فؤاد إبراهيم *
ما زال السؤال النهضوي الذي طرحه الأمير شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون.. وتقدم غيرهم؟ يتردد على امتداد هذا القرن، ويعاد انتاجه وتوظيفه في عملية البحث عن إجابة نهضوية. فقد كان السؤال ضرورياً لتحديد جذور المحنة في الأمة وتشخيص أدوائها، وتلمس أصول النهضة وشروطها، ولكن المتأمل بعد مرور قرابة مأة وخمسين عاماً على المرحلة التأسيسية لتداول الفكر النهضوي أن النتائج التي اسفرت عن حركة التداول كانت مدمرة.
وها نحن نعبر إلى القرن الواحد والعشرين ونحمل معنا نفس السؤال النهضوي الأول، دون أن نحاول تفكيك سر الإخفاقات التي جابهت مشروع النهضة، بل نحاول تفكيك التشابكات المرجعية، والتي ما زلنا نشهد دفق ثنائياتها: القديم والجديد، والأصالة والمعاصرة، الأنا والآخر.. لتنشأ على وقع التشابكات هذه سلسلة من التساؤلات حول الاشكالية النهضوية التي ظلت دون إجابة حاسمة.
لقد دأب غالبية مثقفي النهضة في المشرق العربي على قراءة (النهضة) من زاوية معرفية خالصة، امتثالاً لشروط النهضة الأوروبية ومراحلها، فوقفوا على العلاقة المطلوبة بين الفكر والنهضة الاجتماعية مسترشدة بالولادة الأوروبية الجديدة منذ عصر التنوير وحتى الثورة الصناعية الكبرى، فاحتسبوا ذلك التسلل النهضوي (قانوناً) عاماً وحتمياً على مشاريع النهضة قاطبة.
وبناء على تلك العقيدة ركب المثقفون النهضويون المثال الأوروبي على الحالة الشرقية (العربية) فقالوا بأن مواجهة معضلات النهضة تتم من خلال قراءة الواقع الشرقي أوروبياً، وذلك بالطريقة التالية :
- نقد الموروث (يساوي الدين): كأساس للوعي الشرقي الجديد، أذ درج بعض المفكرين على الاعتقاد بأن حركة التنوير والوعي لا تتم إلا بتفكيك الموروث الديني السائد، فقامت النخب التقدمية بنمذجة الواقع العربي بالواقع الأوروبي، عن طريق استعارة أصول الحركة التاريخية الأوروبية التي تبلورت بصورة جلية في القرن الثامن عشر الميلادي، مؤسسة على الظواهر الانسانية خلال فترة العصور الوسطى التي تحيل إلى التشابك بين الانسان والعقيدة ممثلة – في التطور الأوروبي الانساني – في رجل الكنيسة.
ويحدد الدكتور محمد عابد الجابري العوامل الاولى المحددة لثنائية الدين والدولة في المرجعية النهضوية العربية على النحو التالي :
أولاً : استلهام التجربة الدينية الأوروبية .
ثانياً : مشكل الطائفية الدينية .
ثالثاً : ربط النهضة بالفصل بين الدين والدولة أي استلهام النهضة الأوروبية(1).
وانطلاقاً من قاعدة نقدية للموروث، عمم جيل النهضة التراث العثماني المؤسلم على الواقع الشرقي، فوقع في نفس الاشكالية الأوروبية، من حيث تركيبه صورة الإسلام من خلال الواقع العثماني، فقرأ الإسلام ملتحماً بسيرة السلطنة العثمانية، وافرازاتها على مستوى الفكر والحضارة الشرقية، فنجد أن ناصيف نصار – على سبيل المثال لا الحصر – قرأ الواقع العربي الإسلامي من خلال سيرة العصور الوسطى الأوروبية وقال (أن النص القرآني كان النص الأساسي الأعلى على امتداد العصور الوسطى العربية والإسلامية..) (...) مستنداً في ذلك على مفهوم العصور الوسطى في أوروبا التي عاشت الظلمة والقتل والعصبية، ولعله افاد من نمذجة أروين رورنتال (الكاتب اليهودي) في كتابه (الفكر السياسي في العصور الوسطى الإسلامية)(2).
والمتأمل في هذا النص، لا يجد صعوبة في استنتاج تلك النمذجة – التي تكاد تطغى على كتابات النخب الحديثة – الواضح افتقارها إلى العلمية والقراءة الموضوعية للتاريخ، لا يغدو مجرد كونه ترديداً لأفكار وتصورات أجنبية، فهل يمكن لكاتب يتحرى الموضوعية ويعتمد المنهج العلمي في بحثه أن يسحب النصرانية في العصور الوسطى على الإسلام في تلك الحقبة التاريخية رغم شهادة غالبية المفكرين الغربيين بالتمايز الشديد بينهما، لقد أدرك الغرب الفارق الكبير بين الإسلام والشرق والنصرانية في الغرب، فقد بين مكسيم رودنسون مؤلف كتاب (سحر الإسلام) كيف أنه في القرن السابع عشر الميلادي وبعده كان الإسلام يعتبر في الغرب رمز التسامح والعقل على النقيض من الدين المسيحي ومذاهبه المتعصبة المعادية للعقل(3).
وهذا لا يلغي القول بأن كون تلك التصورات تتجه غالباً إلى الأديان لا إلى المتدينين، بما ينشأ عنه تزوير للوعي، ففي أوروبا لم تنشأ الظلامية والاستبداد الكنسي من الدين المسيحي لولا الوعي الخاص الذي ينتجه الاتباع في الواقع، ويوظفونها في النشاط الاجتماعي والسياسي، إن الاشكالية المصوبة إلى الدين المسيحي في أوروبا في جوهرها تندك بقوة في النظام الاجتماعي والسياسي الأوروبي فتعكس تناقضاته على قاعدة تبريرية يستعير رجال الكنيسة عناصرها من التراث المسيحي.
فالمسيحية لم تحكم أوروبا بمقدار ما حكمت أوروبا المسيحية، وهذا ما لحظه – مبكراً – إمام المعتزلة القاضي عبدالجبار ابن أحمد (415هـ-1024م) (فإن النصرانية عندما دخلت روما لم تتنصر روما، ولكن النصرانية هي التي ترومت) فالقيصر الوثني الذي كان يحكم بسلطان الحق الإلهي، أصبح رأس الكنيسة، يحكم أيضاً بالحق الإلهي بمعنى أن أوروبا طوعت المسيحية لتتسق مع تطلعاتها وأغراضها السياسية(4).
ويتحدر برهان غليون من نفس الأصول المنهجية في قراءة التاريخ الثقافي العربي مبنياً على تحقيب التاريخ الشرقي بضبطه على المدى الزمني الأوروبي، حين ينطلق من حقيقة أن الفكر العلمي لم يواجه بالتعسف داخل التاريخ العربي مثلما جوبه بالإضطهاد من قبل الكنيسة في التاريخ الأوروبي خلال العصور الوسطى، وذلك لأن التاريخ الثقافي العربي خال من (المحاولة العلمية الناضجة) ويستدرك (ولا نقول ذلك على سبيل المفاضلة) فقد استشهد عدد كثير من المفكرين العرب والمسلمين أيضاً في القرون الوسطى لتبنيهم آراء دينية أو تصوفية مخالفة للآراء السائدة في عصرهم رغم أن التاريخ العربي – الاسلامي لم يذكر خبر مقتل أحدهم لآرائه العلمية. والرأي العلمي لدى غليون يكتسب معنى خاصاً تعكس نظرته التجريبية للعلم، فالفكر العلمي يجد معناه الحقيقي لدى غليون بعد عصر النهضة الأوروبية، وما قبل ذلك التاريخ عاش العرب والعالم فراغاً علمياً أو ما وصفه بـ (انحسار الفكر العلمي عن العالم العربي)، ليخلص من ذلك إلى ضرورة توفير الشروط التاريخية والاجتماعية والفكرية التي تحدد اطار الحياة العربية الروحية والمادية، ومن هذه الشروط (تماهي المسعى العلمي مع عملية النقل المباشر عن الآخر) واعتباره العلمية في كل ما هو حديث(5).
وفي اطار النمذجة تلك تقع النخب الحديثة صريعة لسياق النهضة الأوروبية لقتيم على تفكيك الايديولوجيا بناءها الفكري ومجتمعها النخبوي، مؤسساً على العقلانية (الغربية) لتقرر فصل الدين عن الدولة لتنحو مثل منحى الأوروبيين، ثم تقوم النخب الحديثة العربية بشرح الانفصام بين الدين والسياسة والاجتهاد في تكييفه مع الواقع الشرقي كما نجد ذلك في كلام محمد عابد الجابري ما نصه (الدين في الاسلام من شأن الفرد وحده، فالعلاقة بينه وبين الله علاقة مباشرة تتم بدون توسط، ما يحتاج إليه مثل هذا المجتمع هو فصل الدين عن السياسة، بمعنى تجنب توظيف الدين لأغراض سياسية، باعتبار أن الدين يمثل ما هو مطلق وثابت بينما تمثل السياسة ما هو نسبي ومتغير. فالسياسة تحركها المصالح وتسعى إلى كسب مصالح أما الدين فيجب أن ينزه عن ذلك وإلا فقد جوهره وروحه)(6).
إن ما تحاول النخب الحديثة الوصول إليه من فكرة فصل الدين عن الدولة يتجاوز حد التوظيف السياسي للدين، بل تمتد لتشمل فصل الثقافة والتاريخ والتراث العربي والاسلامي عن حاضر المجتمع العربي ومستقبله، ففي تحليل خالد الحسن لدعوى فصل الدين ع الدولة التي أثارها المثقفون العرب يقول ما نصه (لقد أتوا بفكرة فصل الدين عن الدولة تقليداً لأوروبا، وأوروبا في معركتها مع الكنيسة لم تفصل الدين عن الدولة، لأن الوحدة السلطوية والتشريعية بينهما لم تكن موجودة لعدم وجود التشريع أصلاً في المسيحية، ولكنهم فصلوا الكنيسة عن سلطة الدولة وهي مشكلة لم تكن قائمة لدينا بالأسلوب الأوروبي ولكن تحويرها إلى فصل الدين عن الدولة يعني بالنسبة لنا فصل التشريع والثقافة بكاملها عن المجتمع، أي إلغاء ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا وهذا هو التدمير بعينه)(7).
إن ثقافة النقض (أو إن شئت التفكيك) التي اتبعتها النخب الحديثة في الوصول إلى طريق الخلاص، عبر تبني منهج البحث التاريخي والاجتماعي الغربي المتشكل في مرحلة اشتداد الصراع مع الكنيسة قد تحولت إلى نمط فكري سائد في الفكر العربي، والناشىء عن استجابة (التسليم) من جانب النخب الحديثة للعلوم الغربية وتصنيمها واعتبارها قوانين تسري مفعولاتها على باقي المناطق والمجتمعات ليعاد انتاج التخلف واللا تاريخية – التي تقذف بها النخب الحديثة على مجتمعات الشرق التقليدية – ولكن هذه المرة في الثقافة الحديثة، ذلك التسليم الذي يحيل إلى توثين الثقافة الغربية والتماهي ما اطروحاتها ومشاريعها ، وكما يقول هشام شرابي عن هذه الظاهرة (ما زلنا فريسة التمويه الذي حمله إلينا مثقفونا بتقديسهم "للتراث الغربي" ، و "الحضارة الغربية" وبعجزهم عن اتخاذ أي موقف نقدي صحيح نحوها.. فأصبحنا نأخذ بكل ما هو غربي ونرفض كل ما يناقضه في ثقافتنا)(8).
الإلتحام بالفكر القومي الأوروبي المؤهل لأن يكون وعاءاً لمشروع النهضة واعتباره قاعدة لارتكاز الخطاب العربي العام، وإعادة انتاجه بتكييفه مع الواقع المعيش للحفاظ على مسافة احترازية نظرية ومكانية خشية التماهي المطلق مع الآخر.
وبحسب الترتيب الزمني والمعرفي الذي أعده معن زيادة في مقالته (المعالم الأولى للمشروع النهضوي العربي في القرن التاسع عشر) فإن فكر النهضة شهد مرحلتين(9) :
الأولى : التأسيس والتأصيل الممتد على مدى القرن التاسع عشر ويبدأ بظهور محمد علي باشا ومجهوده في إقامة دولة حديثة ويفترض زيادة في المرحلة الأولى بأن كان هناك مخاض ثقافي داخلي خلال المدى الزمني لمرحلة التأسيس والتأصيل، واعتمد رفاعة الطهطاوي نموذجاً بارزاً في هذه المرحلة بوصفه (المفكر الذي وضع المعالم الأولى لمركب ثقافي جديد يجمع بين الثقافة العربية والتقليدية والفكر الحديث في كل موحد) بمعنى آخر أن الطهطاوي كان أول من أرسى مركباً ثقافياً ، يجمع في داخله مكونين ثقافيين تقليدي/عصري .
الثانية : مرحلة التكامل وظهور الفكر القومي : ويفترض معن زيادة أن المركب الثقافي الأول قد تلاشى بـ (نضوج) الفكر القومي وتكامل مشروعه، بما يحيل إلى تحرر (الخطاب القومي الحداثي) من اسار التقليدية.
إن الخلاصة التي خرج بها المثقفون العرب منذ عصر الطهطاوي هي وجوب تمثل المسلك الأوروبي في النهضة، وتالياً أوربة الشرق ما أمكنت القدرة وسمح (خازندار) النهضة الأوروبية بالفيض على الشرقيين من علوم ومعارف وتقنية تعين على التماهي في الغرب، فكان ذلك مأزق النهضة الحقيقي (إن هذا المأزق هو الاعتقاد بأننا لو أخذنا نفس مبادىء الأوروبيين لتقدمنا بمعنى أننا بهذا الاعتقاد ألغينا التاريخ وألغينا العلاقة التاريخية بيننا وبين الغرب وألغينا أيضاً كل صيرورة المسلسل التاريخي والاجتماعي الذي أدى في أوروبا إلى ظهور الثورة الصناعية والثورة السياسية)(10).
لقد ظهر فريق من (المدونين) العرب أمثال بطرس البستاني وشبلي شميل وفرح أنطون واسماعيل مظهر وطه حسين وزكي نجيب محمود ، فتمثلوا السيرة الأوروبية وبدؤوا بنقلها حرفياً واتفق الفريق على أن خيار العرب النهضوي الوحيد يتلخص في الاندماج الفكري والأدبي والفني والاجتماعي ، أي بتعبير زكي نجيب محمود (أن تكون قطعة من أوروبا) (...) وقد استقامت تلك الدعوة في الجيل القومي العربي في المرحلة اللاحقة.(11)
لقد أملى هذا الاعتقاد على الفكر العربي النهضوي اعتماد المرجعية الغربية التي دشنت خلال مراحل متعاقبة يمكن اجمالها في : عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر، عصر الأنوار في القرن الثامن عشر، عصر الحداثة في القرن التاسع عشر، وعصر ما بعد الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين، فالمأزق الكامن في الفكر العربي النهضوي، أو بتعبير محمد عابد الجابري الصراع المحتدم في الشرق هو بين مرجعيتين، تحاول كل مرجعية الانتصار على الأخرى ولكن ليست حسب تصنيف الجابري: (مرجعية تراثية تنتمي إلى الماضي ومرجعية نهضوية تنتمي إلى المستقبل) (...) وإنما بين مرجعيتين: ذاتية وأجنبية، مستقلة وتابعة، إن نقل الصراع المرجعي إلى تلك الثنائية العقيمة والمشوهة يعطف بالصراع خارج المسار التاريخي الذي طرحت فيه أول مرة مسألة العلاقة مع الآخر.(12)
إن التحصن بالتداعيات الناشئة عن تراكمات التجربة السياسية العربية المعاصرة وما استنهضت من مدلولات لاشكالية المرجعية في صيغة ثنائيات متقابلة: الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد.. تحيل إلى أحكام قاسية ومتجنية على طرف لصالح آخر، لتجعل من الماضوية شكلاً من أشكال الرجعية والتخلف والتزمت، فيما تجعل من النهضوية نظيراً للتقدم والعلم والانفتاح.
وهكذا تؤدي تلك الثنائية المشوهة التي وضعت فيها إلى (مشروعية) و (لا مشروعية) في شكل أرهاب فكري مضلل ينسينا أصل الاشكالية الأولى. ليكرس حالة السجال بين الأنا والآخر داخل الدائرة الواحدة، ليرتد الأول منها على الحاضر باتجاه التاريخ حيث الاتجاه المتنامي إلى إحياء سيرة السلف الصالح (التماهي في التاريخ) ويقفز الثاني باتجاه المستقبل بالانقطاع عن ماضيه وحاضره (التماهي في المستقبل) لتؤدي حالة القفز تلك إلى إفراغ الماضي والحاضر والمستقبل.
إن البحث في موضوعية النهضة كما طرحت في بداية المواجهة بين الشرق والغرب كان يعني البحث في سبل الرقي من موقع الأصالة والهوية المميزة، لكي يكون الشرق نداً للغرب، فكان السؤال يدور حول مقدار الاقتباس المطلوب لتلبية شروط الرقي، إلا أن السؤال أخذ بمرور الوقت مساراً مختلفاً مع تطور فكر (الاقتباس) و (النقل) في عالم الشرق المتسق مع الشعور العميق بالانكسار أمام الفكر الأوروبي وتكرس معادلة الغرب الغالب والشرق المغلوب ليعطف بالبحث من عصرنة الأصالة إلى تأصيل العصرنة، لتنبعث من تلك النتيجة ردود افعال متباينة تشكلت في اطار تيارات معرفية: تيار الأصالة الذي وجد في العودة إلى الماضي كهفاً يقبع فيه كوسيلة للتحصن قبالة سيل التغريب الجارف، وتيار المعاصرة الذي أخذه السيل إليه فاكتسب شحنات فكرية عالية التوتر ثم أفرغها فيما بعد إيماناً منه بأن الشرق لا طاقة له على النهضة إلا عبر تلك الشحنات، وتيار حاول تجسير الفجوة بين الأصالة والمعاصرة، محتوياً مبررات الانقسام والانفصام بين التيارين بطريقة توليفية توفيقية.
لقد صبغ الواقع السياسي العربي الفكر النهضوي بصبغته العامة المضطربة بما شهد من تبدلات عميقة على طول التجربة الاستعمارية في الشرق وتالياً قيام الدولة القطرية. إن تسليم النخب الحديثة لتداعيات الواقع السياسي أكد عمق اشكالية المرجعية بمحاكاة الواقع والارتداد على الماضي ليحيل إلى انشطار الخطاب الايديولوجي وتعدده، مثال ذلك انقسام الخطاب القومي على طول الفترة الممتدة من الأربعينات إلى الستينات ثم أندكاكه داخل الخطاب الديني والخطاب الاشتراكي في السبعينات والثمانينات وأخيراً، انفلاشه في التسعينات (ففي السبعينات حيث انحسرت التيارات القومية وحوصرت، وأصبح هناك تيار قومي لا يفصل – بدرجات متفاوتة – بين العروبة الاسلام، وتيار آخر يدمج الاشتراكية بالقومية، وتيار ثالث لا زال يرى (العراق) أساس الأمة العربية وتيار رابع يرى العلمانية توأم القومية (...) ورغم أن هذه التيارات ترتد إلى فترة ما قبل السبعينات بعقود إلا أنها تعكس إلى حد ما (برغماتية) تبريرية قومية تنزع للتكيف مع التطورات الجديدة وضرورات المرحلة واستيعاب حاجاتها، إلا أنها في نفس الوقت تؤكد اضطراب المرجع الفكري لدى النخب الحديثة في الوطن العربي.(13)
إن تسليم النخب الحديثة بالواقع السياسي قد ألجأها – في ظل وجود نظم سياسية قمعية استبدادية – إلى البحث عن مصادر تبرير واحتماء ، فأصبح التفكير في آليات للتقارب مع السلطة والتعايش معها وإن تطلب الأمر اقتطاع جزء من الايديولوجيا أو انتاج خطاب مساوق لخطاب السلطة أو حتى – في بعض الحالات – احراق المراكب بالنظر إلى درجات التفاوت في الاستبداد السياسي بين هذا النظام وذلك، لتنشأ من عملية التقارب تلك ظاهرة (مثقف السلطة) أو (نخبة السلطة) التي لا تقل خطورة عن ظاهرة (فقيه السلطة).
تجديد الاستلاب
إن رصيد الفكر العربي المعاصر يتوقف على قدرته في الخروج من اسار المرجعية الأجنبية، فما تراكم من أفكار حول النهضة والدولة والمجتمع المدني ليست وليدة عملية تفكير ناشئة في الواقع المجتمعي ومستلهمة عناصرها من خصوصياته الثقافية والاقتصادية والتاريخية، وإنما هي ما زالت تتحرك في اطار الحركة الترجمانية التي بدأت مع تاريخ النهضة، مع فارق أن الجيل الأول للنهضة كان يعني بالترجمة للتعرف على مسالك الدولة الناهضة وتقليدها، أما الأجيال اللاحقة فأخذت الترجمة إطاراً معرفياً ومرجعياً ، وقد حفرت حركة الترجمة أخاديد يتجه بعضها إلى الشرق وآخر للغرب، واصبح لدينا مجتهدون داخل الحركة نفسها، أو مراسلون للحضارة الأوروبية. لقد أصبحت حركة النقل مصدراً رئيسياً من مصادر المعرفة، بمعنى آخر أننا على أمتداد ما يسمى بعصر النهضة لم نؤسس لمرجعية مستقلة نابعة من البيئة الفكرية الشرقية والأصول التاريخية للمجتمعات الشرقية، وإنما الحاصل أن ثمة توسعاً استهلاكياً للفكر الغربي تحقق خلال النهضة مع استقرار معادلة الغالب بالمغلوب، فالتغيير حصل في مدى التوغل في النظام المعرفي الأجنبي، حتى اصبح مثقفونا يتحاورون في أي الخطابات المعرفية الغربية يجب أن يتوجهون هل إلى خطاب عصر الحداثة أو ما بعد الحداثة أو كليهما، فيما واصل بعضهم نشاطه النقلي المعرفي للغرب ففي تعليق لبرهان غليون على كتاب (الايديولوجية المعاصرة) للكاتب المغربي عبدالله العروي (أراد العروي.. أن يثبت للتيار الليبرالي العربي أن كل أفكاره هو أيضاً منقولة عن الغرب. هكذا يصبح الناس جميعاً سواسية، وإذا كان الكتاب يشكل بحد ذاته اعترافاً ذاتياً، إلا أنه يعكس ما هو أكثر من ذلك: أي التسليم العملي بالقدر الغربي وبترجمة الغرب. والعروي يريد أن يترجم غرباً آخر غير الغرب الليبرالي غرباً هيجلياً مراكسياً معاً) (...) ويظهر ذلك في أغلب كتابات العروي ففي كتابه (مفهوم الدولة) يظهر العروي كمترجم وشارح بارع لنظريات هيجل وماركس وأنجلر وماكس فيبر في الدولة، ولا يشعر القارىء لكتاب العروي أنه يصدر عن خلفية شرقية أو يعبر عن فكرة شرقية، وإنما يحيل إلى فلسفة ماركسية محضة، وينسحب هذا الرأي على كتبه الأخرى تقريباً.(14)
إن (عقيدة الترجمة) لدى العروي مؤسسة على قناعة بانفكاك الرباط بين الحاضر والماضي وبين التراث والتجديد، يقول في كتابه (العرب والفكر التاريخي) إن (رباطنا بالتراث الاسلامي في واقع الأمر قد انقطع نهائياً وفي جميع الميادين، وأن الاستمرار الثقافي الذي يخدعنا، لأننا ما زلنا نقرأ المؤلفين القدامى ونؤلف فيهم، إنما هو سراب وسبب التخلف عندنا الغرور بذلك السراب وعدم رؤية بسبب اعتبارنا الوفاء للأصل حقيقة واقعة، مع أنه أصبح حنيناً رومانسياً منذ أزمان متباعدة) وعد العروي العودة إلى اللغة والتراث والتاريخ القديم (الاستلاب الحقيقي) ووصفها بأنها (الأوزار التي لن نتحرر منها الا بكسب وعي تاريخي)(15)
الترجمة والهوية
إن المأزق الخطير في اطار اشكالية المرجع في الفكر العربي تنحصر في تموقع الهوية داخل عملية النقل والاقتباس والترجمة، وثانياً المدى الزمني لعملية النقل خصوصاً إذا كان الحديث يقتصر على منهج التفكير العلمي، وإنما أن تتحول عملية النقل ظاهرة ثقافية مؤصلة في الفكر العربي فذلك يعني استلاب الهوية الثقافية، يتجاوز مسألة تعميم المعارف والعلوم لأن حديثنا عن نقل في اتجاه واحد وليس نقلاً متبادلاً وفي موضوعات محددة.
إن الميل الدائم والمتفاعل نحو النقل كان له خطورته البالغة على الهوية ، فبينما كان الحديث في بداية عصر النهضة يدور حول ما يجب أن ننقله من الوافد، أصبح حديث الجيل اللاحق يدور – ومن موقع فكر الوافد – ما يجب أن ننقله من التراث – كما يقول الأستاذ طارق البشري – معلناً التماهي في المركز الأوروبي الذي يدفع جيل النهضة للقول: ( إن الميل إلى الحداثة) لا يمكن مقاومته، وليس هناك أي إمكانية أخرى ملموسة حتى الآن للحديث عن طريق جديدة أو عن حضارة جديدة)(16).
كان جيل النهضة الأول يدرك معنى وحدود (النقل) المطلوبة كونه ظل محكوماً إلى هويته الثقافية والتاريخية قبل بداية الاحتكاك مع الآخر المتفوق وبروز الحاجة إلى النقل عنه، أما المتأخرون من رواد فكر النهضة فقد أبوا إلا التماهي مع الآخر قبل ضبط الهوية الخاصة بهم وتلمس جذورهم الثقافية والتاريخية، فانتقلوا إلى ضفة الوافد ومن هناك قرأوا التراث والواقع المجتمعي العربي وفصلوا له ثياباً بموجب وحدات القياس الأجنبية .
ويبرز هشام شرابي نموذجاً متقدماً في هذا الجيل كما يروي تفصيل قصته مع الوافد في مقدمة كتابه (مقدمات لدراسة المجتمع العربي) وما نصه: (وكنت حتى سنة 1967 أعالج الماركسية من زاوية الفكر الليبرالي الكلاسيكي، فأتناول ماركس من حيث أنه مفكر أوروبي (آخر) ..) ويمضي (وفي صيف 1967 أخذت في إعداد محاضراتي لفصل الخريف، ولسبب لا أدري مصدره أبتدأت بماركس وما زالت أذكر قراءتي لماركس ذلك الصيف! شعرت كأنني أقرأه للمرة الأولى. لم أعرف تجربة هزتني بهذا الشكل منذ قراءتي الأولى – وأنا في السابعة عشرة – لنيتشه. لكن وقع نيتشه، في تلك السن كان عاطفياً أكثر منه فكرياً، بينما نفذ ماركس إلى أسس تفكيري).
ومن أجل تفسير الظواهر الاجتماعية والفردية السلبية في المجتمع العربي ودراستها وتحليلها، يقول شرابي (فانصرفت إلى القراءة المكثفة في العلوم الاجتماعية ومناهجها، وخاصة في علم الاجتماع والانثروبولوجيا وعلم النفس التحليلي واستغرقت قراءتي هذه ما يقارب السنتين، وكان لها أكبر الأثر في تطوير فكري وامتلاكي القدرة على معالجة الوقائع الاجتماعية بشكل علمي منتظم) وخلص شرابي (كان لقراءتي فرويد أثر في نفسي كالأثر الذي تركه ماركس بعد قراءتي الجديد له)(17).
المرجعية الماركسية
وتنسحب الحالة على جيل الستينات الذي اعتنق المنهج الماركسي كمرجعية فكرية اعتبرها الأساس في نظامه المعرفي وحسب قول برهان غليون (إننا من الجيل الذي كان تكوينه السياسي والفكري في الدرجة الأساس ماركسياً. وهذا جزء من الأرضية الحقيقية، أو الايجابية أيضاً لهذا التكوين، خاصة في مرحلة الستينات، والتي لم يكن فيها للفكر الوصفي، أو الفكر اليميني، أو الفكر الليبرالي، أي قوام في الفكر العربي، أو الثقافة العربية) ولم تزد الممارسة الفكرية والسياسية الماركسية جيل الستينات الا تمسكاً بالتكوين الأول (ونحن مرجعيتنا الفكرية الأساس قومية وماركسية دون أي شك)(18)
هذه المرجعية التي أسرت هذا الجيل ليتبنى الماركسية طموحاً نهضوياً وسبيلاً في التحرر السياسي ومنهجاً في التحليل التاريخي، لقد قادت الماركسية المثقف العربي إلى تفسير الاسلام والتاريخ الاسلامي ماركسياً، ومن نماذج هذا الجيل، أحمد عباس صالح في كتابه (اليمين واليسار في الاسلام) الذي يفسر فيه الصراع السياسي في عصر الاسلام من منظور ماركسي خالص أو صراع طبقي محض، فيعتبر حلف الفضول الفئة الأقل ثروة من الفئة التي كان يقودها أبوسفيان (وقد بدأ النبي محمد، الذي كان موضعه عائلياً واجتماعياً في حلف الفضول، في بداية دعوته وكأنه يحاول احياء نزاع قديم على السلطة بين الهاشميين والأمويين خسرت فيه هاشم وربحت فيه أمية وأحلافها) ثم يقول عن خلافة أبي بكر بما نصه: (اختيار أبي بكر الصديق كان اختياراً موفقاً أقصى غاية التوفيق، فهو رجل يرضى عنه اليمين واليسار ولا يستطيع أن يجادل فيه الأنصار) (...) وترددت الأفكار ذاتها في كتابات اليسار العربي منها: أنور الخطيب (النزعة الاشتراكية في الاسلام)، وبندل الجوزي (تاريخ الحركات الفكرية في الاسلام) ود. إميل توما في (الحركات الاجتماعية في الاسلام)(19)
إختلال المفاهيم
لقد هجر هذا الجيل مكانه الأصلي حين حاول تركيب صورة عن واقعه الثقافي والاجتماعي والتاريخي ولكنه في هجرته ركب صورة مزدوجة لا تعكس مكانه الأصلي ولا موطن هجرته، فجاءت اطروحاته مبتسرة مشوهة، تكشف عن الاختلال العميق في الأصول الفكرية التي عتمدها هذا الجيل في قراءة النهضة ومن نماذج الاختلال ذاك، استدعاء بعض النصوص التراثية للاحتماء بها داخل الفكر الوافد، واعتمادها كمصادر تبرير تخفف من وطأة الانفصام عن الواقع والأصالة، ومن ذلك قراءة الفكر الخلدوني، فما هو السر في تركيز النخب الحديثة على تراث ابن خلدون؟
كتب د. محمد الذوادي، في مجلة (الفكر العربي) في بيروت يونيو 1983 مقالاً بعنوان (بعض أوجه التشابه والاختلاف بين التفكير العربي والخلدوني والتفكير الغربي الاجتماعي) ومن أوجه الشبه تلك تفسير ابن خلدون داروينياً، فقد فهم المثقف العربي من كلام ابن خلدون (أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو في اختلاف على الأيام والأزمنة من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأفكار والأزمنة والدولة)(20) على أنه يعني التطور الواردة في نظرية داروين.
لعل من المفارقات المثيرة أن النخب الحديثة لم تكتشف الفكر الخلدوني إلا من موقع الوافد، حين تعرفت على مفهوم (العصبية) و (الوازع) و (العمران البشري)، ولولا الكتابات الاستشراقية لم يغد المثقف النخبوي من التراث بما يعزز به فكر الحداثة.
لقد ساهمت الكتابات الاستشراقية في دفع النخب العربية إلى استدعاء التراث – كما حلله وفسره المستشرق – لتثبيت الفكر القومي، كما ساهمت النخب العربية العلمانية (اليمينية واليسارية) في عملية التراكم الفكري لدى الغرب ونظرياته عوضاً عن أن تبني لنفسها تراكماً فكرياً خاصاً مفيدة من الموروث الفكري العربي والاسلامي.
الكونية وإلغاء الآخر
وفي سبيل أن يتجاوز المثقف العربي فتنة الثنائية: الأصالة والمعاصرة يتجه إلى تحطيم قيود الأسر المرجعي، ليتحرك ضمن اطار أشمل هو العصر الكوني، الذي تنهار فيه السدود والحواجز بين المجتمعات والثقافات والنظم مبشرة بعالمية الثقافة والعلوم، لينهي المثقف صراعاً داخلياً مريراً طالما نبذه مكاناً قصياً، ويشرح برهان غليون أبرز المبشرين بفكرة العالمية مفهوم عالمية الثقافة القومية على هذا النحو: أن التمحور على الثقافة القومية يفقدها قوتها الذاتية، ولا يعني ذلك التخلي عن الخصائص الحضارية والقومية للثقافة (فبقدر ما تنجح ثقافة في توسيع رقعتها الجغرافية وتعطي لنفسها امكانيات استيعاب وهضم الخبرات، أو التراث العلمي والتقني والروحي، التي تصادفها تصبح أقدر على احتضان الحضارة والتماهي معها، وتحوز على قدرات أكبر للظهور بمظهر العالمية واحتلال موقع الثقافة – المرجع)(21)
إن مفهوم العالمية لدى غليون يتجه ناحية المشاركة في الحضارة والتي تعني كما يظهر في بعض كتابات غليون الحضارة الأوروبية المركز والمثال، ويبني مفهومه على أساس أن العمل بمقولة (أن ما يجب أن نأخذه من الغرب ما سمح للغرب بالتطور والنمو) لم تعد قابلة للتطبيق ويقول (كانت المشكلة الأساسية للعرب منذ باية تحول الثقافة والحضارة الرأسماليتين الغربيتين إلى ثقافة وحضارة كونيتين هي مشكلة التوفيق بين حاجات التكيف مع الوضع الجديد وحاجات وصيانة وضمان الهوية الثقافية القومية..)(22)
ويقترب رأي غليون حول عالمية الثقافة من رأي المفكر الفرنسي المسلم روجيه غارودي (الإسلام دين المستقبل ص89) حين أتى على مفهوم عالمية العلم والمعرفة، واعتبره بأنه يشكل نسيج الثقافة الاسلامية ووجها من وجوه (انفتاحيتها الفائقة)..
فإذا كان الحل يأتي من التماهي في النظام الدولي ، فإن أول سؤال يتبادر للذهن: كيف يتم التوفيق بين التماهي مع النظام وبين الهوية، التوفيق الذي قد ينتهي إلى الاستلاب، وخصوصاً وأن الغرب – كما تقدم – لن يسمح بتعدد الخيارات بحيث يتيح للعرب فرصة استرداد ما يرتأونه من الغرب بما يؤدي إلى تقدمهم واستقلالهم العلمي الحضاري، فالغرب الذي جاء إلينا كان أظهر صور الكولونيالية العالمية، إن الغرب لم يفسح الطريق أمامنا لنختار من حضارته ما يتسق وحاجاتنا وخصوصياتنا، وإنما جاء في صورة استعمار فرض علينا نموذجاً كاملاً صارماً لا مجال فيه للخيارات، والتردد فهو نموذج قسري قهري لأنه جاء استعمارياً، ولم يسمح لنا بخوض التحول الذاتي بمعزل عن تأثيراته وآلياته وعلى حد قول د. علي نصار (الذين جاؤونا بأدوات الحضارة الجديدة لم يتيحوا لنا الفرصة لنعاني من مرارة التحول ولنجري في كياننا وعقولنا التغييرات اللازمة التي تستقيم مع المرحلة الجديدة التي انتقلنا إليها، وبذلك يتلاءم مع ما بداخلنا مع الذي يحدث خارجنا) (...).
إن التماهي في النظام الدولي على أساس فكرة عالمية الثقافة قد تلغي التمايز بين المجتمعات في الهوية، والخصوصية التاريخية والثقافية، والتكوينات النفسية والاجتماعية، بمعنى التماهي مع المستعمر، كما يعني فوضى عارمة (إن من عمد إلى الاقتباس وفق عقيدة (عالمية العلوم) لم يفرقوا بين حتمية أخذها من أصحابها وبين خصوصية الثقافة الناتجة عن خصوصية عقائدها فانطلقوا بالاستعمار والنسخ والتقليد في العقائد والثقافة ليخوضوا معارك تحديث وعصرنة للقضاء على مشاكل غير موجودة لدينا وليستقدموا ما هو نقيض ما لدينا تاريخاً ومحصلة)(23)
فإذا كان العرب الأوائل قد أصيبوا بصدمة الحضارة الغربية، فما حجة عرب اليوم وقد تعرفوا على تجربة الاستعمار الغربي ؟
اشكالية المصطلح
إن مجرد نظرة فاحصة على تراث الفكر النهضوي تكشف عن جنوح النخب الحديثة لاستعمال المصطلحات والمفاهيم الغربية دونما هوادة أو ضوابط للتعبير عن فكر النهضة ، بما يشكل في جانب منه قطعاً مع منظومة المفاهيم والمصطلحات التراثية الفكرية والسياسية، واتصالاً وثيقاً مع منظومة اصطلاحية ومفهومية جديدة نشأت وتنامت مع قيام الدولة الحديثة في الغرب والغزو الاستعماري الغربي للبلاد العربية والاسلامية وتالياً انتشار التعليم الحديث على الطراز الأوروبي.
فهل كان استخدام المصطلح الأجنبي يعكس غياب ما يقابله في اللغة العربية، أم أنه يعكس الحاجة إلى تمثل الفكر النهضوي الأوروبي لتعميمه، أم هو ترف فكري لا شأن له بالفكر النهضوي..؟
كل تلك التساؤلات صحيحة ومشروعة، وتجد مصاديقها في كتابات المثقفين العرب وإن الإجابة عليها بصورة كلية ضرورية لارتباطها بأصل اشكالية المرجع الفكري الذي نحن بصدد مناقشته.
ويجب القول ابتداءً : أن المفاهيم والمصطلحات لا تنفك بأي حال عن امتدادها التاريخي وعمقها الثقافي/ المجتمعي، فللمفاهيم أسس معرفية تاريخية محددة ومستقلة يصعب نمذجتها في اطارات مجتمعية أخرى، باغفال دلالات المفاهيم ومقاصدها، ولا يعني ذلك إلغاء عملية التواصل الثقافي والحضاري بين المجتمعات، وإنما الاقرار بوجود خصوصيات حاكمة على منظومة المفاهيم في كل مجتمع، لها فلسفة خاصة وفهم خاص وروح خاصة.
إن رواج المصطلح الأجنبي في الفكر العربي يتجاوز حدود تبادل العلوم والمعارف ويستقر في اطار فصل المصطلح عن دلالاته الثقافية والتاريخية، إذ يفضي نقل المصطلح بمفرده إلى اخراجه من سياقه المفهومي ونسقه التاريخي والاجتماعي والثقافي، ومضمونه الفلسفي تماماً كما لو أن الفكر الأوروبي استعار مصطلحات عربية اسلامية مثل : الجهاد، والاجتهاد، والاجماع، والشورى، وأهل الحل والعقد.. فهذه المصطلحات لها وعي خاص، وروح خاصة، ومفهوم خاص لدى الانسان العربي والمسلم، تماماً كما هو الحال بالنسبة للانسان الأوروبي إزاء مصطلحات مثل : الثورة ، وحرية الفكر، والرأي العام، والديمقراطية، والبرلمان، والمجتمع المدني، والليبرالية، والاشتراكية، والاقطاع. فالمصطلح يلعب دور الناقلة للفكر والثقافة، ويعكس واقع المجتمع وتطوره التاريخي. يقول د. محمد عمارة (عند الفحص والتدقيق، وفي كثير جداً من الحالات وبإزاء العديد من المصطلحات، أمام (أوعية) عامة و (أدوات) مشتركة بين الحضارات والانساق الفكرية والعقدية والمذهبية، وفي ذات الوقت أمام (مضامين) خاصة و (رسائل) متميزة، تختلف فيها، وتتميز بها هذه (الأوعية) العامة و (الأدوات) المشتركة لدى أهل حضارة من الحضارات المتميزة وعند كل نسق أو مذهب أو عقيدة من الانساق الفكرية والمذاهب الاجتماعية والعقائد الدينية..)(24)
إن مجرد عرض نماذج من المصطلحات الغربية نستطيع من خلالها فهم حقيقة اشكالية المصطلح.
العلمانية :
ظهرت العلمانية (SECULARISM) إبان صراع الكنيسة والشعوب الأوروبية وتبلورت فيما بعد في اطارات فكرية وسياسية متعددة، كان لها دور كبير في تنميط الحياة في المجتمعات الأوروبية لجهة اقرارها كنظام شامل يستوعب مجمل مسارات الحياة في أوروبا.
ويعود أصل مصطلح (العلمانية) إلى الكلمة اليونانية (لايكوس) ومعناها ما ينتمي إلى الشعب، إلى العامة، وذلك في مقابل (كليروس) أي الكهنوت: رجال الدين يشكلون فئة خاصة (رجال الكنيسة بالنسبة إلى المسيحية) فاللايكي هو كل من ليس كهنوتياً، من لا ينتمي إلى رجال الكنيسة(...)، وتطورت (العلمانية) في عصر الثورة الفرنسية فأصبحت تعني (رؤية للحياة تعتمد في أساسها على استبعاد الدين وكل الاعتبارات الدينية وتجاهلها، ومن ثم فهي نظام أخلاقي يعتمد على قانون، يرى أن المستويات الأخلاقية والسلوكيات الاجتماعية يجب أن تحدد من خلال الرجوع إلى الحياة المعيشية والرفاهية)(25)- (26)
وقد تباينت أستعمالات الكلمة إذ يستخدم عالم الاجتماع الغربي الناطق بالانجليزية دنيوية (Secularition) بدلاً من علمانية (Laicite) لائكية كما اختلفت طريقة نطق العلمانية في العربية فبينما ينطقها البعض بـ علمانية والتي تعني العلمية ينطقها البعض بـ علمانية المأخوذة من كلمة عالم.
المجتمع المسيحي الفرنسي نظر إلى العلمانية بكونها الممارسات الهادفة إلى استبعاد الكنائس من السلطة السياسية والادارية وتحديداً في المجال التعليمي، أما الدنيوية فالحال يختلف كونها تستند على تجربة تاريخية خاصة بالمجتمعات الانكلوسكسونية حيث يدين الغالبية بالمذهب البروتستانتي، فالدنيوية تعني (جعل الأمر دنيوياً : دنيوية الاملاك الكنسية) وتعني (استعادة الأشخاص والأشياء الحكومية بالحياة الكنسية إلى الحياة العلمانية جعل الدين دنيوياً) وفي المخيلة الفرنسية الكاثوليكية مواجهة بين بيروقراطيتين : الدولة والكنسية، أما في المخيلة الانكلوسكسونية فإن مفهوم الدنيوية لا يعزى إلى مبدأ ينتصر للدولة على الكنسية، بل إلى عملية نفسية يستهدف أولاً أفراد المجتمع، فالدنيوية بالنسبة للانكلوسكسون هي (العملية التي تفقد من خلالها المؤسسات الممارسات والمعتقدات الدينية معناها الاجتماعي)(27)
وبالنظر إلى العلمانية كظاهرة سياسية يربط برهان غليون الفلسفة العلمانية بظاهرتين اساسيتين كان لهما تأثير كبير على طبيعة انتشار هذه الفلسفة على الفئات الاجتماعية وعلى الطوائف المختلفة :
الظاهرة الأولى : التوسع الغربي والسيطرة والاستعمار. (وقد استخدم المستعمرون الانكليز والفرنسيون المدرسة الحديثة العصرية والدعوات الفلسفية العلمانية وسيلة لتمكن سيطرتهم على البلاد المفتوحة وتدعيم نفوذهم وكتاب جمال الدين الأفغاني (الرد على الدهريين) مكرس لنقد المدرسة الطبيعية التي أنشأها الانكليز في الهند لبث الدعوة تحت ستار الاصلاح الاسلامي للعلمانية.
الظاهرة الثانية : ارتباط الدعوة العلمانية بالحداثة والتطور والحضارة. (فالحضارة علمية في رسائل تحقيقها وتقنياتها، أو هكذا فهمت من قبل الغربيين والشرقيين على السواء، وهي علمانية من حيث نظامها الاجتماعي، ومن شأن هذا أن يدخل البلبلة في أذهان العرب الذي لا يعادل تمسكهم بهويتهم المتمحورة بشكل عام حول الدين، اسلامياً كان أم مسيحياً شرقياً الا عطشهم الشديد للتقدم العلمي والحضاري لمواكبة العصر واستعادة مجد أجدادهم) ويميز غليون بين مفهومين للعلمانية : العلمانية كفلسفة حديثة متعارضة مع اللاهوت ومكونة للقيم التي يقوم عليها النظام الحديث، نظام الدولة القومية، أو دولة الأمة وحرية الفكر والاعتقاد، وعن العلمانية كحركة سياسية جوهرها مناهضة الدين والكنيسة)(28)
إن هذه المبتنيات الفكرية التالية للصراع السياسي، قد تركت ظلالها الواضحة على طريقة تداول السلطة، والانماط الثقافية المتشكلة حديثاً، والتعاطي الاجتماعي مع شؤون الفرد والمجتمع، أي بلحاظ ما هو شأن خاص وما هو شأن عام ثم انتظام تلك الأفكار الجديدة في منظومة فكرية متكاملة.
الحـداثة
الحداثة : وتعني – في القاموس اللغوي – الجدة ومواكبة العصر في مجالات الفكر والعمل، ولا سيما في حقول الابداع الأدبي والفني، وتفيد معنى المعاصرة، والتجديد، وتجاوز القديم والانماط السلفية في المضامين والاشكال والاساليب (...) أما الحداثة من حيث هي وعي كما يقول غالي شكري (الحداثة مفهوم حضاري ينشد تصوراً جديداً للكون والحياة والانسان والمجتمع) وهي أيضاً كما يقول هشام شرابي (رؤية خاصة تنطوي على تغيير للذات والعالم)(29)
وتعني الحداثة في وعي الانسان الأوروبي نزعة نحو الانقطاع عن القديم وتغييره على المستوى الفردي والمجتمعي، وهذه النزعة لها اتصال وثيق بالتحولات السياسية والفكرية في أوروبا في عصر النهضة، وخلال الصراع مع الكنيسة، ثم تطور مفهوم الحداثة بمرور الوقت وعلى حد تعبير معن زيادة (إنها – أي الحداثة – عملية تتسع لتتناول الاقتصاد والسياسة والنظام الاجتماعي بما فيه من زراعة وتجارة وصناعة ومؤسسات حكم وتشريعات ومؤسسات تعليم وجيش وتجمعات بشرية من الأسرة إلى القرية إلى المدينة إلى الأحزاب والنقابات)(30)
وتبدأ مرحلة الحداثة في التاريخ الأوروبي في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع وتمتد إلى منتصف القرن العشرين – بعد أن استكملت أوروبا شروط عصري النهضة ( ويبدأ في القرن الخامس عشر الميلادي ) وعصر التنوير وتكنولوجية متقدمة، وبداية عصر الآلة، وتمخضت عن مرحلة الحداثة مرحلة أخرى عرفت باسم مرحلة ما بعد الحداثة والتي يعيشها العالم اليوم، والناشئة على أثر التطور المذهل في حركة الاكتشافات العلمية وسيادة التكنولوجيا المتطورة وانهيار المنتجات الصناعية الثقيلة. وإذا كان الجانب العلمي والاقتصادي هو اللون الغالب على الحداثة وما بعد الحداثة في أوروبا، فإن لهذين المصطلحين مفهوماً فلسفياً وفكرياً وتاريخياً محدداً فالحداثة تعني – تحديداً – ظاهرة أوروبية تبلورت ضمن مراحل تاريخية عاشتها المجتمعات الأوروبية، فلا يمكن والحال سحب مصطلح الحداثة على التقدم الصناعي والعلمي في اليابان لأننا نخرجه من سياقه التاريخي والجغرافي والفكري.
الليبـرالية
الليبرالية : وهو مفهوم ظهر في أوروبا وتطور خلال مراحل النهضة الأوروبية واكتسب معاني وتفسيرات أخرى موسعة، ولليبرالية – بصورة إجمالية – تعتبر الحرية المبدأ والمنتهي، الباعث والهدف، الأصل والنتيجة في حياة الانسان، ويحدد عبدالله العروي المراحل التي مرت بها الليبرالية الغربية وذلك على نحو التالي :
- مرحلة التكوين ، حيث كانت وجهاً من وجوه الفلسفة الغربية المرتكزة على مفهوم الفرد ومفهوم الذات، وقد اعتمدت الليبرالية في هذه المرحلة على الفلسفة اليونانية السقراطية.
- مرحلة الإكتمال : حيث كانت الأساس الذي شيد عليه علمان عصريان مهمان : علم الاقتصاد وعلم السياسة النظرية. وقد اعتمدت الليبرالية في هذه المرحلة على فلاسفة أوروبا مثل فولتير.
- مرحلة الاستقلال : حيث نزعت الليبرالية من أصولها كل فكرة تنتمي إلى الاتجاه الديمقراطي بعد أن أظهرت تجربة الثورة الفرنسية أن بعض أصول الليبرالية قد تنقلب عن التطبيق إلى عناصر معادية لها، وقد اعتمدت الليبرالية في هذه المرحلة على مفكري القرن الثامن عشر.
- مرحلة التقوقع : حيث أصبحت الليبرالية محاطة بالأخطار وأن تحقيقها صعب إن لم يكن مستحيلاً، لما تستلزم من مسبقات غير متوفرة لدى البشر في غالب الأحيان، وقد اعتمدت الليبرالية في هذه المرحلة على الاقتصاد الصناعي(31)
العقلانيـة
العقلانية : وتعني الصدور في البحث والممارسة الفكرية والسياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والاخلاقية، ونشأت العقلانية الغربية على يد ديكارت الذي أرسى مبدأ الشك في كل المسبقات والنظم الفكرية القائمة من أجل تأكيد حرية الانسان وحرية الفرد والجماعة القومية(32) والعقلانية الأوروبية هي حاصل السجال بين أنصار الفكر العلمي الحديث وبين الكنيسة الأوروبية خلال العصور الوسطى، وكانت العقلانية تعني لدى الأوروبيين نقيض النقل والتقليد والاتباع، وتطورت فيما بعد لتعني نقيض الدين المسيحي، كما عبر عنها صراحة الفكر الماركسي.
الديمقراطيـة
نشأت الديمقراطية (وتعني حكم الشعب) نتيجة تطور تاريخي – وليس نتيجة اتفاق مسبق بين مشرعين قانونيين – يرتد إلى العصور الوسطى التي سادت أوروبا، مقترنة – أي الديمقراطية – بتطور العلاقات الرأسمالية وتنامي الطبقة البورجوازية، حيث أحالت الأخيرة من الديمقراطية خاصية للدولة الليبرالية المعبرة عن مصالح هذه الطبقة، وأخذت الديمقراطية الليبرالية في التطور مستفيدة من سير التجارب السياسية في أوروبا طيلة القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث شهد النظام الديمقراطي الأوروبي – حينذاك، تحولاً جوهرياً نتيجة للتطور الهائل في القوى والعلاقات الاجتماعية الرأسمالية، وهكذا تقدم العلم ووسائل الاتصال والنقل (فلم يعد دور الدولة حيادياً في الصراع الاجتماعي الدائم، متقصراً على حفظ الأمن الداخلي والخارجي، بل اضطرت تحت الضغوط الجديدة المتنامية.. للنقابات، والرأي العام، والاحزاب المنظمة القوية، وعديد من الجماعات الأخرى المنظمة من أجل الحصول على توازن جديد إلى التدخل الفعال في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، مما جعل النظام الديمقراطي في الغرب نفسه يتجاوز مرحلة الحريات الشكلية المتمثلة في اعلانات حقوق الانسان وسيادة الشعب والبرلمانات والانتخابات وحق الأغلبية في أن تقود وحق الأقلية في أن تعارض وتتحول إلى أغلبية بحكم (التداول) لينتهي إلى جوهر يتمثل في نظام من التواصل بين جماهير المواطنين وبين المنظمات الحاكمة، نظام يبيح للجماهير أن تنادي، وللدولة أن تجيب)(33)
المجتمع المدنـي
ارتبط مفهوم المجتمع المدني بالتطورات الحاصلة داخل الليبرالية الغربية، وقد طرح لأول مرة في القرن السابع عشر الميلادي، وهو المعنى المرادف للدولة في منظومة الفكر السياسي الحديث، وقد تبلور مفهوم (المجتمع المدني) في نظرية (التعاقد الاجتماعي) وكان يعني به (المجتمع السياسي) كما شرحه جون لوك على هذا النحو (يؤلف عدد من الناس جماعة واحدة ويتخلى كل منهم عن سلطة تنفيذ السنة الطبيعية التي تخصه، ويتنازل عنها للجتمع، ينشأ عندنا حينذاك فقط مجتمع سياسي أو مدني)، وأخذ مفهوم المجتمع المدني يتموضع – في فلسفة هوبز – في اطار فلسفي اعتراضي يقصي نظرية الحق الإلهي للملوك في مجال الحكم، ولذلك احتسب مفهوم المجتمع المدني السبيل للخلاص من سلطة الكنيسة لتصبح الدولة بوصفها نتاجاً للمجتمع المدني كياناً مناقضاً للدين في صورته الأوروبية، وجاء فيما بعد جان جاك روسو ليضع مفهوم المجتمع المدني في صيغة متطورة داخل نظرية (العقد الاجتماعي).
وقد نقل هيجل نظرية التعاقد الاجتماعي في كتابه (نقد فلسفة الحق) سنة 1821م مؤكداً على أن الاتفاق التعاقدي الذي يقوم عليه المجتمع المدني قاصر عن توفير الأمن ولذلك فهو – أي هيجل ، يجمع بين نظريتين للمجتمع المدني لدى مونتسكيو وآدم سميث حيث يقوم مفهوم المجتمع المدني لدى مونتسكيو على أساس أن التنظيمات الاجتماعية التي تقع وسيطاً بين الفرد والدولة هي جماع المجتمع المدني، أما لدى سميث فإن المجتمع المدني – وهو كيان يرتد تاريخه إلى ما قبل قيام الدولة – وميدان تقسيم العمل، وانتاج الثروة والطبقات، ويرتمي في منطقة خارج سيطرة الدولة، وبذلك فله قدرة على تنظيم ذاته متمحوراً حول السوق.
فالمجتمع المدني لدى هيجل – وهو حاصل مجموع المفهومين السابقين – هو مجال تقسيم العمل واشباع الحاجات المادية، وهو في الوقت ذاته ميدان التنافس بين المصالح والمبادرات المتشابكة، فيما تصبح الدولة الوعاء القادر على حفظ المجتمع المدني.
وبناء على ذلك فقد حدد هيجل هوية المجتمع المدني بجملة المؤسسات التي تستجيب لحاجيات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ثم أخذ مفهوم المجتمع المدني بالاستقرار ضمن قالب مفهومي قومي خاص ومحكوم إلى طبيعة النظام السياسي القائم، فكان للفرنسيين مفهوم خاص بالنسبة للمجتمع المدني (لوك، هوبز، روسو) وللألمان مفهوم خاص (هيجل وماركس) وللطليان مفهوم خاص (غرامشي) وهكذا الحال بالنسبة للروس والأمريكان.. وهناك اتفاق على الخطوط العامة للمجتمع المدني تحدد من خلال الأوعية المكونة له وهي(34):
1- الأحزاب السياسية. 2- المواطن والمجموعات. 3- القوى الهيكلية مثل الطبقات والقوى الظرفية مثل المجموعات الضاغطة. وهناك معايير أخرى يقاس بها المجتمع المدني بدرجة أكثر دقة :
- هيمنة المجتمع على القوة الاجتماعية واستقلال نتاجاته المادية والروحية عن الدولة بوصفها المالك الأكبر .
- تنامي واستقلال التنظيمات الاجتماعية والسياسية (أحزاب، اتحادات، نقابات، جمعيات، أندية.. الخ).
- تمدين المجتمع، أي مقدار الكثافة السكانية في المدن وتالياً درجة التواصل بين الأفراد داخل المجتمع عن طريق وسائل النقل والمواصلات، أو وسائل الاتصال الجماهيري.(35)
ومما سبق نجد أن مفهوم المجتمع المدني يعكس طبيعة التحولات التاريخية والاجتماعية في أوروبا والتي أثمرت عن صياغة وتطوير نظرية توفر مبررات الحدود ووجود المجتمع البروجوازي المتشكل حديثاً، فجاء مفهوم المجتمع المدني بدلالات تاريخية واجتماعية متصلة بواقع أوروبا حين أصبح يعني المجتمع المنفصل عن الدين والمتصل بالسلطة الدنيوية (المدينة) المحضة، ويحاول أن يجد عناصره ومكوناته من تطور المجتمع الرأسمالي ومؤسساته الكفيلة بحمايته قبالة جبروت الدولة وتوفير الضمانات الكافية لتمفصله ضمن اطار المجتمع السياسي.
الأنتلجنسـيا
ويأتي هذا المفهوم امتداداً لكلمة مثقف التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر في فرنسا، والتي تعد بدورها امتداداً لما أطلق عليه في القرن الثامن عشر بـ (فيلسوف)، وفي بداية القرن التاسع عشر بـ (مذهبي) أو (أيديولوجي). وقد استخدم مصطلح الانتلجنسيا في أواخر القرن التاسع عشر، وهو اشتقاق من الأصل اللاتيني لكلمة ( Intellogens ) والتي دخلت القاموس الانجليزي ثم تطورت لتنشق عن مفهوم آخر ويعني أولئك الذين تثقفوا ثقافة علمية انعكست على تركيبهم الاجتماعي والفئوي أو النخبوي وهم الذين يتمتعون بنشاط مبدع ومؤثر في هياكل الدولة وتشعباتها(35)، وترمز الانتلجنسيا لظاهرة روسية بحتة تكونت بالتحديد حول الأفكار الأساسية التي روج لها الراديكاليون الذين آمنوا بالتطور بالديمقراطية هؤلاء الذين تحدروا من طبقة النبلاء وعلماء الدين والفلاحين والتجار وتأثروا بالرومانطيقية وبالعدمية الفلسفية. ويقال بأن أول من استعمل كلمة انتلجنسيا هو الروائي الروسي بوربوريكين حوالي سنة 1860م ثم أضفت حالة روسيا معنى محدداً على الكلمة وتعني (المجتمع الذي يفكر) كما تستعمل أحياناً للدلالة على نوع خاص من المثقفين.
* المصطلح بين الابداع والاتباع
والمتأمل في النماذج سالفة الذكر ، يجد أنها تحتوي على مضامين فلسفية ومفاهيم اجتماعية تبلورت نتيجة ظروف وأوضاع خاصة، انعكست داخل المجتمعات الأوروبية لتحدد أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما تصوغ نظراتها للكون والحياة والعلاقات مع العالم.
وبناء على هذه النظرة التأملية، نجد أنفسنا أمام اشكالية واقعية في الفكر العربي والتي يمكن تحديدها بصورة اجمالية في عملية الاستعارة للمصطلحات الأوروبية بنقلها من موقعها الأصلي إلى موقع أجنبي عنها، ولكن لم تؤد عملية النقل هذه إلى إلغاء (أعجمية) المصطلحات الفكرية والفلسفية و (خصوصيتها) المجتمعية والتاريخية تماماً كما لم تقدر – أحياناً – على إلغاء (أعجمية) المصطلحات اللغوية، ولذلك يفقد الكم الهائل من المصطلحات الذي يفد إلى كتابات المفكرين العرب كل عام، محتواه لكون المفاهيم والمصطلحات الأجنبية غير مفهومة. والسبب في ذلك أنها ليست نابعة من صميم المجتمع العربي وتاريخه ونشاطه العلمي والاقتصادي وتراثه وعاداته ولغته، وكارثة الفكر أن يستعير لغة التعبير عنه من خارجه، وللأسف أن ظاهرة الاستعارة والاقتباس توسعت وتعمقت حتى أضحت اصلاً ومساراً رئيسياً داخل الفكر العربي المعاصر، وعلى حد تعبير الكاتب المصري أحمد بهاء الدين (ليس مهماً أننا قلدنا الغرب في ثيابه وفي أساليب معيشته وفي مستحدثاته العلمية، ولكن المهم والخطير حقاً هو أننا استعرنا منه قاموسه السياسي والاجتماعي وبكل كلماته وبكل تفسيراته لهذه الكلمات. أخذنا عنه تعبيرات اليمين واليسار مثلاً، وأخذنا تعريفاته للاقليمية والوطنية والقومية وغيرها مما استخدمناه وما زلنا نستخدمه من مصطلحات والمسألة ليست مسألة لغوية فالمصطلح له دلالاته ونحن نستخدمه في تفسير وتحليل المجتمعات العربية وأي مجتمعات؟ مجتمعات تختلف اختلافاً جذرياً عن المجتمعات التي ولدت فيها هذه المصطلحات. هل حقاً أن اليمين في فرنسا له ملامح اليمين نفسها في مصر مثلاً؟ وكذلك اليسار ويمين الوسط ويسار الوسط..)
لقد انسحبت عملية الاستعارة للمصطلحات على قراءتنا للأحداث السياسية الجارية والمستجدة وفي دراسة العلوم الاجتماعية والاقتصادية وفي كتابة الأخبار وفي تشخيص الواقع السياسي، وفي دراسة الأوضاع الاجتماعية، بحيث نجد أن ما يكتب في مجال الفكر العربي عبارة عن (طبعة قومية) أو محلية لفكر المركز (أوروبا والولايات المتحدة).
وبعد نحو قرنين من الزمن على بداية ما يسمى بـ (النهضة العربية) يفكر بعض المثقفين العرب بصوت مسموع مطالبين باجراء نقد حضاري للمجتمع العربي، بوصفه شرطاً لعملية التغيير الاجتماعي وحين نقترب من عملية النقد لاستيعاب خطواتها ومفاهيمها، ولتبين طريق الخروج من اشكالية المصطلح، نجدها لا تزيد المجتمع المدني الا اغتراباً ولا تزيد الفكر العربي الا انغماساً في المرجعية الغربية، وأجدني مدفوعاً لاعتماد هشام شرابي مثالاً بوصفه مفكراً عربياً نقد في أكثر من من بحث الفكر الغربي، ونقد حالة التماهي بين المثقفين العرب والغرب، ولكنني أجده يكبو في كتابه (النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين) كبوة تخرجه من مضمار السباق النهضوي بفتحه النار على اللغة العربية فيهاجمها مرة لذاتها وأخرى لاستخدامها الاصطلاحي في الترجمة، محملاً اياها مسؤولية لكونها (ترفض أن تكون أداة طيعة للوعي الذاتي) وكونها (لغة دفاعية) تخشى التفاعل والحوار، وتحتمي وراء الفكر التراثي والديني المنغلق على نفسه في جميع مجابهاتها مع المواقف الأخرى) إضافة إلى (أن هذه اللغة غير قادرة على التعبير العلمي أي على استيعاب المعرفة العلمية والتعبير عنها بتفاصيلها الدقيقة) ويعتقد شرابي أن السبب في ذلك يعود إلى (أن اللغة والفكر هنا انعكاس للواقع الاجتماعي النفسي، واقع مجتمعنا الأبوي الخانق الذي رفض كل تغيير في اللغة والفكر) ومن ثم (فاللغة الابوية هي انعكاس للسلطة الأبوية والوعي البطركي "الأبوي" السائد) لذا (فاللغة الأبوية لغة مناسبات وطقوس لا لغة بحث وحوار).
وما هو الحل في نظر شرابي ؟
الحل على النحو التالي : (لا مهرب من اتقان لغة أجنبية، فالخروج من الفكر الأبوي والدخلو في وعي فكري آخر لا يتم إلا من خلال لغة أجنبية نتقنها اتقاناً تاماً) ويؤكد الفكرة في مكان آخر (ليس هناك مهرب لهذا الجيل إذا أراد أن يفكر بوضوح وأن يعبر عن فكر بعربية تحمل فكراً واضحاً، من اتقان اللغة الفرنسية أو الانجليزية أو الألمانية)(36)
وإذا كنا نتفق مع هشام شرابي على ضرورة اتقان لغة من اللغات الأجنبية المذكورة سلفاً، الا أننا قد نختلف معه حول دور اللغة في الوعي والفكر، وهل اللغة انعكاس للواقع الاجتماعي النفسي؟
جدير بالاشارة قبل كل شيء أن هشام شرابي لم يفكر باللغة العربية ولم يكتب بها، ولم يدرس بها، وبالتالي فهو يجهل الكثير من أسرار اللغة العربية،ولذلك يبدو نقده للغة العربية يبعث على الاستغراب. وفي تحليل العلاقة بين اللغة والفكر واقترانها بالتحول الاجتماعي، وبالتالي فإن اللغة تأتي كآلة للتعبير عن تطور الفكر ومستوى النشاط الاجتماعي، وبالتالي فإن اللغة تنمو مع التحولات (وكلما تعمقت التحولات انتشرت الكلمة، وأثريت، لأن اللغة عمرها لم تخلق التحول الاجتماعي، وإنما هي تعمل في المجتمع كالضوء الكشاف الذي أنار الاوضاع الاجتماعية ومكن الناس من التعبير عنها وبالتالي من الوعي بها وبضرورة تغييرها)(37) فكلما كان هناك تطور اجتماعي أصبح هناك تبعاً له تطور لغوي مماثل تفرضه الحاجة للتعبير عن حجم التطور الاجتماعي.
فاللغة إذن لا دخالة لها في الوعي البطركي والسلطة الأبوية، وأن تعليق مهمة النقد الحضاري للمجتمع العربي على اللغة يعد حلاً هروبياً لمشكلة قابعة في عمق الفكر العربي المعاصر، وكأن شرابي في نقده اللغة العربية ودعوته الى اتقان لغة أجنبية يدعو إلى فن ترجمة العلوم الأوروبية واستيعاب مضامين داخل حركة البحث والنقل والاقتباس، وتالياً نشر التبعية الثقافية والسياسية للغرب.
نقد وتقديم
إن المتأمل في حاصل الفكر العربي المعاصر بعد قرابة قرنين من الزمن على بدء النهضة، أنه يكاد يخلو من (فكر) أعني منظومة فكرية واحدة و (عربي) ذي امتداد تاريخي وثقافي واجتماعي وسياسي عربي، فالفكر العربي المعاصر لم يقدم حتى الآن نظرية في أي علم من العلوم الحديثة، وفي الجانب السياسي تمثيلاً (إن الفكر العربي ما يزال – إلى الآن _ لم ينتج نظرية في علم السياسة (بالمعنى الأكاديمي الدقيق) أي نظاماً مفهومياً متمتعاً بقدرم من التماسك والاستقرار الدلالي النظري(38).
فلماذا بعد أن حقق جيل النهضة أغراضه في تفكيك الايديولوجيا الدينية وتحرير الخطاب العربي من الفكر الديني، ليبدأ رحلة الفكر القومي العلماني بإقصاء الدين عن المجالات الاجتماعية والسياسية جاء جيل النهضة – بعد قرنين – خالي الوفاض، فهل كان قاصراً عن استيعاب الفكر الأوروبي النهضوي، فماذا خلف جيل النهضة وراءه حين حل ضيفاً على جامعات الغرب؟ وماذا اكتسب هناك؟ وكيف استخدم ما كسبه؟
لو أردنا تلخيص الاجابة على تلك التساؤلات فنقول : أن جيل النهضة جاء من الغرب بعقل تفكيكي، فصنع لنفسه بدائل عن المؤسسات الأهلية الطوعية القائمة، فدخل المجتمع التقليدي بصراع طرفي جبهوي. ولأن جيل النهضة قد وعد بجلب الحل السحري من فكر أوروبا فكان التعويل عليه أكبر، ولكن حله تمثل في حرق الماضي – التراث، والهوية، والتماهي مع الحضارة الأوروبية الحديثة، فجاء حله مدمراً محبطاً، فوقع في نفس اشكالية دعاة تمثل التراث والجمود عليه، حيث تجاوز المجتمع وجمد على موقفه فالاثنان سواء في الأمر، وكما يقول طارق البشري (إن فكرة جمود "التراث" عن التلاؤم مع الواقع المعيش، تماثلها وقد تزيد فكرة جمود "الوافد" عن التلاؤم معه، وإذا كان الأمر يقتضي تجديداً واجتهاداً هنا فهو يقتضي ما يساويه في الجانب الآخر، تجديداً واجتهاداً واختباراً أيضاً، وإذا نسب التقصير إلى رجال "التراث" فهو منسوب إلى رجال العلوم الاجتماعية سواء بسواء)(39)
ونجد أنفسنا وجهاً لوجه مع واحدة من أبرز تمظهرت اشكالية المرجعية في الفكر العربي، وهي العلوم الاجتماعية التي انصهرت في قالب معرفي وعلمي مستقل نتيجة لتطورات كبيرة داخل الحركة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الغربية، ثم تبلورت فيما بعد في اطار نظري محدد يعكس الوعي الاجتماعي والنفسي والأوروبي،وفي واقع الأمر إن اطلاق مصطلح (علوم اجتماعية) فيه من المجازفة واللاموضوعية، لأن كلمة (علوم) تطلق عادة على كل علم ثابت – إحساساً أو عقلاً – وله نظامه الخاص وقوانينه الخاصة، وبالتالي يجوز تطبيقه في كل جزء من العالم، تماماً كعلم الكيمياء والفيزياء، بيد أن الثابت لدى الباحثين الاجتماعيين أن علوم الاجتماع ليست خاضعة لقوانين مادية كالتي تخضع لها الفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية، فمنهج التوصل إلى وحدات تحليلية مثلاً مستخدم فعلاً في المدارس المختلفة (الطبقة – النخبة – المؤسسات – الانساق – فائض القيمة.. الخ) ثم يجري تركيب صورة اجتماعية على غرار الصورة الفيزيائية للعالم كما تنشئها العلوم الطبيعية، ومع ذلك فإن المشكلة لم تحل، لأن عملية التركيب تلك كانت في الأساس خاطئة، لأن الظواهر الاجتماعية تختلف عن الظواهر الطبيعية. ففي الأول تدرس كل ظاهرة بصورة مستقلة، ولكن في الثاني يمكن دراسة الظواهر مجتمعة (فظاهرة) المجتمع الحي العاقل تختلف عن طبيعة المادة غير الحية وغير العاقلة، فالقوى الفاعلة في المجتمع الحي لا تخضع في ظروفها، وفي قياس امكانيات دورها واتجاهها لوحدات نمطية ولا لعلاقات نمطية بين هذه الوحدات وفي المجتمع فارق كبير بين أن نكتشف قواعد اللعبة وبين أن نتنبأ بنتائج المباراة أو أن نتحكم فيها، إن ذلك يقود إلى حقيقة أن ما يسمى الآن (العلوم الاجتماعية) لا يستند إلا على معرفة أهل الغرب عن مجتمعاتهم في العصر الحديث أي أن بقعة الضوء تركزت على شريحة رقيقة من التاريخ وعلى مساحة محدودة من الأرض وصيغت الأبنية النظرية كافة وفقاً للأسئلة المطروحة في هذا النطاق المحدود.(40)
لقد تعرضت العلوم الاجتماعية الغربية إلى نقد واسع وجوهري، وأخذت هذه العلوم تفقد قدراً كبيراً من مصداقيتها وموثوقيتها، بعد أن تكشف عجزها عن معالجة المشكلات الاجتماعية التي نشأت بعد ظهور العلوم الاجتماعية في القرن التاسع عشر الميلادي الأمر الذي يجعل تلك النظريات ليست مقتصرة على حيز جغرافي معين، بل وعلى حيز تاريخي أيضاً ويكاد يشعر المشتغلون بالعلوم الاجتماعية بانتهاء صلاحية الكثير من هذه العلوم وبات من الضروري حذفها وإستبدالها بـ (علوم) جديدة.
ولكن الحال في العالم العربي يختلف، بل أن العلوم الاجتماعية الغربية اكتسبت من الشحنات الدلالية ما يجعل التعاطي معها يرتقي إلى مستوى (الحتميات) وبينما يتصاعد النقد في أوروبا لجهة تبديل العلوم الاجتماعية الغربية، لكون الزمن قد تجاوزها، وأن تلك العلوم تتحدث عن مجتمعات أوروبية ليست موجودة حالياً، كان الباحثون الاجتماعيون العرب يتبارون في دراسة الأوضاع الاجتماعية العربية وفق مناهج علم الاجتماع الغربي القديمة وكما يقول هشام شرابي (إن العلوم الانسانية والاجتماعية في العالم الثالث كلها في العصر الحديث مستمدة من الغرب، وهي إضافة إلى ذلك، تنتج وتعيد انتاج المعرفة الغربية محلياً) ويقول (هذه المعرفة التي يملكها العرب المعاصرون أنفسهم ليست معرفة ذاتية بالمعنى الدقيق للكلمة، بل معرفة وساطية ، نقلت إليهم بأساليب مباشرة أو غير مباشرة) ويخلص للقول (معرفتنا لذاتنا، معرفتنا لتاريخنا في القرن العشرين هي معرفة غربية في صميمها)(41)
لقد استسلم الباحثون الاجتماعيون العرب لعلوم الاجتماع والانسان الغربية، وتعاملوا معها كوصفات لأمراض النهضة في المشرق العربي وأدوية لمعضلات الأفراد والجماعات العربية، فكان على الباحثين الاجتماعيين العرب أن يصرفوا سنوات طويلة في الدراسات الأنثروبولوجية وعلم النفس التحليلي وقراءة نتاجات داروين وفرويد ودوركايم حتى يمكن دراسة المجتمع العربي وبيان نتائج التربية فيه لتأتي – هذه النتائج – مبتسرة اطلاقية تعالج الظواهر الاجتماعية من منظور سياسي تماماً كما عالجها أصحابها الأوائل في أوروبا، لتعيد إحياء سيرة المجتمع البورجوازي والاقطاعي الأوروبي في الوعي الاجتماعي العربي.
إن ما نخلص إليه مما سبق أن النهضة العربية لم تأت من الطريق الصحيح بل حاولت أن تتمثل تجربة الغرب في النهضة، فوقع جيل النهضة في اسار التعبية الشاملة، ولا بد – للخروج من اسار التعبية – من ممارسة عملية تفكيك مضادة، يبني فيها الفكر العربي المعاصر مرجعه الفكري الخاص، وهويته الخاصة بدلاً من المراوحة في الثنائية العقيمة: الأصالة والمعاصرة، التراث والتحديث، فوعي النهضة الشاملة يبدأ من وعي الذات ومن وعي الهوية المستقلة.
إن الفكر العربي مدعو لبناء مرجعية تقوم على أساس :
- تصحيح العلاقة مع الموروث والوافد : فمحتوى النهضة الحضارية التي يطمح الفكر العربي السير نحوها هو خلع سيطرة الآخر، وبناء الانسان، وذلك لن يتم إلا إذا كان للفكر نظرته الثابتة تجاه الذات والآخر، فالتحرر من المرجعية التراثية كان يعني لجيل النهضة الانقطاع عن الواقع الأمر الذي أدى إلى تجاوز شروط النهضة، وتحول الوافد إلى آلة لتدمير البنى الاجتماعية والفكرية في المشرق العربي الاسلامي، فلا التحرر من التراث والارتماء في الوافد حقق التحديث والمعاصرة، ولا بنى نظاماً معرفياً لجيل النهضة، كما أن الارتماء في التراث – الماضي ، قد عطل الاستمرارية التاريخية للأمة، وجمد النظام المعرفي العربي والاسلامي وسمح للفكر الوافد أن ينفذ إليه ليوصل فترة العطالة التاريخية وعطب الفكر التراثي، أو يستبدله كلية.
إن تصحيح العلاقة مع التراث والوافد تبدأ بتصحيح النظرة إليهما، إن تعاملنا مع التراث يفترض أن يقوم على أساس نزع رداء القداسة عنه، لأن التراث ليس ديناً كله فقد اختلط باجتهادات البشر وحوادث تاريخية وممارسات وعادات اجتماعية بتفاوت انطباقها مع تعاليم الدين.
لقد انصرف جيل النهضة عن التراث وكان عذره ما روج له بعض من عناصر التيار التراثي حين أعطى للتراث سلطة مطلقة، وفوضه بصياغة حاضر ومستقبل الأمة ومن موقع ماضوي، ولكن عذر جيل النهضة لا يغدو أن يكون سوى تبريراً يضفى على التحرر المطلق من التراث والارتماء في زنزانة الوافد، ليخرج جيل النهضة من سلطة التراث مختاراً لا مكرهاً ويدخل سلطة الوافد بنفس الطريقة مع فارق أن خروجه من التراث ليس كخروجه من الوافد في حال قرر ذلك..
إن خلع سلطة الوافد الحضارية يبدأ بخلع مرجعيته الفكرية والثقافية، فالنهضة لا تقوم إلا على أساس فلسفة ونظام معرفي يمثل البنى التحتية للنهضة، وأن الاحتكام إلى منطق التراثيين ليس مبرراً كافياً إلى الاغتراب والتماهي في سلطة الآخر.
- النقد الذاتي كمدخل صحيح للنهضة : إن الفكر العربي مدعو لإرساء تقاليد القدسية عن المفاهيم والمسلمات الفكرية، إن ما دعى إليه برهان غليون بأن نقد السياسة الثقافية العربية يجب أن يبدأ لا من نقد هذه الأيديولوجيا أو تلك، ولكن من نقد النظام الثقافي: قاعدة انتاج التمزقات الثقافية الغربية والشرقية على أساس أن الثقافة ليست الايديولوجية ولكنها بالعكس هي قبل كل شيء حرية التعبير الذي يسمح لكل ايديولوجيا بالحياة والنمو وللعقل العام بالتطور والتقدم المستمرين(42) إن هذه الدعوة صحيحة جزئياً وصحيح أيضاً – في تقديري – الارتقاء بعملية النقد إلى المستوى الذي يسمح لنا بالتخلص من تبعية الآخر فكرياً وحضارياً كشرط رئيسي لبدء النهضة، فلا يمكن فصل الثقافة عن الايديولوجيا، فالنظام الثقافي نتاج ومرآة للايديولوجيا.
الهوامـش
(1) محمد عابد الجابري ، وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت – الطبعة الأولى – تموز / يوليو 1993م ص97 .
(2) ناصيف نصار – مفهوم الأمة بين الدين والتاريخ – دراسة في مدلول الأمة في التراث العربي و الاسلامي – دار أمواج للطباعة والنشر والتوزيع – ط4 تموز 1992م ص 13 .
(3) د. برهان غليون – نظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة – المركز الثقافي العربي – بيروت – ط1 نيسان 1990م – ص 22 .
(4) د. محمد عمارة – العرب والتحدي ،دار الهلال ، كتاب الهلال – عدد 384 – صفر 1403هـ ديسمبر 1982م.
(5) د. برهان غليون – اغتيال العقل : محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية ، دار التنوير للطباعة والنشر 1985م بيروت – ص 215 .
(6) وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر – مصدر سابق ص 106 .
(7) الباحث العربي – مجلة فصلية تصدر عن مركز الدراسات العربية – لندن عدد 16 يوليو – سبتمبر 1988 ص68 .
(8) د. هشام شرابي – مقدمات لدراسات المجتمع العربي – الأهلية للنشر والتوزيع – بيروت 1985م ص 74
(9) معن زيادة – الوحدة عدد 31 – 32 نيسان / آيار 1987م ص32 .
(10) برهان غليون – مداخلة في ندوة مجلة الوحدة – العدد السابق – بعنوان تصورات جديدة للنهضة العربية – ص 144 .
(11) راجع كتاب زكي نجيب محمود – شروق من الغرب ..
(12) محمد عابد الجابري – وجهة نظر ، نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، ط1 تموز / يوليو 1992م ص 11 .
(13) سلسلة كتب المستقبل العربي (10) ديسمبر – الثقافة والمثقف والسلطة ، مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – 1992م – ص 74 .
(14) مجتمع النخبة – برهان غليون ، دراسات الفكر العربي ، معهد الإنماء العربي – ط1 بيروت – 1986م ص 18 .
(15) المصدر السابق – ص 23 وص 188 .
(16) د. برهان غليون – مجتمع النخبة ، دراسات الفكر العربي ، معهد الإنماء العربي – ط1 ص 262 .
(17) هشام شرابي – مقدمات لدراسة المجتمع العربي ، الأهلية للنشر والتوزيع ، بيروت 1985م ص 16 – 17 – 24 – 25 ..
(18) جريدة القدس العربي – لندن – العدد 1499 – 16 مارس 1994م .
(19) أحمد عباس صالح – اليمين واليسار في الإسلام – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 1972 – ص 30 – 31 – 38 – 39 ..
(20) عبدالرحمن بن محمد بن خلدون – مقدمة ابن خلدون – حققه الدكتور علي عبدالواحد وافي – دار نهضة مصر للطبع والنشر ، القاهرة ط3 الجزء الأول – ص 201 .
(21) اغتيال القعل – مصدر سابق – ص 118 .
(22) مجتمع النخبة – برهان غليون – مصدر سابق ص 262 ..
(23) خالد الحسن – بحث يؤر التوتر والنزاع في النظام العربي – مجلة الباحث العربي – مجلة فصلية – تصدر عن مركز الدراسات العربية – لندن – عدد 16 يوليو سبتمبر 1988 – ص 68 .
(24) بحث : الخصوصية الحضارية للمصطلحات – منشور في مجلة منبر الشرق – مجلة فكرية شهرية متخصصة – السنة الأولى – العدد 2 يونيو / حزيران 1992م يصدرها المركز العربي الإسلامي للدراسات ..
(25) وجهة نظر ، نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر – مصدر سابق ص 102 .
(26) نظريات التنمية السياسية المعاصرة – نصر محمد عارف – المعهد العالمي للفكر الإسلامي – هيرندن – فيرجينيا – الولايات المتحدة ط1 1992م ص 314 ..
(27) بحث : الإسلام والانكشارية والدستور – عبدالقادر زعل – المستقبل العربي عدد 91 شهر سبتمبر 1986م عن مركز دراسات الوحدة العربية ص 8 – 9 .
(28) نظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة – مصدر سابق ص 95 – 89 – 108 .
(29) المعجم المفصل في اللغة والآداب – ط1 دار العلم للملايين – بيروت ، الإسلام والحداثة – ندوة مواقف – نشرتها دار الساقي – لندن – 1990 – ص 369 .. هشام شرابي – البنية البطركية ، بحث في المجتمع العربي المعاصر – سلسلة السياسة والمجتمع – دار الطليعة – بيروت 1987 – ص 33 ..
(30) الطريق إلى الحداثة – مجلة الأزمنة – السنة الأولى – العدد 4 حزيران / يونيو 1987م ص 26..
(31) مفهوم الحرية – عبدالله العروي – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب – ط2 1983م دار التنوير للطباعة والنشر – ص 39 ..
(32) راجع اغتيال العقل – مصدر سابق ص 247 ..
(33) الشيخ راشد الغنوشي – الحريات العامة في الدولة الاسلامية – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت ط1 اغسطس 1993 ص 76..
(34) بحث : المثقفون والمجتمع المدني في تونس – محمد كرو – ص 334 – 336 .
(35) بحث : إنتلجنسيا العراق ، التكوين .. الإستنارة .. السلطة – سيار الجميل ص 373 ..
(36) هشام شرابي – النقد الحضاري للمجتم العربي في نهاية القرن العشرين – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت 1990 ص 15 – 20 – 21- 86 ..
(37) عبدالله العروي – مفهوم الحرية – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب ص 34 ..
(38) عبدالإلة بلقزيز – إشكالية المرجع في الفكر العربي المعاصر – دار المنتخب العربي – بيروت – ط1 1992 – ص10 .
(39) طارق البشري – بحث إشكالية الشريعة الإسلامية والحداثة في المجتمع المعاصر – مجلة منبر الشرق – مجلة فكرية شهرية متخصصة – العدد 2 يونيو حزيران – 1992 ص 50 ..
(40) عادل حسين – بحث : التحيز في المدارس الاجتماعية الغربية – تراثنا هو المنطلق للتنمية – منبر الشرق – العدد 2 يونيو / حزيران 1992م ص 54 – 55 ..
(41) النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين – مصدر سابق ص 37 – 49 .
(42) برهان غليون – مجتمع النخبة – مصدر سابق ص 183 ..