* مفتتح
على المستوى التاريخي لم يكن التعدد الفقهي والمذهبي في التجربة التاريخية الإسلامية مظهراً من مظاهر الانقسام والتشظي في الدائرة الإسلامية، بل دليل حيوية عقلية وفكرية ومناخ اجتماعي حر ومنفتح، أدّى إلى تطوير عملية الاجتهاد، ونشوء الاتجاهات الفقهية والفكرية والسياسية في الدائرة الإسلامية.
«وعلماء المسلمين يدركون بعمق وهم يسعون للتقريب بين المذاهب أن المذهب في الإسلام لم يكن في نشأته الأولى مظهراً لانقسام المسلمين وتوزعهم، وإنما كان تعبيراً عن حيوية عقلية وعملية، أدت إلى تشعب الآراء ونشوء التيارات المنهجية في استنباط الأحكام الشرعية ودلالات النصوص، على النحو الذي أغنى الإسلام عقيدة وشريعة، وأتاح للمسلمين أن يمارسوا أعمق أشكال الحوار المستند إلى المنطق والعلم. فسجلوا في تاريخ الفكر الإنساني وتطوره مأثرة الاستماع للرأي الآخر واحترامه»([1]).
ولكن وبفعل عوامل سياسية وثقافية وتاريخية عديدة تحوَّل هذا التعدد المذهبي إلى فضاء للصراع والتناحر وإضعاف جسم الأمة. ودون الدخول في بحث تاريخي يوضح طبيعة الإشكاليات والعوامل والأسباب، التي حوّلت التعدد المذهبي من مؤشر على حيوية الأمة في فكرها وعلمها واجتهادها إلى بيئة للاحتراب الداخلي. إننا بحاجة أن نبحث في التجارب الإسلامية التي عملت على ردم الهوة والفجوة بين المسلمين، وسعت لصياغة وعي المسلمين بعيداً عن السجالات المذهبية ومماحكاتها التي تزيد الأحن وتوغر الصدور.
ولا شك أن ظاهرة التعدد المذهبي في الدائرة الإسلامية أثارت ولا زالت الكثير من الأسئلة والتحديات، ولا بد من العمل لبلورة إجابات حقيقية وعميقة لهذه الأسئلة والتحديات.
فليس صحيحاً أن نهرب من أسئلة التنوع وتحديات التعدد برفضها، والركون إلى الفكر الأحادي والواقع الذي يقمع كل تنوع ويستأصل كل تعدد. لذلك من الضروري أن نتعاطى مع ظاهرة التعدد في المذاهب الإسلامية على أساس أنها من الظواهر التي تثير الكثير من الأسئلة، وتطلق جملة من التحديات. وواجبنا الفكري والأخلاقي يقتضي احترام هذا التنوع والتعدد، والبحث عن إجابات للأسئلة والتحديات التي تطلقها هذه الظاهرة التاريخية والإنسانية.
* نقد مفهوم التقريب
في لحظة زمنية حساسة، حيث تكالب الأعداء على الأمة من كل حدب وصوب؛ انبرى جمع من مفكري الأمة ومصلحيها للرد على هذه التحديات والمشاكل بتأسيس (جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية) بشعار {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} واتخذت لها في القاهرة داراً صارت مركزاً لتلاقي الأفكار ومصدراً للتحول الإصلاحي الإسلامي في تاريخ المذاهب الإسلامية.
ولقد أصدرت الجماعة مجلة باسم (رسالة الإسلام) وواصلت الصدور سنين عديدة، واشترك في تحريرها والكتابة فيها العديد من العلماء والمفكرين والمصلحين من مختلف البلدان والمذاهب الإسلامية.
وعلى كل حال ودون الدخول في تفاصيل قراءة تجربة جماعة التقريب في القاهرة؛ فإننا نعتقد أن هذه التجربة ثرية، وقدمت خدمات جليلة للعالمين العربي والإسلامي، وأسهمت بشكل مباشر في إنهاء بعض التوترات المذهبية، وأرست معالم مدرسة إسلامية وحدوية لا زالت آثارها قائمة إلى اليوم في العديد من المؤسسات والمعاهد والمجتمعات الإسلامية.
فهي تجربة رائدة على أكثر من صعيد ومستوى. ولكننا نعتقد أن طبيعة الظروف والتحديات التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم تتطلب من جميع العلماء والمصلحين والمعاهد العلمية التفكير بخطوة مؤسسية نوعية، تساهم في معالجة ظواهر التوتر المذهبي، التي اشتركت عوامل عديدة ومتشعبة في تسعيرها وتظهيرها في المشهد العام.
وإن المطلوب اليوم ليس إعادة تجربة جماعة التقريب في القاهرة، وإنما البناء عليها، والانطلاق من النقطة الأخيرة التي وصلت إليها تلك التجربة.
وفي تقديرنا إننا بحاجة اليوم للانتقال في خطابنا وعملنا على هذا الصعيد من خطاب التقريب إلى خطاب التآخي. ومن الجهد الذي يستهدف التقريب بين المسلمين، إلى الجهد الذي يتطلع إلى تثبيت ركائز وأسس التآخي بين المسلمين في العصر الراهن.
والنقد الذي نطالب بممارسته تجاه خطاب وتجربة التقريب لا يعني القطيعة التامة معه، بل يعني استيعاب تلك التجربة والبناء عليها، وليس التوقف والجمود عندها.
ونسوق في هذا الإطار جملة من الاعتبارات التي تدفعنا إلى ضرورة الانتقال من خطاب التقريب إلى خطاب التآخي، وهي على النحو التالي:
1- إن التوجيهات الإسلامية التي توضح طبيعة العلاقة الداخلية بين المسلمين تؤكد على قيمة الأخوة والتآخي، والتعامل مع هذه القيمة بوصفها هي عنوان وطبيعة العلاقة التي ينبغي أن تسود بين المسلمين. فقد جاء في الآية القرآنية الكريمة {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}([2]).
وجاء في الأحاديث الشريفة: أن «الناس إخوان، فمن كانت أخوته في غير ذات الله فهي عداوة، وذلك لقوله عز وجل: {الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المُتَّقِينَ}»([3]).
«من أكرم أخاه المسلم بكلمة يلطفه بها، ومجلس يكرمه به، لم يزل في ظل الله عز وجل ممدوداً عليه بالرحمة ما كان في ذلك»([4]).
فالتقريب بين المسلمين على الصعد كافة هو خطوة في مشروع تركيز مبدأ التآخي بين المسلمين. لذلك فإن المطلوب اليوم ليس فقط أن نعذر بعضنا بعضاً فيما نختلف فيه، وإنما أن نختلف وتتعدد قناعاتنا ومواقفنا وأفكارنا على قاعدة الأخوة الإسلامية. فالاختلاف مهما كان شكله أو حجمه، ليس مدعاة لتفكيك ناظم العلاقة بين المسلمين وهو مبدأ التآخي. وعلى ذلك فلا ضير على المسلمين من أن يختلفوا، ما دام خلافهم في دائرته العقلية المعقولة والاجتهادية المقبولة، وإنما الضرر أن يفضي بهم الخلاف إلى القطيعة وإلى الخروج على ما تقضي به الأخوة في الدين.
2- هناك الكثير من القضايا والملفات التي تتطلب من المسلمين بمختلف مدارسهم ومذاهبهم التعاون فيما بينهم حولها، وتجاوز بعض الوقائع السياسية والثقافية والاجتماعية المضادة لعملية التعاون بين المسلمين. وكل هذا أي تجاوز العقبات التي تحول دون تعاون المسلمين مع بعضهم، والقيام بخطوات عملية في مشروع التعاون، كل هذا يتطلب بناء العلاقة الداخلية بين المسلمين على قاعدة إيمانية صلبة، وهي قاعدة الأخوة والتآخي.
ولا بد أن ندرك ومن مختلف مواقعنا أن وجود حالات توتر مذهبي بين المسلمين في أي بقعة من بقاع تواجدهم، هو الذي يجب أن يحفزنا للمزيد من العمل لتجاوز الأحن والأحقاد الطائفية، وليس الخضوع إلى منطقها ومتطلباتها. فالواقع الإسلامي اليوم مليء بصور التوتر والتناحر، وليس المطلوب أمام هذا الواقع، هو الخضوع لمتواليات التوتر والتناحر، وإنما الخروج من هذا المنطق، والعمل على تأسيس وبناء حقائق الوئام والأخوة بين المسلمين بمختلف مدارسهم ومذاهبهم.
فوجود اقتتال طائفي أو عداوة مذهبية في العراق اليوم ينبغي ألَّا يدفعنا إلى الانحباس المذهبي والتمترس والاصطفاف الطائفي. وإنما على العكس من ذلك تماماً إذ تحملنا هذه الأحداث الدامية مسؤولية العمل المتواصل لإخراج واقعنا وأمتنا من أتون التوترات والعداوات المذهبية، التي لا تخدم في المحصلة النهائية إلا أعداء الأمة.
3- إن تطوير العلاقة بين أتباع المذاهب الإسلامية على نحو إيجابي يتطلب العلم والمعرفة المتبادلة. وذلك لأن الكثير من سوء الفهم والذي توظفه بعض السلطات لمصالحها السياسية الضيقة هو من جراء الجهل المتبادل. ففي بيئة الجهل تنمو الشائعات، وتتضخم المقولات الشاذة، وتزداد الهوة والفجوة بين جميع الأطراف. ولا خيار أمامنا لتجاوز كل هذه المخاطر إلا إطلاق مشروع علمي وثقافي وإعلامي، يستهدف أن يتعرف المسلمون على مذاهب بعضهم بشكل علمي ووفق الأدلة المعتبرة لدى جميع الأطراف.
والتآخي بين المسلمين في كل الأحوال والظروف لا يُبنى إلا بالعلم والمعرفة الدقيقة. وإن الكثير من مظاهر التوتر المذهبي في العديد من الدول تعود في حقيقتها إلى غياب العلم والمعرفة المتبادلة. من هنا فإننا مع كل مبادرة وخطوة تستهدف أن يتعرف المسلمون على بعضهم بعضاً، ومع كل مشروع للتواصل المباشر الذي يزيل اللبس والهواجس لدى جميع الأطراف.
وهذا كله لا يعني أن طريق التقريب والتآخي بين المسلمين معبدة ويسيرة، وإنما هذه الطريق مليئة بالعقبات والأشواك والمحن، ولا سبيل أمامنا إلا الإصرار على طريق التآخي وتجاوز كل ما يُعكر صفو العلاقة الداخلية بين المسلمين.
وهنا من الضروري تشجيع وإشاعة الدراسات والأبحاث الفقهية والعلمية المقارنة بين مختلف المذاهب الإسلامية. ولعلنا لا نأتي بجديد حين نقول: إن الكثير من أتباع كل مذهب إسلامي يجهلون أحكام وآراء بقية المذاهب الإسلامية في العبادات والمعاملات.
ولا ريب في أن الجهل المتبادل على هذا الصعيد يساهم في الجفاء والتباعد، ويساعد على تبني مواقف وقناعات ليست علمية ودقيقة عن المذاهب الإسلامية الأخرى. لذلك ومن منطلق تأكيد خيار التآخي بين المسلمين، نؤكد على ضرورة أن نقرأ بعضنا بعضاً، ونتعرَّف على نحو علمي على قناعات وآراء المذاهب الإسلامية في مختلف المسائل والموضوعات.
و «إن دراسة الفقه المقارن تعني دراسة أسباب الخلاف بين أئمة الشريعة الإسلامية. ولا ريب أنها إن أُوليت العناية التامة، ودُرست دراسة علمية معمقة، تشمل أكثر أبواب الفقه، تحقق فوائد وآثار إيجابية شتى، من أهمها أنها تكشف عن قوة المدرك العلمي، الذي استند إليه كل من الأئمة الذين اختلفوا في بعض المسائل والأحكام الفقهية. ومن ثم فإن المستعرض لدليل كل منهم يدرك أنهم جميعاً على حق، أي أن كلًّا منهم اعتمد في ما انتهى إليه، على حجة قوية دامغة من وجهة نظره على أقل تقدير، وبذلك يكون أُعذر أمام الله عز وجل. وإنها لأفضل طريقة علمية للقضاء على أسباب العصبية للمذهب»([5]).
ولقد أجاد المرحوم السيد محمد تقي الحكيم في بيان أهمية تأسيس دراسات الفقه المقارن بين المذاهب الإسلامية، لما له من دور أساسي في التعارف العلمي ومعرفة أسس الاستنباط والمدارك العلمية للأحكام الشرعية في كتابه الموسوم بـ(الأصول العامة للفقه المقارن - مدخل إلى دراسة الفقه المقارن) والذي جاء فيه «ومن هذه المقارنة بينهما تتضح فوائد الفقه المقارن وأهمها:
1- محاولة البلوغ إلى واقع الفقه الإسلامي من أيسر طرقه وأسلمها، وهي لا تتضح عادة إلا بعد عرض مختلف وجهات النظر فيها وتقييمها على أساس موضوعي.
2- العمل على تطوير الدراسات الفقهية والأصولية، والاستفادة من نتائج التلاقح الفكري في أوسع نطاق لتحقيق هذا الهدف.
5- ثماره في إشاعة الروح الرياضية بين الباحثين، ومحاولة القضاء على مختلف النزعات العاطفية وإبعادها عن مجالات البحث العلمي.
8- تقريب شقة الخلاف بين المسلمين، والحدّ من تأثير العوامل المفرّقة التي كان من أهمها وأقواها جهل علماء بعض المذاهب بأسس وركائز البعض الآخر، مما ترك المجال مفتوحاً أمام تسرب الدعوات المغرضة في تشويه مفاهيم بعضهم، والتقول عليهم بما لا يؤمنون به»([6]).
* الإصلاح الوطني والمسألة المذهبية
فلكي تتعزز العلاقات والروابط بكل مستوياتها بين المسلمين، نحن بحاجة إلى إطلاق مشروع للتعارف المتبادل والعميق بين كل المذاهب الإسلامية. فلا علاقة متينة وصلبة دون معرفة عميقة ودقيقة متبادلة. لذلك فإن المعرفة المتبادلة هي طريق تعزيز العلاقات والروابط بين المسلمين.
ولو تأملنا في الكثير من الالتباسات التي تطغى على السطح في طبيعة الرؤية أو الموقف من الآخر المسلم، لوجدنا أن من الأسباب الأساسية لذلك هو عدم المعرفة الدقيقة بالآخر. فتتشوه رؤيتنا للآخر المسلم من جراء جهلنا لبعض خصوصياته الثقافية والتاريخية.
لذلك كله ومن أجل تعزيز العلاقات الإيجابية بين المسلمين، وتجاوز الالتباسات والإشكالات، نحن أحوج ما نكون اليوم لإطلاق مشروع علمي - ثقافي واعد يستهدف خلق معرفة علمية - متبادلة بين أهل المذاهب الإسلامية كافة. وهذه المعرفة لا تتشكل من خلال المساجلات والمماحكات المذهبية أو الكتب والدراسات التي كتبت بقلم منحاز سلفاً، وإنما بالعلاقات العلمية المتواصلة والدراسات المقارنة والتواصل المعرفي بكل مستوياته، وخلق وثيقة للتفاهم على الأسس والمرتكزات الإسلامية التي لا يحيد عنها أحد أو يتجاوزها.
من البديهي القول: إننا لا يمكننا على الصعيد العام تطوير العلاقة الداخلية بين المسلمين، وتجاوز الكثير من مظاهر وعناصر التوتر والتمييز المذهبي، دون العمل على إصلاح أوضاعنا في كل قطر عربي وإسلامي. فإصلاح الجزء هو مقدمة ضرورية لإصلاح الكل. والكثير من مظاهر التوتر، هي نابعة في بعض جوانبها من طبيعة الخيارات السياسية والثقافية المستخدمة تجاه ظاهرة وحقيقة التعدد المذهبي في بعض البلدان والدول.
فخيارات التمييز والتهميش والتغييب تنتج أزمة في طبيعة العلاقة بين المذاهب في الدائرة الوطنية الواحدة. لذلك فإن إصلاح أوضاعنا الوطنية على هذا الصعيد يساهم بشكل كبير في تجاوز الكثير من المحن وعناصر التوتر المذهبي على صعيد الأمة بأسرها.
من هنا فإننا نقول: إن التعدد المذهبي لا يشرِّع بأي حال من الأحوال ممارسة الطائفية ضد بعضنا بعضاً، بحيث يكون الانتماء المذهبي هو الذي يُحدِّد مستقبل المواطن.
فإذا كان منتمياً إلى المذهب الرسمي فإن أبواب الوظائف والمناصب في كل الحقول والميادين تكون مفتوحة أمامه. إما إذا كان المواطن ينتمي إلى مذهب آخر، فإن العديد من دوائر الحياة تغلق في وجهه ولا يسمح له بأن يقوم بخدمة الوطن في بعض المواقع والحقول. لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع إعادة صياغة العلاقة بين أهل المذاهب الإسلامية في الفضاء الوطني، هي رفض الطائفية بكل مسوغاتها وتبريراتها، التي تساهم في المحصلة النهائية في تمزيق المجتمع وتفتيت الوطن.
إننا ينبغي أن نقف ضد كل ممارسات التمييز والتهميش الطائفي والمذهبي، سواء صدرت من جهة سنية أو شيعية. ونرتكب جريمة كبرى بحق أنفسنا وبحق أمتنا حينما نُسوِّغ بعض الممارسات أو نبرر بعض السلوكيات الطائفية.
فالكراهية لا تفضي إلى الاستقرار، بل إلى التفتت والتشظي. والتمييز الطائفي بكل صوره وأشكاله لا يؤدي إلى الوحدة، بل على العكس من ذلك تماماً يهيئ المناخ لبروز كل العوامل المضادة لها.
والتعايش لا ينجز بدحر التعدد المذهبي بل بإعداد الفضاء السياسي والحضاري المناسب لكي يمارس هذا التعدد دوره في بناء الوطن وتعزيز جبهته الداخلية.
وإن إصلاح أوضاعنا الوطنية على صعيد العلاقة بين أهل المذاهب الإسلامية في الدائرة الوطنية يقتضي الالتزام بالآتي:
1- الاعتراف القانوني والسياسي بكل المذاهب الإسلامية الموجودة في كل وطن، وإعطاؤها المجال والفرصة لكي تمارس بحرية كل أعمالها وأنشطتها الثقافية والدينية والاجتماعية.
2- سنّ القوانين التي تُجرِّم وتُعاقب كل مواطن يمارس التمييز الطائفي. فلا يمكننا أن ننهي التمييز الطائفي من فضائنا الاجتماعي والوطني إلا بوجود منظومة قانونية متكاملة، تتعامل مع كل أشكال التمييز الطائفي بوصفها جرماً يعاقب عليه القانون.
3- تنقية المناهج التعليمية والتربوية والمنابر الإعلامية من كل العناصر والقضايا التي تبث الكراهية الدينية والمذهبية. فلا يمكننا أن ننهي المشكلة الطائفية من واقع العديد من الدول العربية والإسلامية إلا بإنهاء المصادر الثقافية والإعلامية التي تغذي هذه المشكلة وتمدّها بالأسباب والمبررات. فالوفاق الوطني يتطلب دائماً العمل على إنهاء كل العناصر والمفردات الثقافية والدينية والإعلامية، التي تؤسس للكراهية، وتشجّع على التمييز والتهميش على قاعدة طائفية ومذهبية.
4- بناء ثقافة وطنية جديدة، قوامها الوحدة واحترام التعدد والتنوع بكل مستوياته وصيانة حقوق الإنسان.
إن نقد الطائفية يقتضي العمل على تطوير ثقافة الوحدة والحوار والتعدد في الفضاء الاجتماعي. فلا يمكننا أن ننهي الواقع الطائفي بالشعارات المجردة والمقولات الجاهزة، بل بالبناء الثقافي الجديد، الذي يرفض العقلية الأحادية، والثقافة الإقصائية، والمناهج الاستبدادية. وذلك لأن المشكل الطائفي يستمد حيويته وفعاليته، من تلك العقلية الإقصائية والمناهج التي لا ترى إلا ذاتها وتلغي ما عداها.
لذلك فإن مواجهة المسألة الطائفية في أوطاننا العربية والإسلامية تقتضي العمل على تفتيت جذور الثقافة الإقصائية والعقلية الأحادية المتخشبة، التي لا تقبل التعدد وتحارب مقتضيات الحوار الحر والموضوعي.
من هنا فإننا مع الاعتراف التام القانوني والسياسي بالتعدديات المذهبية والفكرية والسياسية، ولكننا في الوقت نفسه ضد كل السياسات الطائفية التي تحوّل حقيقة التعدد من نعمة إلى نقمة، ومن عامل إثراء للسياسة والثقافة والاجتماع، إلى مدخل للصراعات الطاحنة التي تدمر كل المكاسب والمنجزات. والآخر المذهبي أو الفكري أو السياسي ليس مشروعاً للنفي والإقصاء المتبادل، وإنما هو مجال مفتوح وحيوي للتعارف والتفاعل والاغتناء.
إننا بحاجة إلى مواطنة مبنية على انتماء متكافئ بين متطلبات الخصوصيات وضرورات العيش والانتماء الوطني المشترك.
وإن التطلع إلى الوحدة والتآخي بين المسلمين سيبقى هو الهدف الأسمى الذي ينبغي أن تسعى إليه القوى الحية في المجتمعات العربية والإسلامية. وإن وجود حالات التوتر والتناحر المذهبي في بعض المواقع والبلدان ينبغي ألَّا يدفع النخب الواعية في الأمة إلى الاصطفافات الطائفية والمذهبية، وإنما يحملهم مسؤولية إضافية تجاه العمل لإخراج الأمة من خطر وتداعيات الفتن الطائفية التي بدأت تلوح مخاطرها في بلاد الرافدين.
وإن بناء الوحدة بين المسلمين اليوم بحاجة إلى إرادة جديدة، لتفكيك خطاب التمترس الطائفي وبلورة وإنضاج مبادرات وخطوات نوعية للوحدة والتآخي بين المسلمين، ولا بد أن ندرك وبعمق «أن البحث المجرد الموضوعي من قبل علماء ومفكري وباحثي كل مذهب وطائفة لعقائد الطوائف الأخرى ومناهجها الفقهية، سيكشف للجميع عن أن المساحات المشتركة واسعة جدًّا. أما الخلافات فيمكن الوصول في كثير منها إلى نقاط وفاق، وأما ما لا يمكن الوصول فيه إلى نقاط وفاق فيترك لكل مذهب، بحيث يكون من خصوصياته ومميزاته، ولا يجعل ذريعة لاعتبارها أساساً للخلاف والنزاع وإفساد العلاقات الإسلامية - الإسلامية»([7]).
وعبر التاريخ الإسلامي المديد نجد أن كل محاولات فرض رؤية وقسر الناس على نهج أو مذهب محدد باءت بالفشل. فكل الجهود التي بذلها المعتزلة لفرض رؤيتهم الكلامية على الأمة باءت بالفشل. والكلام ذاته ينطبق على أهل الحديث والدولة الفاطمية والدولة الأيوبية. فكل محاولات التعميم القسري للقناعات والعقائد باءت بالفشل.
وهنا من الضروري أن نذكِّر بالموقف الرائد الذي وقفه الإمام مالك بن أنس الذي رفض عرض المنصور العباسي عليه بأن يحمل الناس على الموطأ في القضاء والفتيا ويجعله للناس إماماً، ولكن الإمام مالكاً رفض هذا العرض وقال: إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار فحدثوا عند أهل كل مصر حيث حلوه، وكلٌّ مصيب.
فالاعتراف المتبادل بين أهل المذاهب الإسلامية، واحترام الرموز الدينية والتاريخية لكل الأطراف، وصيانة حقوق الجميع، هو السبيل الذي يجنبنا الكثير من التوترات والتناحرات، ويزيد من فرص الالتحام الداخلي بين المسلمين على مختلف الصعد والمستويات.
من هنا فإننا ندعو اليوم وعلى ضوء تطورات الحدث العراقي، إلى تأسيس هيئة وطنية لقضايا الوحدة والتقريب والتآخي بين المسلمين في كل بلد عربي وإسلامي. تأخذ على عاتقها التعريف بقيم الوحدة والتعددية والتسامح، والتواصل والحوار بين مختلف المكونات والتعبيرات، وإجهاض كل المحاولات التي تستهدف إذكاء النزعات الطائفية.
ومن الضروري الإدراك أن «التمذهب ظاهرة طبيعية في كل عالم ثقافي حضاري، وهو مما يتفق مع الفطرة. إننا لا نعتبر التمذهب، بالمعنى الفقهي، تمزقاً في الإسلام، بل هو منسجم مع طبيعة اختلاف الأفهام والمدارك والرؤى في ضمن الإطار الواحد الجامع. إن الاختلافات المذهبية أمر طبيعي، وهي ناشئة من الاختلاف الاجتهادي في فهم ظواهر الكتاب وفي تقييم السنة، إنْ من حيث الصدور أو من حيث الظهور. جوهر الخلاف كما آل إليه وكما يجب أن يكون فهمه في عصرنا هو هذا: أي أن الخلاف ناشئ من اعتبارات عقلية ثقافية ترجع إلى الفهم الفقهي، ولا يجوز أن تكون لهذه الاختلافات تعبيرات سياسية وتنظيمية على مستوى علاقات المواطنة وعلى مستوى علاقات المواطنين بالدولة والحكومة وموقعهم في النظام السياسي. ربما كان يوجد اعتبار سياسي في خلفيات بعض الخلافات القديمة، ولكن هذا زمن انقضى وانقطعت مقتضيات الخلاف فيه، أما الآن فيجب أن يحصر الاختلاف في المسالك والمناهج الفقهية في اختلاف فهم ظواهر الكتاب والاختلاف في السنة من حيث الصدور ومن حيث الظهور.
هذه المذاهب تتمتع بالشرعية الكاملة من كل مذهب تجاه المذاهب الأخرى، فأتباع كل مذهب يجب أن يكونوا معترفاً بهم باعتبارهم مسلمين كاملي حقوق الانتماء إلى الإسلام على مستوى الأمة وعلى مستوى مجتمعهم الوطني الخاص، ويتمتعون بكل ما تتمتع به المذاهب الأخرى من دون اعتبار لكونهم أكثرية أو أقلية، بل لا يجوز اعتبار التنوع المذهبي أساساً للتصنيف إلى أقلية وأكثرية، ويجب أن تحترم عقائدهم وأفهامهم الخاصة، وألَّا ينعكس تنوعهم المذهبي إذا كانوا أقلية على إمكانات اندماجهم في المجتمع، وعلى تمتعهم بحقوق عضوية المجتمع وعضوية الأمة في المجال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
لا يجوز أن تؤدي الاختلافات المذهبية داخل المجتمع الإسلامي الوطني في أية دولة إسلامية أو على مساحة العالم الإسلامي كله، إلى اعتبار أي فريق من المسلمين أقلية لا تتمتع بحقوق الأكثرية المذهبية في ذلك المجتمع أو على مستوى العالم الإسلامي. بل يجب أن يعتبر الجميع سواء في حقوق المواطنية وواجباتها»([8]).
وجماع القول: إننا في المجالين العربي والإسلامي بحاجة إلى رؤية جديدة للتعامل مع التعددية المذهبية. رؤية لا تُغيِّب الخصوصيات الثقافية لظاهرة التعدد، ولا تُؤسس لكانتونات منفصلة ومتحاجزة عن بعضها بدعوى الانتماءات المذهبية. إننا بحاجة إلى رؤية ومنهجية جديدة، تزيد من وتيرة المعرفة و التواصل بين مختلف التعبيرات والأطياف المذهبية والفكرية والسياسية، ورفع مستوى التفاهم والتلاقي والتعاون.
وبهذه الطريقة ننزع عن كل الخصوصيات كل العقد التي تفضي إلى الانكفاء أو التعصب الأعمى للذات.
فالتعدد المذهبي في إطار سياق ثقافي وسياسي يحترم التعدد ويضمن حق الاختلاف وحقوق الإنسان الأساسية، هو من الروافد الأساسية لبناء مواطنة متساوية وغنية في ثقافتها وخياراتها المجتمعية.
ونحن هنا في سياق تأصيل خيار ومشروع التآخي بين المسلمين بمختلف مذاهبهم ومدارسهم الفقهية، لا نسقط من حسابنا ووعينا عقد الواقع ومشاكله المتفاقمة. ولكننا نقول وبوضوح تام: إن خطاب التحريض الطائفي وبثّ الكراهية بين المسلمين لاعتبارات إيديولوجية وفكرية وسياسية، ساهم بشكل أو بآخر في تردي الأوضاع الداخلية للمسلمين. وإننا اليوم بحاجة إلى مسار تاريخي جديد، يخرجنا من هذه الأوضاع المتردية، ويصوغ وعينا بأسس جديدة.
ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن مشروع التآخي بين المسلمين هو السبيل الذي ينبغي أن نبنيه لبنة لبنة ونراكم من مفرداته ومعطياته، وذلك من أجل التحرر من كل الرواسب السيئة التي حكمت علاقة المسلمين بعضهم مع بعض خلال عقود مديدة.
وإن العديد من المشاكل والالتباسات لا يمكن معالجتها إلا بالحوار والمزيد من التواصل الذي يستهدف تنمية المشتركات وتوطيد أركان المعرفة المتبادلة.
في ظل التطورات والتحولات المتسارعة على أكثر الصعد والمستويات في المنطقة، تبرز إلى السطح طبيعة العلاقة وحقيقتها بين المكونات الدينية والمذهبية والقومية في المجتمعات العربية والإسلامية. إذ إننا لسنين طويلة ولاعتبارات مختلفة تغاضينا عن هذه العلاقة، ولم نلتفت إلى طبيعة هذه العلاقة وعقدها وتشابكها وأهم الحساسيات التي تعيشها. ولكن وبفعل الحدث العراقي وتداعياته المختلفة برزت في هذه الآونة وبشكل صريح طبيعة نظام العلاقة بين مختلف المكونات والتعبيرات في المجتمع الواحد.
وإن الوحدات الاجتماعية والسياسية في الفضاء العربي لا تُبنى بنفي ودحر الخصوصيات، لأن هذه الخصوصيات لها دورها ووظيفتها إذا أحسنا التعامل معها في تعزيز الوحدة والبناء الداخلي لأي مجتمع. من هنا فإننا نشعر اليوم بأهمية التفكير في هذه القضية، وإطلاق الحوارات الفكرية والسياسية الجادة بين مختلف النخب العربية والإسلامية، لصياغة رؤية وبناء مشروع فكري - اجتماعي - سياسي تجاه ظاهرة التعدد الديني والمذهبي والقومي في المنطقة العربية.
وذلك لأن كل المحاولات الإيديولوجية والسياسية التي سعت نحو التجاوز التعسفي لهذه التعدديات باءت بالإخفاق والفشل. ولا خيار حقيقي أمامنا، إذا أردنا الأمن الشامل والاستقرار بكل مستوياته، إلا بناء رؤية جديدة ونمط سياسي جديد لطبيعة التعامل مع حقائق التعددية الموجودة في الفضاء العربي.
وإن غياب هذه الرؤية، أو استمرار النمط السابق في التعامل مع هذه الحقائق والتعبيرات، يعني في المحصلة الأخيرة استمرار حالة التوتر ونفاذ المخططات الأجنبية إلى الجسم العربي والإسلامي من هذه الثغرة والفجوة.
لهذا فإننا في كل المجتمعات العربية والإسلامية بحاجة إلى بناء علاقة إيجابية بين مختلف المكونات والتعبيرات، قوامها المعرفة المتبادلة، وصيانة حقوق الإنسان، وضمان المشاركة في الحياة العامة على قاعدة المواطنة المتساوية والاحترام المتبادل. والمشاكل والأزمات الداخلية العميقة التي تعانيها معظم البلدان العربية والإسلامية اليوم، هي في محصلتها النهائية من جراء عدم التعامل العادل والإيجابي مع التعدديات الدينية والمذهبية والقومية الموجودة في الفضاءين العربي والإسلامي.
وبطبيعة الحال فإن الوصول إلى تعامل عادل وإيجابي مع حالة وحقائق التعددية الموجودة في المجالين العربي والإسلامي، بحاجة إلى تضافر كل الجهود والقيام بمبادرات وخطوات ثقافية واجتماعية وسياسية عديدة. وهذه الخطوات تحتاج إلى مدى زمني تُبنى فيه هذه الخطوات وتتراكم فيه المبادرات التي تتجه إلى بناء العلاقة الإيجابية بين مختلف التعبيرات والمكونات.
وإن المطلوب اليوم هو أن نبدأ هذه الطريق وهذا المشوار الذي يحتاج إلى كل جهودنا وطاقاتنا. لأنه سبيلنا الوحيد لتعزيز وحدتنا وتمتين جبهتنا الداخلية وسد الثغرات التي قد يحاول خصومنا وأعداؤنا النفاذ منها إلينا.
وإننا نعتقد أن المملكة العربية السعودية، وبما تحتضن من مقدسات إسلامية حيث الحرم المكي الشريف في مكة المكرمة والحرم النبوي الشريف في المدينة المنورة، وبما تتبوؤه من موقعية محورية في العالم الإسلامي، تستطيع القيام بالشيء الكثير في سبيل تطوير علاقة المسلمين بعضهم مع بعض، وتجاوز كل العقبات التي تحول دون التواصل الإيجابي بين مختلف مكونات وتعبيرات الأمة الإسلامية.
لهذا فإننا نتطلع أن تقوم المملكة وعبر مؤسساتها الإسلامية بمبادرة مؤسسية، تستهدف تأصيل قيم الحوار والتفاهم بين المسلمين، وضبط الاختلافات والتباينات في وجهات النظر والمواقف، وريادة العمل الوحدوي في الأمة، القائم على الثوابت الإسلامية واحترام الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لكل الأطراف والتعبيرات. وإننا في هذا الإطار نثمن تلك الفكرة والدعوة التي أطلقها الشيخ عبد الله بن منيع للحوار بين المذاهب الإسلامية في داخل المملكة. إذ إن تنفيذ هذه المبادرة وخلق المناخ المناسب لنجاحها سينعكس إيجاباً على مختلف المسارات العربية والإسلامية.
وإن ما يجري في أرض الرافدين من تطرف وإرهاب وفتن داخلية، يحملنا مسؤولية العمل على تحصين وضع الأمة ومنع انتشار هذه النار والسعي لرأب صدع الفتنة في العراق.
وذلك عبر التأكيد على الأمور التالية:
1- إن خطاب المفاصلة والمغالبة يضر بالجميع ويزيد من اشتعال الفتن، وليس هو الطريق الموصل إلى الوحدة والوئام. إننا مطالبون بالخروج من كل مظاهر المفاصلة والمغالبة في علاقاتنا الداخلية، ونعمل على تطوير خطاب التفاهم والتلاقي، لأنه الخطاب الذي يصون المكتسبات، ويحافظ على حقوق الجميع.
ونرتكب جريمة كبرى بحق أمتنا وأنفسنا حينما نعتقد ولو لبرهة زمنية قصيرة أن خطاب المغالبة والمفاصلة الشعورية والعملية، هو الذي يصون الحرمات والحقوق. إن هذا الخطاب ومتوالياته وتأثيراته السلبية الخاصة والعامة، سيدخل الأمة جمعاء في دروب الفتن والاحتراب الداخلي. لذلك ينبغي وبسرعة تامة العمل على بناء خطاب ديني وثقافي جديد يبلور خيار العلاقة الداخلية بين المسلمين قوامه التفاهم والتلاقي والاحترام المتبادل.
ووجود أحداث دامية وخطيرة في العراق ينبغي أن تدفعنا إلى المزيد من التفاهم والتلاقي، لتجاوز هذه المحنة ومساعدة إخوتنا في العراق للخروج من هذه الدائرة الجهنمية.
فخطاب الشحن الطائفي يزيد من محن الأمة، ويشتت طاقاتها، ويحوّلنا جميعاً إلى أمة ضعيفة، خائرة لا تقوى على الصمود والمواجهة. لذلك فإننا جميعاً معنيون بتطوير أطر ومبادرات التفاهم والتلاقي لوأد الفتنة وتعزيز التلاحم الداخلي بين المسلمين.
ولعلنا اليوم بحاجة أن يبادر العلماء والمفكرون وأصحاب الرأي والحكمة إلى صياغة وثيقة تفاهم بين مختلف المذاهب الإسلامية. وتوضِّح هذه الوثيقة مبادئ وأسس العلاقة الإيجابية بين مختلف مكونات الأمة، وتبلور آليات فضّ وإنهاء الخلافات التي تنجم بين المسلمين في مختلف الدوائر. فلا يكفي اليوم أن تكون هناك مبادئ عامة توجه هذه العلاقة، وإنما نحن بحاجة إلى صياغة رؤية تفصيلية لمعالم وأسس العلاقة المطلوبة بين المسلمين في دوائر الحياة المختلفة.
2- إن الوحدة بين المسلمين ليست خطبة تقال أو تصريحاً يُدلى به، بل هي فهم وتفاهم، ومعرفة متبادلة، وتجاوز لكل الإحن والعقبات والفتن التي تريد تمزيق المسلمين وتشتيت قوتهم.
وإن ما يجري في العراق من قتل وتدمير ينبغي ألَّا يقودنا إلى الاصطفافات الطائفية أو تبرير هذه الأحداث الخطيرة بعنوان مذهبي أو ما أشبه ذلك. وذلك لأن هذا التبرير يساهم بشكل أو بآخر في إدامة هذه الفتن والمخاطر وانتشارها في مديات اجتماعية عديدة. إننا مهما كانت المشاكل، ومهما كانت الفتن، ينبغي أن نستمر في حمل مشعل الوحدة والتفاهم والتلاقي بين المسلمين. والوحدة بين المسلمين تقتضي حسن الظن بعضنا ببعض، وتجاوز إحن التاريخ وعدم الانحباس في قضاياه ومشاكله، وتطوير مستوى الفهم والمعرفة المتبادلة بيننا. لأن المعرفة الدقيقة والموضوعية ببعضنا بعضاً، هي التي تعمِّق خيار التقارب والوحدة، وهي القادرة على إفشال كل المخططات والمؤامرات التي تستهدف تمزيق المسلمين وكسر شوكتهم.
ولا سبيل أمامنا جميعاً لمواجهة كل هذه المخاطر والتحديات إلا بتمتين علاقاتنا وتعميق أسباب وحدتنا وموجبات تلاحمنا الداخلي. فالمؤمنون جميعاً -كما يقول مفتي مصر الأسبق الشيخ حسنين محمد مخلوف- يشهدون شهادة واحدة: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لا يختلف فيها مؤمن عن مؤمن، وليس لها عند فريق منهم معنى يخالف ما عند الآخرين، وهم ملتزمون بمقتضى ذلك أن يجعلوا الأمر كله لله، فلا حكم إلا حكمه، ولا تشريع إلا تشريعه، ولا عبادة إلا له، ولا قربى ولا زلفى إلا إليه، وكل ما جاء عنه في كتابه، أو صح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فهو مقبول، لا يسع مؤمناً أن يخرج منه، أو يحيد عنه، وإنما تختلف الأفهام في شيء، وتتفق في شيء، ويصح بعض المروي عند فريق، ولا يصح عند فريق، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى «أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس».
فوحدة المسلمين من أسمى الغايات التي ينبغي أن نسعى إليها جميعاً، ونتجاوز في سبيل ذلك كل الصغائر والمشاحنات التي تعكِّر صفو العلاقات وتزيد البغضاء والشحناء. فلا ضرر أن نختلف، لأن الاختلاف سنة من سنن الاجتماع، ولكن الضرر كل الضرر في أن يفضي بنا الاختلاف إلى القطيعة والجفاء والتباعد والخروج على مقتضى الأخوة التي أثبتها الله في كتابه العزيز لا على أنها شيء يُؤمر به المؤمنون، ولكن على أنها حقيقة واقعة رضي الناس أم أبوا. {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
3- إن التفاهم والوحدة والتآخي بين المسلمين اليوم بحاجة إلى مختلف الجهود والطاقات. لأن الواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم بعيد كل البعد عن هذه القيم والمفاهيم الأساسية. ولا يمكننا أن نرفع الراية البيضاء أمام ذلك، وإنما نشمر جميعاً عن ساعد الجِدِّ والاجتهاد والعمل المتواصل لتعميق خيار التفاهم والتلاقي بين المسلمين، ونبذ كل ما يعكر صفو العلاقة أو يحول دون تطورها وتقدمها في مختلف المجالات.
ولقد آن الأوان بالنسبة إلينا جميعاً ومن مختلف مواقعنا أن نعمل بوعي وحكمة وتصميم مستديم لإزالة كل الاحتقانات والهواجس والالتباسات التي تحول دون تطور علاقة المسلمين بعضهم مع بعض، والقيام بمبادرات وخطوات عملية تزيد من التعارف والتفاهم والتلاقي بين المسلمين على تنوع مدارسهم ومذاهبهم.
فالأولوية اليوم لكل المؤسسات والشخصيات الإسلامية، ليس الانحباس والانكفاء والعزلة عن الآخرين، وإنما التواصل والانفتاح والتفاهم بين مختلف المدارس والمذاهب الإسلامية. لأن هذا التواصل المستند إلى العلم والمعرفة العميقة ببعضنا بعضاً، هو الذي يجنبنا الكثير من حالات سوء التفاهم، ويقربنا بعضنا إلى بعض، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الحوار والتلاقي والتآخي.
* ضرورة فهم الخلافات المذهبية
في إطار السعي والعمل لتعزيز مشروع وخيار التآخي بين المسلمين، من الضروري فهم الخلافات المذهبية بين المسلمين، والعمل على بلورة رؤية واضحة في طريقة التعامل مع هذه الخلافات والتباينات.
لعلنا لا نأتي بجديد حين نقول: إن في داخل كل الأديان السماوية مذاهب ومدارس متعددة، بحيث أضحت هذه المذاهب والمدارس روافد أساسية لهذا الدين. وأتباع هذا الدين أو ذاك منضوون تحت مظلته من خلال انضمامهم إلى مذهب من المذاهب. والاختيار بين هذه المذاهب في أغلبه لا يتم في بدايته بعلم تفصيلي ودراية كاملة، وإنما من خلال التوارث والبيئة الاجتماعية التي يعيشها الإنسان.
فالإنسان الذي يولد من أبوين سنيين مثلاً سيلتزم بما التزم به والداه. كما أن البيئة الاجتماعية إذا كانت شيعية فإن الإنسان في الغالب وبالخصوص في مقتبل عمره سيكون منسجماً ومتكيفاً مع هذه البيئة.
لهذا فإننا نقول: إنه لا يخلو دين من الأديان من مذاهب ومدارس مختلفة، وكل طرف يقرأ ثوابت الدين ومسلماته وفق رؤيته المذهبية. كما أن الانتماءات المذهبية في أغلبها وبدايتها تتم لاعتبارات اجتماعية أكثر منها علمية وموضوعية. وتتفاوت حظوظ الناس بعد ذلك. فهناك من يعمل على فحص قناعاته والبحث عن الحقيقة من خلال تتبع الأساليب والآليات العلمية. وهناك من يكتفي بما توارثه عائلياً واجتماعياً. وعلى كل حال لا يمكن تعزيز مشروع التآخي بين أهل المذاهب الإسلامية بمختلف مدارسهم ومناطقهم، إلا بتحديد رؤية واضحة لطبيعة الخلافات المذهبية وبالخصوص في بذورها الأولى. وهذه الرؤية ليست من أجل إنتاج هذه الخلافات من جديد، وإنما من أجل تجاوزها معرفياً وعلمياً.
ولا ريب أنه من الناحية الفعلية فإن التخلف كنمط عقلي وسلوكي، هو الذي يُهيئ جميع الظروف لاستنبات الصراعات المذهبية والقومية، وتجذير هذه التوترات في الساحة الاجتماعية. حيث إننا حينما نقرأ التجربة الإسلامية من منظور سوسيولوجي، نكتشف أنه في زمن هيمنة التخلف وسيطرة عقلية الانحطاط تسود وتبرز الصراعات الداخلية بين المسلمين، وتعود الانقسامات التاريخية إلى السطح.
أما حينما يكون العرب والمسلمون في حالة اجتماعية وحضارية متقدمة تتراجع الانقسامات التاريخية إلى الوراء، ولا يكون لها مفعول مباشر في الحدث الاجتماعي والسياسي. وهذا يجعلنا نقرر حقيقة ثقافية وسياسية أساسية وهي: أن الأرضية الحقيقية للانقسامات المذهبية في الأمة ليست في وجود مذاهب ومدارس فقهية واجتهادية عديدة، وإنما التخلف بآلياته ومنتوجاته الاجتماعية والفكرية هو الذي يشكِّل الأرضية الخصبة لنمو هذه الانقسامات، وتمزيق أواصر الوحدة بين مكونات المجتمع والأمة الواحدة.
لهذا فإننا نرى أن وجود المذاهب والمدارس المختلفة في التجربة الإسلامية سلاح ذو حدين.
فحينما يكون وضعنا السياسي والثقافي والاجتماعي واقعاً تحت تأثير نمط التخلف والانحطاط فإننا ننظر إلى هذا التعدد المذهبي والفكري بوصفه أحد العوامل الأصلية لواقع التقسيم والتجزئة الذي تعيشه الأمة. وفي المقابل إذا كان وضعنا السياسي والثقافي والاجتماعي سليماً فإننا ننظر إلى هذا التعدد بوصفها ثروة ودليل حيوية الحياة الإسلامية في العصور السالفة. لهذا فإن مربط الفرس في هذه المسألة هو في طبيعة العقل والفكر السائد في المجتمع، الذي يحدد الموقف من واقع التعدد المذهبي والفكري. وبهذا يمكننا القول: إن وجود المذاهب الإسلامية في التجربة التاريخية، بإمكاننا أن نجعله وسيلة فعالة من وسائل تأصيل واقع التعدد المذهبي في المجتمع والأمة. كما بإمكاننا أن نجعله وسيلة تدميرية لكل الجوامع المشتركة التي تجمع أبناء الوطن والأمة الواحدة.
* المهمة الإسلامية اليوم
وعليه فإن مهمتنا اليوم ليس الانحباس والتقوقع في تلك الانقسامات المذهبية - التاريخية، وإنما مهمتنا الأساس تتجسد في بلورة الوعي الحضاري لدينا تجاه حقيقة التعددية المذهبية في الأمة، حتى لا تكون عاملاً سيئاً في واقعنا المعاصر.
فلا يمكننا أن نرجع عقارب الساعة إلى الوراء، ونصوغ أحداث التاريخ وفق ما نشتهي ونريد، وإنما الشيء الذي نقدر عليه، ويفيدنا في حاضرنا، هو النظر إلى التاريخ باجتهاداته المختلفة، ومدارسه المتعددة، وأحداثه المضطربة نظرة حضارية.
والنظرة الحضارية إلى الواقع التاريخي تعني: أن واقع الناس هو وليد كسبهم ونشاطهم، ولا يمكننا نحن اليوم أن ننزوي عن حاضرنا أو نبتعد عن مسؤولياتنا الوطنية والحضارية. ونلجأ نفسياً وعملياً إلى أمجاد الماضي، ونعيش على أحلامه وأحداثه، وإنما من الضروري التفكير الجدي من أجل أن نكون الامتداد الحضاري لذلك الكسب التاريخي.
فلا يمكننا أن ننهي الخلافات والتباينات المذهبية، ولكن الذي يمكننا فعله هو النظر إلى هذه الخلافات نظرة حضارية، وتبني خيار الحوارات العلمية لضبطها ومعالجة بعض آثارها.
ويخطئ من يتصور أن خيار الاتهام والتشنيع هو الذي يضبط الاختلافات المذهبية. إن هذا الخيار بمتوالياته النفسية والاجتماعية يزيد من الاختلافات المذهبية ويشنجها ويوصلها إلى موقع الصدام المفتوح. لذلك فإننا نقول، وانطلاقاً من فهمنا لطبيعة الاختلافات بين المذاهب الإسلامية: إننا مطالبون بخلق رؤية حضارية في التعامل مع هذه الاختلافات. هذه الرؤية الحضارية تمارس القطيعة التامة مع أرضية ومفاعيل التخلف السياسي والفكري والثقافي الذي يُغذي هذه الاختلافات ويمدها بأسباب الديمومة والانتشار، ويؤسس لخيار التواصل والانفتاح بين المختلفين مذهبياً، وذلك من أجل التعارف العلمي وضبط التباينات والاختلافات، وتوسيع دائرة المساحات والجوامع المشتركة.
فالاختلافات ليست سبباً كافياً للقطيعة مع بعضنا بعضاً، بل هي مدعاة للمزيد من التواصل واكتشاف بعضنا بعضاً، وفك الارتباط بين الاختلاف والعداء. فالاختلافات مهما كان حجمها ليست مبرراً للعداء والاحتراب. والذي يتعامل مع الاختلافات بكل مستوياتها بوصفها وسيلة ومبرراً للعداء، فهذا يعني أن كل الأمم والشعوب أعداء له. لأن الواقع الإنساني يثبت أن الاختلافات بين البشر من نواميس الحياة. ولا يمكن أن تكون هناك حياة إنسانية دون اختلافات وتباينات. والأمم تتفاوت حضارياً من خلال قدرتها على تأسيس مبادئ ومرتكزات لإدارة اختلافاتها عبر تحويلها إلى فضاء للحوار والتواصل والتعارف.
* مرتكزات إدارة الاختلافات المذهبية
والديموقراطية كمنجز إنساني ليست مهمتها دحر ونفي الاختلافات السياسية والفكرية بين البشر. وإنما مهمتها الأساس تتجسد في إدارة وضبط هذه الاختلافات، بحيث لا تكون سبباً لممارسة العنف أو امتهان حقوق الإنسان.
لذلك فإننا نعتقد أن الاختلافات المذهبية بين المسلمين لا تعالج بعقلية الإقصاء والتهميش والترذيل، كما أنها لا تنتهي بمقولات النبذ والتضليل والاتهام المفتوح على كل الرذائل. بل بالحوار والتواصل والاحتكام لمبادئ ومرتكزات، لا تُخرج كل المختلفين عن مقتضيات العدالة والتسامح.
وهنا نود أن نؤكد على النقاط التالية:
1- ضرورة عدم الإساءة لبعضنا بعضاً: لعل من الصعوبة بمكان أن تتطابق وجهات نظر أهل المذاهب الإسلامية في كل شيء. فالاختلاف والتباين في وجهات النظر والآراء هو في أحد تجلياته وليد الاجتهاد الفقهي والفكري. لذلك فإن جهود الحوار والتواصل بين أهل المذاهب الإسلامية لا تتجه إلى إنهاء التباينات أو دحر الاختلافات، وإنما إلى المعرفة المباشرة ببعضنا بعضاً على قاعدة أن المعرفة الموضوعية هي التي تقودنا إلى عدم الإساءة إلى بعضنا بعضاً.
فقد نختلف حول أحداث وشخصيات التاريخ، ولكن المطلوب أن يلتزم الجميع احترام كل الرموز الإسلامية. وقد تتباين وجهات نظرنا في مسألة فقهية أو عقدية أو سياسية، ولكن ينبغي ألَّا يقودنا هذا التباين إلى الإساءة إلى بعضنا بعضاً. فالمطلوب دائماً وفي كل الأحوال أن نحترم بعضنا بعضاً، ونقدر قناعات الآخرين ونحترم شخصيات ورموز كل المذاهب والطوائف الإسلامية.
ووجود ممارسات عند هذا الطرف أو ذاك، لا تنسجم ومبدأ الاحترام وعدم الإساءة إلى بعضنا بعضاً، ينبغي أن يدفع أهل الوحدة والتآخي إلى المزيد من التواصل والعمل، لإنهاء كل المظاهر والممارسات التي تسيء إلى بعضنا بعضاً. وعلى هذا فإن الحوار الذي يفضي إلى ثمرة إيجابية هو الحوار الذي ينطلق من ذهنية موضوعية تنشد الحق والحقيقة بصرف النظر عن الانفعالات العاطفية أو المسبقات الفكرية.
لهذا نجد أن النهج الذي يرسيه القرآن الكريم للحوار هو المنهج الذي يبعد الذات في قناعاتها الحاسمة عن الدخول كعنصر سلبي في الحوار. يقول تبارك وتعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}([9]).
«لأن الخط القرآني يطرح الوفاق المبدئي بعيداً عن التفاصيل، وذلك من خلال الفكرة الإنسانية التي ينفتح فيها الإنسان على الحوار الخلافي بروحية الحوار الوفاقي، لأن مستوى الروحية وطبيعتها هو الذي يساهم في النتائج الإيجابية الحاسمة بلحاظ أن الحوار هو فعل إنسان في مضمون إنسانيته، وليس مجرد كلمات تتطاير في الهواء»([10]).
فعلى قاعدة الاحترام المتبادل، ونبذ كل أشكال ومظاهر الإساءة إلى بعضنا بعضاً، يتم الحوار والاختلاف والتواصل. ومهما تعددت مواضيع الاختلاف فإن الاحترام المتبادل هو سيد الموقف، وهو خيارنا الوحيد للاستقرار والتعايش.
وإن إنتاج شروط الاحترام المتبادل في الفضاء الاجتماعي، هي مسؤولية الجميع. بحيث تعمل جميع الأطراف على تعميم ثقافة الاحترام وتعميق خيار التآخي بين المسلمين.
لهذا كله فإننا نؤكد على ضرورة:
1- خلق الأطر والمؤسسات الحوارية التي تجمع أهل المذاهب الإسلامية كافة، وذلك من أجل التواصل والحوار العلمي والموضوعي في كل القضايا والأمور المطروحة في الساحة.
2- مساهمة كل التعبيرات والأطراف في إزالة كل الاحتقانات الطائفية وعناصر التوتر المذهبي، الموجودة في الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي.
5- إرساء تقاليد حوارية وأخلاقية، تضمن للجميع حق الاختلاف وحق التعبير عن الرأي والموقف مع الالتزام بكل الضوابط الأخلاقية، التي لا تُفضي إلا إلى المزيد من تنقية الواقع الاجتماعي من كل عناصر الاحتقان والتوتر.
فالاختلافات العقدية والفكرية في الدائرة الإسلامية والإنسانية ينبغي ألَّا تدفعنا إلى الظلم. فالمطلوب أن نمارس العدالة مع المختلفين معنا. إذ يقول تبارك وتعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}([11]).
2- إن ضبط الخلافات المذهبية في أي دائرة إنسانية، بحاجة إلى تعزيز الثقة والعلاقة بين كل الأطراف والتعبيرات. ومن الطبيعي القول: إن الحوار والتواصل بين أهل المذاهب الإسلامية، هو أحد المداخل الأساسية لبناء هذه الثقة وتعزيزها. حيث إن الجفاء والتباعد النفسي والعملي يساهمان بشكل كبير في نشوء حالة سوء الظن المتبادل.
وهذا (أي تعزيز الثقة المتبادلة) بحاجة إلى إشاعة ثقافة التسامح وقبول الاختلاف وحقوق الإنسان. لأن هذا الفضاء الثقافي هو الذي يؤسس لمناخ اجتماعي يقبل الآخر المذهبي دون أن يصمه بنعوت سلبية.
لهذا فإننا مطالبون جميعاً ومن مختلف مواقعنا، بنبذ سوء الظن وتجاوز حالة الجفاء والتباعد النفسي والاجتماعي وإرساء حقائق مجتمعية تدفعنا جميعاً للالتحام ببعضنا بعضاً على قاعدة المشتركات واحترام التعددية المذهبية.
3- إننا حينما نتحدث عن قيمة التسامح والعفو لا نتحدث في فضاء اجتماعي مجرد، وإنما نتحدث في فضاء اجتماعي مركب ومتشابك ومعقد. وفي مخزوننا القيمي جملة من القيم إحداها قيمة التسامح. وعليه من الضروري حتى تكتمل هذه الرؤية، أن نؤصل مسألة التفاضل بين القيم. حيث إن جميع القيم الإسلامية محمودة ومطلوبة، ولكن حينما نريد أن ننزلها على الواقع لا بد من نظام أولويات بين هذه القيم أو نظام تفاضل بين هذه القيم. بمعنى متى تبدأ قيمة الحرية وأين تنتهي؟ وعلى سبيل المثال فإن الحرية قيمة أصيلة من قيم الدين حيث إن الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم، وفي المقابل قيمة السلطة في الاجتماع الإنساني ضرورة. فكيف نوفق بين ضرورات الحرية ومتطلبات السلطة.
وعليه فإن التسامح بين أهل المذاهب الإسلامية كافة لن يمارس إلا في نطاق القانون والعدالة. لهذا فإننا ندعو إلى سن القوانين والإجراءات في مختلف البلدان العربية والإسلامية، التي تجرم الإساءة إلى الأديان السماوية والمذاهب الإسلامية. وذلك لأن وجود القوانين الرادعة هو الذي يؤسس لثقافة التآخي والمحبة، وينهي كل أسباب وعوامل الكراهية الدينية والمذهبية في الدائرة الوطنية والإسلامية.
وجماع القول: أن التعدد المذهبي المنضبط بضوابط الوحدة الإسلامية، والمُسَيَّج بأخلاق التآخي والوئام الاجتماعي، هو الذي يرفد المجتمع والوطن بعناصر إضافية تزيد من عزته ومنعته. لذلك ومن منطلق واقعي عميق نرى أن وحدتنا الوطنية والاجتماعية لا تبنى بدحر التعدد والتنوع، وإنما باحترامه وتوفير كل أسباب العلاقة الإيجابية بين أطرافه.
([1]) السيد محمد حسن الأمين، الاجتماع العربي الإسلامي - مراجعات في التعددية والنهضة والتنوير، ص 85، دار الهادي، بيروت 2003م.
([5]) الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، نقاط أربع لعلها تشكل نسيج الأمة الإسلامية الواحدة، ص8، مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية وأثره في تحقيق وحدة الأمة، مملكة البحرين.
([6]) السيد محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن - مدخل إلى دراسة الفقه المقارن، ص 14، الطبعة الثالثة، دار الأندلس، بيروت 1983م.