سأتناول تحت هذا العنوان النقاط التالية:
- إعطاء فكرة مصغّرة عن مفهوم الاستقلال السياسي.
- بيان حداثة هذا المفهوم في مجتمعاتنا ومن ثم في معاجمنا اللغوية والعلمية.
- تحديده من خلال ما كتب عنه في الموسوعات الثقافية العربية، ومن بعد في واقعنا الاجتماعي والسياسي.
ﷺ معنى الاستقلال السياسي في اللغة
يعني الاستقلال السياسي الواقعَين التاليين:
1- تحرر البلاد المستعمرة من نير الاستعمار، يقال: «هذه البلاد كانت مستعمرة للإمبراطورية البريطانية ثم تحررت منها وأخذت استقلالها».
2- عدم خضوع البلاد لأي استعمار بالمرّة، يقال: «إن هذه البلاد لم تخضع في يومٍ ما لسلطة الاستعمار، فهي مستقلة منذ القديم وحتى الآن».
ولم يكن هذا المعنى معروفًا في مجتمعاتنا العربية، ولذلك لم يدرجه علماء اللغة العرب ولا أرباب المعاجم العربية في المعجمات التي كتبت قبل عصرنا هذا، وذلك لأن هذا المفهوم لكلمة (استقلال) لم يدخل عالم حضارتنا إلاّ بعد سقوط الدولة العثمانية واستعمار أكثر البلدان العربية من قِبَل الدول الأوروبية المستعمِرَة، والعمل من قِبَل الشعوب العربية على التخلّص من سلطة الاستعمار الأوروبي.
في هذا الجوّ السياسي المفعم بالحوادث السياسية المتنوّعة والمتعدّدة، وما أحدثته من هزّات عنيفة في واقع المجتمعات العربية، وما فتّقت من آفاق التفكير في الذهنيات العربية وأبعاد النظرة إلى حقيقية الصراعات العسكرية والسياسية في البلاد العربية المستعمَرة، استعارت حضارتنا هذا المعنى السياسي من أوروبا، من صحافتها، ومن العلوم الإنسانية وبخاصة السياسية منها، التي ترجمت إلى اللغة العربية، وقررت في الجامعات والمعاهد العلمية العربية.
وبعد أن انتشر استعمال هذا المعنى الجديد بين الناس في مجتمعاتنا العربية مثقفين وغير مثقفين، أَدخل المعجم العربي هذا المعنى الجديد في قائمة معاني كلمة استقلال.
وشيوع الاستعمال رافد مهم من روافد اللغات، وبخاصة في عالمنا الحديث الذي توسعت وتيسرت فيه المواصلات، ومن ثم الاتصالات الاجتماعية، وانتشر فيه التواصل الإعلامي وبسرعة فائقة.
وهذا يعني أن المعنى اللغوي الجديد لكلمة استقلال أُخِذَ من المصطلح العلمي السياسي بعد أن شاع وذاع في الأوساط الاجتماعية العربية الثقافية وغير الثقافية.
ولكي نتبين هذا من واقع المعاجم العربية، علينا أن نكون معها في القديم منها والجديد.
ففي (لسان العرب) لابن منظور ـ وهو من المعاجم القديمة ـ يذكر لكلمة (استقلال) المعاني التالية:
1- استقلال الطائر، يقال: «استقلّ الطائر في طيرانه: نهض للطيران وارتفع في الهواء».
2- استقلال النبات، يقال: «استقل النبات: أناف».
3- استقلال القوم، يقال: «استقلّ القوم: ذهبوا واحتملوا سارين وارتحلوا، قال الله عزّ وجلّ: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً}([1])، أي حملت».
4- استقلال السماء، يقال: «استقلت السماء: ارتفعت، وفي الحديث: «حتى تقالت الشمس»، أي استقلت في السماء، وارتفعت وتعالت، وفي حديث عمرو بن عنبسة: «قال له: إذا ارتفعت الشمس فالصلاة محظورة حتى يستقل الرمح بالظل»، أي حتى يبلغ ظل الرمح المغروس في الأرض أدنى غاية القلّة والنقص، لأن ظل كل شخص في أول النهار يكون طويلاً ثم لا يزال ينقص حتى يبلغ أقصره، وذلك عند انتصاف النهار، فإذا زالت الشمس عاد الظل يزيد، وحينئذٍ يدخل وقت الظهر وتجوز الصلاة ويذهب وقت الكراهة، وهذا الظل المتناهي في القصر هو الذي يسمى ظل الزوال أي الظل الذي تزول الشمس عن وسط السماء وهو موجود قبل الزيادة، فقوله: «يستقل الرمح بالظل» هو من القلّة لا من الإقلال والاستقلال الذي بمعنى الارتفاع والاستبداد».
وهذه المعاني الأربعة التي ذكرها (لسان العرب) لكلمة (استقلال) ترجع إلى معنيين، هما:
- الارتفاع، ويصدق على استقلال الطائر واستقلال النبات واستقلال السماء.
- الارتحال، وينطبق على استقلال القوم.
ولهذا حصر المعجم الحديث دلالة الكلمة قديمًا في هذين المعنيين، وأضاف إليهما معنيين جديدين مما أفادته الحياة المعاصرة، فقد جاء في (المعجم الوسيط) لمجمع اللغة العربية بالقاهرة ما نصّه: «استقلّ: ارتفع، يقال: استقلّ الطائر في طيرانه، واستقل النبات، واستقلت الشمس.
واستقل القوم: مضوا وارتحلوا.
واستقل فلان: انفرد بتدبير أمره، يقال: استقل بأمره.
واستقلت الدولة: استكملت سيادتها وانفردت بإدارة شؤونها الداخلية والخارجية، لا تخضع في ذلك لرقابة دولة أخرى ـ محدثة ـ».
ويمكننا إرجاع هذين المعنيين المحدثين اللذين أضافهما المجمع لمعجمه إلى معنى واحد هو الانفراد بالأمر.
وتكون النتيجة: أن التطور الدلالي لكلمة (استقلال) مرَّ بعهدين تاريخيًّا، في الأول حملت الكلمة معنيين، هما: الارتفاع والارتحال، وفي الثاني أضافت إليهما معنى الانفراد بالأمر.
وهذا المعنى الجديد يأتي في مجالين:
1- استقلال الفرد.
وهو معنى لغوي اجتماعي (عرفي).
2- استقلال الدولة.
وهو مصطلح سياسي (علمي).
وقد دخل المعنيان المذكوران معجم المصطلحات القانونية ومعجم المصطلحات الاجتماعية.
ويبدو لي أن المعنى الأول أُخِذَ من المعنى الثاني.
والمعنى الثاني هو ترجمة لكلمة (independence) الإنجليزية، وكلمة (indépendance) الفرنسية.
والكلمتان ـ في الأصل ـ من اللاتينية (dépendance) التي تعني غياب التبعية.
ﷺ معنى الاستقلال السياسي كمصطلح
والآن لنحاول معرفة مفهوم الاستقلال السياسي كمصطلح سياسي وقانوني واجتماعي:
جاء في (معجم المصطلحات السياسية والدولية) للدكتور بدوي([2]): «الاستقلال السياسي Polity Independence، ينطوي الاستقلال السياسي على تمتّع الدولة بالسيادة، أي ما لها من سلطان تواجه به الأفراد داخل إقليمها وتواجه به الدول الأخرى في الخارج».
وفي (معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية) للدكتور بدوي أيضًا: «الاستقلال indépendance - independence: حرّية الشخص الطبيعي أو الاعتيادي من تدخّل الغير في شؤونه الخاصّة أو إشرافه أو نفوذه المباشر أو غير المباشر.
ومن الناحية السياسية ينطوي استقلال الدولة على تمتعها بالسيادة أي ما لها من سلطان تواجه به الأفراد داخل إقليمها وتواجه به الدول الأخرى في الخارج».
وجاء في (معجم المصطلحات القانونية) تأليف جيرار كورنو وترجمة منصور القاضي([3]): «الاستقلال: لفظة مؤلفة من البادئة السلبية (in) ومن (dépendance) من اللاتينية (dépendance): غياب التبعية.
أ- وضع جماعة غير تابعة لجماعة أجنبية، عدم الخلط مع مجرّد الاستقلالية.
ب- فيما يتعلّق بدولةٍ ما تستعمل الكلمة كمرادف لسيادة، حق الدولة في أن تمارس بنفسها مجموع صلاحياتها الداخلية والخارجية بدون تبعية لدولة أخرى أو لسلطة دُولية مع وجوب مراعاة القانون الدُولي واحترام التزاماتها الاتفاقية».
هذا ما أفادته المعاجم اللغوية والأخرى العلمية لتحديد مفهوم الاستقلال السياسي، وهي لم تخرج به من عالم النظرية العلمية إلى عالم التطبيق الاجتماعي والسياسي.
وذلك لأن تجاوز عالم النظرية إلى عالم التطبيق ليس من وظيفة المعجميين وغير داخل في تخصصهم، وإنما هو من وظيفة مؤلفي الموسوعات الثقافية.
إلا أنني لم أجد فيما لدي من موسوعات ودوائر معارف شيئًا من قرن النظرية بالتطبيق من خلال الدراسة الميدانية أو النظرة لواقع أنظمة الحكم في العالم.
وقد يرجع هذا إلى التحاشي من قبل المؤلفين عن الوقوع في محذور ذكر أسماء البلدان التي عليهم أن يذكروها كشواهد وأمثلة.
ولذلك رأيت أن أشير إلى هذا من واقع الوضع السياسي لأنظمة الحكم فيما نعرفه من بلدان، وهو وضع يرتبط بوضع الاستعمار وانقسامه إلى استعمار قديم وآخر جديد.
ومن هنا لابدّ من إيضاح هذا للدخول فيما أريد أن أشير إليه.
يقسم الاستعمار ـ باعتبار واقعه المعاش ـ إلى قسمين ـ كما ألمحت في أعلاه ـ وهما:
1- الاستعمار القديم
وهو التسلّط المباشر، ويتحقق عن طريق الغزو العسكري، وقد عَرَفَهُ العالم القديم متمثِّلاً في نزعات التوسّع لدى الإمبراطوريات الكبرى أمثال البابلية والآشورية والفارسية والرومانية، كما عَرَفَهُ العالم الحديث حيث استعمرت أسبانيا والبرتغال وفرنسا وبريطانيا وهولندا بلداننًا متعدّدة بدوافع اقتصادية وأخرى دينية.
2- الاستعمار الجديد
وهو التسلّط غير المباشر، وتعرّفه (الموسوعة الثقافية) بما نصّه([4]): «والاستعمار الجديد ما هو إلاّ أحد أشكال السيطرة الاستعمارية التي لا تعتمد على التحكّم السياسي المباشر أو التواجد العسكري الواضح، ولكنه يقوم على السيطرة الاقتصادية والاجتماعية».
وفي (معجم المصطلحات السياسية والدولية): «الاستعمار الحديث: فرض السيطرة الأجنبية من سياسية واقتصادية على دولةٍ ما، مع الاعتراف باستقلالها وسيادتها دون الاعتماد في تحقيق ذلك على أساليب الاستعمار التقليدية، وأهمها الاحتلال العسكري، ويعتبر نظام المحميات والدول تحت الوصاية من أشكال الاستعمار الحديث.
كما يطلق على هذا الأسلوب الاستعماري مصطلح (الإمبريالية الجديدة).
ويستخدم الاستعمار الحديث في تحقيق أغراضه وسائل خاصة لتحاشي المعارضة الشعبية الصريحة أو معارضة الرأي العام العالمي.
ومن ذلك عقد الاتفاقات الثنائية غير المتكافئة، وتكبيل الدولة النامية بشروط تحرمها من حرية التصرف، وإقامة القواعد العسكرية وإلخ»([5]).
وعلى أساس من هذا التقسيم للاستعمار ينقسم الاستقلال إلى قسمين، يمكننا أن نطلق عليهما عنوان (الاستقلال الحقيقي) و(الاستقلال الظاهري).
وأريد من الاستقلال الحقيقي: التحرّر الكامل من الاستعمار بنوعيه: المباشر وغير المباشر.
ومن الاستقلال الظاهري: التخلّص من الاستعمار العسكري، وتبقى البلاد تعيش من جانب آخر راضخة تحت نير الاستعمار غير المباشر.
وفي هدي هذا، وفي ضوء تقسيم الاستقلال السياسي الذي ألمحت إليه في أول البحث نستطيع أن نقسم الدول الراهنة إلى الأقسام التالية:
1- الدولة المستقلة منذ البدء، وهي تلك الدولة التي لم تخضع من أول وجودها لأي استعمار، وبقيت مستمرّة على ذلك.
2- الدولة المستقلة بعد الاستعمار استقلالاً حقيقيًّا.
3- الدولة المستقلة بعد الاستعمار استقلالاً ظاهريًا، أي إن استقلالها مزعوم أو موهوم.
وقد يقال عن مثل هذه الدولة: إنها دولة لا تملك الاستقلالية لأنها لا تزال تابعة للغير.
وهذا التقسيم الثلاثي ينطبق على بلدان المسلمين الراهنة، ففيها البلاد المستقلّة منذ البدء، وفيها البلاد المستقلّة بعد الاستعمار استقلالاً حقيقيًّا، وفيها البلاد المستقلة بعد الاستعمار استقلالاً ظاهريًّا.
وفي ضوئه: ما هو العمل من أجل مستقبل يكون فيه الاستقلال كاملاً لجميع بلدان المسلمين؟
1- لابدّ ـ في البدء ـ من وضع دراسات سياسية ميدانية لواقع أوضاع بلاد المسلمين سياسيًّا.
2- توعية المسلمين ليكونوا في حالة استعداد للعمل من أجل التخلّص من النفوذ الأجنبي.
3- مساعدة البلدان الإسلامية غير المستقلّة استقلالاً كاملاً بما يدفعها إلى العمل على التخلّص من الاستعمار الذي تعاني منه.
4- محاولة التوسّل في البدء باتباع الوسائل والأساليب السلمية، ومن بعدُ لا مناص من الجهاد.
5- وفي الوقت نفسه: على البلدان الإسلامية المستقلّة استقلالاً كاملاً أن تعمل على رفع مستواها تقنيًّا لتكون في مصاف الدول الأخرى المتقدّمة تكنولوجيًّا.
6- وأن تُكثر من إنشاء مراكز البحث العلمي التي تعمل على شرح العقيدة الإسلامية كإيديولوجية للفكر الإسلامي والعمل الإسلامي، وعلى استنباط وشرح التشريعات الإسلامية لتنظيم الحياة، وترجمة ذلك إلى مختلف اللغات الحيّة ليشقّ الإسلام طريقه مع الأنظمة الأخرى العالمية جنبًا إلى جنب.
7- ثم القيام عن طريق مراكز البحث بدراسات مقارنة بين التشريع الإسلامي والتشريعات الأخرى الراهنة لنصل عن ذلك إلى أن يسترجع الإسلام سيادته على العالم من أجل تحقيق السعادة والسلام.