موسى الهادي بوخمسين(([1]))
{وَاّلذينَ اجتنَبُوا الطّاغوتَ أن يَعبُدوهَا وأنَابُوا إلى اللهِ لهُم البُشرَى فبَشّر عِبادِ الّذِينَ يستَمِعونَ القولَ فَيَتّبِعونَ أَحسَنَهُ أُولئِكَ الّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُم أُولُو الأَلبَاب}
الزمـــر: 17
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، وسلام على المرسلين، وأفضل الصلاة وأزكى السلام على محمد وآله الطاهرين، وصحبه المنتجبين...
نمتاز -نحن الشيعة في المملكة العربية السعودية- بتاريخنا العريق، وأن لنا جذورنا الراسخة في هذا الوطن الغالي، الذي لم ينهض منذ فجر التاريخ إلا على سواعدنا، ولم يشمخ كيانه بغير جهودنا وجهادنا، كما سقينا معالمه بعرقنا ودمائنا، ودافعنا عن حياضه وحرماته بأبنائنا وأرواحنا.
ونحن لا ندعي أن الوطن لنا وحدنا، وأن ليس لنا فيه شركاء، بل نحن جزء من هذا الشعب العربي الكريم، حيث ارتضينا الإسلام ديناً وعشنا ننعم فيه بالتنوع المذهبي والفكري، فكلنا مسلمون موحِّدون، ومن يزعم غير ذلك فعليه أن يراجع ذاكرة التاريخ، ولْيُعِد تقويم مواقفه وحساباته.
وبدلاً من اعتداد كل فئةٍ بآرائها، وموروثاتها العقدية والفكرية والثقافيّة، لابد من اعتماد منهجيّة الانفتاح والتنوّر، ومد الجسور مع الآفاق الأخرى، والانطلاق في طريق الاعتراف بالآخر، بعلاقات أخوية مبدئية، قائمة على التلاقي والحوار المنهجي البنّاء. ولا مندوحة لنا من الحوار، ولكن نتحاور مع من؟ وعلامَ؟ وكيف؟ وعلى أي أساس؟ ومن يرعى هذا الحوار ويضمنه؟ هذا ما تحاول الصفحات القادمة الإجابة عنه، لعلّ التوفيق يكون حليفنا مع كل المخلصين في هذا السبيل، سبيل الحوار المثمر من أجل تعايش اجتماعي واعد، والله من وراء القصد، إنه نعم المولى، ونعم النصير.
* بين الواقع والطموحات
لو تأمّلنا واقع المجتمعات البشرية منذ نشأتها وإلى الآن لوجدنا أنها لا تشذ في انتظامها عن واحد من الحالات التالية.
1- التنافر فالتناحر والتطاحن.
2- الانعزالية، فالانطوائية والتشرذم الكانتوني الضعيف.
3- التعايش فالتراضي وقبول الآخر، فالسِّلم الأهلي والحوار، إلى قيام الدولة الاتحادية (مع شدة الاختلاف)، أم الموحّدة مع شيء من التجانس والائتلاف.
ونحن هنا لسنا بصدد الحالتين الأولييْن؛ ولذا فموضوعنا يتركز على الحالة الثالثة، وهي حول حالة التعايش بين فئات المجتمع المختلفة ولكن بينها العديد من القواسم المشتركة، كما هو الحال في مجتمعنا بالمملكة العربية السعودية. فهل يمكن لفئات مجتمعنا أن تتآخى وتتوصّل إلى تكامليّة الأداء، وتكافلية الأدوار، والتنعم بالوحدة الاجتماعية في ظل مجتمع السلم الأهلي والانفتاح والمحبة...؟
إنّ لكل فئة أصولها الفكريّة أو العرقية أو المذهبيّة أو ...، ولكن بما أن الجميع يعيش في أرض واحدة أو في وطن واحد، فلا مناص لأيٍّ منها من التعايش بحيث يحقق كلٌّ مآربه، ويحافظ على مصالحه، في الوقت الذي يساهم في بناء الوطن والدفاع عن مكتسباته.
إلا أن الحديث عن التعايش يستبطن التساؤل عن مسببات اللاتعايش، كما أنه لا ينفصل عن الحديث عن الأسباب التي تؤدي إلى هذه الحالة الراقية من أنماط الحياة الاجتماعيّة المشتركة، فحالة الفرقة واللاتعايش إنما ظهرت في الأمة عندما تحوّل الاختلاف في الاجتهادات إلى مقدّس لا يجوز الاقتراب منه فكيف بمناقشته؟ وتطوّر الأمر فصار مَنْ أختلف معه مصدر إزعاج فنفور ثُمّ خوف، واختلط مفهوم الخوف من الآخر بين مَنْ أختلف معه حول مفردة من مفردات الهوية، سنّي - شيعي ضمن الهوية الإسلاميّة، ومَنْ أختلف معه على أصل الهوية، كاختلافنا مع اليهود الصهاينة، مع ما يرافق هذا الخلط من مبالغات في ردّات الفعل الإرادية واللاإراديّة. يقول الأستاذ مقرئ الإدريسي أبو زيد: «الفزع من الآخر ورفضه هو حالة مَرَضيّة، ولكن الأمثلة التي تضرب في هذا المجال يبدو أنها تخلط بين مستويين من الحوار والتواصل. فإذا ذكرنا الصهيونية والإمبريالية فيجب ألَّا نخلط هذا بالمستوى الفكري عندما نذكر الآخر، فالمسلم كإنسان ذو رسالة حضارية يتشبّع بها بدرجات متفاوتة واعية أو غير واعية، ضعيفة أو قوية، تكسبه آلية للدفاع عن نفسه وهويته بشكل طبيعي، ورفض الآخر عندما نتكلم عن الصهيونية والاستعمار، هو رفض مشروع سياسي، وهذا طبيعي وظاهرة صحية. ولكن تختلف تمظهرات هذا الرفض، وقد تكون غير سليمة أو عاجزة أو تزيد الطين بلّة، أو تكون مجرّد ردود أفعال! ولكن أصل الرفض ظاهرة صحية تتعلق بمناعة الجسم وآليته التلقائية للدفاع، أما رفض الآخر من حيث هو فكرة فهو رفض مرضيّ. أما كيف وصلنا إليه فهذا موضوع آخر يحتاج إلى دراسة وتحليل، ويحتاج إلى قراءة في تاريخ الاجتماع الإسلامي، وتاريخ العقل المسلم، وتاريخ الممارسة الإسلامية في الفكر والفعل الحضاري، ولكن بشكل عام وصلنا إلى الرفض المطلق للآخر عندما وصلنا إلى الضعف المطلق، فبقدر شعورك بالضعف يكون رفضك للآخر، وبقدر إحساسك أن أساس بيتك غير متماسك وأن أوراقك ستطير، فإنك ستغلق النوافذ من أجل ألَّا يأتي الريح ويجتاح أساس بيتك وأوراقك، ولكنك عندما تغلقه لتستقر، تنسى أنك تغلقه ضد الهواء بل الأكسيجين، فتموت وتختنق وتكون آمناً وثابتاً ودافئاً ومختنقاً. والذي حصل أن المسلمين بدؤوا يخافون من الآخر ويرفضونه بقدر إحساسهم بالضعف، كالأم التي تخاف على ابنها بشكل مرضيّ، فيكون عندها حالة عاطفية بعد خروج ابنها من الرحم، فتنسى وتخلق له رحماً عاطفياً وسلوكياً وتنسجه من حوله، ويكبر الولد أحياناً، ويتزوج وما زالت الأم تتعامل معه وكأنه داخل رحمها. فالخوف المرَضِي على الولد هو الذي يؤدي إلى أن تحاول أن تحميه من الريح والأمراض بعزله، ولو أنها مكنته من عملية التحصين الداخلي وقذفت به في الحياة لكي يفعل ويغامر ويتغير وينتج لكان مصدر فخر لها! ولهذا فالخوف من الآخر قرين الإحساس بالضعف»([2]).
من هنا فإنّ التعايش الاجتماعي حالة حضارية متقدّمة، تأتي نتيجةً لممارسات وتجارب حياتية تتطور في تصاعد نمطي، ينتقل المجتمع عبره في مسيرته من مستوى إلى آخر أفضل منه وأرقى.
ولا تتوصّل الفئات المختلفة إلى التعايش عادةً ما لم تعتمد الحوار، وتنبذ الحراب، متمسِّكة بعُرى وثيقة للحفاظ على وحدتها وتلاحمها كما أمر تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.
والسؤال الأبرز الذي يفرض نفسه هنا، هو: هل يتناقض العمل على إيجاد صيغة تعايش مشترك لتقاسم الوطن الواحد بموارده، ومعطياته، ومكوِّناته، والعمل على إرساء مائدة حوار لمناقشة الأطر الفكرية والعقديّة بين فريقين أو أكثر من أبناء البلد الواحد؟!
ولو أردنا الموضوعيّة فإنّه من نافلة القول: ألَّا تناقض في الجمع بين العمل على عيش مشترك في إطار الوطن بين كل الفرقاء، والعمل على الجلوس إلى طاولة الحوار البنّاء للتوصل إلى حلول مُرضيَة للجميع، نحو صيغة عملية للتعايش في قضايا الحياة، والوفاق في قضايا الفكر والمذهبية، لأن المسألة لا تعدو أن تكون توافقاً على الحد الأدنى لا أقل في الأمور مورد الاتفاق بين كل الأطراف، إلاّ أنها مسألة صعبة شائكة، ومهمة تحتاج إلى همم جبارة، ونوايا صادقة.
ومتى ما ساد الحوار في أجواء اللقاءات، ومواطن الاحتكاك فإن مواقف التشنج والخلاف حول الكثير من المواضيع سرعان ما تختفي، بل لا تسمح الأخوّة الإيمانية، والروح المتفتحة لها بالظهور.
وهذا يعني أن الحوار ضرورة حضاريّة، وحاجة حياتية لا غنى عنها، ولو التفتنا لأهميته في عملية البناء والنهوض بالوطن والمجتمع، لما اخترنا طريقاً غير المحبة، والتعاون على البر والتقوى، مهما اختلفت وجهات النظر، وشطّ بنا النقاش.
وبغَضّ النظر عن تعريف الحوار وماهيّته، أو أقسامه ومستوياته، فإننا لا نريد منه سوى الحوار العملي الذي يبني واقعًا سليمًا، ويُحقق طموحًا، ويُثمر تعايُشًا نُسابق به الزمن تقدّمًا وازدهارًا.
غير أن الحوار البنّاء لا بد له من تحديد البنود التي من أجلها نطرق أبوابه، بنقاط عليها نلتقي أو نختلف لنحدِّد كيف وعلامَ نختلف وكيف وعلامَ نتفق، بل قبل ذلك يتوجب تحديد الغرض المنشود من هذا الحوار، وإلا فلن يكون حواراً هادفاً. من هنا فإننا سنشير إلى جوانب مهمة ينهض بها وعليها الحوار:
1- الأسس التي يقوم الحوار عليها ولا يتم دونها!
2- منهجية الحوار وكيفيته!
3- أهداف الحوار وفائدته!
4- أهلية المُحاورين وقدرتهم على الوصول إلى الهدف!
* أسس الحوار البنّاء!
من الواضح أنّ الحوار هو الأصل في الإسلام، وما عداه طارئ يحتاج إلى دليل، وقول الحق تبارك وتعالى في محكم الذكر الحكيم: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}([3]) يتضمّن هذا المعنى، إذ إن
الدعوة إلى سبيل الله تحتاج إلى الحوار الهادف الرصين، القائم على الحكمة والعِبرة، والقرآن كتاب الله المقدّس الكريم، لا ينفكّ عن التأكيد على الحوار في جميع المواطن المشتركة، والعلاقات مع الآخر. حتى أنّ «القاسم المشترك الذي يراه كل قارئ للخطاب الإلهي في الكتاب العزيز، والسيرة النبوية الشريفة، ومسار الدعوة والدولة الإسلامية، يلمس لمس اليد حرص الإسلام على فتح يديه لكل طالب هداية أو تفهُّم أو تصالح، وهل من تعبير أرشد من قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}([4])، وأعم
منها: {وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}([5])، فنداء التفاهم قائم
مستمر، ينطلق من الجانب الإسلامي باتجاه الغير، سواء كان هذا الغير من أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، أو كان من الأميين وهم كل الآخرين الذين لا ينضوون تحت جناح الإسلام أو أهل الكتاب»([6]).
لذا فإن المجتمع الذي تصهره عقيدة واحدة بمفرداتها الأساسيّة، حيث الرب واحد والكتاب واحد والرسول واحد والقبلة واحدة... إلخ، وتضمه الأرض ذاتها بحدودها وهويتها الجغرافية والسياسية، ويمتلك أفراده كامل الحقوق في المواطنة، والعيش المشترك حتى ولو اختلفت فِئاتهُ في وجهات النظر المذهبية والمعاشية، فإنّ الاختلاف أمر طبيعي لا يستوجب الخلاف والصراع، وإنما حسب التوجيه القرآني، سبيلهم الأسنى هو الحوار البنّاء.
ولا شك في أن هناك خلاف بين السُّنّة والشيعة، وإذا كان الحوار هو السبيل المقترح لتقليص الفجوة في هذا الخلاف والاختلاف بين الفريقين، فلا بد من وضع أسس لهذا الحوار، كيما يعرف الجميع من أين يبدؤون وأين ينتهون؟! وعلامَ يتحاورون، وماذا يريدون من الحوار، وبغير تبيين الأسس يبقى كلاماً في الهواء يُراد منه حرق الوقت فيما يُعتقد أنه «إبراء للذّمة» أو «إلقاء الحُجّة»!، وأيًّا كان الأمر فإننا نتصوّر أن الحوار يجب أن يقوم على ما يلي:
1- الاحترام المتبادل. فعندما يتشكل وفد الحوار الذي يمثل أي جهة (طائفة أو فئة)، فعلى الجميع احترام أفراده لأن كل فرد فيه يمثل جهته، وبالتالي يُسمَع لكلامه ويُؤخذ باعتراضه، وكما أنّ له أن يُحترَم، عليه أن يَحترِم الآخرين، سواءً مَنْ كان مِنْ جماعته، أو مِنَ الجماعات الأخرى، وبذلك فكل الوفود المشاركة في الحوار يجب أن تحظى بكل التقدير، والقدر ذاته من الاحترام، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ليس منّا مَن لم يُوقِّر كبيرنا، ويحترم صغيرنا».
2- المساواة. فكل وفد مشارك يساوي أي وفدٍ آخر في الحقوق أو الواجبات، فله ما للآخر وعليه ما عليه، كما أن لكل وفد بل لكل فرد فيه أن يأخذ فرصته كاملةً ليقول كلمته، ولا يُحرَم من التعبير عمّا في قلبه، وكل مشارك في الحوار لا بد له أن يتخلّى عن أي نظرة شوفينية، أو إحساس بالفوقيّة. فالجميع مسلمون وكلهم إخوة في الدين، فلا تكفير من هذا، ولا تجريح من ذاك، ولا فوقيّة هنا، ولا دونيّة هناك، ولا تميّز للقوي، ولا إقصاء للضعيف، فكما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الناس سواسية كأسنان المشط».
3- عدم الإكراه. انطلاقاً من قول الله تعالى عز ذكره: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...}، فمنطق الحوار المبدئي يفرض على جميع الأطراف لدى الاستماع إلى الدليل أن يسلِّم لصاحبه بحقّه فيما يرى، ولا يكرهه على التّخلي عن قناعاته ورؤاه، لأن معنى ذلك أنه سيجبره على تبنّي آراء غيره، وهذا ليس هو المطلوب في الحوار، لاسيما وأنّ احتمالية صواب الرأي الآخر وارد في الحسبان، كما نُقل عن الإمام الشافعي رحمه الله: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأٌ يحتمل الصواب».
4- عدم المكابرة. فحينما تتوضح فكرة المتحاور، ويدعمها بقوة الدليل وبيان الحُجّة، فلا مجال للمكابرة ورفض المنطق، بل لا بد من التسليم للحق والإقرار لصاحبه بما يرى، وإلَّا تحوّل النقاش إلى جدل عقيم لا معنى له ولا نفع فيه، وذاك هو المِراء المنهي عنه، كما قال عزّ وجلّ بعد ذكر عدد أهل الكهف: {... فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاء ظَاهِرًا، وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا}([7]).
5- اعتماد مصادر الحجيّة. فكل طائفة لها طرقها ومصادرها في الاستدلال على صحة رؤيتها الشرعيّة، ومتى ما كان المصدر معتمداً عند تلك الطائفة فلا بد من التسليم بصحته واعتماده مصدراً لحجة تلك الطائفة، وإلا انتفى الحوار، خصوصًا إذا كان البرهان يؤيّده العقل والمنطق، والعلم والشرع، والحكمة والجدل بالتي هي أحسن.
6- عدم التراجع عما تم الاتفاق عليه. في كثير من النقاشات أو الحوارات غير الجادّة عندما يتم التوافق على نقطة، ويُشرع في نقاش نقطة أخرى، لا يلبث المفلس في الحوار، أن يتراجع عما تم التوافق عليه، لأنه قد لا يخدمه في النقطة الجديدة، وهكذا يعود المتحاورون إلى نقطة البداية، ولكن حينما تضبط كل نقطة يتم الاتفاق عليها، ولا مجال للتراجع فإن الحوار يتقدم إلى الأمام ويحقِّق أهدافه.
7- الصبر على الأذى لدى الانفعال. فقد ينفعل بعض أطراف الحوار فينفلت منه لفظ جارح، فهنا لابد للبقيّة من ضبط النفس بعدم الردّ بالمثل، بل تجاهل الأمر، وفي ختام الحوار لا يُذكَّر بما جرى، فلا عتاب ولا حساب، كي لا ينتقض الحوار.
تلك أبرز الأسس التي نراها أرضيّة صالحةً لأي حوار يراد منه التقارب المذهبي والتعايش الاجتماعي، ولكن يبقى للحوار كيفية يحدِّدها المتحاورون في وقته، ولا بد من اعتماد منهجية واضحة المعالم حتى ينضبط الحوار في خطّه التصاعدي كي لا ينحرف عمّا وُضِع له.
* منهجية الحوار وكيفيته
سعيًا إلى إيجاد منهجيّة للحوار، يُتّفق عليها قبل الشروع فيه، بكيفيّة تضمن نجاحه والوصول به إلى غاياته، نرى أن من الضروري الأخذ بعين الاعتبار نقاطًا نشير إليها فيما يلي:
النقطة الأولى: إن الحوار لا يهدف إلى تذويب طائفة في جسد الطائفة الأخرى، فهذا غير معقول، لأن من نشأ على علاقة خاصة وقناعة مميّزة وعقيدة راسخة في أعماقه، ليس من السهل عليه أن يتخلّى عنها إلا من ندر، ولذلك فليس المطلوب أن يتخلّى أحد عن عقيدته وقناعاته، ولكن غاية الأمر أن يعتقد بصحة ما يعتقده الآخر، وأنه لون من فهم الدين يغاير ما فهمه هو من الدين، من هنا فإن الاختلاف إنما هو في فهم الدين وليس اختلافاً في الدين.
النقطة الثانية: اعتماد الهدوء في الحديث، واختيار الألفاظ المناسبة بلا تشنّج ولا انفعال، كي تصل الفكرة سليمةًً إلى الطرف المقابل، محفوفةً بالتفاهم، مصحوبةً بكلّ وسائل الإقناع في جوٍّ من المودة والمحبة والإخاء، بل باعتماد ما أمكن من الوثائق الثابتة، وكما يقولون: «اختلاف الرأي لا يفسد للوّد قضيّة».
النقطة الثالثة: حسن الاستماع للمتحدث، حتى يُكمل حديثه بلا مقاطعة ولا اعتراض كي تتسلسل أفكاره، ويعرض أدلته، فإنّ من فنّ الحوار أن تُجيد حسن اختيار الألفاظ حين تتحدّث، وتُجيد فنّ الاستماع حين يتحدّث الطرف المقابل، وبعدها يأتي مجال الردّ أو المداخلة، فيُناقَش في فكرته.
النقطة الرابعة: ألَّا يُقطع الحديث حول أي نقطة بلا سبب، وإنما يُستكمل حتى النهاية ولا يتم الانتقال إلى نقطة جديدة إلا بعد التوافق على السابقة، والوصول إلى النتيجة المحتملة حولها، لأنّ النقاش في أكثر من نقطة في وقت واحد يوقع في الالتباس والشبهة، ولذا فإن التوافق المنطقي هو في الاتفاق على جميع النقاط مدار البحث والحوار.
النقطة الخامسة: لم ينعقد الحوار من أجل التنقيب عن السلبيات والشواذ التي لا يلتفت إليها أحد، لكي يسلّط عليها الضوء، ويضيع الحوار حول هامشيّات لا قيمة لها، وإنما يجب أن يتركّز الحوار على الأمور الرئيسة التي من شأنها أن تكون نقطة وفاق أو اختلاف حقيقيّة!
النقطة السادسة: أن يربأ المتحاورون بأنفسهم عن أساليب التهريج والابتذال، وتوجيه الاتهامات والشتائم. وأن يبقى الحوار علميًّا نافعاً راقياً لا تشوبه شوائب السوقية الرخيصة والجهل المركّب، والأسلوب البذيء، فكلما حافظ المتحاورون على سلامة الحوار ونزاهته كان وقعه في النفوس أكبر وتأثيره في الواقع أوسع.
النقطة السابعة: لا لمنطق الأكثرية والأقليّة، ولا لمنطق القوّة، بل القول لقوة المنطق، وبذلك لا يأتي ممثّل الأقليّة وهو ضعيف، وكأنه يستجدي حقوقه من ممثلي الأكثرية الأقوياء، كما لا يحقّ لممثّل الأكثريّة أن يستقوي فيتعامل بروح التعالي والإقصاء، فإن الكل مواطنون على قدم المساواة في كافة الحقوق والالتزامات.
* فوائد الحوار وأهدافه
مما لا شك فيه أن الحوار الواقعي بين العقلاء يثمر فوائد جمة للمتحاورين لاسيما إذا ما استهدف أغراضاً بعينها، وتناقش حولها الفرقاء آخذين بعين الاعتبار مصالح الأطراف المختلفة، ومحاولين تذليل العقبات التي تعترض سبيلهم. ولو قام مثل هذا الحوار في مجتمعنا بين الشيعة والسنّة، فإني أعتقد أن النفع سيعود على الجميع لصالح المجتمع وازدهار الوطن، لأن المحصلة ستصب في مسيرتنا الحضارية بناءً وعطاءً، ومن أهم الأهداف التي ننشدها من مثل هذا الحوار:
أولاً: الاعتراف بالتعدُّدية المذهبية. فإن مجتمعنا حافل بألوان المذاهب الإسلامية، حيث يضم المذاهب الأربعة المعروفة، ومذهب أهل البيت (الإمامية الاثني عشرية)، ومذهبي الزيدية والإسماعيلية، إضافةً لما يحفل به المجتمع من تباين في ألوان الطيف السياسي والفكري. ولا شك في أن الحوار البنّاء هو الطريق للتصافي والتسليم بوجود هذه المذاهب، ليسفر اللقاء الحواري عن منح كل الطوائف المذهبية، والتوجّهات الفكرية والسياسيّة، حرية المعتقد والتعبد بمذهبه، أو ممارسة حقّه في التعبير عن توجّهه الفكري. الأمر الذي يعني عمليًّا إقامة الطقوس وتشييد دُور العبادة من مساجد وغيرها، وإتاحة فرصة التعليم الخاص عبر المعاهد والمدارس أو الحوزات العلمية، وإنشاء المؤسسات الثقافية والفكريّة، مع مدّ جسور العلاقات وتوثيقها بين الفئات المختلفة ورموزها، على أساس قرآني حيث يقول تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...} الآية.
ثانياً: التقارب القلبي. عبر إيجاد قواسم مشتركة للعمل الديني والثقافي، وإزالة الحواجز النفسيّة التي تمنع من التعاون على البرّ، وإشاعة عمل الخيرات، لوجود نوازع خوف مصطنع بين فئة وأخرى، مع ضرورة تدعيم روح الثقة، والتآخي بين جميع الفئات أفراداً وجماعات ومؤسسات ودوائر رسمية، بشعور عام من الجميع أن الكل سواسية كأسنان المشط، وأنّ الحياة لا تستقيم إلا إذا احترم الإنسان إنسانيته في أيّة صورة تبدّت، وبأي ثوب ديني أو مذهبي تزيّت، فقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طلب (عليه السلام): « الناس اثنان: أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق».
ثالثاً: القضاء على ثقافة الطائفية التي تعمق الهوّة بين الطائفتين على الصعيد النفسي والعملي، وتزرع بذور الشك في النوايا، وقد تؤدي إلى فرقة مشؤومة. ومما يزيد في تعميق الهوّة أن كل طائفة تشعر أنها على الحق، وغيرها ليس كذلك، وإن كان ذلك من حق الجميع، إلا أنه ليس من حقه إقصاء الآخر باعتباره على الباطل أو كافراً. فثقافة الطائفية تعمق شعوراً بالفوقية، أو ما يعتقده البعض التفرد بالحقانيّة لتبرير الإجحاف بحق الآخرين لأنهم على باطل. ويأتي الحوار هنا كضرورة للقضاء على مثل هذا الشعور، لأن القرآن صريح بهذا الصدد حيث يقول تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ، إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} أي دعهم ومسؤوليتهم إلى الله! وأنت لا مسؤولية عليك تجاههم إلاّ التذكير.
رابعاً: نزع فتيل الإرهاب: نظراً للشعور بالفوقية المنبثقة من الإحساس بالحقانية واعتبار الآخرين على الباطل فهم كفار، قد يتولد من هذا الفكر الإقصائي نزعة الاحجاف في التعامل كنوع من إنزال العقوبة بالمنحرفين، وهذه شبهة خطيرة تقود إلى الإرهاب لأنها تنتقل بالفرد من الشعور بالتفوق إلى إساءة التعامل إلى احتقار الآخر فإقصائه، فإنزال العقوبة به إلى حد امتهان الإرهاب كقناعة أخيرة بما تبناه من أفكار قاتلة والعياذ بالله، وتحضرني هنا كلمة لمرشد الإخوان المسلمين الأسبق الأستاذ حسن الهضيبي، حينما سُئل عن حكم المنحرفين عن الجادّة قال كلمة مشهورة: >نحن دعاة ولسنا قضاة<.
خامساً: التأكيد على أخوة الدين والتعامل الاجتماعي. فنحن أبناء دين واحد ووطن واحد، ولا فكاك لنا من إزالة الشبهات ونزع سوء الظن من القلوب، عبر الحوار الهادئ الإيجابي، لأن الاختلاف في المفردات العقدية أقل بكثير من نقاط الالتقاء كما سيتبين، وما ينتظرنا من واجب النهوض ببلدنا ومجتمعنا أكبر بكثير من أي اختلاف في وجهة النظر وهذا لا يتم إلَّا بالتعاون والعمل المشترك، انطلاقاً من أخوة الإيمان، {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِْ}.
سادساً: وضع النقاط على الحروف: فالاختلاف بين السنة والشيعة مضخم جدًّا، ويُعطى حجماً أكبر من واقعه، فالكلّ يشهد الشهادتين اللتين تعصمان وإلا فإن الاختلاف المذهبي بين الشافعية والحنابلة، أو الموالك والأحناف لا يقل أبداً عنهم والجعفري، وتبقى قضية الاختلاف في موضوعي الإمامة والعدل الإلهي بالنسبة للعقائد، إضافةً إلى بعض الممارسات الطقوسية كزيارة القبور، والبكاء على الشهداء والأموات، والنظرة إلى الصحابة... إلخ. وغيرها من النقاط، قضايا فيها نقاش، وهناك الكثير من الفئات والمذاهب التي قد تجتمع على نقطة وتختلف في نقطة أخرى. وأرى أن هذه النقاط التي يتباين فيها التقارب والتباعد بين الطوائف والفئات، هي التي يجب أن تكون موضوع الحوار الذي يجب أن يناقش بالنسبة للمسألة العقائدية.
ولو شئنا أن نُسمِّي بعض النقاط التي قد نلتقي عليها فهنالك على سبيل المثال:
- الإمامة: هل يُحدد الإمام ويُعيِّنه الله ورسوله، أم الأمة (أي هل هو منصب إلهي أم بشري)، وهل نُسلَِّم لكل من تولَى منصب الإمامة حتى لو نزى عليه بالقوَة؟
- المهدي: هل هو رؤية مذهبية أم دينية عامة؟ أي أنه قضيّة إسلاميّة مشتركة؟ وهل يستوجب الاختلاف في التفاصيل خلافاً يدعو إلى الفُرقة والتناحر؟
- الصحابة: هل هم عدول لا يجوز عليهم الخطأ؟ أم بشر يصيبون أو يخطئون حسب اجتهادهم؟
- العدل الإلهي: هل يصدر الخير والشر من الله تعالى أم منه يصدر الخير ومن الأنفس يصدر الشر؟
- القول في القضاء والقدر!
- الولاية والبراءة: هل يلزم المسلم نصرة الحق مع خذلان الباطل أم ننصر الحق ولا شأن لنا بالباطل؟
وهناك بعض المفاهيم قد نختلف في تحديدها مثل العصمة - التقية - الشفاعة... وهكذا، وكلها قضايا في مجملها فكرية كلاميّة يمكن التوصّل فيها إلى حدٍّ مقبول من التوافق والرضا بما يتماشى مع كلّ القناعات.
والأمر الضروري هنا هو أن نضع قواعد للاتفاق والاختلاف لكي نعرف كيف وعلامَ نتفق، وكيف وعلامَ نختلف!
سابعاً: توحيد الصف الوطني: وهو أهم هدف يجب أن ينشده الجميع ونضعه نصب أعيننا، وإذا كنّا فعلاً أتباع كلمة التوحيد فلا بد أن نرعى بقلوبنا ومشاعرنا وجموعنا وحدة الكلمة، لأن فيها مصالحنا، ورفعة ديننا وعزة أمتنا. وهذه الكلمات ليست مجرد شعارات نرفعها وإنما هي أهداف علينا أن نحققها، وكل ما سبق من الأهداف التي ذكرناها ليست إلا مقدمة لهذا الهدف الذي لا يكون الحوار ناجحاً إلا بتحقيقه. وما لم يتحقق التعايش الاجتماعي عبر إنجاز وممارسة كل الأهداف التي سبقت، فإن الحوار يبقى ناقصاً أو فاشلاً، وكل حوار يعجز عن تحقيق وحدة الصف الوطني، وتلاحم فئات المجتمع هو لا حوار.
* كفاءة المتحاورين
قيل في الأمثال: «أعط القوس باريها». فلكل مهمة رجالها، ولكل عمل خبراؤه وفنيّوه، وإذا انبرى للحوار أفراد يمثلون فئتهم أو طائفتهم فينبغي بعد التوكل على الله:
1- الاقتدار والكفاءة: أن يتحلى الواحد منهم بالاقتدار والكفاءة، والمعرفة وسعة الاطلاع والشمولية، واضعاً أهداف الحوار نصب عينيه، ملمًّا بإيجابيات التعايش ليؤكد عليها، وبسلبياته ليتفاداها.
2- تمثيل كافة الآراء: قدرته على تمثيل كافة الآراء والتوجهات في طائفته ليكون مرضيّاً عند الجميع. والكل يعتبرونه ممثلاً لهم، وناطقاً باسمهم.
3- الشجاعة الأدبية: أن يتحلى مع رجاحة الرأي بالشجاعة الأدبية والمسؤولية، فلو لم يكن جريئاً في الحق، وسكت، ضاع حقه، وبالتالي حق من يمثلهم.
4- العمل الجماعي والشورى: أن يحكم الوفد روح العمل الجماعي والشورى، وأن يظلّ الوفد على اتصال برموز الطائفة، مستقرئاً أفكارهم، مستعيناً بتوجيهاتهم.
تلك أبرز النقاط في موضوع الحوار حيث حاولنا أن نتطرق إليه من كافة الجوانب التي قد ترش الضوء أجوبةً لأسئلة تظل قائمة حتى يستكمل الموضوع غايته، مع بقاء السؤال الأكثر إلحاحاً: ما هو الضمان لنجاح الحوار؟ هل ترعاه الدولة؟
هناك من يتردد في المشاركة في حوار تُهيّئ له الدولة، لاعتقاده أنّ المشاركين سيتعرّضون لضغوط رسميّة، يخرج المتحاورون بعده من أجواء الحوار المصطنع، إلى الفضاء الخارجي، حيث الصراع والاحتراب، في حين يرى آخرون، أن الحوار إن لم يكن له ضابطة رسمية، فلن يتقيّد بنتائجه الكلّ، لا سيّما من يظنّ أنّ خسارته أكبر من مكاسبه، وأيًّا كان الأمر يبقى الحوار البنّاء مطلبًا مُلِحًّا، لأنه أسلوب دينيّ عمليّ، وضرورة حضاريّة لإقامة علاقات المودّة، ومدّ جسور المصلحة بين جوانب المجتمع المختلفة.
نسأل المولى الكريم أن يمنّ علينا بنعمة الحوار، فيسدد لذلك المطلب الخطا، ويحقق لنا به المُنى، ويُلهمنا به سلوك سبيل الهدى، إنه نعم الهادي ونعم المُعين، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على سيدنا محمّد وآله الميامين وصحبه المهتدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.