدد بعد حوالي عقدين من الزمن إلى حوالي اثني عشر ألفاً منهم 9295 طالباً و2511 طالبة, ثم في العام الماضي بلغ عدد الطلاب والطالبات أربعة وثلاثون ألفاً وستمائة, منهم حوالي الفي طالب وطالبة مقيدون في الدراسات العليا.
ولو عدنا لنتابع ماضي المسيرة الثقافية في المملكة فقد قرر فيه الأمير فهد, وزير المعارف آنذاك, عقد مؤتمر للتعليم في المملكة لوجدنا أن عام 1377/1957 كان عاملاً حافلاً في تاريخ المسيرة التعليمية الثقافية في المملكة هو الأول من نوعه, وكان من نتائجه إعداد أول خطة خمسية للتعليم. وفي العام نفسه صدر مرسوم الملك سعود رحمه الله بتأسيس أول جامعة لا في المملكة فحسب بل في الجزيرة العربية ككل هي جامعة الملك سعود. وكان إنشاء الجامعة في بلاد لم تنشأ فيها وزارة المعارف إلا قبل ذلك بستة أعوام عملاً جريئاً في وجه تحديات صعبة. لكنه لم يكن العمل الجريء الوحيد, في إدارة أقدمت من قبل على بدء الابتعاث وافتتاح مدارس للبنات.
على أن من الضروري أن يشار إلى أن إنشاء الجامعة لم يكن بداية التعليم العالي, وإنما بداية التعليم الجامعي. فقد عرفت البلاد التعليم العالي الذي لا تنتظمه جامعة موحدة قبل ذلك بسبعة أعوام عند إنشاء كلية الشريعة بمكة عام 1370/1950 ثم إنشاء كلية الشريعة بالرياض عام 1373/1953 تقريباً. غير أن إنشاء الجامعة كان قفزة كبيرة شارك في إنجاحها مثلما شارك في إنجاح غيرها عدد من المختصين العرب, وقد ذكر لي أحد أولئك الأساتذة الأفاضل أنه حين أنشأت الجامعة جاء مقرها في أطراف الرياض, أي على حافة المدينة, وكان أبناء البادية يمرون بالمباني الجديدة ويعرضون ما لديهم من ألبان على هيئة التدريس والطلاب. وثمة دلالة أخرى لاتقل طرافة تمثلت في أن فئات من سكان الرياض, ممثلة بسائقي سيارات الأجرة وهم غالباً من الأميين, كانوا يجدون صعوبة في فهم المقصود بالجامعة, وظلوا يسألون الذاهب إلى «الجامعة» عما إذا كان قد أخطأ الكلمة وأن مقصده «الجامع» فقد كان تأسيس الجامعة اقتحاماً لفضاء اللغة نفسها وليس الحياة الاجتماعية والتعليمية والعمرانية فحسب, ومع أن الرياض كانت تتنامى بسرعة غير عادية في ذلك الوقت, فإن الكثير من سكانها لم يكن قد استوعب بعد مدى التغير الذي كان يهب على الأسوار والبيوت الطينية القديمة. لقد كانت الرياض بالنسبة لأولئك ما تزال أقرب إلى البلدة الكبيرة منها إلى المدينة. ولم يكن ذلك الواقع غريباً على رياض الأربعينات, وهي تتفرش ما بين القرية من ناحية والصحراء من ناحية أخرى, مما جعلها تكويناً حضرياً برزخياً يعيش حالة انتقال إلى المدينة أكثر مما يعيش المدنية نفسها. لقد كانت الرياض تتنامى على شكل «حلل», وهي استضافات استيطانية يقيمها الوافدون من أبناء البادية والقرى المحيطة على أطراف المدينة في عملية تحضر تراكمية متواصلة وإن كانت بطيئة. أي أن المألوف بالنسبة لسكان الرياض هو مشاهدة حلة جديدة تنهض على شكل خيام أو مبان طينية تبنى عشوائياً إلى الشرق أو الغرب وليس مبانٍ جامعة تقدم العلوم العالية.
لكن إنشاء الجامعة جاء إيذاناً بتسارع التغير لا في عمر الرياض فحسب وإنما في عمر المملكة ككل, فإلى جانب جامعة الملك سعود شهدت الرياض في الخمسينيات قفزة نوعية هائلة في عمرها الحضري سأستعرض بإيجاز بعض مظاهرها لرسم السياق التحضري في تلك الفترة, وهو سياق متواشج كما هو معروف مع العملية التعليمية. ففي عام 1955 بلغ سكان الرياض 106000, وهو رقم مرتفع إذا قيس بالثلاثين ألفاً الذين كانوا يسكنون البلدة الطينية الصغيرة عام 1940 . وقد ترافقت تلك الزيادة السكانية مع تأسيس بلدية الرياض عام 1953 (التأسيس الذي يعتبره المتخصصون في جغرافية المدن وتخطيطها العلامة الفارقة للمدينة), وكذلك هدم آخر بوابات الرياض القديمة عام 1954, وهو هدم دخلت من خلاله الرياض طوراً من النضج جعلها أكثر تأهلاً للاضطلاع بدورها كعاصمة للمملكة المتنامية. وكان أبرز مظاهر ذلك التحول السياسي في عمر الرياض الحضري انتقال الوزارات من المنطقة الغربية عام 1957, الذي ترافق مع إنشاء مطار الرياض (الذي يعرف الآن بالمطار القديم) قبل ذلك بأربعة أعوام, والطفرة العمرانية والسكانية التي أحدثها نشوء ذلك المطار متمثلة بقيام الحي الذي عرف بـ «الرياض الجديد» إلى الشمال والشمال الغربي من جامعة الملك سعود. يقول أحد الباحثين البريطانيين عن تلك الفترة وما تلاها بقليل إنها تبرر الوصف الذي أطلق على الرياض في تلك المرحلة كـ «أكبر موقع للبناء في التاريخ البشري» (وليم فيسي, 325).
أحد الذين احتفوا بمقدم موقع البناء ذاك كان الشاعر حمد الحجي رحمه الله الذي نظم قصيدة يحيي بها تأسيس ما أسماه «جامعة الرياض الكبرى», في إيماءة وحدوية على المستويين الحضاري والسياسي. ذلك أن الصرح العلمي الوليد, كما رآه الشاعر, يجيء متجاوزاً الحدود الاقليمية ليجمع العرب على جزيرة العرب. وفي ثنايا الكلام التفاتة من الشاعر للدلالة الجديدة التي تبثها الكلمة الجديدة ضمن القاموس اللغوي المتداول, ومحاولة لتبيئتها في ذلك القاموس:
فقد رأيت بأرض العرب جامعة قد شيدوها على الإيمان تشييدا
تلقن العلم تبغي رفع مشعلـــــــه لتبعث الفكر إيجــــاداً وتجديدا
.......
هذه الشواهد إنـــــــــا سيرنا أمم فلم نعد نستسيـــــــغ العلم تقليداً
(عذاب السنين, 65)
كان الشاعر حمد الحجي حين نظم هذه الأبيات في العشرين من عمره وهو, كما لاحظ أحد الباحثين*, عمر يتوازى مع عمر التعليم وبدء انشاء المدارس في المنطقة الوسطى, أو منطقة نجد.
وفي أبيات تضمنتها إحدى قصائده الوجدانية ذات التوجه الرومانسي يعلن الحجي إنتمائه الثقافي المواكب للتطورات الحضارية والجدير بالمقارنة بما أعلنه ابن عثيمين من قبل:
لو تراني وقد طحا بي فكري وأطارت من الشؤون صوابي
لتوهمتني بريئــــــــاً من اللب ضعيفاً محطم الأعصـــــــاب
ثم لم تدر أنني في سمـــــــاء الفكر أحيانــــــــاً كعابد أواب
هكذا عيشي رحيل مع الفكر بعيد أو نظـــــــــرة في كتاب
(عذاب السنين, 32)
كما أن تلك الفترة قد شهدت أيضاً القفزة الثقافية الكبرى المتمثلة بلحاق منطقة نجد منطقة الحجاز في ميداني الطباعة والصحافة, وهو ما انتقل إليه في ترسمي الموجز هذا لمعالم المسيرة الحضارية للمملكة.

المؤشر الثاني: الطباعة والنشر
حين أنشأ الشاعر ابن عثيمين قصيدته المشار إليها في مطلع هذا الحديث شاكياً من غربته الثقافية في قرى نجد, كان الحجاز يقرأ صحيفته الأولى باسم «حجاز» (1908). غير أن تاريخ الطباعة في ذلك الجزء من الجزيرة يسبق التاريخ المشار إليه بما يتجاوز الربع قرن. فحوالي عام 1882 جلب العثمانيون أول مطبعة إلى الحجاز وكانت تدار بالقدم أطلق عليها «مطبعة ولاية الحجاز», ثم توالت التطويرات حتى جاء العهد الهاشمي فأسس الحسين بن علي, بعد تتويجه ملكاً على الحجاز, مطبعة بمكة لطباعة صحيفة «القبلة», التي أطلق عليها «مطبعة أم القرى» في بداية العهد السعودي. ثم حولت تلك المطبعة إلى مطبعة الحكومة وما تزال تحمل هذا المسمى. وفي تلك الأثناء بدأ عدد من المطابع الأهلية يشارك في سد الاحتياج المتنامي للطباعة, فأنشأت «الشركة العربية للطباعة والنشر بمكة» عام 1955/1935 حيث طبعت بها جريدة «البلاد السعودية» ومجلة «المنهل». ثم أنشأ الأخوان علي وعثمان حافظ «مطبعة جريدة المدينة المنورة» عام 1936 في المدينة, وأسست «مؤسسة الطباعة والصحافة والنشر» بجدة عام 1952, وكانت أحدث ما سابقاتها, فكان أن تولت طباعة عدد من المطبوعات الدورية كمجلة «الإذاعة» و «الحج» و «المنهل» و «جريدة الرياض المصورة» (بكري, الشيخ أمين, 195-197).
ولعل في الاستماع إلى ذكريات أحد الذين عايشوا تلك المراحل الأولى للطباعة والنشر الثقافي ما يخرج السرد التاريخي من جفاف المعلومة إلى حميمية الرؤية الانسانية. فهذا الأستاذ عبد القدوس الأنصاري رحمه الله صاحب أول دورية ثقافية وأدبية في المملكة وأحد رواد الحركة الأدبية والثقافية يتذكر البدايات في مكة والمدينة, وذلك بمناسبة مرور خمسين سنة على صدور العدد الأول من مجلة «المنهل» التي أسسها في المدينة المنورة. يشير الأستاذ الأنصاري إلى بداية مجلة «المنهل» عام 1355, وكيفية حصوله على إذن بصدورها كأول مجلة ثقافية أدبية في المملكة, قائلاً أنه كان عليه الانتظار خمسة أعوام ليحصل على الترخيص بإصدار المجلة, إضافة إلى إجراءات أخرى منها وجود مطبعة وكتاب كفيل عند الدولة. وبعد توفر الكتاب والكفالة, جاء دور المطبعة. يقول الأستاذ الأنصاري: «كانت هناك ماكينة صغيرة جلبها الصديقان السيد علي والسيد عثمان حافظ من مصر, مطبعة تعمل باليد يديرانها ويعملان بها وهما لايعرفان الطباعة ولاشيئاً من ذلك, كانا مغامرين أيضاً. كان السيد علي والسيد عثمان يقولان أكتب أنت ونحن نطبع. وهات ما تكتبه واستكتب بعض الإخوان. وشرعا في الصف, صف مهلهل وترتيب غير معقول أبداً. وصدر المنهل في ذي الحجة عام 1355هـ في ورق «مخربش», وطبع منه مائة وخمسون نسخة, وكان فتحاً لايقاس عليه»‏(الموجز في تاريخ الأدب السعودي,60).
هذه القصة لابد من وجود ما يوازيها في مناطق أخرى ليس في المملكة فحسب وإنما في البلاد العربية وغيرها, فقصص البدايات تتشابه كثيراً. غير‎أن ضيق المجال لن يسمح بإيراد أية قصص مشابهة, وسأكتفي بالإشارة إلى أن قصة النشر والطباعة في المنطقة الوسطى تعود ايضاً إلى جهود أفراد في طليعتهم الشيخ حمد الجاسر الذي كان رائداً في تأسيس أول مطبعة في المنطقة (عام 1954), وكذلك في بدء أول مطبوعة صحفية فيها (اليمامة, عام 1953). أما في المنطقة الشرقية من المملكة فقد كان الأستاذ/ عبد الكريم الجهيمان رائداً آخر حين اسس عام 1954 صحيفة «أخبار الظهران» وذلك إلى جانب مجلة «الفجر الجديد» التي تولاها الأستاذ يوسف الشيخ يعقوب, وجريدة «الخليج» التي أصدرها الأستاذ عبد الله شباط عام 1955‏. وكانت شركة الزيت «أرامكو» قد اصدرت في المنطقة نفسها مجلة «قافلة الزيت» عام 1952, وذلك إلى جانب مطبوعات وبدايات أخرى يضيق المجال عن التوسع بذكرها.
في عام تأسيس المطبعة في الرياض نظم الشاعر الحجي قصيدة حيا فيها ذلك الانجاز على نحو يستعيد الخطاب الشعري النهضوي لدى الشعراء المصريين في مطلع القرن وهم يحتفون بدخول مبتكرات الحياة الحديثة من كهرباء وصحف وقاطرات, فقد قال:
برزت فكانت دهشة الأبصار بشعاعها المتلألئ الأنـوار
عامان ما مضيا على إيجادها حتى إستحالت منية النظار
تلك الطباعة وافها يا صاحبي بتحية لفاحــــــــــة معطار
(عذاب السنين, 85)
وقبل الحجي حيا شعراء آخرون في الحجاز والأحساء أحداثاً مشابهة تندرج في مجملها ضمن خطاب احتفالي سيرد بعد قليل ضمن ملاحظاتي حول إشكالية التحضر كما تبرز في الشعر السعودي. هنا أود أن أورد بعض المعلومات الإحصائية المتصلة بتاريخ الطباعة وتطورها, وهي معلومات نتبين منها ما قطعته المسيرة الثقافية من مسافة في هذا الجانب. يقول الدكتور يحيى بن جنيد (الساعاتي) في دراسة إحصائية لما نشر بين عامي 1390 و 1399 هـ: «بلغ عدد دور النشر والهيئات العلمية والوزارات التي ساهمت في أعمال النشر حوالي خمسين» بلغت إصداراتها حوالي 791 مطبوعة, تمثل خمسين بالمائة مما نشر أثناء ذلك العقد (حركة التأليف والنشر,ص 183). ومع أن الخمسين بالمائة الأخرى غائبة عن هذا الرصد, لكون البعض منها كما يبدو نشر خارج المملكة, والبعض الأخر نشر داخلها نشراً شخصياً, فإن الأرقام المشار إليها ككل تظل متواضعة جداً بالقياس لحركة النشر الحالية, وأهميتها تكمن في المسافات الثقافية التي تتكشف لنا من مقارنة الفترات التاريخية ببعضها البعض. فمن نظرة سريعة لآخر الإحصائيات المتوفرة لدى مكتبة الملك فهد الوطنية, التي تمنح أرقام الإيداع لكل أوعية النشر في المملكة, تتضح القفزة الكبيرة التي تحققت من الإحصاء الذي أجراه الدكتور جنيد قبل خمسة عشر عاماً. تقول الإحصائية أن عدد الكتب التي نشرت عام 1414/1994 حسب أرقام الايداع الممنوحة بلغ 1732, وبلغ عدد الدوريات والمجلات 267, والصحف 15, بينما بلغ عدد الرسائل الجامعية 45. غير أن هذا العدد تغير في العام الذي يليه 1415 /1995 (ولعل للزيادة في تطبيق النظام دوراً في ذلك): فقد بلغ عدد الكتب 2816, واضيف إلى عدد الدوريات 119 دورية وللصحف صحيفة واحدة, بينما تضاعف عدد الرسائل الجامعية إلى 576 رسالة**.
لقد كان إنشاء مكتبة الملك فهد الوطنية كمركز لحفظ الكتب والوثائق وتوثيق عملية النشر وتنظيمها نقلة حضارية في تاريخ الطباعة والنشر في المملكة, بالإضافة إلى كون المكتبة رصيدا ً‏إضافياً لمجموعة المكتبات العامة والخاصة في البلاد. ولو ألقينا نظرة على تطور إنشاء المكتبات في المملكة ضمن سياق الطباعة والنشر لوجدنا أن المعلومات تؤشر باتجاه تصاعدي إلى الأكثر كماً والأفضل نوعاً. ففي عام 1992 بلغ عدد المكتبات العامة التي تشرف عليها وزارة المعارف ستين مكتبة موزعة على ثمانية وخمسين مدينة وبلدة في أجزاء المملكة المتفرقة, هذا عدا المكتبات الجامعية وبعض المكتبات العامة ومراكز المعلومات التي تشرف عليها جهات أخرى في المدن الرئيسة. وكذلك عدا المكتبات الخاصة التي لعبت دوراً ‏حيوياً في النهضة الثقافية في فترات تاريخية مختلفة مثل مكتبة الشيخ عبد الرحمن السعدي بعنيزة التي أسست عام 1940, ومكتبة الأمير مساعد بن عبد الرحمن بالرياض التي افتتحت عام 1946, ومكتبة دار الجوف للعلم التي أسسها الامير عبد الرحمن السديري في سكاكا عام 1962, وقد بلغ مجموع ما تضمه المكتبات العامة أكثر من مليون مجلد, يتركز اكثرها في مكتبة الرياض العامة التي ضمت مؤخراً إلى مكتبة الملك فهد الوطنية, ومكتبة الدمام العامة ثم مكتبة الطائف فبريدة, وهذه الأخيرة هي أقدم المكتبات العامة التي تشرف عليها وزارة المعارف, حيث أنشأت عام 1944. وتعتبر مكتبة جامعة الملك سعود كبرى المكتبات في المملكة بما يزيد على المليون مجلد, وما يقارب ذلك من الأوعية الميكروفليمية وغيرها, بالإضافة إلى عدد كبير من المخطوطات والوثائق النادرة.
أما على المستوى التاريخي فتمتد المكتبات في المملكة إلى فترات بعيدة, تسبق التوحيد بقرون كما في حالة مكتبات الحرمين الشريفين, وبعض المكتبات العريقة الخاصة في مكة وجدّة والمدينة المنورة. ومن البدهي أن تكون مكتبة الحرم المكي اقدم وأكبر المكتبات القديمة في المملكة. فكما يشير الدكتور سعد الضبيعان في دراسة للمكتبات العامة في المملكة نشرتها مجلة جامعة الملك سعود أهديت أول مجموعة إلى مكتبة الحرم عام 1085م (488 هـ) وكان ذلك تأسيسها. غير‎أن المدينة المنورة تحفل أيضاً بعدد كبير من المكتبات الشهيرة أوصل بعض الباحثين عددها في مطلع هذا القرن إلى ثمانين مكتبة, أكبرها مكتبة «عارف حكمت» التي بلغت مخطوطاتها 4500 بالإضافة إلى الكثير من الكتب النادرة (بكري شيخ أمين 176 - 195).
إن المسافة هائلة بالفعل بين هذا الكم من المكتبات والكتب وبين الدفاتر التي أملتها القرون السوالف في أبيات الشاعر محمد بن عثيمين حين يشكو غربته الثقافية كما رأينا في مطلع هذه الملاحظات. غير أن مجيء الكتب وانتشار المكتبات والتعليم لم يحل دون تنامي ألوان من الاغتراب الثقافي غير تلك التي شعر بها ابن عثيمين. ذلك أن النمو الحضاري ليس شارعاً وحيد الاتجاه. وإنما هو متعدد الاتجاهات كثير المداخل والتفريعات, شأنه في ذلك شأن عملية النمو الإنساني على مستوى الفرد. وليس أكثر من الأدب مرايا لتلك العملية, وليس أكثر من الشعر احتشاداً لتلك المرايا وانفتاحاً لفضاءات التغيير والمعاناة. فلننتقل إذاً إلى تلك المرايا في رحلتنا الاستكشافية السريعة هذه.

ب): تحديات التحضر من خلال النموذج الشعري
الشعر منتج ثقافي يقف على الثقافة بشقيها الرئيسين: الشفوي والكتابي. وهو يمثل الصورة المقابلة للنثر الذي يعتبر فناً كتابياً تبلوره المجتمعات الحضرية وهو أقرب للتعبير عن ذلك الجانب من النمو الاجتماعي. فتطور النثر في المملكة متصل إلى حد كبير بتطور التعليم ومجيء الطباعة وتحركه الثقافي مرتبط بما يعرف بالجانب العالم من الثقافة, وذلك على عكس الشعر المتصل بالجانبين معاً, العالم وغير العالم. ففي الشعر نلمس بالفعل ملامح النقلة التحضرية عبر الجانبين المشار إليهما, ابتداء من القصائد الشفوية وشبه الشفوية, سواء كانت شعبية أو عمودية, وإنتهاء بقصائد التجريب التفعيلي أو النثري بسمتها الكتابية البارزة والتي نقرأها اليوم. فقد صدر أول كتاب في المملكة بعد توحيدها بسنة واحدة, أي في عام 1344 هـ, وهو كتاب أدب الحجاز جمع وترتيب محمد سرور الصبان, وفي العام الذي يليه أصدر الكاتب والشاعر محمد حسن عواد كتابه الأدبي خواطر مصرحة, مما يؤكد وجود حركة أدبية نثرية جيدة في الحجاز قبل التوحيد, وفي وقت كانت فيه الأمية سيدة الساحة, والتعليم النظامي يخطو خطواته الأولى بتأسيس مديرية المعارف عام 1344, أي أن النثر ليس انعكاساً أميناً لوضع المجتمع ككل حتى في الحجاز نفسه. وهو عكس ما كان عليه التطور الشعري بالتصاقه بوضع الثقافة على كافة المستويات, الأمي منها والمتعلم.
يمكن تقسيم حركة التغير الثقافي بتفاعلاتها التحضرية كما تنعكس في الشعر إلى أربع مراحل سأتناولها هنا بشيء من الإيجاز:
1- المرحلة الشفوية, ونموذجها القصيدة الشعبية/ النبطية في مرحلة الهجر
أدى الشروع بتأسيس الهجر كنمط أول لعملية التوطين أو التحضير في كثير من مناطق المملكة قبل التوحيد وبعده, إلى نشوء مجتمعات برزخية تتماس فيها البداوة مع الحضارة. ومع أن هذا التماس ليس جديداً لأن نمطي التحضير والبداوة هما سمتا الحياة الاجتماعية والثقافية البارزان في الجزيرة ككل طوال تاريخها, وتماسها ظل يحدث دائماً على تخوم القرى, فإننا نتحدث عن تماس تسيره محاولة متعمدة لتغيير نمط الحياة في صحاري الجزيرة وقراها, محاولة أكثر كثافة وتنظيماً من ذي قبل. وقد كان لذلك التغير آثاره بطبيعة الحال على أنماط التعبير الثقافي والابداعي, كما نلمس بوضوح في ظهور نوع من الشعر الذي يختلف إلى حد ما عن شعر القرى وشعر البادية على حد سواء. إنه شعر النقلة التحضرية الأولى, شعر التوطين الذي تربطه البداوة بشفويتها الطاغية من ناحية وتومئ له المدنية, وإن كانت بسيطة, بكتابيتها وتعليمها وفصاحتها, من ناحية أخرى. وقد وجدت أن واحداً‏من الشعراء الذين عاشوا تلك المرحلة لايمثلها من الناحية الانثروبولوجية فحسب وإنما هو الأكثر تميزاً من الناحية الابداعية أيضاً بالمقارنة بكثير من الشعراء النبطيين منذ ذلك الحين. إنه عبد الله بن سبيل (1277/1846 ـ 1357/1926), الذي ولاه الملك عبد العزيز إمارة إحدى الهجر شرق الرياض, وعاش طوال حياته ذلك النوع من التوتر بين البداوة والتحضر على نحو يجسد الاشكالية التي أتحدث عنها.
تعتبر قصائد ابن سبيل بدوية في بنائها وفي معظم مفرداتها, لكنها ليست كذلك في ما تثيره بتطلعاتها ولا في بعض جوانب لغتها. فما نقرأه لذلك الشاعر هو سلسلة من مواقف التحسر والحنين المتولدة عن رغبته في مشاركة البدو الرحل حياتهم وعجزه عن ذلك لأنه كما يقول «حضري وهم بدو على الحق عيان» (أي يرفضون التنازل عن حقوقهم), أو في قوله في موضع آخر: «طرشت أبا العقلان قبل الفوات / وإلا فأنا مالي مع البدو غرضان» (أي أرسلت أريد عودة الضائع قبل أن تفوت الفرصة, وإلا فليس لي في البدو حاجة أخرى). والضائع الذي يود لو عاد هو غالباً فتاة يحبها وليس له من فرصة لرؤيتها سوى في الصيف حين يأتي البدو إلى القرى والهجر للسقيا وابتياع احتياجاتهم من الأسواق بالإضافة إلى بيع ما لديهم من منتجات حيوانية في الغالب. ومن أصدق وأجمل ما يعبر عن هذه العلاقة الانسانية بأبعادها المختلفة قصيدة يبدأها بالدعاء بعدم السقيا لتلك الليالي التي يرحل فيها البدو عن الهجر والقرى استجابة للربيع القادم إلى الصحراء مع تباشير الأمطار. بيد أن ذلك الربيع ليس إلا خريفاً لـ«أهل القلوب المواليف» الذين يتفرقون نتيجة الرحيل. والقصيدة في مجملها تصوير درامي رائع لحركة البدو في مجيئهم وغدوهم في القرى ثم في ما يتركونه من ألم حين يغادرون: «أوي جيران عليهم تحاسيف / لولا انهم قلب الخطا يشعفونه» (ديوان عبد الله بن سبيل, ص23).
هذا التعلق بالمحبوبة البدوية إنما هو تعلق بنمط من العيش يشعر ابن سبيل بصعوبة الانتماء إليه نظراً لتوطنه وانتماءه الاجتماعي. وهو في هذا التعلق لا يكتفي بتمجيد حياة البدو وعاداتهم وإنما يذهب وهو «الحضري», كما يصف نفسه, إلى تبني الاحتقار البدوي التقليدي للحضر والتحضر, كما نلمس في أبيات مشهورة يبدأها بالتحسر على الأحبة الراحلين من البدو بقوله: «يا عين وين أحبابك اللي تودين / اللي اليا جو منزل ربعوا به» إلى أن يصل إلى التمييز بين أولئك وبين الحضر قائلاً: «ما هم بربع بالمحاضر قصيين / لو الحصيل حمار تخاشروا به» (ديوان ابن سبيل, ص27-28). فهو يعيب على الحضر بخلهم الشديد الذي يدفعهم إلى التشارك, بدلاً من العطاء, حتى وإن كانت الغنيمة حقيرة كالحمار.
غير أن احتقار ابن سبيل للحضر ولقيم التحضر لم يحل دون أن يتحول شعره إلى سجل للتغير الحضري الذي آذن بغروب عهد البداوة, لا من حيث هي مجموعة من القيم فحسب, وإنما من حيث هي نمط من العيش قبل أي شيء آخر. ففي شعر ابن سبيل نجد بعض سمات الحياة الحديثة ومستجداتها على نحو لم يعرفه شعراء البدو, فهو يشير إلى البرقية بالكلمة المختزلة: «التيل» أي «التيلغراف», التي كانت أحدث اختراعات العصر عندئذ, كما في مدحه لمحمد بن رشيد قائلاً: «كن الأماني كلهن وسط كفه / ولا على مضمون تيل يسايل» (الديوان, ص54), وفي مكان آخر يقول: «عطيت راعي التيل عدة ريالات / وطقه شمال وشرق وارجع وعاد» (الديوان, ص10). هذا بالاضافة إلى صور الحياة اليومية في القرى مما لم يخبره البدو وإن عرفوه لم يكترثوا له, كما في تشبيهه لأضلاع الإبل في انحنائها بما يصنعه البناء من انحناءات, وإشارته لأدوات البناء وأدوات التسلية التي جاءت مع التحضر كالشطرنج وما إلى ذلك.
إن رفض شاعر كابن سبيل للتحضر رغم معايشته لبداياته, وتعلقه بالبداوة رغم غربته عنها, موقف متوقع من مجتمع يرى تزايد التهديد لنمط مألوف من العيش, ومحاولة للإبقاء على بعض ما يمثله ذلك النمط من قيم. وما نجده لدى هذا الشاعر نجده أيضاً وإن بصور مغايرة قليلاً أو كثيراً عند مجموعة من معاصريه ليس هذا موضع التفصيل في نتاجهم, لكنهم يمثلون مرحلة انتقال حضرية عاشها الشعراء وجاء شعرهم انعكاساً لها. ولعل من الطريف أن هذه المرحلة الانتقالية تزامنت مع شكوى الشاعر ابن عثيمين من غربته, كما رأينا من قبل, بعيداً عن القدماء من شعراء الفصحى واضطراره للبحث عن السمير في كتبهم. فبينما كان ابن سبيل يشكو تواري البداوة بشفويتها وأميتها ونمطها في الترحل, كان ابن عثيمين يشكو غربة التحضر والثقافة الكتابية.
لكن لعل الأكثر طرافة من ذلك أن ابن عثيمين على فصاحته بدأ كشاعر نبطي وإن لم تحفظ قصائده العامية أو النبطية. فكما يشير جامع ديوانه, ثمة عدد من القصائد العامية التي نظمها ابن عثيمين في النصف الأول من حياته ثم قرر فيما يبدو إهمالها وعدم العودة إلى نظم مثلها. والواقع أنه حتى بعض قصائده الفصيحة تحمل سمات بنائية من سمات القصيدة النبطية, كالانتهاء بالصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ولكن ازدواجيته تظل مع ذلك شاهداً آخر على إشكالية التحضر التي يمثل ابن سبيل وجهاً آخر من وجوهها. ومثلما أن ابن سبيل يقف على رأس شريحة ثقافية طغت عليها الشفوية وتعلقت تعلقاً رومانسياً بالبداوة, نجد أن ابن عثيمين يمثل شريحة أخرى من الشعراء الذين طغت عليهم الفصاحة وإن لم تلغ انتمائهم إلى الثقافة الشفوية المحيطة. وهؤلاء هم الذين اتجه إليهم في الوقفة التالية.

2ـ مرحلة الانتقال إلى الكتابي: تجاوز الفصحى والعامية عند ابن بليهد:
وجود القصيدة المنظومة بالفصحى في سياق عامي أو شعبي يعني بطبيعة الحال تجاوز النمطين, الفصيح والشعبي, ليس في الإطار الاجتماعي فحسب وإنما ايضاً في إطار الشاعر نفسه. أي أننا نشير إلى ازدواجية حادة في التوجه الثقافي, ازدواجية تؤكد التحديات التي أشير إليها في هذه الورقة. ولعل من أبرز أبطال هذا الوضع هو الشاعر وعالم المواقع والأنساب محمد بن بليهد (1310/1891 ـ 1377/1957), الذي عرف أيضاً بمنظوماته الفصيحة والنبطية على حد سواء. غير أن أن بعض دارسيه لاحظ أنه كشاعر نبطي أفضل منه كشاعر فصيح, مما يعود كما يبدو إلى أن الشاعر أقرب في تكوينه الاجتماعي الثقافي إلى العامية.
بالاضافة إلى تجاور القصائد العامية والفصيحة في أشعار ابن بليهد, يلفت النظر تداخل النمطين في القصيدة الواحدة, العامية ببعض التراكيب الفصيحة والفصيحة ببعض التراكيب العامية. انظر مثلاً إلى مطلع قصيدة له في مدح الملك عبد العزيز إثر فتح مكة والطائف سنة 1343هـ: «واشكر إلهك هذا الفتح قد صدقت / به البشائر لا تروية (أتيال)» (ابتسامات الأيام, ص141) و«الأتيال» جمع «تيل» أو التلغراف كما رأينا للتو عند ابن سبيل, وتأمل بعد ذلك كيف يعلق على قصائده العامية ويشرحها شرح العالم, تماماً كما كان يفعل ابن عثيمين في بعض قصائده, انطلاقاً من شعور مشترك لدى الشاعرين كما يبدو في أنهما يخاطبان مجتمعاً أمياً. فابن بليهد يصف الملك فيصل, أثناء توليته على الحجاز من قبل والده, بأنه «غيث الأوادم يا مدور حراويه», ثم يعلق قائلاً أن «غيث الأوادم» هو اسم القصر الذي يسكنه الأمير «فسمته الأعراب: غيث الأوادم» (بقايا الابتسامات, ص109). إنه ابن بليهد الشاعر المثقف وثمرة المرحلة الأولى من التعليم المنظم يشرح نفسه لا لغير المتعلمين بقدر ما هو لأقرانه من المتعلمين أو من يمكن أن يقرأ نصه العامي من غير المتحدثين بعامية نجد. فحديثه عن «الأعراب» ليس حديثاً لأولئك الأعراب أنفسهم, لأنهم لا يسمون أنفسهم أعراباً وإنما بدواً, وإنما هي العربية الفصحى تحتك بالعامية السائدة وتعلق عليها, أو هي الكتابية تجاور الشفوية وتوضحها.
ولعل الأكثر طرافة هو تداخل الفصيح مع العامي تداخلاً لا يكاد يحس في شعر ابن بليهد. فهو في أحد أبياته يصف الإبل الراحلة قائلاً: «مشتاهن الدهنى إلى استفحل القر / من عرقها الأدنى إلى أقصى زباره» (نفسه, ص90). فكلمة «الدهنى» هنا تلفظ بلفظها الفصيح بتسكين الهاء وليس العامي «الدهنا» بفتح الهاء, والسبب في ذلك هو الحاجة إلى إقامة الوزن الذي كان سيتخل في حالة استعمال اللفظة العامية, ومثلها قوله مودعاً الأمير فيصل في سفره إلى أمريكا: «لا تنسنا حيث الذرا والمطاليب / جالك وأنا خادمك للخير طلاب» (نفسه, ص102) ففعل الأمر «لا تنسنا» مجزوم باللام جزماً لا يحتمل أن يعتمده غير المتعلمين من العوام. والطريف أيضاً أنه في القصيدة نفسها يشير إلى «الحضران والبدو الأعراب» مؤكداً اتصاله بالعامية البدوية من ناحية من خلال لفظتي «الحضران» و«البدو», وانفصاله عنهم من ناحية أخرى حين يطلق عليهم التسمية الفصيحة «الأعراب» وكأنه ابن جني أو ابن فارس من علماء اللغة القدماء. ولو نظرنا من ناحية أخرى لوجدنا في شعر ابن بليهد شواهد كثيرة أخرى على الازدواجية الثقافية التي كان يعيشها والتي ربما لم يشعر بها الكثيرون من حوله. فهو يذكرنا بما كان يعانيه ابن سبيل حين يتحسر على حياة البادية, كما في مطلعه: «يا عد وين أهل الجمال المواضيح», وإن كان يتوغل في الحداثة أكثر من صنوه حين يستبدل الابل التي يرحل عليها البدو بالسيارات التي كانت تسهم في نقل البلاد إلى واقع ثقافي مختلف: «العذر ما من عذر والدرب مفتوح / على الفروت مبعدات المصابيح», أو حين يصف تلك «الفروت» بالشياهين في قصدة أخرى. وأكثر من ذلك مغزى وطرافة قوله في موضع آخر وفي بيتين متفرقين من القصيدة نفسها يستحضر الطرب المصري في ذلك الوقت:
يا طير ياللي بالهدد يكسر الحوم انقل كتاب اللوح واحفظ وصاته
وإلى سمع باذنيه صوت ام كلثوم بالراديو مشكاة الأيام جـــاتـــــه
إن علاقة ابن بليهد باللغة العربية الفصيحة واهتماماته العلمية سمة من سمات تلك المرحلة الثقافية, فهو نموذج لنوع من العلماء الذين ظهروا في بعض أنحاء الجزيرة وسعوا إلى استعادة أنواع محددة من العلوم التراثية ذات الصلة ببيئة الجزيرة العربية, هي علوم المواقع الجغرافية في سياقاتها التاريخية والأدبية, وعلوم الأنساب وما إليها من علوم تتصل اتصالاً قوياً بالثقافة الشفوية وترفدها. وممن ظهر إلى جانب ابن بليهد في هذا المجال عدد من الباحثين من أبرزهم: حمد الجاسر وعبد الله بن خميس وأحمد العقيلي, وماتزال هذه التوجهات تحظى بالكثير من الاهتمام. ومن الملاحظ انه باستثناء قليل من أولئك فإن المهتمين بهذه العلوم على صلة قوية بالشعر الشعبي إما نظماً أو جمعاً إلى جانب اهتمامهم القوي بالفصاحة. وفي تصوري أن هذا يقف بنا على بعض ملامح المرحلة الانتقالية التي نتحدث عنها, فهي مرحلة مخاض ثقافي في وسط الجزيرة خاصة, مرحلة تتوارى فيها بعض المعالم لتولد معالم أخرى, ليترك ذلك أثره على رؤى الناس وآرائهم.

3- المرحلة الكتابية: حسين سرحان وعامية الماضي:
يمكن اعتبار حسين سرحان (1915ـ1992) تتمة ثقافية لمرحلة ابن بليهد, أو الوجه المقابل لها. فقد كان سرحان معاصراً لابن بليهد وذا مهاد بدوي يشبه مهاده, لكن حياته في مكة المكرمة منذ صغره جعلت خياره الأول خياراً كتابياً فصيحاً وأضعفت الازدواجية لديه. أي أنه كان شاعراً فصيحاً أولاً وشاعراً بالعامية إلى حد أقل. بل إن كل ما أعرفه من تناولات نقدية لأعماله نظرت إليه من الجانب الفصيح وقيّمته على هذا الأساس, وقد يرجع هذا إلى أنه هو قد غيب نتاجه العامي ولم يبق من اهتماماته سوى مقالات متناثرة كتلك التي يتناول فيها بعض نماذج من الشعر الشعبي كشعر ابن بليهد وابن لعبون. وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار سرحان أحد المؤشرات الثقافية لترسخ مرحلة ثقافية جديدة, مرحلة لا تلغي ما قبلها وإنما تؤكد سمات جديدة, السمات التي جاء التعليم النظامي ليؤسسها ويبثها في أنحاء البلاد. ومن دلالات ذلك عند حسين سرحان احتفاؤه بالنقلة الحضارية التي كانت تنتشر في اتجاهات مختلفة وعلى مستويات عديدة أفقياً ورأسياً, وحرصه على استتباب العربية الفصيحة وانتشارها, وإسهامه في الانفتاح على الثقافات الأخرى. وبالطبع لم يكن سرحان وحيداً في هذا, بل كان هناك أقران له في مناطق مختلفة أنجزوا ما لا يقل أهمية في الاتجاه نفسه أو ما يقاربه, كالعواد والعطار في المنطقة الغربية والجاسر وابن خميس في الوسطى والسنوسي والعقيلي في الجنوب, والخينزي والمسلم في الشرقية وغيرهم. غير أننا ننظر في نماذج تشير إلى نفسها بقدر ما تشير إلى غيرها.
لقد كان سرحان نقطة التقاء لمجموعة من الخطوط المتقاطعة في ثقافة المملكة في مرحلة انتقالية حساسة من مراحلها. فهو يبدو وكأنه ذو انتماءات متعددة بل ومتناقضة, يكتب عن الشعر النبطي أو البدوي محتفياً ثم يشير إلى عيبه الواضح المتمثل في مخالفته للنحو العربي قائلاً: «وشو ما في هذا الشعر انعدام الأعراب فيه» (من مقالات حسين سرحان, ص124).
وعلى مستوى آخر نجده يحيي النقلة الحضارية في أبيات يتبرم فيها من بعض مشكلات الحياة المدنية كمشكلات السكن والإيجار, متسائلاً عما إذا كان ذلك سيؤدي إلى عودة مرفوضة للبداوة:
أم ترانا نعود كالعرب الرحل والناس هرولوا للحضارة؟
بين رسم عفا, ونؤي تبــــدى وبعير شمردل وحــــــاره!
ثم ما يلبث أن يعود في أبيات أخرى لينقض تبرمه ويؤكد أنه بدوي لا أمل في تحضره:
وأنا امرؤ لو قد تأقلم أمة في برد هذا الماء لا أتأقلم
بدوي طبع, عنجهي سليقة وكأنني من قد نماه (مكدم)
من هنا قد يصدق الوصف الذي أطلقه الدكتور عبد الله الحامد على شعر سرحان من أنه «يمثل الانشطار» بين المحافظين والمجددين. ومع أن الدكتور يخلص إلى ترجيح محافظة سرحان اتكاءاً على مجموعة من العوامل منها اعتماده ديباجة الأسلوب العربي التقليدي لغة وبلاغة, شأنه في ذلك شأن عدد من أدباء المملكة سواء من الرعيل الأول أو الذي جاء بعده كالغزاوي وفؤاد شاكر وابن خميس وزاهر الألمعي وضياء الدين رجب, فإن لدى سرحان عدداً من أوجه التميز التي تنأى به إن قليلاً أو كثيراً, ومنها انفتاحه على التيارات الوافدة, سواء كانت عربية أو أجنبية (الشعر المعاصر, ص37). فقد كان من أوائل من تأثروا بالأدباء المصريين, خاصة المازني, إضافة إلى تقديمه لشعراء أجانب, كالانجليزي جون ملتون, الذي قرأ عنه كما يبدو في بعض المصادر العربية, وكتابته قصائد يوظف فيها الأساطير اليونانية. نلمس تأثير هذا الانفتاح في ميله للتفلسف والسخرية في شعره ونثره على حد سواء, وهو في هذا كما في غيره كان يسهم في فتح فضاءات جديدة للثقافة المحلية, فضاءات أسهمت في تشكل الأجيال الأكثر حماسة للتجديد, كجيل من عرفوا بالرومانسيين ومن جايلهم من ذوي التوجه الواقعي وصولاً إلى الجيل الذي عرف بجيل الحداثة في السبعينات, على ما بين هؤلاء جميعاً من تفاوت.

4- مرحلة الكتابية: الرومانسيون / الرمزيون / الواقعيون
توزع الشعر في مرحلة الخمسينيات والستينيات الميلادية في ثلاث اتجاهات رئيسة هي: الرمزي والرومانسي والواقعي, وقد جاءت تلك في مجملها ثمرة مثاقفة مع التيارات الأدبية العالمية تمت في الغالب عبر مصادر عربية سواء من مصر أو الشام أو غيرهما. في التيار الرمزي نجد أمثال ناصر أبو حيمد ومحمد الرميح, وفي الرومانسي حسن القرشي وعبد الله الفيصل ومحمد الفهد العيسى, أما في الواقعي فنجد سعد البواردي وعبد الرحمن العبيد وغيرهم, علماً بأن هذه الاتجاهات تتداخل كثيراً‏وقد تجد الشاعر الواحد في أكثر من اتجاه. لكن ما يعنينا ملاحظته في سياق هذا التتبع للمسيرة الثقافية للمملكة هو أن كون هذا الجيل لم يبدأ في ممارسة الكتابة الابداعية والعمل الثقافي عموماً إلا في بداية السبعينيات الهجرية, الخمسينيات الميلادية, جعل من الطبيعي أن تتضح فيه آثار التعليم النظامي سواء في الداخل حيث نشأت المؤسسات العلمية والثقافية, كوزارة المعارف والجامعة, أو في الخارج حيث بدأت البعثات تؤتي ثمارها. فمعظم أفراد هذا الجيل, ممن تعلموا تعليماً جامعياً وفيهم من يجيد لغة أجنبية أو أكثر. ولا ننسى أفراد هذا الجيل ولا أقصد من ذكرت بعينهم فقط, من شكل نواة التعليم الجامعي في المملكة. فبعض المولودين في أوساط القرن الهجري كانوا من أوائل حملة الدكتوراه أو من يعرفون بجيل الأكاديميين إضافة إلى كونهم شعراء أو كتاب, ومنهم منصور الحازمي وعبد الله بن عثيمين.
وكان من أبرز تطورات هذه الفترة أن تمكن عدد من مناطق المملكة أن يلحق بالحجاز في مضمار العمل الثقافي بأنواعه, فبدأت تظهر المؤلفات التاريخية والنقدية والاجتماعية إضافة إلى بواكير الأعمال الشعرية والقصصية في مناطق مختلفة. كما حظي بعض ذلك النتاج بتقدير مشاهير الكتاب العرب كطه حسين ومحمد حسين هيكل ومارون عبود وغيرهم الذين أثنوا عليهم مثلما أثنوا من قبل على نظرائهم في الحجاز. وقد حرص بعض أولئك الكتاب السعوديين الشبان على انتزاع الاعتراف بل الاعجاب العربي بإنتاجهم, سواء بالاتصال المباشر أو بنشر أعمالهم في بعض المجلات العربية كالآداب والأديب اللبنانيتين لكي يطلع عليها القراء العرب. غير أن من الملاحظ أن كثيراً من الكتاب ظلوا فترة طويلة نسبياً يحجمون عن نشر أعمالهم في مجاميع, حتى أن مؤلف أول دراسة نقدية للشعر في منطقة نجد, وهو الأستاذ عبد الله بن إدريس في شعراء نجد المعاصرين (1960), لم يجد سوى نزر يسير من المجاميع الشعرية المطبوعة لكثير ممن درسهم وترجم لهم من شعراء المنطقة. فقد كان معظمهم إما محجمون عن النشر أو لم يجدوا لديهم بعد ما يبرر إصدار مجاميع, مما جعل المؤلف يستعين استعانة مكثفة في مصادر الكتاب بالكثير من المجلات سواء المحلية أو العربية مع إشارات متكررة إلى أن فلاناً لم يصدر مجموعته وآخر لديه مجموعة جاهزة على وشك الصدور. ولعلنا لا نخطئ إن قلنا أن النقلة الثقافية التي كانت تعيشها المنطقة وجدّة النشر والتأليف أحد الأسباب الرئيسة وراء ذلك البطء والتردد.
لكن مهما كانت الأسباب فإن المطالع لبعض النماذج الشعرية, سواء ما ورد منها في كتاب الأستاذ إبن إدريس أو ما ظهر فيما بعد في دواوين مستقلة, يلاحظ الانفتاح غير العادي الذي عاشته المنطقة آنذاك على التيارات الأدبية والفكرية الأجنبية. فرمزية بودلير ومالارميه ورومانسية هوجو ولامارتين وسوريالية بريتون كانت تمتزج على نحو عجيب لدى أكثر من كاتب وأحياناً لدى الكاتب الواحد, كما في أعمال ناصر بوحيمد ومحمد العامر الرميح. فالرميح مثلاً ينشر عام 1959 قصيدة من الشعر التفعيلي بعنوان «في متحف موريس أوتريللو» ضمن ديوانه جدران الصمت واصفاً إياها بأنها من «الشعر الرمزي» ومقتبساً في مطلعها عبارة لسلفادور دالي. وفي محور القصيدة إعجاب الشاعر بلوحة لطفلة جميلة في متحف الرسام الفرنسي ورغبته في شرائها, ثم رفض صاحب المتحف العجوز بيع اللوحة لأنها تذكره بشبابه الذي مضى. هذه النهاية المفاجئة تمنح القصيدة بعض القيمة الفنية, لكنها تظل في مجملها بسيطة التركيب بعيدة عن العمق السوريالي لدى دالي, وقيمتها الحقيقية تأتي من كونها مؤشراً مهماً على مثاقفة مبكرة نتجت عن قدر غير مسبوق من الانفتاح الثقافي.
أما ناصر بو حيمد فله عدد من القصائد التي تحمل تأثراً‏واضحاً بالشعر الأوروبي أو العربي الذي يحمل سمات الأوروبي. ومثال ذلك قصيدة عنوانها «لالي» أوردها عبد الله بن إدريس في شعراء نجد المعاصرون (ص111). وهي أيضاً مما يطغى عليه الشعر التفعيلي نشرت في مجلة «الأديب» في ابريل 1959. ففي هذه القصيدة نلمس ملامح فتاة «من عالم الشمال» إسمها لالي تعيش حزينة في بقعتها من الشمال الأوروبي وتحلم كما يفعل كثير من الغربيين بالشرق. غير أن لدى الشاعر صورة قاتمة عن الشرق يشفق على لالي منها:
تسألني في لهفة
عن شرقنا البعيد
عن عالم يعيش في
خياله السعيد!!
لالي
مسكينة صغيرتي
عصفورة الشمال
تعيش في خيال
هذه الصورة القاتمة عن الشرق لدى شاعر كأبي حيمد مؤشر ثقافي جدير بالتنوية, لأنه قاسم مشترك لدى أكثر من شاعر من شعراء المرحلة, ولأنه موقف يقابل نغمة الاحتفاء بالتمدن التي نجدها لدى شعراء آخرين كحمد الحجي في احتفائه بالطباعة وبالجامعة, كما سبقت الإشارة. محمد الفهد العيسى يوجه خطاباً شعرياً مشابهاً في قصيدة عنوانها «الطبيعة الخرساء». فالشاعر كئيب خائب الأمل أمام القفر الذي أمامه وما يلفه من صمت, وأمام هزيمته هو في تلك الوحشة: «صحراء / ضاعت أغنياتي.. / في التلال / وتحطمت قيثارتي / بين الجبال.. / أنا لا أرى إلا قبوراً / بين التلال...» (شعراء نجد, ص124). غير أن من الضروري أن نتذكر هنا أن خيبة أمل الشاعر ليست إزاء الواقع الطبيعي, بقدر ما هي إزاء الواقع الانساني الذي لم يجد فيه أولئك الشعراء ما كانوا يتطلعون إليه من تحقيق لأحلامهم الفردية والقومية. بالنسبة للعيسى الصحراء معادل موضوعي للغياب المشار إليه: «صحراء.. أين الروض..؟ / أين الزهر.. أين الأقحوان...؟ /... صحراء.. أين..؟ أين أنفاس الحياة...؟» إلى أن يقول: «أنا لا أرى إلا خيال / من شجيرات العشر / مثل البشر / ينتابها خوف الحروب...» (شعراء نجد, ص112).
في شعر العيسى كما في شعر بوحيمد والرميح وبعض مجايليهم الآخرين هناك العديد من العناصر التي لا سبيل إلى التفصيل فيها هنا, لكن سياق هذا النقاش يقتضي الالتفات السريع إلى الذاتية الطاغية, التي تبرر مسمى الرومانسية لدى بعض أولئك, وإلى عنصر الانفتاح على المؤثرات الأجنبية التي تفسر تشابه بعض أشعار هؤلاء بالشعر المترجم وظهور قصائد تعلن عن نثريتها في العنوان. وقد اشارت الدار الناشرة لديوان أبو حيمد «قلق», وهي دار الكاتب العربي, إلى هاتين السمتين بإشارة في الغلاف الخلفي للديوان تقول أنه «إضمامة تحيرت في نفس قلقة أمضها الوجد والحرقة, فجاءت وكأن بكل ايقاع قافية... تعمقت تراث الشرق الفني ونهلت من المنابع الغربية...» ومثال ذلك قصيدة عنوانها «رثاء» يرثي فيها بقدر واضح من النثرية وعلى نحو رمزي, كما يبدو, الجزيرة العربية نفسها قائلاً: «لقد جفت البحيرة / ونضب معين الأغوار / ايتها الريح الباردة التي تهب في صحرائي / وفي جزيرتنا المستلقية كعروس شجية / تتململ على سواعد الخليج الأزرق / في جزيرتنا السمراء / وعلى سعف نخيلها الشاحب / جفت حناجر الطيور..».
غير أن تطلع أبو حيمد وغيره إلى واقع أفضل للجزيرة العربية لا يلغي كونهم هم نتاج ذلك الواقع, أي نتاج مرحلة من التطور الثقافي لم يعشها أبناء الجيل الذي سبقهم, وهذا التطور الذي وصفته بدخول الكتابية, هو الذي استمر لينتج مثقفين وكتاباً‏وشعراء واصلوا مد الكثير من الخيوط التي نسجها من كان قبلهم من أمثال أبو حيمد. فالناظر في أعمال من يعرفون اليوم بجيل الحداثة سيجد سمات كثيرة تصلهم ببعض أعمال أبي حيمد وغيره كالعيسى والرميح والقرشي والقصيبي, في الوقت الذي تبرز فيه سماتهم الخاصة بهم كجيل وكأفراد مبدعين ضمن ذلك الجيل. ولعل من‎ابرز سمات الاتصال مواجهة الجيلين معاً لتحدي المدينة من خلال استراتيجية متقاربة تتأسس على معطيات البيئة الطبيعية ذات التكوين المناقض للمدنية مما أدى إلى مفارقة تتلخص في أن تزايد معدل التنمية والتمدن في البلاد أدى ـ وعلى نحو جدلي ـ إلى ارتفاع مواز في استعادة الصحراء في الشعر, استعادة توازي استعادة القرية أو الريف في القصيدة القصيرة.

5ـ مرحلة الحداثة: السبعينيات حتى الوقت الحاضر
مع أواسط الستينيات الميلادية بدأ الشعر التفعيلي يمارس حضوراً متزايداً في المحيط الأدبي السعودي. فمع أن بدايات هذا الشعر في المملكة تعود إلى مرحلة الرميح وأبي حيمد, كان لابد من الانتظار حتى أواخر السبعينيات لنقرأ أول ديوان تخصص كل قصائده لهذا النوع من الشعر, وهو ديوان «رسوم على الحائط» لسعد الحميدين, الذي جاء اهتمامه بالشعر التفعيلي موازياً لاهتمام شعراء آخرين مثل أحمد الصالح (مسافر), وفوزية أبي خالد, وعلي الدميني. ولأنني لا أؤرخ هنا للشعر في المملكة وإنما يهمني ما يتصل من التطور الشعري بالمسيرة الثقافية من حيث هي سلسلة من التحديات والانجازات, أشير إلى أن حضور الشعر التفعيلي كمؤشر للحداثة في سياق أدبي محافظ إلى حد كبير قد قوبل بقدر من المعارضة ربما فاق ما واجهه في بعض البلاد العربية الأخرى. فالمجتمع الذي تحفظ إزاء التعليم والمؤسسات والابتعاث وكثير من الأنظمة المستحدثة لم يكن ليتساهل نحو «العبث» بشكل القصيدة من حيث أن ذلك الشكل جزء من موروث ينبغي حفظه كما هو. لقد كانت فترة أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات الميلادية مرحلة مخاض أخرى للتنمية الثقافية في المملكة, ومن المفيد أن ننظر إلى مستحدثاتها نظرة متزامنة وشمولية تبحث عن المشترك وما يساعد في الحدث الواحد على تفسير غيره, لا أن نعزل السياقات عن بعضها فندرس التاريخ الأدبي أو الثقافي بمعزل عن التاريخ العمراني أو الاقتصادي مثلاً. ومن هنا كان من المفيد أن نقرن كتابة الشعر التفعيلي بتعليم الفتاة الذي بدأ في أواخر الستينيات, وبافتتاح التلفزيون قبيل ذلك في أواسط العقد نفسه, وبتغير أنماط العمارة الذي لوحظ, كما أشرت في البداية, في تلك المرحلة أيضاً. فقد كان التغير نحو المعاصرة والتحديث يتم على أصعدة عديدة, ولم يكن الشعر أو الأدب عموماً ليشذ عن ذلك. غير أنني معني إضافة إلى ذلك بتبين رؤية الشعر نفسه لما كان يحدث.
في أعمال سعد الحميدين سواء ديوانه الأول أو دواوينه التي تلت, وكذلك في أعمال بعض مجايليه نلمس سعياً واضحاً لمعانقة الموروث الشعبي وتوظيف البيئة الصحراوية على نحو يندرج في إطار ما يمكن أن نسميه البحث عن خصوصية في سياق الشعر العربي المحيط الذي كان الحميدين وغيره آنذاك يتلقونه بكثافة. هذا السعي يتواصل عند من جاءوا بعد أولئك بقليل كعبد الله الصيخان ومحمد الثبيتي وغيرهما, وأنا‎أشير فقط إلى أمثلة. يتضح ذلك في قصائد تستحضر الشعر الشعبي وبيئة الصحراء والبداوة وما يتصل بذلك من رموز تراثية كالشعراء الجاهليين, خاصة الصعاليك. والفارق بين هذا الاستحضار وما نجده لدى شاعر كالعيسى أو أبو حيمد هو أن شاعر كالثبيتي يتوحد بما يستثيره من رموز, فهو البدوي نفسه, وقصيدته اعادة انتاج للقصيدة البدوية أو النبطية, بينما يكتفي أبو حيمد أو العيسى باستدعاء البيئة الصحراوية لمناجاتها ورسم معالمها. غير أن هذا الفارق على أهميته لا يلغي السمة الأكثر أساسية وهي صدور التناولين عن موقف رومانسي أساساً, موقف رافض للمدينة وقيمها المستجدة وباحث عن الصحراء في إطار تطغى عليه المثالية, على الأخص عند الشعراء الأحدث عهداً. وسأضرب هنا مثالاً سريعاً لما نجده لدى شاعر كالصيخان في قصيدته «هواجس في طقس الوطن» حيث يقول:
وطني واقف
ويدي مشرعة
إبنك البدوي أتى يستزيد هواجس أيامه المسرعة
مرسل من سني الفراغات كيما أفتش عن لغة ضائعة
بكيت على باب مكة, فتشت أركانها الأربعة
في فمي معزف كسرته الليالي وأمحت ترانيمه الزوبعه
(هواجس في طقس الوطن, ص63)
أين هذا من مناجاة أبو حيمد لنجد حين يطلب من الحادي أن يأخذه إلى هناك:
بربك قف على الوادي
حنيفة ملجأ الضاد أيا للموكب الهادي
وقد رفت له البيد
ومدت نحوه الغيد
ثغوراً صغن من زهر
(قلق, ص6).
فبغض النظر عن التميز الفني الواضح في قصيدة الصيخان ـ والتي تجعل المقارنة صعبة ـ فإن ثمة تماه بالبيئة في قصيدته يصل إلى حد تستعاد فيه ملامح الحياة البدوية وخصوصية الصحراء, وذلك على عكس المخاطبة عن بعد لدى أبي حيمد. في صور الصيخان توحد بالصحراء يذكرنا بما نجده لدى شاعر نبطي كعبد الله بن سبيل, الذي سبق أن أشرت إليه. فصورة الوطن واقفاً ليد مشرعة له تشبه صورة الطير إذ يدعوه صاحبه في بيت ابن سبيل: «وريعت له ترييع طير لداعيه / لاشاف نسره وجهره باندبانه» (ديوان ابن سبيل, ص31). أشير إلى التشابه مع ابن سبيل لأن جيل الصيخان يكمل دائرة التحدي الحضاري التي تبدأ عند شاعر كابن سبيل في تبرمه القديم من حياة الاستقرار وتعبيره عن الولع بالبادية, كما سبق أن أشرت. فهنا عند الصيخان والثبيتي, كما عند الدميني والحميدين وغجرية الريف وغيرهم من شعراء ما أسميته في مكان آخر «ثقافة الصحراء», يتكرر الموقف إزاء المدينة مرة أخرى, أو أنه ـ إذ قلنا بعدم غيابه تماماً ـ يتضح بجلاء. فعلى الرغم من الفارق الزمني يتكرر التأزم الحضري وتستعاد أدوات مقاومته المتمثلة باستثارة صورة مثالية للصحراء والبداوة, الصورة التي مانزال نتلهى بها كلما اكتوينا بنار التمدن وتمنينا حرية البدوي وهدوء حياته ونقاء الهواء حول خيمته. ولعل من الواضح هنا أننا إزاء مفارقة تتجاوز تلك التي سبق أن لاحظناها عند جيل الخمسينيات والستينيات, فإلى جانب لجوء شعراء حضريين أساساً إلى الصحراء, نلاحظ هنا استعادة شعراء كتابيين, شعراء تلقوا ثقافة مكتوبة, موروثاً شفوياً يسعى للانعتاق من قيد الكتابة نفسها: فالمدينة تقاوم بالصحراء, والكتابة والتعلم تقاوم بالشفوية.

6ـ قصيدة النثر: استيعاب المدينة
بمجيء الثمانينيات يلاحظ المتابع تراجعاً في حدة المقاومة المشار إليها قبل قليل. هنا يبدأ مناخ مختلف في نشر ظلاله على المناخ الشعري السعودي, مناخ أكثر استيعاباً للمدينة وتصالحاً مع الواقع الذي فرضته. ومع أن هذا المسعى الاستيعابي أو السعي للتصالح ليس جديداً تماماً, لأن إرهاصاته موجودة في شعر من بدأوا الكتابة الشعرية قبل الثمانينيات ـ كمحمد جبر الحربي ـ فإن بروزه لم يستو تماماً إلا بمجيء فئة من الشعراء أصغر قليلاً من أولئك, أو أكثر انصرافاً إلى أنماط مغايرة من الكتابة الشعرية. ولعل تبني تلك الفئة لقصيدة النثر من أبرز ملامح ذلك المسعى. فقصيدة النثر, كما ولدت في أوروبا وكما استمرت فيها وخارجها, نتاج للحياة المدنية من حيث أن تلك القصيدة, كما يراها بعض منظريها وفي طليعتهم الفرنسية سوزان برنار, محاولة لاستعادة الشعر عبر بناء يغيب عنه الوزن, بناء يعيد إنتاج النثري في الحياة المدنية ليثبت أنه مازال مكتنفاً بالشعر. فالذي حاول ويحاول أولئك الشعراء فعله هو استلال الشعرية من المهمش والمرفوض, من السيارات والإسفلت والمستشفيات, مما هو عادي ومهزوم وضعيف, من ذلك التي تخلى عنه بل تهرب منه جل من سبقهم. وذلك بالاضافة إلى تكثيف البعد الموضوعي في ما هو شعري, أي في توسيع دائرة الرؤية الشعرية لتشمل الآخر, وإن ظلت ذات الشاعر هي المنطلق في كل الأحوال.
من ممثلي هذا الاتجاه محمد الدميني ومحمد عبيد الحربي وأحمد الملا وغسان الخنيزي وعلي العمري وهم أمثلة متميزة لكن هناك كثيرين متميزين غيرهم يصعب ذكرهم جميعاً. سأختار هنا مقطعاً من قصيدة لمحمد الدميني يلقي الضوء على بعض خصائص قصيدة النثر من ناحية ويتصل مباشرة من ناحية أخرى بالتحديات الحضارية التي أتناولها هنا وذلك على نحو يصل أواخر هذه الملاحظات بأوائلها. القصيدة من مجموعة الدميني الأخيرة «سنابل في منحدر» (1994), وعنوانها «ملاك الحسرة». يقول المقطع:
بعد لأي.. سيفتح باب هذه الغرفة عنوة.. لأن
صمتي يطفح في الشارع.
وسيعثر علي رجال الأمن
مسجوناً في كتاب
(سنابل في منحدر, ص12)
هنا, في هذا العالم المدني, بشوارعه وغرفه ورجال أمنه الخ, يطرح الشاعر إشكالية معاصرة هي عزلة المثقف وسوء فهم المؤسسات أو المجتمع إياه. فهو متهم في صمته, ومتهم في قراءته, ومن المفارقات أن رجال الأمن سيسعون إلى الكتّاب ظانين ذلك نوعاً من التحرير, أي أنهم لن يدركوا أن السجن الذي يجده الشاعر في كتابه أفضل عنده من الحرية التي سيعرضونها. لكن الواضح أن الشاعر قد فضل أن يواجه ذلك المأزق بخصائصه الحضرية المألوفة بدلاً من الاستعاضة عن ذلك بطرح مشكلات أخرى قد تكون مهمة أيضاً ولكنها بعيدة عن اليومي والمألوف.
لقد لفتت نظري العلاقة بين هذه الصورة لدى محمد الدميني وتلك الصورة التي أشرت إليها في مفتتح هذه الملاحظات للشاعر محمد بن عثيمين, وهي علاقة غير متوقعة بالتأكيد لكنها مما توضحه الأبيات لو استعدناها, أو تذكرنا فحواها. فابن عثيمين في مطلع القرن يشكو من عزلته عن المجتمع واضطراره نتيجة لذلك إلى الدفاتر التي «أملتها القرون السوالف». فالكتاب عزاء المثقف حين تغيب الثقافة عن المحيط الاجتماعي, إنه حريته المكتسبة في فضاء المجتمع الضيق. وهذه الحرية هي تماماً ما يبحث عنه ويقدره الدميني في نهاية القرن نفسه, ومع أن المجتمع مايزال متهماً بالجهل وإساءة فهم الثقافة فإن الدميني لم يكن ليكتب قصيدته النثرية بصورها المكثفة ومجازاتها المرهفة لو لم تكن خلفيته ملأى بركام معرفي وإرث إبداعي وصل إليه عن طريق الثقافة, عن طريق الكتاب المتيسر والمجتمع الأكثر تعلماً, وهذا ما لم يكن في مقدور ابن عثيمين في قريته النجدية المثقفة بالأمية والجهل أن يقوله, أو في مقدورنا أن نفترضه. إن بين الصورتين الشعريتين تسعين عاماً من النمو الذي لم يكن لجيء لولا مغالبة التحديات الحضارية على الصعدة كلها ومن ضمنها حركة الشعر والأدب عموماً. فالإيقاع الذي اعتمده ابن عثيمين وليد ثقافة شفهية في المقام الأول تعتمد على الحافظة أكثر من الابداع الكتابي. وهذا ما لا يحدث لمقطع الدميني وقصائده المختلفة التي تتطلب قارئاً لا سامعاً, قارئاً يلاحظ عدد النقاط بين الكلمات والأسطر وكيف صفت بعض المقاطع, قارئاً يحمل في خبراته إرث الثقافة الشفهية بعد أن تجاوزها ليتعامل مع شكل من الكتابة لعبت المثاقفة مع الأجنبي دوراً أساسياً في تطويره.
* محمد بن سعد بن حسين: الأدب الحديث في نجد (القاهرة: مطبعة الفجالة الجديدة, 1391/1971) ص128-129.
** احصائية تلقيتها في رسالة من مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء اعداد هذه الورقة.

المراجع:
1 ـ إدريس, بن عبد الله: شعراء نجد المعاصرون (القاهرة: دار الكتاب العربي, 1960)
2 ـ أمين بكري شيخ: الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية (بيروت: دار العلم للملايين, طـ6, 1994).
3 ـ ابن بليهد, محمد: ابتسامات الأيام في انتصارات الإمام ت محمد بن سعد بن حسين (الرياض: نشر محمد بن سعد حسين, 1405/1985).
4 ـ بقايا الابتسامات ت محمد بن سعد بن حسين (الرياض: نشر محمد بن سعد بن حسين 1405/1985)
5 ـ الحامد, عبد الله: في الشعر المعاصر في المملكة العربية السعودية (الرياض: دار الكتاب السعودي: ط2, 1406/1986).
6 ـ الحجي, حمد: عذاب السنين (الرياض: دار الوطن, 1409/1989).
7 ـ أبو حيمد, ناصر: قلق (بيروت: دار الكاتب العربي, د.ت.).
8 ـ الدميني, محمد: سنابل في منحدر (لندن: السراة للكتب والدراسات والنشر, 1994).
9 ـ الرميح, عامر: جدران الصمت: شعر رمزي (بيروت: مجلة الأديب, 1394/1974).
10 ـ الساسي, عمر الطيب: الموجز في تاريخ الأدب المعاصر السعودي (جدة: دار زهران, ط2, 1415/1995).
11 ـ الساعاتي (الجنيد): يحيى: حركة التأليف والنشر في المملكة العربية السعودية (الرياض: النادي الأدبي/ 1399/1979).
12 ـ سبيل, عبد الله بن: ديوان الشاعر عبد الله بن سبيل ت عبد الله الخالد الخاتم (الكويت: ذات السلاسل, 1404/1984).
13 ـ سرحان, حسين: من مقالات حسين سرحان (الرياض: النادي الأدبي, 1400).
14 ـ آل الشيخ, عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ: لمحات عن التعليم وبداياته (الرياض: العبيكان, 1412؟).
15 ـ الضبيعان, سعد عبد الله: «المكتبات العامة في المملكة العربية السعودية تحت إشراف وزارة المعارف» (باللغة الإنجليزية, أنظر المراجع الأجنبية رقم 1).
16 ـ إبن عثيمين, محمد: العقد الثمين من شعر ابن عثيمين جمع وتحقيق وشرح سعد بن عبد العزيز بن رويشد (الرياض: مطابع الهلال, 1400/1980).

المراجع الأجنبية:
1 ـ الضبيعان , سعد "Public Libaries in Saudi Arabia under the Ministry of Edecation" مجلة جامعة الملك سعود (الآداب) مج7 ج1 ص31-44.
2 ـ فيسي, وليم: Facy, William, Riyadh the Old City (London Immel Publishing, 1992).
3 ـ برنار, سوزان: قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا تر. زهير مغامس (بغداد: دار المأمون للترجمة والنشر, 1993).