عبدالجبار الرفاعي*
- رسالة دكتوراه فـي الفلسفة
- إعداد الباحث: عبدالجبار الرفاعي
- إشـراف: د. محسن جـوادي
- الموسم الجامعي: 2004 - 2005م
- جامعة قم -
كلية الدراسات العليا
تقع الأطروحة في حدود 1000 صفحة، وتضم ثلاثة أبواب، يتناول الباب الأول «تحديث الدرس الكلامي»، فيما يتناول الباب الثاني «تحديث الدرس الفلسفي». وأشار الباحث إلى أنه إنما قدم علم الكلام لأنه اكتشف تقدم النواة الجنينية للتفكير الاعتقادي منذ عصر البعثة، وتناميه بالتدريج، بعد تفشي الصراعات بين المسلمين وولادة الفرق، ثم تبلور هذا النمط من التفكير في علم الكلام لاحقاً. أما الفلسفة فتأخر ظهورها في الحياة الإسلامية، ولم نتعرف على أول فيلسوف مسلم إلا في القرن الثالث الهجري، وهو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي المتوفى منتصف هذا القرن.
واتخذ من التراث الكلامي للإمام الشهيد محمد باقر الصدر، الذي كان أحد أبرز الأعلام في الحوزة العلمية في النجف الأشرف في القرن الرابع عشر الهجري نموذجاً لتحديث التفكير الكلامي.
كما اتخذ من الجهود الفلسفية للعلامة الطباطبائي نموذجاً لتحديث التفكير الفلسفي، وهو الذي نشأ وتعلم في الحوزة العلمية في النجف، لكنه انتقل إلى الحوزة العلمية في قم، عبر تبريز، أستاذاً ومؤسساً لأهم حلقة فلسفة إسلامية في المئة سنة الأخيرة في البلاد الإسلامية.
وفي الباب الثالث عمد إلى انتخاب أحد أهم نصوص الدرس الفلسفي اليوم في الحوزة العلمية، وهو كتاب «بداية الحكمة» للعلامة الطباطبائي، فعمل على تحليله وبيانه ونقده وتقويمه، ليتجلى بوضوح المنجز الفلسفي للطباطبائي، ونمط المتون السائدة في الدرس الفلسفي في الحوزة العلمية اليوم، وأثرها في تنمية التفكير العقلي، وما يكتنفها من ثغرات وقصور.
يضم الباب الأول في هذه الرسالة خمسة فصول، فقد بحث الفصل الأول مفهوم علم الكلام وتسمياته المتنوعة في التراث، ونشأته، وعرض عدة آراء في بيان سبب التسمية، وخلص إلى أنها ربما نشأت من كون (مسألة الكلام الإلهي كانت أشهر مباحثه وأكثرها نزاعاً وجدلاً...) لولا أن مصطلح الكلام ورد في بعض الآثار قبل احتدام الجدل حول كلام الله.
كما وردت الإشارة في هذا الفصل إلى ثلاث وظائف لعلم الكلام، تتمثل في البرهنة على المعتقدات، ودحض الشبهات والإجابة عن الإشكالات، مضافاً إلى تبيين الأصول العقائدية وتشخيص الحدود بينها وبين ما سواها من عقائد أخرى.
وتحدث عن نشأة علم الكلام عند الشيعة ومنابع إلهام المنحى العقلي في التفكير الشيعي، المستمدة من القرآن الكريم، وميراث أهل البيت (عليهم السلام)، وتطور المنحى العقلي لاحقاً باستلهام تجارب حضارات أخرى. ثم صنّف أزمنة علم الكلام إلى خمسة عصور، هي:
1- عصر الكلام الحديثي أي المستند إلى الحديث والسنة.
2- عصر الكلام العقلي.
3- عصر الكلام الفلسفي.
4- عصر انكماش التفكير الكلامي.
5- عصر إحياء وتحديث علم الكلام.
أما الفصل الثاني فبحث قصور علم الكلام، ومناهضة أهل الحديث لهذا العلم منذ الأيام الأولى لنشأته، ووصفهم لمن يتعاطى الكلام بالمبتدع. وأوجز أبعاد القصور في التراث الكلامي الكلاسيكي بعدة عوامل.
وبعد أن دلّل على عجز البنية التقليدية لعلم الكلام، تحدث في الفصل الثالث عن ضرورة تحديث التفكير الكلامي، ومبررات الاجتهاد في علم الكلام، وموقف المتكلمين المتمثل بمنع التقليد في أصول الدين، ذلك أن هذا اللون من التقليد يفضي إلى تعطيل العقل، وشيوع نزعة نصوصية أخبارية، تسعى لفهم النصوص فهماً حرفياً، ولا تدرك ما ينطوي عليه الواقع من تعقيد والتباس، لكن تحديث التفكير الكلامي يستوعب غربة الواقع بأزماته ومشكلاته المزمنة، كما يتجاوز غربة التراث، باعتبار التراث يعود إلى واقع مضى، وأن الإصرار على استدعائه بتمامه يعني استدعاء ذلك الواقع، وبالتالي إلغاء عنصري الزمان والمكان، ونفي الصيرورة والتحول، والنزوع نحو سكونية لا تاريخية، يتكرر فيها الماضي والحاضر والمستقبل، وتغدو عملية التقدم هروباً من العصر، وتوغلاً في الماضي، واستئنافاً للأفكار والمواقف والنماذج التاريخية ذاتها. وتتجلى أهمية الاجتهاد في علم الكلام في إصراره على التمييز بين الإلهي والبشري، بين المقدس والدنيوي، بين الدين ومعرفة البشر للدين، بين العقيدة وإدراك الإنسان لها.
أما الفصل الرابع فقد تناول معالم المشروع الإصلاحي للسيد الشهيد محمد باقر الصدر، ومنجزه المعرفي في مختلف العلوم الإسلامية، ففي تفسير القرآن سعى إلى تجاوز الرؤية المشتتة للآيات القرآنية في التفسير التجزيئي، الذي يعمد إلى تفسير القرآن بدءاً من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، آية آية، حسب موقعها في الكتاب الكريم.
وعمل الشهيد الصدر على بناء مرتكزات منهاجية للتفسير الموضوعي التوحيدي، الذي يوحّد بين التجربة البشرية والقرآن، ويصوغ المركب النظري القرآني حيال متطلبات الحياة المتنوعة. وفي الفقه استطاع الصدر أن ينتقل بالفقه من فقه الفرد إلى فقه المجتمع والدولة، ومن فقه الفتاوى إلى فقه النظرية، الذي اعتبره (ضرورة من ضرورات الفقه)([1])، كما اهتم في دراساته الفقهية بالاعتماد أحياناً على استبطان الحالة النفسية للفقيه وخلفياته ومسبقاته الذهنية. ولعل المنجز الأهم للشهيد الصدر يتمثل باكتشافه لمذهب جديد في تفسير كيفية نمو المعرفة وتوالدها، غير ما كان معروفاً بين المذهبين التجريبي والعقلي، أسماه بـ(المذهب الذاتي للمعرفة)، إذ انتقل بمسألة المنهج الاستقرائي من منهج القياس الأرسطي إلى منهج الاستقراء القائم على حساب الاحتمالات.
وبحث الفصل الخامس دور الشهيد الصدر في تحديث التفكير الكلامي، وسعيه لاستبدال منهج الكلام التقليدي في الاستدلال على وجود الله تعالى والنبوة بمنهج الدليل الاستقرائي، ذلك أن الدليل الاستقرائي حسبما يرى «أقرب إلى الفهم البشري العام، وأقدر على ملء وجدان الإنسان -أي إنسان- وعقله بالإيمان من البراهين الفلسفية ذات الصيغ النظرية المجردة، التي يقتصر معظم تأثيرها على عقول الفلاسفة وأفكارهم»([2]).
مضافاً إلى محاولة الشهيد الصدر الرائدة في بيان وتحليل المضمون الاجتماعي لأصول الدين، وكيف يغدو التوحيد محوراً للاستخلاف، والدولة، والحرية، والتنمية، والعدالة الاجتماعية، ومن ثم تحديد مسار التاريخ، وتوجيه حركة المجتمع في مسار ممتد لا تنفد إمكانات وفرص التطور فيه، عندما يتخذ المجتمع الله تعالى هدفاً ومثلاً أعلى في سيره.
وبحث في الباب الثاني (تحديث الدرس الفلسفي) في أربعة فصول، تناول الفصل الأول مفهوم الفلسفة والفلسفة الإسلامية، وأشار إلى مكانة التفكير الفلسفي، وكيف أن القضايا الكبرى في الفكر البشري هي قضايا فلسفية، وأن قوانين العلوم الطبيعية ترتكز على مسلمات ومبادئ فلسفية، مثل مبدأ استحالة اجتماع النقيضين، ومبدأ العلية، ومبدأ الانسجام والتماثل بين العلة والمعلول وأن الأمور المتماثلة في الحقيقة لابد أن تكون مستندة إلى علة مشتركة.
وأشار هذا الفصل إلى مدارس الفلسفة الإسلامية بإيجاز، فتحدث عن المدرسة المشائية، والإشراقية، وأخيراً الحكمة المتعالية، وهي المدرسة التي أشاد أركانها محمد ابن إبراهيم القوامي الشيرازي المعروف بصدر المتألهين ت 1050هـ. وهي آخر مدرسة فلسفية ظهرت في بلاد الإسلام. ودلل على أن الفلسفة في ديارنا لم تنطفئ بعد ابن رشد، مثلما يقول معظم الباحثين في تاريخ الفلسفة الإسلامية، بل تواصلت في مشرق العالم الإسلامي، من خلال انبثاق مدرسة جديدة في القرن الحادي عشر الهجري، هي الحكمة المتعالية، وهي المدرسة التي ساهم بتجديدها السيد محمد حسين الطباطبائي المعروف بالعلامة الطباطبائي في هذا العصر.
وفي الفصل الثاني درس نشأة ومسار الدرس الفلسفي في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، والتي دشنها الشيخ الطوسي ت460هـ، الذي استقل بأستاذية علم الكلام في بغداد، قبل هجرته إلى النجف سنة448هـ، عندما جعل له الخليفة العباسي القائم بأمر الله كرسي الكلام.
وقد تميز الشيخ الطوسي بغزارة إنتاجه الفكري، واعتماده أدوات المنطق وآليات البحث الفلسفي، حتى في مؤلفاته الإصولية والفقهية، فضلاً عن آثاره العديدة في المعقول.
وفي سنة 751هـ توطن النجف السيد حيدر الآملي، الذي ألف ستة وعشرين كتاباً ورسالة، تنتظم بمجموعها في محاولة لإعادة تدوين الحكمة العرفانية لمن سبقه، لاسيما الشيخ محيي الدين بن عربي، في إطار تأويل تراث أهل البيت، وتأويل القرآن الكريم. وتعبر جهود الآملي عن محاولة جادة لترسيخ المنحى التأويلي في التراث الإمامي. وقد مهّد هذا المنحى لولادة اتجاه متميز بعد فترة، ثم تعاظم دور هذا الاتجاه لدى الشيعة الإمامية بمرور الزمان، ولم تجهضه الردود والحملات التي يشنها المحدثون والفقهاء.
وعبر دراسته لمدرسة النجف الفلسفية تجلت أربعة أدوار تنامى فيها الدرس الفلسفي في حوزتها العلمية. كذلك كشف عن التفاعل بين الفلسفة والعلوم الشرعية، وتغلغل البحث الفلسفي في أصول الفقه والفقه والتفسير.
وخلص إلى أن مدرسة النجف الفلسفية كانت هي المدرسة الأم، التي شع منها الدرس الفلسفي في القرن الرابع عشر الهجري إلى حواضر علمية هامة في البلاد الإسلامية، فأوقد فيها جذوة التفكير العقلي، وأشاع تداول دراسة وتدريس الفلسفة، فكان الدرس الفلسفي قد ازدهر في الحوزة العلمية في قم بعد هجرة العلامة الطباطبائي إليها، وهو الذي كان قبل ذلك قد تعلم الفلسفة في الحوزة العلمية في النجف، متلمذاً على أساتذة معروفين، كالسيد حسين البادكوبي، والشيخ محمد حسين الاصفهاني.
وتمحور الفصل الثالث على دور العلامة الطباطبائي في تحديث التفكير الفلسفي، وأوضح الأسس المنهاجية التي يرتكز عليها البحث الفلسفي لدى الطباطبائي، كما بحث في هذا الفصل مكاسب الحلقة الفلسفية النقاشية التي أسسها في قم مع مجموعة من تلامذته، واصطلح عليها الرفاعي بـ«حلقة قم الفلسفية». كذلك أشار إلى الحوار الفلسفي المعمق بين الطباطبائي وهنري كوربن في طهران. وبعد مراجعة موسعة وتحليلية لآثار الطباطبائي تجلت إبداعاته الفلسفية، ومساهماته في تطوير الدرس الفلسفي، وإعادة بناء التفكير الفلسفي في الحوزة العلمية، وأوجز أهم تلك المساهمات فيما يلي:
1- الاستناد إلى البرهان في البحث الفلسفي.
2- التفكيك بين الإدراكات الحقيقية والإدراكات الاعتبارية.
3- التسلسل المنهجي للمسائل وتنظيمها تنظيماً منطقياً متسقاً.
4- التصوير الدقيق للمسائل.
5- بيان المسائل بصورة موجزة مكثفة.
6- تحرير البحث الفلسفي من الطبيعيات الكلاسيكية.
7- تصحيح نسب المسائل الفلسفية واكتشاف إبداع الفلسفة الإسلامية.
8- الكشف عن المناهل الأصيلة للفلسفة الإسلامية.
9- استلهام الفلسفة الإلهية من الكتاب والسنة.
10- اعتماد منهج البحث المقارن.
11- تجسير العلاقة بين الفلسفة الشرقية والغربية.
12- الدقة والإيجاز والوضوح في التدريس.
13- تقرير برهان الصديقين ببيان جديد.
14- استنتاج مجموعة نتائج من القول بالحركة الجوهرية.
15- تنسيق وتنظيم مباحث نظرية المعرفة في الفلسفة الإسلامية بشكل منطقي.
وخلص إلى أن جهود الطباطبائي الواسعة انتزعت الفلسفة الإسلامية من كهوفها، وتوغلت بها في عمق الهموم المعرفية لعصرنا وإشكالياته العقلية، ذلك أنه مفكر رائد تولى إعادة بناء الفلسفة الإسلامية، وإعاد ترتيب مسائلها في سياق المتطلبات المعرفية الراهنة.
وجاء الفصل الرابع ليتناول حاضر الدرس الفلسفي في الحوزة العلمية، عبر الحديث عن مكاسب هذا الدرس، وتميّز الحوزة العلمية عن الحواضر العلمية التقليدية في حرصها على دراسة وتدريس الفلسفة والعرفان النظري، وتنامي عدد التلامذة المنخرطين في دراسة الفلسفة والعرفان باستمرار، وغزارة الإنتاج الفكري في هذا الحقل. كما تحدّث عن مشاكل وعوائق مازالت تكتنف الدرس الفلسفي في الحوزة العلمية، وحددها فيما يلي:
1- قصور الأسلوب التقليدي في دراسة الفلسفة.
2- اختصار الفلسفة الإسلامية بصدر الدين الشيرازي.
3- الارتهان في المشاغل التقليدية للتفكير الفلسفي.
4- عدم متابعة إنجازات الفلسفة والعلوم الإنسانية الغربية المعاصرة.
أما الباب الثالث في هذه الرسالة، فهو عبارة عن محاولة لبيان وتحليل ونقد ومراجعة ومناقشة وتقويم أبرز متن متداول في الدرس الفلسفي في الحوزة العلمية، وهو كتاب «بداية الحكمة» للعلامة الطباطبائي، فقد تناول ما ورد في هذا الكتاب بالبيان والتحليل والتفكيك والمراجعة التقويمية والنقد، باعتبار كتاب «بداية الحكمة»هو النص الفلسفي الذي يصوغ التفكير الفلسفي لتلامذة ودارسي الفلسفة في الحوزة العلمية. فمعرفته، وبيان مقولاته، وتجلية مفهوماته، ومراجعتها، ونقدها، من أفضل السبل للتعرف على راهن الدرس الفلسفي في الحوزة العلمية، وهو خير وسيلة لمواكبة العلامة الطباطبائي واكتشاف منجزه المعرفي في واحد من أهم آثاره الفلسفية.