القراءة الحداثية للنص القرآني نموذجاً..
تثير الدراسات الحداثية للنص القرآني الكثير من ردود الفعل، من قبل الباحثين الذين تصدوا لها، إمَّا إقصاءً، أو تبنيًّا مطلقاً أو تبنيًّا مع بعض التعديل. في هذا السياق نفسه تأتي محاولة المفكر المغربي الدكتور طه عبد الرحمن. أو على الأقل هذا ما يريدنا أن نفهمه، من خلال محاضرة سبق وألقاها حول القراءة الحداثية للنص القرآني، قبل أن يضمها إلى آخر أعماله الموسوم بـ«روح الحداثة»، حديث الصدور.
فإلى أي حد استطاع الباحث أن يقربنا من منهجية جديدة للتعامل مع النص القرآني، بما يكفينا القراءة الحداثية والتقليدية على السواء، كما وعد دائماً قراءه؟ وهل هي منهجية حقًّا حديثة؟ وما هو مصداق صحتها؟ مجموعة من الأسئلة تتوالد بخصوص المنظور الطهائي، وهي ما سنعكف على محاولة الجواب عنها. في هذه الورقة الجدّ مختصرة.
وعليه يكون من المناسب إبداء وجهة نظر المفكر طه (أولاً) قبل إبداء أوجه نقدنا لهذا المنظور (ثانياً)، تاركين في الخاتمة السؤال مفتوحاً.
ﷺ المنظور الطهائي في قراءة النص القرآني
قبل أن نستعرض منظور الأستاذ طه في قراءته الحداثية للنص القرآني، نرى لزاماً بسط القول في مؤاخذاته على باقي القراءات الحداثية.
مجمل مؤاخذات الأستاذ تتجلى في أن القراءات الحداثية للقرآن ليست تطبيقاً مباشراً لروح الحداثة، وإنما هي تقليد لتطبيق سابق، هو التطبيق الغربي المتمثل في «واقع الحداثة». وهو توجه يريد قطع الصلة بأسباب الماضي وآثاره([1]). «فالقراءات الحداثية التي بين أيدينا تسعى إلى أن تحقق قطيعة معرفية بينها وبين ما يمكن أن نطلق عليه اسم «القراءات التراثية»، وهذه على نوعين: أحدهما القراءات التأسيسية، وهي التي قام بها المتقدمون، مفسرين كانوا أو فقهاء أو متكلمين أو صوفية، والثاني القراءات التجديدية، وهي التي قام بها المتأخرون، سلفيين إصلاحيين كانوا أو سلفيين أصوليين أو إسلاميين علميين»([2]).
وقد استعرض عدداً من المفكرين نماذجَ لهذه القراءات الحداثية وهم: محمد أركون وعبد المجيد الشرفي ويوسف صديق ونصر حامد أبو زيد وطيب تيزني وحسن حنفي. وجعل كل من محمد شحرور وعبد الكريم سروش قراء معاصرين للنص القرآني وليسا بحداثيين.
وبعد أن أوضح الكلية الإشكالية انتقل إلى بسط النقاش بخصوص خطط القراءات الحداثية المقلدة، دون أن يغفل الإشارة إلى أن كل خطة تتكون من ثلاثة عناصر يسميها أركان الخطة: أولها الهدف النقدي، والآلية التنسيقية، والعمليات المنهجية.
1- خطة الأنسنة: وهي خطة تستهدف أساساً رفع عائق (القدسية) وذلك عن طريق نقل الآيات القرآنية من الوضع الإلهي إلى الوضع البشري، بحذف عبارات التعظيم، واستبدال مصطلحات جديدة بأخرى مقررة، والتسوية في رتبة الاستشهاد بين الكلام الإلهي والكلام الإنساني، والتفريق بين مستويات مختلفة في الخطاب الإلهي، والمماثلة بين القرآن والنبي عيسى (عليه السلام) من جهة أن كلاهما كلمة الله.
بحيث يؤدي تطبيق هذه العمليات المنهجية التأنيسية إلى جعل القرآن نصًّا لغويًّا مثله مثل أيّ نصٍّ بشري، وينتج عن هذه المماثلة اللغوية النتائج الآتية: السياق الثقافي للنص القرآني، والوضع الإشكالي للنص القرآني يعني يُضحي النص القرآني مجملاً يقبل تأويلات غير متناهية، واستقلال النص القرآني عن مصدره، وعدم اكتمال النص القرآني.
2- خطة العقلنة: وتستهدف رفع عائق (الغيبية) وآليتها هو التعامل مع الآيات القرآنية بكل وسائل النظر والبحث التي توفرها المنهجيات والنظريات الحديثة، وذلك على أساس نقد علوم القرآن، والتوسل بالمناهج المقررة في علوم الأديان، التوسل بالمناهج المقررة في علوم الإنسان والمجتمع، واستخدام كل النظريات النقدية والفلسفية المستحدثة، وإطلاق سلطة العقل، ويترتب عن هذه المماثلة الدينية النتائج التالية: تغيير مفهوم الوحي، وعدم أفضلية القرآن، وعدم اتساق النص القرآني، وغلبة الاستعارة في النص القرآني، وتجاوز الآيات المصادمة للعقل.
3- خطة التأريخ: وتستهدف أساساً رفع عائق (الحكمية) وتتوسل بوصل الآيات بظروف بيئتها وزمنها وبسياقاتها المختلفة، وتم هذا الوصل بواسطة عمليات منهجية خاصة، كتوظيف المسائل التأريخية المسلَّم بها في تفسير القرآن، وتغميض مفهوم (الحكم)، وتقليل عدد آيات الأحكام، وإضفاء النسبية عليها، وتعميم الصفة التأريخية على العقيدة، مما يجعل النص القرآني يعرف مماثلة تأريخية مع غيره من النصوص، وفي هذا: إبطال المسلَّمة القائلة بأن القرآن فيه بيان كل شيء، وإنزال آيات الأحكام منزلة توجيهات لا إلزام معها، وحصر القرآن في الأخلاقيات الباطنية الخاصة، والدعوة إلى تحديث التدين.
بعد أن استعرض طه عبد الرحمن أوجه اتحاد منظور من أسماهم بالحداثيين طفق يرد عليهم، على أساس أنهم لم يمارسوا الفعل الحداثي في إبداعياته ولا انطلقوا فيه من خصوصية تاريخهم، بقدر ما أعادوا إنتاج الفعل الحداثي كما حصل في تاريخ غيرهم، مقلدين أطواره وأدواره([3])، ويتجلى هذا التقليد في كون خططهم الثلاث المذكورة مستمدة من واقع الصراع الذي خاضه (الأنواريون) في أوروبا مع رجال الكنيسة، والذي أفضى بهم إلى تقرير مبادئ ثلاثة أنزلت منزلة قوام الواقع الحداثي الغربي.
- أولها، مقتضاه أنه يجب الاشتغال بالإنسان وترك الاشتغال بالإله، وبفضل هذا المبدأ تم التصدي للوصاية الروحية للكنيسة.
- والثاني، مقتضاه أنه يجب التوسل بالعقل وترك التوسل بالوحي، وبفضل هذا المبدأ تم التصدي للوصاية الثقافية للكنيسة.
- والثالث، مقتضاه أنه يجب التعلق بالدنيا وترك التعلق بالآخرة، وبفضل هذا المبدأ تم التصدي للوصاية السياسية للكنيسة.
مما يجعل خططهم مأخوذة من هذه المبادئ، فخطتهم في الأنسنة متفرعة على المبدأ الأول الذي يقضي بالاشتغال بالإنسان دون سواه. وخطتهم في التعقيل متفرعة على المبدأ الثاني الذي يقضي بالتوسل بالعقل دون سواه. وخطتهم في التأريخ متفرعة على المبدأ الثالث الذي يقضي بالتعلق بالدنيا دون سواها([4]).
ولا يخفى على ذي بصيرة ما في هذه الإسقاطات الاندفاعية من عيوب منهجية صريحة تُفقد التحليلات الحاصلة قيمتها كما تفقد النتائج المتوصل إليها مصداقيتها([5])، جاعلاً من جملة العيوب: فقدان القدرة على النقد لأن «إسقاط أية وسيلة على أي موضوع يحتاج إلى مشروعية، ومشروعيته تقوم في التحقق من وجود المناسبة بين الوسيلة والموضوع، ولا مناسبة بينهما إلا إذا حافظت الوسيلة على إجرائيتها بعد نقلها من مصدرها، وحافظ الموضوع على خصوصيته بعد إنزالها عليه»([6]) وهذا الأمر منتفٍ. ضعف استعمال الآليات المنقولة حيث إن القراء الحداثيين ليسوا متمكنين من ناصية استعمالها، كما لم يحيطوا بالأسباب النظرية والقرارات المنهجية التي انبنت عليها. والإصرار على العمل بالآليات المتجاوزة، وتهويل النتائج المتوصل إليها، وقلب ترتيب الحقائق الخاصة بالقرآن، وتعميم الشك على كل مستويات النص القرآني([7]). وأمام جملة هذه المطاعن والحيوية ارتأى الأستاذ طه أن يقترح قراءة حداثية مبدعة بخلاف صنوتها.
وطبعاً القراءة الحداثية المبدعة لا تتحقق إلا إذا كانت «القراءة الثانية قادرة على توريث الطاقة الإبداعية في هذا العصر كما أورثتها القراءة المحمدية في عصرها»([8]). فالقراءة الحداثية ذات الإبداع الموصول تتأسس على دعامتين: أولاهما ترشيد التفاعل الديني، وثانيتهما تجديد الفعل الحداثي الذي يحصل بواسطة التفاعل الديني نفسه، محققاً هذه القراءة بثلاثة خطط كصنوتها الفاسدة على المنوال الآتي:
1- خطة التأنيس المبدعة: والتي تعني تكريم الإنسان، فنقل الآيات القرآنية من وضعها الإلهي إلى وضعها البشري تكريم للإنسان. وطبعاً هذه الخطة لا يمكن أن تضعف التفاعل الديني ولا تؤثر سلباً في الفعل الحداثي، وهذه الآلية لا تشتغل برفع القدسية عن النص القرآني، وإنما تشتغل ببيان وجوه تكريم الإنسان في هذا النص.
وإنه ووفقاً لهذا المدرك تبطل المماثلة اللغوية التي يقيمها التأنيس المقلد، لأن النص القرآني هو ذو مضمون عقدي.
2- خطة التعقيل المبدعة: وهي عبارة عن التعامل مع الآيات القرآنية بكل وسائل النظر والبحث التي توفرها المنهجيات والنظريات الحديثة، توسيعاً لنطاق العقل. وأنها كسابقتها لا تضعف التفاعل الديني ولا تمس بالفعل الحداثي، ودون رفع الغيبية عن النص القرآني، وأنها أوسع من القراءة المقلدة.
وإنه ووفقاً لهذا المدرك تبطل المماثلة الدينية التي يقيمها التعقيل المقلد. لأن عقل النص الديني التوحيدي يكون أرقى من عقل النص الديني الوثني، لأن العقل الديني التوحيدي يرقى عن العقل المادي، بخلاف العقل الديني الوثني الذي ينحط عن العقل المادي. هذا دون أن ينسى تسجيل أن العقل الديني التوحيدي القرآني أفضل العقول الدينية التوحيدية سواه لأنه نص جاء مهيمناً على ما سبقه، لذلك نجد إشارة لرد الاشتغال بالسحر والخوض في الأساطير.
3- خطة التأريخ المبدع: هي عبارة عن وصل الآيات القرآنية بظروف بيئتها وزمنها وسياقاتها المختلفة، ترسيخاً للأخلاق. وكسابقتها يظل التفاعل الديني والفعل الحداثي متحققين، بالإضافة إلى أنه يجعل الأحكام القرآنية تقدر بالأخلاق التي تورثها. مما يجعل الانشغال بالسلوك في الحياة في خطة التأريخ المبدعة أكثر منه في خطة التأريخ المقلدة.
وأنه ووفقاً لهذا المدرك تبطل المماثلة التأريخية التي يقيمها التأريخ المقلد، لأن النص القرآني نص خاتم والخاتمية تجعل من زمنه يمتد إلى ما بعد زمن نزوله.
كل هذه المدارك تجعل من القراءة حداثية وفي أعلى صور الحداثة التي يمكن تصورها دائماً وفقاً لمنظور الأستاذ طه عبد الرحمن([9]).
والآن وبعد أن أوضحنا بشكل موجز جداً منظور الأستاذ طه عبد الرحمن، لا بأس من أن ننتقل إلى إجراء قراءة نقدية له، هذه القراءة التي نريدها تكميلية وليست حاملة لسلاح الهدم.
ﷺ قــراءة نقديـــة
في البداية وقبل أن نخوض في صلب منظور الأستاذ طه، لا بأس من إبداء ملاحظة حول إشارته إلى مؤلَّف لكاتب ومفكر إيراني ضمن القراءات المعاصرة للقرآن. يتعلق الأمر بعبد الكريم سروش وكتابه القبض والبسط في الشريعة. ولدينا هنا ملاحظات بخصوص هذه الإحالة -مادام الباحث قد أشار إلى الكتاب والدار-. حيث بغض النظر عن أن المترجمة لم تترجم عنوان الكتاب بالشكل الصحيح([10])، إلا أن المرجع برمته لا علاقة له بمورد استشكال الدكتور طه عبد الرحمن، المتمحور حول إشكالية القراءة الحداثية للنص القرآني.. فمجمل هدف مؤلفه عبد الكريم سروش، يتجلى في إعادة تأسيس نظرية جديدة في المعرفة الدينية، من جهة مقاربة أثر المعارف البشرية الأخرى على المعرفة الدينية، وطبيعتها النسبية والسيالة، والتي تنقبض وتنبسط بحسب المدارك المعرفية الإنسانية الأخرى الخارج دينية. ونظل مستغربين حقيقة من إقحام هذا الكتاب ضمن القراءات المعاصرة للنص القرآني. ولعمري إن الأستاذ طه لم يطلع على الكتاب بالشكل الكافي، ولم يستوعب مناط إشكالية القبض والبسط عند سروش. هذا من جهة الاحتجاج بالكتاب، أما فيما يخص وضع المفكر عبد الكريم سروش ضمن القراء المعاصرين فهو تحريف آخر للواقع. لأن الأخير يعتبر من المثقفين الدينيين الإيرانيين الحداثيين بامتياز، وهو ما يتجلى في مجمل عطاءاته الفكرية. وربما أن التدين الذي يتصف به عبد الكريم سروش هو الذي جعل الأستاذ طه عبد الرحمن يخرجه من زمرة الحداثيين الذين سوف ينهال عليهم بالنقد الموجع إلى حد كبير.
نرى أنه يظل من الضروري تجاوز هذه الملاحظات حتى يتم الخوض في صميم الموضوع، ولا نخلّ بجوهر البحث.
لو عدنا إلى مجمل المؤاخذات التي ابتذرها الأستاذ طه إلى القراء (الحداثيين) سوف نجد أنها ملاحظات اجتزائية وغير مجمع عليها بين مجموع الطائفة الحداثية، وهو ما نلمسه من خلال الإحالات. بالإضافة إلى أنه قد وقع هو الآخر فيما يؤاخذ عليه القراء الحداثيين المقلدين نفسه. فعلى سبيل المثال، عدم إيراده عبارات التعظيم للنص القرآني في مقام تبيان منظوره. كما أن تحامله على جهل القراء الحداثيين المقلدين لآليات الصنعة التي يعتمدونها فيه كثير من الجفاء وخلط لا يغتفر. خصوصاً أنه لم يبين لنا موطن جهلهم بآليات الصنعة والمنهجية العلمية الحداثية عند القراء الذين أسماهم حداثيين.
بل إن هذا التجهيل ينجر إلى منظور طه عبد الرحمن، عندما نجده يحصر الحداثة في الأنواريين الذين حملوا هاجس تكسير أظافر الكنيسة، والحال أن الكتابات الحداثية الدينية المتواجدة في الغرب أغلبها منتوجات فلاسفة ولاهوتيين قابعين في غالبيتهم -مع وجود استثناء لا يمثل القاعدة- داخل النص الديني بامتياز. رغم تصريح العالم أجمع بأنهم حملة القلم الحداثي، فهم يتعاطون مع النص الديني بانفتاحية كبيرة، ومحافظين على قدسيته بشكل ملحوظ. ولا بأس من إيراد أسماء بعضهم كميرلو بونتي، وكيركغارد، وهانس جورج غادامر، وبول ريكور، ولوفيناس. ومن اللاهوتيون نجد رودولف أوطو، وكارل بارث، ورودلوف بولتمان وبول تيليش وجون هيك وغيرهم كثير. وكلهم لا زالوا يشكلون الوجه الحداثي للغرب في أدق تفصيلاته.
الملاحظ أن الرؤية الضيقة التي تبناها الأستاذ طه عبد الرحمن بخصوص الحداثة في الغرب جعلته يخلص إلى نتائج مغالطة، لأن تعامل القراء الحداثيين رغم سقطاتهم الكثيرة لا يمكن أن تكون مبرراً لوصفهم بأنهم يسعون إلى نزع القدسية عن النص القرآني بسوء نية، لأنه يكفي أن نقنعهم بأن التعامل مع النص القرآني والنبوي بشكل علمي متيسر دون أن ننزع عنه القدسية، فهذا التطرف هو من سنخ تطرف بعض النصوصيين المتزمتين، الذين يمنعون إعادة قراءة النص القرآني والنص النبوي بشكل معاصر بدعوى أن قدسيته تشكل حاجزاً أمام ذلك. وأعتقد بأن الأستاذ طه تجاوز هذا المأزق لكن لأسباب سوف نسعى إلى تبيينها في حينه.
يوضح الأستاذ طه عبد الرحمن أن القراءة الثانية التجديدية لا يمكن أن تكون مبدعة إلا إذا استطاعت توريث الطاقة الإبداعية في هذا العصر كما أورثتها القراءة المحمدية في عصرها. وهنا ينطرح أمامنا إشكال وهو كيف يتسنى تشخيص القراءة المحمدية للنص القرآني؟ فهل المنظور السلفي العام في القراءة هو المتبنى؟ وما هو الدليل على أن المنظور السلفي لعب دور الناقل الأمين للقراءة المحمدية؟ وإن لم يكن المنظور السلفي هو الحامل لهذه القراءة المحمدية الأصيلة، فأي منظور هو الأكثر إخلاصاً؟
وهل الجسم الروائي الذي بين أيدينا يحمل لنا التصور السليم للقراءة المحمدية دون أن يخضع هو الآخر للفرز والتمحيص والعرض على النص القرآني نفسه؟ أوَليس الجسم الروائي أحياناً وخصوصاً ما يسمى بالأحاديث الصحيحة ليست إلا تقييمات رجاليين؟ أوَليس هؤلاء الرجاليون أحياناً -والذي يحب الأستاذ هاني أن يسمي عملهم بالعمل الاستخباراتي- كان يحكمهم الانتماء المذهبي والطائفي حتى في توثيق بعض الرواة وتضعيف أو تكذيب الآخرين لشأن مذهبي فقط؟ أوَليس التعامل مع هكذا منهجية فيه إسقاط للكثير من الروايات الصحيحة الأخرى والتي همشت أو حوربت لأسباب سياسية أو مذهبية؟ أوَليس في هذا الإسقاط مسخ للقراءة المحمدية للنص القرآني التي يحضنا عليها الأستاذ طه؟ الأكيد أن الجواب واضح بهذا الخصوص، مما يفتح السؤال على مصراعيه كيف تتحقق القراءة المحمدية للنص القرآني؟ ربما يكون الأولى إجراء مراجعة علوم القرآن بالكامل ومساءلتها وفاقاً لمنهج علمي صارم، حتى يتحقق لنا حقانيتها بالأدلة المعتبرة وهو ما يسميه طه بـ(مبدأ النقد)، لكن الأستاذ طه لا يريد منا فعل ذلك، بل نجده يجعل هذا المشروع ضمن مشاريع الحداثيين المقلدين بمعنى أنه مثلبة يجب التخلص منها، وهو ضرب في الصميم لمبدأ النقد. يعني تجاوز الاعتقاد دون دليل معتبر إلى النقد بمعنى تكوين القناعة على أساس الدليل الجالب لليقين. مما يجعل منظور طه عبد الرحمن انقلاباً ذاتياً على ما أسماه روح الحداثة.
مما يجعل الإشكالية تتفرع إلى مستوى معرفي آخر وهو هل حقًّا ما أسماه بالقراءة الحداثية المبدعة هي كذلك أم أنها انسداد معرفي آخر ينضاف إلى مجموع الانسدادات التي ولدتها القراءات العربية الآفاقية.
فلو عدنا قليلاً إلى أوائل كتابه، فسوف نجده يصرح بأن روح الحداثة تقوم على ثلاثة مبادئ:
* مبدأ الرشد: ومقتضى هذا المبدأ هو الانتقال من حال القصور أي التبعية للغير إلى حال الرشد.
* مبدأ النقد: ومقتضى هذا المبدأ هو الانتقال من حال الاعتقاد دون دليل معتبر إلى حال النقد.
* مبدأ الشمول: ومقتضى هذا المبدأ هو الانتقال من حال الخصوص من ضيق وتحيز إلى حال العموم([11]).
ذلك أن هذه المبادئ قد غيبت بالكامل في قراءته الحداثية المبدعة، كما تم تبيين ذلك أعلاه، بل بالعكس نجد تصوره ناضحاً في خاتمة البحث حيث يجعل الإبداع الموصول ذا علاقة بأسباب تراثنا التفسيري والثقافي([12]).
وحيث إن المنظور الطهائي لم يبين لنا نقداً واحداً للتفسير الموروث ولا حتى لثقافاته، بل ظل في العموميات عاكفاً على جعل القراءة الحداثية التي سماها مقلدة هي موطن بحثه، وطبعاً هكذا تعاطٍ يشكل نقضاً لمبدأ النقد الذي أراد تبنيه؛ فاعتقاده الصلاحية في التفسير الموروث هو اعتقاد دون دليل معتبر، الشيء نفسه ينجر إلى تعظيمه للعلوم القرآنية كما وصلت إلينا.
نقول: إن وقوف الأستاذ طه على توجيه النقد إلى القراءات الحداثية، ومؤاخذاتها حتى في محاولتها إعادة النظر في علوم القرآن، يجعل منه تراثياً بامتياز، وما قراءته الحداثية المبدعة إلا قراءة تراثية تعاني من أزمة هوية.
وبعد أن أوضحنا مؤاخذاتنا بشكل مجمل على المنظور الطهائي لا بأس من العودة إلى السؤال الأساسي، وهو كيف يتم تحقيق القراءة المحمدية للنص القرآني في العصر الحالي، على الأقل في منظور صاحب المقالة. وذلك من خلال محاولة أخرى مزامنة للأولى حاولت أن تجيب عما لم يجب عليه طه، دون أن ينطبق عليها التقليد للمنقول أوالتقليد للمؤصَّل، إذ حاولت إيجاد علاقة تكييفانية خلاقة بين الإسلام -بوصفه تعاليم- والحداثة، من خلال روحها الخلاقة، في ضوء مفهوم جدل الإمكان الإسلامي والإمكان الحداثي.
ﷺ فلسفة تأويلية أخرى
عندما نعود إلى منظور الأستاذ إدريس هاني بخصوص جوابه عن الإشكالية نفسها، أي كيف نقرأ النص القرآني قراءة محمدية أصيلة؟، نجده يتبنى المنظور التأويلي حيث يحاول استقراء النص من داخله بلحاظ التكاملية، وهي عملية استقرائية إلى جانب أنها جيدة، نجدها ممتعة «أعني بتحرير النص، الإنصات للنص خارج تلك الأطر المذكورة. بمعنى أوضح، أن نقرأه ضمن رؤية مفهومية جديدة لهذه الأطر، تمكن المتلقي من أواليات الاستنطاق»([13]).
فالتأويل الذي يذبّ عنه الأستاذ هاني متحدد في «علاقة تكوينية بين العقل والنص، تجعل ما يجري داخل النص مثالاً لما يجري داخل العقل. أو بتعبير أوضح، إن الآلية التي يتم بها إنتاج المعنى، هي نفسها الآلية التي يتم بها فعل التعقل. بهذا المعنى إذا حررنا النص من هذه الأطر، فالعقل سيتحرر بالتبع. وهذا التحرر الذي أتحدث عنه لا يتحقق إلا في إطار المنظور التأويلي»([14]) هذا المنظور الذي يتركز على مقدمة جدُّ هامة وهي أن التشاكل قائم بين بنية اللغة وبين بنية العقل، «فنحن حينما نتعقل، نخضع إلى حد ما إلى إكراهات السياق ولعبة الاستبدال والإكمال والإشارة والاختزال و..»([15]).
وداخل الجسم القرآني نجد ثمة تعاليم تنطوي على معانٍ ودلالات عصية يستلزم على العقل أن يسمو إلى مستواها حتى تتسنى «قابلية التخاطب مع النص، أي أن يكون في قامة لعبة الحضور والغياب لطيف المعنى»([16])، فالتأويل عند مفكرنا هي عملية تحرٍّ كبيرة تتبع آثار المعنى الهارب، ولا تلقي بالاً للخداعات المتكررة، بل تعكف على البحث في المتدثر بين تلافيف الخطاب. فـ«النص على هذا الأساس يُظهر بقدر ما يُخفي، إنها لعبته الأزلية، وعلى المتلقي حينها أن يواكب اللعبة على طول الخط. النص لا ينطوي على معنى واحد، وأظن أن هذه حقيقة معروفة في تراثنا أيضاً، وإن ظلت حقيقة مغيبة. والآن أصبح تعدد المعنى أمراً واضحاً بشكل كبير مع الثورة السيميوتيكية والهرمنيتيكية. اليوم نحن مكرهون على الاعتراف بهذه الحقيقة»([17]) وهو خروج من المأزق الأرسطي الذي وقع فيه أتباع الظهور الوحيد والمعنى الفريد واستبداد الفهم الرسمي.
فالنص عند هاني «حمّال وجوه. وهي وجوه متكاثرة. نحن نتحدث عن سبعة وجوه وقراءات مشروعة للنص، كما تحدث بعض القدامى. والسبعة في لسان العرب كما تفيد معنى العدد، فهي تفيد مطلق الكثرة أيضاً. إن النص القرآني ينطوي على مخزون من المعنى لا نهائي. وكل نص هو كذلك لأن تلك هي بنيته». فالاختلاف قائم في المضمون الذي يحبل به المعنى، الذي يحضر ويغيب بحسب السياق اللغوي الموضوعي «والعقل المتحرر المتماهي مع هذه البنية النصية أو مع هذه اللعبة النصية، هو الذي يستطيع أن يكسب لياقة تأويلية تجعل النص يتحرك مع حركة الواقع» مما يؤدي إلى اضمحلال الاثنينية القائمة بين النص والعقل.
بمعنى آخر العملية التأويلية تتجلى في الإمساك بالمعاني الغائبة والمتفلتة بإعمال لحاظ القراءة المتكوثرة للنص في إطار حركته مع الواقع، إلا أنها تظل قراءة داخلنصية قد لا ترتهن بالمعطيات المعرفية الخارجنصية كالروايات. كما أنه كدٌّ معرفي صرف يجعل من التزامنية هي محور التحرك التأويلي.
فـ«النزولات التأويلية هي مصداق لهذا الدوران، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} الآية. لأن القرآن نفسه مصداق لعموم الخلق. فالمورد الأول يعيد نفسه، لكن بشكل هرمينوتيكي، أي عودة المثال. فالشيء بذاته لا يعاد، لاستحالة إعادة المعدوم كما يقول ابن سينا وعموم الفلاسفة، لكن العودة هنا هي عودة المثال. فالمحدود لا يمكن أن تستمر حركته إلا إذا كانت دائرية»([18]) وعليه فإن استنطاق النص القرآني دائم لم يستكمل كل ظهوراته، فالأزمة أزمة قراءة.
فالمنظور التأويلي الذي يتبناه المفكر هاني قائم على أساس الكمون النصي من أجل إجراء استنطاق محايث للواقع، وطبعاً هكذا قراءة لا يمكن أن تتحقق إلا وفق منهجه المتجلي في التجديد الجذري والتبني الحضاري. كما أن عملية التأويل هي «آلية التوليد المزدوج» إذ إنها لا تكتفي بإنتاج المعنى وتحريك النص، بل إنها تعمل على حمايته من الانزياح.
طبعاً هذا التصور في استنطاق النص القرآني يظل جميلاً جداً لأنه يفك العقال -وإن جزئياً- عن ثقل المرويات وأثرها على الفهم للنص القرآني، بل إنها حتى تتجاوز هذه المسألة لتجري قراءة من السنخ نفسه على النص النبوي نفسه. وهو عمل معرفي جدُّ هام بين يدي الأستاذ إدريس هاني.
فعملية التأويل وآلية التوليد المزدوج كما صاغها الأستاذ هاني، يظل مجهوداً عصرياً هاماً لاستقراء النصوص التراثية التي تصب في الخانة نفسها، وهي عملية حيوية في حد ذاتها؛ لأنها تعيد الحياة للفكر الإسلامي بصيغة جديدة.
ذلك أن مبدأ الجري الثابت للقرآن الكريم والمؤكد في المأثورات المعتبرة، متجلٍّ في الظهورات المتكثرة للمعنى الدفين للقرآن الكريم، مع الحفاظ في الآن نفسه على الظهور الأولي وجعله ذا مصداق. بمعنى آخر إن الظهورات المتكثرة هي تجليات عمودية للنص وليست أفقية، بحيث تسمح بالحفاظ على مكانة النص وظهوره الأولي، فهو إثراء وتكوثر أكثر منه إقصاء وتفريد المعنى. وهذا عين القول بآلية التوليد المزدوج بما هي آلية كاشفة للمعنى وحامية للنص من تخبطات الإقصاء.
الميزة الأساسية لتأويلية الأستاذ إدريس هاني تتجلى في تناصصيتها وعدم خروجها عن النسيج الخطابي للنص موضوع الاستنطاق، فهو مجهود منطقي قابع داخل العقل الإسلامي، ويتفق مع الصيغة الاصطلاحية لكلمة التأويل، ذلك أنه يهتم في إطارها «ببواطن الأمور، وينظر إلى الظاهر كدليل يدل على الباطن، بتعبير آخر: ينظر في التأويل إلى الظاهر كمثل، وإلى الباطن كممثول»([19])، وليس مصادفة أن نقف على حجم التعقل في المنظور التأويلي عند الأستاذ إدريس هاني بوصفه المحور الأساسي ما دام أنصار هذه النظرية «يتحدثون عن المحسوس والمعقول بمستوى تحدثهم عن الظاهر والباطن. ويعتقدون أن كلاًّ من الأمور المحسوسة في هذا العالم يتميز بجانبين: ظاهر وباطن. فظاهر المحسوس هو ما يحظى باهتمام الحواس الخمس، في حين يحظى باطن المحسوس باهتمام العلم والعقل، ويعد أسمى أفقاً من الحواس الظاهرية»([20]).
إلا أن هذا المنظور يظل مختلفاً عن عملية التأويل التي كان يتبناها القراء حيث «تقوم على نوع من التفكيك المضمر، لبنية النص، ثم إيجاد النظير أو المرادف للفظ محل (الشبهة)، ونقله إلى سياق آخر، حيث يستطيع اكتساب معنى آخر. ويعود إلى موضعه مجدداً في صورة استبدالية. ولا يكفي آلية المماثلة، أن تتأطر في المجال الواحد، بل قد تخرج لتستدمج مختلف السياقات -قرآن، حديث، أمثال العرب- بل إن العملية التمثيلية هذه تتجاوز عالم النصوص والكلمات لتقع على عالم الأشياء»([21]) بمعنى أن الواقع يكون حاكياً عن الخطاب / النص والعكس صحيح مما يجعل هذا التأويل يتفق مع البعد الاشتقاقي للكلمة أي رد الأشياء إلى أصولها، قد يلاحظ القارئ أن ثمة تناقضاً بين المنظورين، لكن سرعان ما يرتفع هذا الاشتباه ذلك أن القراءة التأويلية للنص القرآني تتأتى من الموازنة والمعايرة بين المعاني القرآنية وليس رسومها، بمعنى أن الغوص من أجل إنشاء نص آيوي راجع بالأساس إلى الفهم الأولي وتكثره على أكثر من مستوى لتحقق الفهم وبالتالي الخلوص إلى نص آيوي، بخلاف فقه التناظر والتماثل الذي يظل مجرد استقراء ظاهري أجوف معنوياً، لا يلقي بالاً إلى تضارب المعاني مع تحقق المشترك اللفظي، بل قد يدفع القارئ السطحي إلى القفز من مستوى المشترك اللفظي إلى مستوى المشترك المعنوي، وهو عين التحريف في فهم القرآن. وهو خلاف ما يطمح إليه الأستاذ هاني ذلك وإن بقي في رحم النص القرآني إلا أن إنشاءه للنص الآيوي يظل خاضعاً لتطابق المعاني مع اختلاف الألفاظ، مما يدفعه إلى إجرائية جمعية بين الألفاظ ليخلص إلى نص آيوي آخر يتصادف وجوده حتماً في آية قرآنية أخرى. فربما بعد هذا التوضيح يكون قد ارتفع الاشتباه عند القارئ الكريم.
فالتأويل كما هو عند أنصاره، يلعب دور «مفجر دائم لمكامن النصوص. فتثوير القرآن -في ضوء ما سلف- يجعل القرآن يعاصر كل الموضوعات المتجددة، ويكشف عن أحكامه المختلفة بعدد الإحالات الاستبدالية، التي لا تحصى»([22]) فما دام «كل معنى جديد يكشفه التأويل، يكون بمثابة إحكام لمتشابه، فإنه يأخذ موقع الحكم النسبي للموضوعات المتجددة. هذا يعني أن الارتباط بالمورد الأول أمر مرفوض قطعاً؛ لأن ثمة أكثر من نزول للنص. وكل وجه يكشف عنه التأويل»([23]) فالواضح أن التأويل يضمن حيوات كثيرة للنص ويجعله معاصراً بامتياز، والحقيقة أن النص القرآني بوصفه أكمل النصوص يحمل في طياته هاته الحيوات الكثيرة فقط ينتظر من يستثمره بشكل فعلي، «فتحميل النصوص بعضاً من المعاني المحددة، هو من باب التعاصر الذي تفرضه ديناميكية النص، التي هي ديناميكية متصلة بحركة الواقع ومتغيرات الظروف»([24]) فالنص والحال كذلك يتحرك داخل دواليب التاريخ ويخضع فهمه لقهريات الزمان والمكان مما يجعله نصًّا مساوقاً لحركة المجتمع، لكن يجب ألَّا يفهم من ذلك معنى التطاول والتسيب لأن الفهم التاريخي للنص راجع ضرورة إلى رؤية المؤلف له، فإما أن النص كاشف بنفسه عن معناه قطعي الدلالة وإما أنه متدثر بالظاهر والحال أن المراد هو الباطن مما يضع القارئ أمام ضرورة الرجوع إلى تفاسير المعصومين كشفاً للباطن أو لبواطن النص وإلا اجتهد اجتهاداً من أجل استبطان النص، لكنه وفي أي حال من الأحوال ليس له أن يقف عند الظاهر لأن ذلك مخالف قطعاً لمراد مؤلف النص.
وأهمية القراءة التأويلية داخل الخطاب رغم الجنبة التأريخية تجعل من المعايشة الدائمة للخطاب قائمة في جميع الأزمان، وهو عين ما سماه الأستاذ طه بالميزة الأساسية للنص الخاتم. لكن المعايشة التي يضمنها لنا الأستاذ هاني مختلفة تماماً عن المعايشة الطهائية، قراءته تعمل على توليد فهم بـ«مضمون آيوي» أي أنه تأويل مُقَرأَن([25]) وذلك عن طريق استعمال «العملية التأويلية الاستدماجية» بخلاف «العملية التأويلية الاستبطانية» التي تنتج نصًّا آيوياً.
بمعنى أن العملية التأويلية الاستبطانية تؤدي إلى استخراج نص آيوي جديد باستبطان مجموعة من الآيات القرآنية المتواجدة فعلاً، وهي عملية فهم متكوثر بلحاظ النص. أما العملية التأويلية الاستدماجية فهي عملية إبدالية تشكل فهماً متكوثراً بلحاظ النص على ضوء الواقع. والسنة المحمدية كانت تلعب هذا الدور، إلا أنه لا ضير من استكمال هذا المنظور بالقبض على القانون الداخلي لتوليد الفهم، حتى تتجلى لنا فلسفة القراءة المحمدية للنص القرآني في الوقت الراهن، وإن بشكل تقريبي دونما الفصل بأنها عين المطابقة معها.
ﷺ الخـلاصــــة
من خلال القراءة المقارنة، نستطيع القول بأن منظور الأستاذ إدريس هاني بخصوص محاولة فهم النص القرآني يسعى إلى أن يتحقق وفق فلسفة الفهم المحمدي نفسها؛ حيث جعل الدرس والنموذج النبوي التأويلي قاعدة لفلسفة التأويل، أو على الأقل حاول أن يوضح المسلكيات الكفيلة بتحقيق ذلك. وهو مجهود معرفي يظل مهماً في هذا الباب لأنه يشكل مقاربة حداثية مبدعة وإن بمفهوم الأستاذ طه عبدالرحمن، تضع مجمل التراث الإسلامي قيد المساءلة والبحث وإعادة التصويب والتنقيب. بخلاف منظور الأستاذ طه عبد الرحمن الذي ظل غامضاً بل ومناقضاً لأوَّلياته المعرفية، أي أنه منظور تراثي في العمق بلغونة حديثة. ولهذا السبب بالذات يظل مجهوده المعرفي لا يناقض ولا يؤرق النصوصيين لأنه يتفق معهم على مستوى الهدف والخلاصات، وإن اختلف عنهم على مستوى اللغة. فربما حاكمية الزمن كان لها دورها في إلزام الأستاذ طه عبد الرحمن على إعادة إنتاج تراث الكتب الصفراء بلغة حديثة من جهة تقريب الأفهام والأذواق المعاصرة لمعميات الخطاب التراثي، ولم لا؟ أوَليست إعادة إنتاج الإشكالات نفسها والأزمات نفسها هي عين الرؤية الخلفية للمعضلة المعرفية التي نعيشها؟ أوَليست قراءة الأستاذ طه الآفاقية هي أزمة معرفية أخرى تنضاف إلى أزمات هذا العقل المريض المسمى العقل العربي.
([1]) طه عبد الرحمن: روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، منشورات المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى سنة 2006 الصفحة 175.
([10]) لأن اسم الكتاب الحقيقي بالفارسية «قبض وبسط تئوريك شريعت» أي القبض والبسط النظري للشريعة، وإنه ليس خفيًّا الفرق في وقوع الانقباض والانبساط على المستوى المعرفي للشريعة (والحال أن المقصود هو الدين عند سروش) وبين الانقباض والانبساط للشريعة نفسها. لكنه وبغض النظر على أن هذا الخلل من عن المترجمة إلا أن موضوعات الكتاب لا علاقة لها بقراءة النص القرآني وربما إيضاح بعض مواضيع الكتاب لأكبر دليل على ما نقول. الباب الأول: لب لباب نظرية القبض والبسط النظريين في الشريعة، الباب الثاني: القبض والبسط النظريان في الشريعة، الباب الثالث: في موانع فهم نظرية تكامل المعرفة الدينية (لاحظ أن المترجمة تداركت الإغفال في صدر البحث، وإن كنا لا نفهم لماذا لم تنتبه لهذا الخلل في عنوان الكتاب). فمواضيع البحث متعلقة بالمعرفة الدينية وأثر المعارف الإنسانية عليها اتساعاً وضيقاً، وخلوص المفكر إلى أن المعرفة الدينية تعرف سيلاناً وأنها نسبية بالإطلاق.
([13]) إدريس هاني: الإسلام والحداثة - إحراجات العصر وضرورات تجديد الخطاب، منشورات دار الهادي ضمن سلسلة: فلسفة الدين والكلام الجديد الطبعة الأولى 2005 الصفحة 294.
([19]) غلام حسين إبراهيم ديناني: حركة الفكر الفلسفي في العالم الإسلامي، الجزء الثاني منشورات دار الهادي الطبعة الأولى 2001 الصفحة 430.