د. محمد بن صالح العلي(([1]))
لاشك في أن المتأمل لأحوال الأمة الإسلامية اليوم يدرك خطورة ما هي عليه من الافتراق والتشرذم، وأصبح هذا المشهد مؤرقاً لكثيرٍ من العلماء والمفكرين والدعاة والمصلحين، ولذا ليس غريباً أن يتنادي المسلمون اليوم إلى الحوار فيما بينهم لتضييق مجال الفرقة وتجسيد مبدأ الوحدة الإسلامية.
لقد مرّت الأمة بقرون ساد فيها التأزم المذهبي والطائفي، وبلغت الأمة مرحلة بائسة من التعصب والتفرّق والمذهبية المنغلقة والطائفية المتشنجة مما يستدعي المراجعة وإعادة النظر والبحث عن المخرج ووضع الخطط والبرامج التي تكفل بعودة الأمة إلى الانفتاح والحوار بين المذاهب والفرق ومد الجسور بين أبناء الأمة.
إن الاختلاف طبيعةٌ بشرية وسنة اجتماعية لا يمكن إلغاؤها، ولا يمكن جمع الناس على رأي واحد، يقول المولى عن هذه السنة: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}. فالناس يتفاوتون في عقولهم ومداركهم، ويختلفون في بيئاتهم الثقافية والاجتماعية التي نشؤوا فيها، يقول القاسمي رحمه الله في كتاب (الجرح والتعديل): «إن كل فكر يختلف عن الفكر الآخر باختلاف المنشأ والعادة والعلم والغاية، وهذا الاختلاف طبيعي في الناس، وما كانوا قط متفقين في مسائل الدين والدنيا».
إن الذين لا يريدون وقوع الخلاف بين الناس، ولا يتحملون منهم ذلك، ويضيقون ذرعاً بالخلاف لم يفقهوا هذه السنة البشرية، فلا يمكن أن يكون الناس نسخة واحدة وعلى رأي واحد؛ لأن الإنسان مادام له عقل يفكر به فلا بد أن يكون له رأي يميل إليه، والرأي ينتج عنه الاختلاف لاختلاف العقول وتنوع الآراء.
وأيضاً من الأسباب التي تؤدي إلى الاختلاف اختلاف البيئات الثقافية، فإن الإنسان يعيش في بيئة معينة يتلقى منها دينه ومذهبه الفقهي والعقدي فينشأ على ذلك المذهب، فمن نشأ في بلد تسود فيه عقيدة الشيعة أو الأشاعرة لا بد أن يتأثر بما يسود في بلده، ومن نشأ في مجتمع يسود فيه المذهب المالكي فإنه سينزع إلى هذا المذهب، فالإنسان ابن بيئته يتلقى عقيدته ومذهبه من بيئته ومجتمعه، يقول ابن القيم رحمه الله: «فيربّى الرجل على المقالة، وينشأ عليها صغيراً، فيتربى قلبه ونفسه عليها، كما يتربى لحمه وعظمه على الغذاء، ولا يعقل نفسه إلا عليها، ثم يأتيه العلم وهلة واحدة يريد إزالتها وإخراجها من قلبه، وأن يسكن موضعها، فيعسر عليه الانتقال، ويصعب عليه الزوال».
وعلينا أن نلحظ أمراً آخر وهو أن من الطبيعي أن ينحاز الإنسان إلى مذهبه وطائفته، يقول القاسمي رحمه الله: «ومن عادة صاحب كل فكر أن يحب تكثير سواد القائلين بفكره، ويعتقد أنه يعمل صالحاً ويسدي معروفاً، وينقذ من جهالة ويزع من ضلالة...، والمخلص في فكر ما، إذا أخلص فيه يُناقش بالحسنى ليتغلب عليه بالبرهان لا بالطعن وإغلاظ القول وهجر الكلام». ومع اعترافنا بهذا الانحياز إلا أنه ينبغي أن نربي أنفسنا وأتباعنا على التجرّد وعدم المبالغة في التحيز والنظر إلى الرأي الآخر بإنصاف وعدل، يقول ابن القيم رحمه الله: «وكل أهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومقالة مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومن رزقه الله بصيرة فهو يكشف بها حقيقة ما تحت تلك الألفاظ من الحق والباطل، ولا تغتر باللفظ كما قيل:
تقـول هذا جنا النحـل تمدحـه |
وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير |
مدحاً وذمًّا وما جاوزت وصفهما |
والحق قد يعتريه سوء تعبير |
فإذا أردت الاطلاع على كنه المعنى، وهل هو حق أو باطل فجرّده من لبس العبارة، وجرّد قلبك عن النفرة والميل، ثم أعطِ النظر حقَّه ناظراً بعين الإنصاف، ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه ويحسن الظنّ بها، ثم ينظر في مقالة خصومه ويسيء الظنّ بها، فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ، والناظر بعين المحبة يرى المساوىء محاسن».
إن وجود ظاهرة الاختلاف المذهبي أمر طبيعي -كما ذكرنا-، ولكن هذا الاختلاف قد يتحول إلى نزاع وصراع، ويكون سبباً في تفرق الأمة وتشرذمها وضعفها؛ ولذا لابد من أن يضبط هذا الخلاف بضوابط وأن ترسم له الحدود والآداب، فالصحابة اختلفوا في كثير من المسائل، ولكنهم لم يتفرقوا ولم يتنازعوا، بل ضبطوا خلافهم بالضوابط الشرعية والأخلاقية.
إن من أهم وسائل علاج داء الفرقة والتمزق المذهبي والطائفي هو إشاعة ثقافة الحوار بين المذاهب والطوائف الإسلامية، أن نفتح الحوار الداخلي بين المذاهب والفرق، والحوار منهج فكري له امتدادات بعيدة، وله مستويات عديدة:
* فهناك الحوار مع الذات، ويتضمن مزيداً من التأمل في الرأي ومراجعة النظر وتقليب الفكر فيه.
* وهناك الحوار مع الموافقين والأتباع والمؤيدين لتبين ما عندهم من حجج وبراهين، وتبين مواضع الضعف والقوة في رأيهم ومذهبهم الذي اتفقوا عليه.
* وهناك الحوار مع المخالفين ومعرفة ما لديهم من آراء وحجج وبراهين، مع سعة الصدر في التعرف على الرأي المخالف وتفهمه، وتفهم منطلقاته.
* وهناك الحوار مع التراث. ونقصد به الحوار مع عقول الآباء وآراء علماء المذهب السابقين، لنتعلم منهم ونقبل منهم ما يقبل، ونردّ عليهم ما أخطؤوا فيه، ونتحرر من تقديس آرائهم.
وينبغي الإشارة إلى أننا نسمع الكثير من العلماء والدعاة والمفكرين يتحدثون عن أهمية الحوار وشروطه ومقوماته...، ولكن المشكلة أن هذا الحديث يبقى في النطاق النظري دون تنزيل ذلك على واقع الأمة من خلال وضع الخطط والآليات ورسم البرامج العملية التي تكفل قيام الحوار بين طوائف الأمة، فكثيراً ما يتحدث المسلمون عن الحوار والتفاهم نظرياً، وفي الجانب العملي يكون النزاع والشقاق والمواجهة الدموية والعسكرية.
إن أمتنا تعيش احتقاناً طائفياً وتعصباً مذهبياً يدفعها إلى التنازع والشقاق والتفرق، وقد يظهر هذا الاحتقان في صورة صراع أو حرب طائفية، ومن يتابع أحوال العراق يدرك مدى الأزمة العاصفة، ولا مخرج لنا من هذا الاحتقان ومن هذه الأزمة إلا بفتح أبواب الحوار بين الطوائف وبين المذاهب الإسلامية.
إن من الملاحظ على أتباع الفرق والمذاهب الإسلامية وجود فجوة واسعة بينهم، وأنهم يتعاملون فيما بينهم بسلبية وبروح عدائية، وهذا الأمر يستوجب من العلماء والدعاة والقادة أن يتنبهوا إليه قبل أن يستفحل، وأن يسعوا إلى تقريب الفجوات وبناء جسور التفاهم والتعاون بين أولئك الأتباع؛ ولذلك فإننا نوجّه الدعوة إلى علماء المسلمين وقادتهم إلى أن يُولوا الأمر أهميته، وأن يضعوا استراتيجية عملية لتفعيل الحوار البناء بين مختلف الطوائف والفرق.
* منهجية الحوار
إذا أردنا للحوار أن يُؤتي أُكله وأن تكون له نتائجه الإيجابية فلا بدّ من أن يعتمد على منهجية واضحة، وأن يكون منضبطاً بعدة ضوابط، من أبرزها ما يلي:
أولاً: اللغة الهادئة والعبارة المناسبة
هناك طريقتان للحوار: طريقة العنف التي تعتمد على مواجهة المحاور بأشد الكلمات وأقسى العبارات، بحيث يتم التركيز على إهانة المحاور وعدم مراعاة مشاعره. ولا شك أن هذه الطريقة تُشعل العداوة والبغضاء ولا تُوصل المتحاورين إلى نتائج إيجابية.
والطريقة الأخرى تعتمد على اللين والرفق والعبارة الهادئة والكلمات الطيبة، وهذا الأسلوب هو الذي دعا إليه الإسلام، كما في قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} يقول سيد قطب في تعليقه على الآية: «النفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تراه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة، وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي الذي تتبناه وقيمتها عند الناس، فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلاً عن هيبتها واحترامها وكيانها، والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة»([2]).
ثانياً: توفر الحرية الفكرية للمتحاورين
إذا أردنا للحوار أن ينتهي إلى نتيجة يُسلِّم بها الطرفان فلا بد من توفير الحرية الفكرية لهما، وتحقيق الاستقلال الفكري بحيث لا يكون واقعاً تحت هيمنة الإرهاب الفكري والنفسي الذي يشعر معه بالانسحاق أمام شخصية الطرف الآخر.
إن عدم توفير أجواء الحرية الفكرية يجعل ثقة المحاور بنفسه تضعف شيئاً فشيئاً حتى يفقد بعد ذلك ثقته بفكره ورأيه، كما أن ذلك يعمل على إرباك المحاور وتشتيت أفكاره فبدلاً من أن يستحضر حججه وبراهينه يجد فكره مشغولاً بحماية نفسه والدفاع عن شخصيته.
ثالثاً: الاستعداد النفسي للاقتناع بالنتائج
لكي نضمن الوصول إلى نتائج إيجابية لابد من أن يكون المتحاوران على استعداد نفسي لتقبل النتائج التي يؤول إليها الحوار، ويهيئ كلٌّ منهما عقله للاقتناع بها؛ لأن رفض النتائج وعدم تقبلها يقلب الحوار إلى جدل عقيم، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي: «ما ناظرت أحداً إلا قلت: اللهم أجرِ الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتَّبعني، وإن كان الحق معه اتبعته» وقال أيضاً: «والله لا أبالي ظهر الحق على لساني أو على لسان صاحبي».
فإذا تبيَّن الحق وظهرت الحجة لزم التسليم بها وعدم المكابرة في ذلك.
إن طبيعة الحوار تقتضي الإعلان من الطرفين عن الاستعداد التام للكشف عن الحقيقة والأخذ بها عند ظهورها، وقد أكد القرآن على ابتعاد المحاور عن التعصب لفكرة مسبقة، وذلك عندما وجَّه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يقول للمشركين في محاورته لهم {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}.
رابعاً: عدم التعصب للمذهب أو للطائفة
التعصب يعني الانتصار والانحياز للمذهب او للطائفة وتخطئة الآخرين، فالمتعصب تنحجب عنه الرؤية الموضوعية، فهو لا يرى إلا محاسن مذهبه ورأيه، ومساوئ المخالف وأخطاءه، ومن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية أن الخوارج يجعلون المدن والبلاد التي لا تظهر فيها أقوالهم دار ردة، وأنها أسوأ من مدن الكفار والمشركين، وقول بعض الحنابلة: «كل من ليس حنبلياً فليس بمسلم»، وقول بعض الشافعية: «ما رأيت قوماً أشبه بالنصارى من أصحاب أبي حنيفة». ويقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: «أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جهلة أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإذلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها».
خامساً: توفير الأجواء الهادئة والبعد عن الإثارة العاطفية والانفعال
من المشاهد الحوارية المزرية ما نراه في بعض المحافل وفي بعض الفضائيات، وذلك حينما يتم الحوار بين اتجاهين متناقضين أو رأيين مختلفين، والتي غالباً ما يسودها الضجيج والصياح والاستخفاف بعقل المشاهد والسامع والمشارك، والتي هي أقرب إلى (المناقرة) وصراع الديكة منها للحوار الهادئ. إنها ملاكمة ومصارعة لكنها بالكلمات. فمثل هذا الحوار يثير الأحقاد ويزيد الفرقة، ومثل هذه الحوارات لا تعالج ولا تقرّب الفجوات؛ بل هي أقرب إلى الإثارة الإعلامية وأدعى إلى تمسك كل طرف برأيه ومذهبه.
* قضية هامة
كثيراً ما تبدو الثوابت كأنها حجر عثرة في وجه الحوار. ونعني بالثوابت المسائل العقدية التي وقع فيها الاختلاف بين طوائف الأمة، فقد يتقبل الحوار بين المذاهب الفقهية كالحنابلة والشافعية...، ولكن تقفل أبواب الحوار أو تضيق بين الشيعة والسنة، أو بين الصوفية والسلفية... بحجة أن الخلاف بينهم في الأصول والقضايا الكبرى وأنه لا يمكن الالتقاء بين هذه الطوائف. والحقيقة أن هذا مخالف لما كان عليه الصحابة والعلماء الراسخون، فقد روت لنا كتب التاريخ محاورات شهيرة بين أهل السنة وغيرهم من الطوائف كمحاورة ابن عباس المشهورة للخوارج، فمنهج الحوار مفتوح بين جميع الطوائف والمذاهب، وما أحوج المسلمين اليوم إلى فتح باب الحوار المنضبط بالضوابط العلمية والشرعية والأخلاقية.