شعار الموقع

الفكر الإسلامي المعاصر.. وتجديد منهج النظر في العولمة

زكي الميلاد 2006-11-11
عدد القراءات « 1298 »

الفكر الإسلامي المعاصر.. وتجديد منهج النظر في العولمة[1]

ـ 1 ـ

مدخل: غاية البحث، ومنهجه، وأهمية موضوعه

تحاول هذه الورقة أن تلفت النظر إلى حاجة الفكر الإسلامي المعاصر لأن يراجع موقفه من العولمة، وضرورة أن يجدد ويطور من منهج النظر في تكوين المعرفة بها، لتجاوز حالة الإرباك والانفعال التي حصلت بفعل ما سُمِّي بصدمة العولمة. ولكي يتخطى الفكر الإسلامي قراءته الأولى، التي غلب عليها موقف الخوف والشك والرفض تجاه العولمة. فهذه القراءة كانت تعبر عن موقف نفسي أكثر من كونها تعبر عن موقف علمي، وكانت قراءة ناقصة وغير ناضجة، وتعبر عن مرحلة ما قبل اكتمال الرؤية ونضجها.

وهذا يعني أن الفكر الإسلامي المعاصر بحاجة اليوم، إلى قراءة ثانية للعولمة، تغلِّب إرادة المعرفة، والموقف المعرفي على الموقف النفسي. فالعولمة بحاجة إلى قراءة معرفية ونحن لم ننجز بعدُ هذه القراءة.

إن تجديد منهج النظر إلى العولمة وتكوين المعرفة بها يستدعي الكشف عن الأرضيات والسياقات التي تحددت فيها اتجاهات التطور والتحول في حركة العولمة، والكشف عن طبيعة النظريات والأفكار التي تشكلت حولها، وخلفياتها وأبعادها. الأمر الذي يتطلب الاعتماد على منهج البحث التوصيفي السردي، إلى جانب منهج البحث التحليلي المقارن.

والناظر إلى الأدبيات الإسلامية المعاصرة حول العولمة، يرى أنها تكرر نفسها، ويغلب عليها الاجترار ولغة الإنشاء، وتغيب عنها القراءات العلمية والتحليلات العلمية، ولا تقدم هذه الأدبيات إضافة علمية مهمة في نقد وتحليل العولمة، أو في فهمها ومعرفتها. وتكمن أهمية هذه الورقة في أنها تحاول تحريض تلك الأدبيات على تجديد منهج النظر إلى العولمة، وقراءتها بمنهجية معرفية وعلمية.

ـ 2 ـ

العولمة.. التطور والتراكم

لم يحصل في تاريخ الفكر الإنساني القديم والحديث هذا المستوى الكمي المتصاعد والمتراكم بسرعة مدهشة، كالذي نراه يحصل اليوم مع فكرة العولمة. ولاحقاً سوف يسجل المؤرخون الاجتماعيون والاقتصاديون، وفي الميادين الأخرى أيضاً، أن فكرة العولمة هي من أكثر الأفكار والقضايا التي استحوذت على أوسع اهتمام، وبالشكل الذي يفوق وبدون أي قياس الاهتمام بأي فكرة أو قضية أخرى تقريباً. فالعولمة هي الفكرة التي يشتغل عليها في زمن واحد العالم برمته، بكل ثقافاته وأديانه وقومياته وجغرافياته، يختلفون عليها، وينقسمون حولها، ويتصادمون بشأنها أيضاً.

والمدهش في هذه الفكرة أنها عبرت بسرعة من خطاب النخبة والطبقة العالمة إلى خطاب الشارع وعموم الناس، وتحولت إلى فكرة شعبية يتساءل عنها الناس بمختلف شرائحهم الاجتماعية، ويحاولون التعرف عليها بأي صورة مبسطة كانت، وبالنمط الذي لم يحدث من قبل مع أي فكرة أخرى من الأفكار التي اتصفت بالتعقيد والتشابك، أو التي ينشغل بها في العادة شرائح معينة من أهل العلم وأهل الاختصاص. فالناس اليوم يتحدثون عن العولمة كما لو أنها تنتمي إلى قاموس كلماتهم اليومية، حيث دخلت بقوة إلى مجال التداول اللغوي الجماهيري.

ومعظم الذين كتبوا عن العولمة أشاروا وباندهاش إلى مثل هذه الملاحظة، وتوقفوا عندها لشدة وضوحها. فكلمة العولمة التي لم يكن لها مكان، تحولت كما يقول رئيس كلية لندن للاقتصاد والسياسة، والمنظر لأطروحة الطريق الثالث في أوروبا، أنطوني جيدنز- إلى كلمة على كل لسان، فلا يكتمل خطاب سياسي، أو دليل لرجال الأعمال إلا بالإشارة إلى هذه الكلمة. وأدى الاستخدام الواسع للكلمة إلى جدل عميق في الدوائر الأكاديمية، وقد أضحت قدراً ومحوراً لمعظم المناقشات السياسية والمناظرات الاقتصادية في السنوات الأخيرة[2]. رغم أن هذه الكلمة كما يضيف جيدنز في كتاب آخر له، وحتى ثمانينات القرن العشرين، تكاد لا توجد في الكتابات الأكاديمية، أو في اللغة اليومية. لقد أتت من حيث لا نعلم لتصبح أمامنا أينما التفتنا[3].

ويرى مؤلفا كتاب (ما العولمة؟) البريطانيان بول هيرست وجراهام طومبسون، أن الأدب المكتوب عن العولمة غزير ومتنوع، ويبلغ مفهوم العولمة من الانتشار مبلغاً يجعله يغطي أشد أنواع النظريات والمصالح الاجتماعية تبايناً. فهو يغطي الطيف السياسي من اليمين إلى اليسار، وهو مقبول في شتى العلوم ـ الاقتصاد، الاجتماع، الدراسات الثقافية والسياسات الدولية ـ وهو مطروح أيضاً على لسان المجددين والتقليديين في الحقل النظري[4].

أما الدكتور رمزي زكي فيقول وهو يقدم للطبعة العربية من كتاب (فخ العولمة)، لا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن هناك الآن سيلاً أشبه بالطوفان في الأدبيات التي تتحدث عن موضوع العولمة، ولم يعد الأمر يقتصر على مساهمات الاقتصاديين وعلماء السياسة أو المهتمين بالشؤون العالمية، بل تعدى الأمر ليشمل مساهمات الاجتماعيين والفلاسفة والإعلاميين والفنانين، وعلماء البيئة والطبيعة... إلى آخره[5].

ولعل هذا النقاش الواسع، والعابر بين الأمم والمجتمعات حول العولمة، بعلم أو دون علم، هو من صور الانخراط في العولمة، ومن مظاهر قوتها أو سحرها حين استطاعت أن تفرض على الجميع هذا المستوى من التداول والنقاش الذي لم ينقطع أو يتوقف. وحين اقتحمت العولمة علينا حياتنا دون استئذان، وفرضت علينا وجوداً يكاد أن يكون قسرياً، بحيث لا يمكن تجاهله أو التنكر له، أو القفز عليه. الأمر الذي يفسر انخراط حتى المعارضين والمناهضين للعولمة في النقاش والسجال الدائر حولها.

ومن المؤكد أو شبه المؤكد أن هذا النقاش المحموم حول العولمة، سوف يحافظ على وتيرته النشطة والفاعلة، وفي مختلف مراكز العالم، نتيجة ما تحمله العولمة، وما تبشر به من موجات شديدة التغير، يصفها البعض -من شدة قوتها- بالتيار الكاسح. وهو التأثير الذي سوف يطال تقريباً كل مكان، وسوف يصل إلى كل بقعة في العالم آجلاً أم عاجلاً.

ولعل الحذر في مثل هذا الكلام، أن يكون هو أيضاً من الانطباعات الخفية للعولمة، ومن تأثيراتها علينا حين نصورها بهذا الشكل الذي لا يخلو من مبالغة. مع ذلك فكل ما في العولمة يحرّض على النقاش، وحسب رأي جيدنز أن هناك ثمة خلافاً على معظم جوانب العولمة.

فهل كانت العولمة بحاجة حقاً إلى كل هذا النقاش؟ وهل استنفد هذا النقاش طاقته وقيمته ولم يعد له من طائل؟ وهل بقي أحد من الكتّاب لم يكتب عن العولمة؟ أو لم يأت على ذكرها؟ ولا أدري إذا كنا قد وصلنا إلى درجة الملل من الكتابة عن العولمة أو الحديث عنها؟ وهل ما زالت هذه الكتابات تلفت الانتباه فعلاً؟ أم أننا وصلنا لدرجة الإسراف والإفراط ولم يعد هناك من جدوى أو إغراء للحديث عنها؟

بعيداً عن طبيعة وجهات النظر التي يمكن أن تطرح أمام هذه التساؤلات، وعن جوانب الاتفاق أو الاختلاف معها، النسبي أو التام، إلا أن صورة هذا النقاش قد تكون مختلفة حين نقترب من طبيعة علاقة الفكر الإسلامي المعاصر بذلك النقاش، الذي لم يكن أساساً منخرطاً فيه من داخله، أو مؤثراً في حركته واتجاهاته، وإن كان يظهر عليه التناغم مع الاتجاهات النقدية والمناهضة للعولمة.

ـ 3 ـ

الفكر الإسلامي والعولمة.. مراجعة ونقد

الفكر الإسلامي المعاصر بحاجة ماسة اليوم لأن يراجع موقفه من العولمة، ويجدد ويطور ويوازن في هذا الموقف، الذي تشكل في أول الأمر بفعل تأثير صدمة العولمة، الصدمة التي شعر بها الجميع، وإن تفاوتت وتباينت ردات الفعل نحوها بين الثقافات والمجتمعات الإنسانية.

وبتأثير هذه الصدمة اتخذ الفكر الإسلامي موقفاً من العولمة، غلب عليه حالة الإرباك والانفعال، أمام ظاهرة فاجأت الجميع في شدة وقوة مفاعيلها وتأثيراتها، حيث قلبت بصورة جذرية منظورات الرؤية إلى العالم.

وعند تحليل هذا الموقف نكتشف بسهولة أن له طبيعة نفسية، أكثر من كونه معبراً عن موقف له طبيعة علمية. في حين كان من الأصوب أمام هذه الظاهرة المكثفة والمركبة تغليب وتحكيم الموقف العلمي والتحليل العلمي، وليس الموقف النفسي والتحليل النفسي، وهذا الذي ينبغي أن يتغير اليوم في موقف الفكر الإسلامي المعاصر.

وإذا كان الموقف النفسي يستجيب لحاجة الفكر الإسلامي لموقف التحصن والممانعة، فإن الموقف العلمي يستجيب لحاجة تكوين الفهم والمعرفة بالعولمة. ومن غير الممكن أساساً خلق موقف التحصن والممانعة بالاستناد إلى الموقف النفسي فحسب، وبعيداً عن الموقف العلمي.

هذا الاختلال في التوازن بين الموقف النفسي والموقف العلمي أحدث خللاً في رؤية الفكر الإسلامي المعاصر للعولمة.

ويلاحظ أيضاً أن الفكر الإسلامي المعاصر في وجهته العامة، مازال محكوماً برؤيته الأولية تجاه العولمة، وهي الرؤية التي يغلب عليها موقف الرفض والشك والتعامل السلبي. وهذه كانت القراءة الأولى للعولمة، لكنها القراءة التي مازالت مستمرة، وهي قراءة في الأصل كانت ناقصة وغير ناضجة، وتعبر عن مرحلة ما قبل اكتمال الرؤية ونضجها. وكان يفترض أن يعاد النظر لاحقاً في مثل هذه القراءة، وتوجيه النقد لها، والبحث عن قراءة ثانية تكون أكثر نضجاً وموضوعية وتوازناً من القراءة الأولى، وهذا الذي لم يحدث!

فقد اعتاد الفكر العربي الإسلامي خلال القرن الأخير، في احتكاكه بالمفاهيم والأفكار والمقولات الوافدة عليه من خارج منظومته ومرجعيته الفكرية والتاريخية، أن يبدأ قراءته الأولى بالتوجس والخوف والتشكيك والرفض إلى زمن، وينتهي في زمن آخر إلى رؤية أخرى، وفهم مختلف يكون على قدر من التوازن والثقة والثبات.

فالأدبيات العربية والإسلامية قابلت العولمة بخوف وهجوم شديدين، بوصفها إرادة للهيمنة وإقصاءً وتدميراً، وأنها تمثل مرحلة استلاب وطمس وتنميط... إلى غير ذلك من أوصاف وتسميات تصلح أن يُجعل منها قاموس يطلق عليه قاموس العولمة.

هذه المنهجية بالتأكيد لا تقدم فهماً ومعرفة وإدراكاً للعولمة، ولا تبني قدرة على المواجهة والتحدي، أو التحصن والممانعة. كما أن هذه المنهجية لا تقدم حلاً ولا تعالج مشكلة ولا تنتج بديلاً. فمشكلة العولمة ليست في الهجوم عليها، فهذا من أسهل الأمور وأبسطها، بل مشكلة العولمة وأي ظاهرة جديدة، هو كيف نفهمها ونكوّن معرفة بها، قبل الفهم وتكوين المعرفة لا جدوى من أي خوف أو هجوم.

والخوف من العولمة له كل ما يبرره، لكن ما هي حدود هذا الخوف؟ أو كيف ندرك ماهية هذا الخوف؟ ونفصل ما هو وَهْمٌ مصطنع، وما هو خوف مبرر ومشروع؟ وهل سنظل خائفين باستمرار؟ قبل تكوين الفهم والمعرفة بالعولمة لا قيمة لأي خوف، فهناك خوف قبل العلم، وخوف بعد العلم تجاه ظاهرة العولمة. قبل العلم يمتزج الخوف بالوهم، فلا ندرك حدوده وماهيته، أي لماذا نخاف من العولمة؟ وبعد العلم يفترض أن ينكشف الوهم ويتحدد الخوف وطبيعته.

هذه الرؤية الأولية الخائفة والناقصة للعولمة، بحاجة لأن يتجاوزها الفكر الإسلامي المعاصر، سعياً نحو بناء رؤية علمية محكومة بإرادة المعرفة.

ومن زاوية أخرى لابد أن نلتفت إلى تأثر الفكر الإسلامي في موقفه من العولمة، بطبيعة رؤيته إلى العالم. وهي الرؤية التي تقلصت وانكمشت في أزمنة وعصور التراجع الحضاري، وبعد انسحاب وسحب الإسلام من ساحة الحياة، على مستوى الدولة والمجتمع والقانون خصوصاً بعد قيام الدولة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين. حيث ساهمت هذه الدولة في تراجع الفكر الإسلامي حين ضيّقت عليه، وفكّكت مؤسساته، وتخلّت عنه بوصفه مرجعية شاملة يرجع إليها في صياغة الأنظمة والقوانين والتشريعات، وتبنت في المقابل المرجعيات الأوروبية تحت وهم بناء الدولة الحديثة.

لذلك فقد ورثنا ضعفاً شديداً في رؤية الفكر الإسلامي إلى العالم، الضعف الذي انعكس بصورة كبيرة في تكوين المعرفة بالعولمة، التي جاءت أساساً لتغيير الرؤية إلى العالم، ولكي تعلن عن أن العالم دخل عصراً جديداً، وأننا أصبحنا في عالم متغير بوتيرة متسارعة، ولتؤرخ لمرحلة فاصلة في تاريخ تطور العالم، الذي بات يقسم إلى ما قبل العولمة، وما بعدها.

من هنا كانت حاجة الفكر الإسلامي لتجديد رؤيته للعولمة.

ـ 4 ـ

العولمة.. واتجاهات الجدل والتطور

لكي يصل الفكر الإسلامي إلى تجديد منهجه في النظر إلى العولمة، بحاجة لتكوين المعرفة العلمية والموضوعية بهذه الظاهرة، وكيف تشكلت وتطورت، والاتجاهات التي تحددت فيها، وطبيعة النظريات التي انبثقت وعبرت عنها.

وعند الحديث عن اتجاهات التطور، يمكن القول إن الجدل والانقسام بقي قائماً وساخناً في كل الأطوار التي مرت بها العولمة، وقد تحددت هذه الأطوار في الاتجاهات التالية:

الاتجاه الأول: العولمة حقيقة أم خرافة؟

في الطور الأول بعد انبعاث العولمة تحدد الجدل والانقسام حول هل أن العولمة حقيقة أم خرافة؟ ويعكس هذا الجدل صورة وطبيعة العلاقة بالعولمة من جهة القرب، ومن جهة البعد. فالمدافعون عن العولمة والمنتمون إليها يرون أنها حقيقة، وحقيقة ناجزة أيضاً. في حين يرى المعارضون لها أنها خرافة، وخرافة حتى لو كانت ضرورية.

وقد أشار إلى هذا النمط من الجدل العديد من الكتاب والباحثين الغربيين، وهم يتحدثون عن بدايات الجدل حول العولمة، ومن هؤلاء أنطوني جيدنز في كتابه (الطريق الثالث) الصادر عام 1998م، حيث يرى «ثمة خلاف على معظم جوانب العولمة، فكيف يجب أن نفهم المصطلح، وهل هو جديد بحق، وما النتائج التي يمكن أن تترتب عليه؟ ولقد ظهر في الرد على هذه التساؤلات رأيان متناقضان، ويرتبطان إلى حد ما بمواقف سياسية متعارضة.

فالبعض يذهب إلى أن العولمة ما هي إلا محض خرافة، أو أنها على أقصى تقدير استمرار لتطورات راسخة وطويلة. ولا يدهشنا أن يجذب هذا الموقف أولئك الذين يرغبون في الدفاع عن أبعاد الديموقراطية الاشتراكية بشكلها القديم، وينظر هؤلاء إلى العولمة على أنها من اختراعات الليبراليين الجدد. وعلى الطرف الآخر نجد مؤلفين وصناع سياسة يقولون: إن العولمة ليست واقعاً فحسب، بل أنها واقع متقدم»[6].

ويقترب من هذا الجدل أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة هارفارد الأمريكي داني رودريك حين يصفه في عنوان مقالة له بـ(المعقول وغير المعقول في الجدل الدائر حول العولمة)، وتنبني هذه المقالة على ما جاء في كتاب للكاتب نفسه حمل عنوان (هل سارت العولمة شوطاً أكثر مما يجب؟) صدر عن معهد الاقتصاد العالمي سنة 1997م.

ولعل أكثر كتاب حاول التشكيك في العولمة وتصويرها بالخرافة، ورفض فكرة أن العولمة حقيقة ناجزة، هو كتاب (ما العولمة) لمؤلفيه بول هيرست وجراهام طومبسون اللذين ظلا يصفان المدافعين عن العولمة وأنصارها بالتشدد والتطرف والغلو، واعتبرا أن العولمة خرافة تناسب عالماً بلا أوهام، لكنها أيضاً خرافة تسرق منا الأمل[7]. وقد جاء هذا الكلام في الفصل الأول من الكتاب الذي حمل عنوان (هل العولمة خرافة ضرورية؟).

نلمس أيضاً مثل هذا التطرف عند أنصار العولمة، حين يصورون العولمة وكأنها من قبيل الحتميات الاقتصادية والتكنولوجية الشبيهة بالأحداث الطبيعية التي لا يمكن الوقوف في وجهها. وهي المقولة التي حاول كتاب (فخ العولمة) نقدها والتشكيك فيها والإطاحة بها.

كما نلمس هذا التطرف حين يدَّعي الخطاب السائد أن للعولمة -كما يقول سمير أمين- طابع القانون الموضوعي، الذي لا مفر من الخضوع لمقتضياته عن اضطرار أو اختيار، ويفهم من هذا الادعاء -حسب رأي سمير أمين- أن شكل العولمة السارية هو الشكل الوحيد الممكن لها، وأن تصور مسيرة مختلفة لها لا يعدو أن يكون طوباوياً[8].

ويعتقد أنطوني جيدنز أن المدافعين عن العولمة والمعارضين أو المشككين والراديكاليين حسب وصفه، أن هؤلاء لم يفهموا العولمة في تمام كنهها، ومدى عواقبها بالنسبة إلينا. ومع ذلك فإنه لا يجد سبباً للتردد في القول بأن العولمة -كما نعايشها الآن- ليست جديدة علينا فقط، وإنما هي ثورة جذرية على كثير من الأصعدة[9].

ولعل هذا التطرف الذي يظهر متجلياً في وجهات نظر المدافعين عن العولمة والمعارضين لها، يعكس طبيعة النقاش الذي يجري عادة في الأطوار الأولى للظواهر الجديدة، ويستمر لفترة، وتتغير صورته في فترة أخرى. وهذا ما حدث مع العولمة حيث تراجع هذا النمط من النقاش وحلّ مكانه نمط آخر.

الاتجاه الثاني: من العولمة الاقتصادية إلى العولمة الثقافية

بعد أن تقلص وتراجع الجدل حول هل أن العولمة حقيقة أم خرافة؟ تحوّل الجدل إلى اتجاه آخر تحددت هويته في انقسام الحديث عن العولمة بين صورتها الاقتصادية وصورتها الثقافية. بين من يقبل بالعولمة الاقتصادية ويرفض العولمة الثقافية، وبين من يحاول توظيف العولمة الاقتصادية إلى عولمة ثقافية إلى جانب أبعاد أخرى.

ومن حيث الأصل والموضوع يتفق الدارسون والباحثون تقريباً، المدافعون والمعارضون، على ارتباط العولمة بالمجال الاقتصادي، فهو المجال الذي شكّل الأرضيات الفعلية لانبعاث فكرة العولمة، وحدّد لها صورتها وهويتها. كما أنه المجال الذي يستند إليه في استنباط وجمع أقوى الأدلة والبراهين لإثبات أن العولمة هي حقيقة فعلية.

وهذا ما يفسر كون الكتابات الأولى حول العولمة تنتمي إلى المجال الاقتصادي، وتتحدث عن العولمة الاقتصادية، وما يفسر أيضاً كون أن معظم الكتابات حول العولمة كانت وما تزال تنتمي إلى هذا المجال الاقتصادي.

ويشير إلى هذا الأمر ويؤكده أنطوني جيدنز بقوله: «تفهم العولمة في الغالب وفقاً للبعد الاقتصادي، كما يوحي بذلك الجذر الذي اشتقت منه، حيث تتضمن صوراً من الروابط الاقتصادية التي تشمل العالم بأسره... ومن ثم فإن العولمة الاقتصادية تمثل حقيقة واقعة فعلاً، وهي ليست مجرد استمرار لاتجاهات تاريخية من الزمن الماضي، أو إعادة لهذه الاتجاهات، ففي الوقت الذي ما يزال فيه جلّ النشاط التجاري يتم على المستوى الإقليمي، يوجد اقتصاد عالمي تماماً على مستوى الأسواق المالية»[10].

وقد وجد مؤلفا كتاب (ما العولمة) أن التشكيك في فكرة العولمة، والكشف عن أنها خرافة وليست حقيقة، وإسقاط تداعياتها على المجالات الأخرى الثقافية والسياسية، يمر عن طريق نقدها وتفكيكها اقتصادياً، مع أن هذا النقد في نظرهم هو الأصعب. ومهمة الكتاب تقوم أساساً على هذا النقد، وحسب رأيهما «ينبغي أن نشدد على أن هذا الكتاب يعارض الصيغة المتشددة من أطروحة العولمة الاقتصادية. لأننا نعتقد بأن من دون مفهوم الاقتصاد الكوني الحقيقي فإن الكثير من التبعات الأخرى المستخلصة في ميادين الثقافة والسياسة سوف تكف عن الديمومة، أو أن خطرها سيتضاءل.. وبناء عليه فقد يجادل البعض قائلاً: إننا نركز تركيزاً مفرط الضيق في حصر أنفسنا بتحديد وتحدي الصيغة الأكثر تطرفاً من أطروحة العولمة الاقتصادية. الواقع أن نقدنا لمثل هذه المواقف قد يدفع إلى اعتبارنا كمن يحطم حججاً وهمية»[11].

ويعتبر أنطوني جيدنز من الذين حاولوا نقد حصر العولمة في المجال الاقتصادي، ويرى أن خطأ المدافعين عن العولمة والمشككين على حد سواء، أن هؤلاء نظروا إلى العولمة من الجانب الاقتصادي المحض، وحسب قوله: «فإن فكرة العولمة تتعرض لسوء الفهم إذا ما طبقت فقط على الروابط ذات الطابع العالمي، أو التعامل معها على أنها فكرة اقتصادية محضة»[12].

ومن الكتابات المهمة التي نقلت الحديث والجدل من العولمة الاقتصادية إلى العولمة الثقافية، كتاب أستاذ علم الاجتماع المتقاعد في جامعة باريس الثامنة، جيرار ليكلرك الذي حمل عنوان (العولمة الثقافية... الحضارات على المحك) الصادر بالفرنسية عام 2000م، حيث أشار إلى هذا التحول وطبيعته المفارقة في مقدمة الكتاب، بقوله: «يجري الحديث منذ زمن ليس بالبعيد عن العولمة التي يصار إلى تحليلها غالب الأحيان بعبارات اقتصادية، طالما أنها تؤثر كمًّا وكيفاً في تبادل الثروات والخدمات، وتالياً في إنتاجهما وفي استهلاكهما. ما نشهده مرافقاً للعولمة، ليس إلا جملة السيرورات الاقتصادية الآخذة طريقها نحو التحول. فهل نتجه نحو توحيد كلي لمجمل الأسواق المحلية بحيث يصار إلى امتصاصها كليًّا عبر السوق العالمية؟ بهذا السؤال الذي طالما أثير ترتبط ظاهرة العولمة الثقافية. إن طبيعة هذه العولمة وكذلك تأثيراتها هي أكثر تعقيداً، وأشد صعوبة بحيث لا يمكن تقييمها كما هو الأمر مع العولمة الاقتصادية»[13].

وعن صورة هذه العولمة الثقافية في نظره، يقول ليكلرك: «إننا ننتقل دون أن ندرك من عالم سيطرت فيه العزلة الثقافية إلى عالم آخر يسوده التبادل الثقافي، من عالم يتميز بالاستقلالية الثقافية لجماعات معزولة تقليدية إلى عالم آخر، هو عالم يسوده تعميم العلاقات المتبادلة والتواصل. علينا إذاً أن نحرك حقل المراقبة والتحليل لكل التطورات الاقتصادية وصولاً إلى العالمية الثقافية. إن العولمة الاقتصادية هي توسع السوق العالمية، تصميم وتقوية الروابط بين الشعوب والأمم والمجموعات البشرية. تمثل العولمة الثقافية بشكل ما الحالة النهائية للعولمة الاقتصادية، إنها البعد السياسي، الثقافي، الديني والإيديولوجي لظاهرة تم التطرق إليها غالب الأحيان من زاوية الاقتصاد والجغرافية السياسية»[14].

ومنذ أن انفتح الحديث عن العولمة الثقافية تضاعف الجدل حول العولمة، وازدادت منها المخاوف، وأخذ الجدل والنقاش يتسع ويتجدد حول مستقبل الهويات الثقافية، وما يمكن أن تتعرض إليه هذه الهويات، من طمس أو اقتلاع، ومن تغريب أو اختراق، ومن انبعاث أو انفجار.

الاتجاه الثالث: من العولمة إلى إيديولوجيا العولمة

في هذا الاتجاه أخذ الجدل يتبلور في صورة أخرى، ويتحدد في صيغة السؤال التالي: هل أن العولمة هي تطور موضوعي يتصل بحركة العلم والتقدم التكنولوجي في مجال الاتصالات والمعلوماتية، وبالتالي هي بعيدة عن أشكال التحيزات الفكرية، أو التوظيفات السياسية، وبالتالي فإن العولمة لا إيديولوجية لها، ولا علاقة لها بالإيديولوجيا؟ أم أن العولمة هي إيديولوجيا، ولا يمكن تصورها أساساً بعيداً عن الإيديولوجيا، ومن السذاجة عند أصحاب هذا الرأي تصور براءة العولمة من الإيديولوجيا، فهي في قلب وصميم الإيديولوجيا، وتعبر عن تطور واستمرار لأفكار وسياسات تتصل وترتبط بآليات التحكم والسيطرة على العالم.

فما هي الصورة الحقيقة للعولمة؟ هل هي الصورة التي تنفك وتنفصل عن الإيديولوجيا؟ أم هي الصورة التي لا تنفك ولا تنفصل عن الإيديولوجيا؟

في نطاق الفكر العربي المشبع بالإيديولوجيا هناك قطاع من المفكرين يميل بقوة إلى تصوير العولمة بالإيديولوجيا، ومن هؤلاء الدكتور محمد عابد الجابري الذي يرى أن العولمة ليست مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي، بل هي أيضاً وبالدرجة الأولى إيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم، ومن عناصرها الأساسية محاربة الذاكرة الوطنية والتاريخ والوعي بالتفاوت الطبقي، وبالانتماء الوطني والقومي. فالأمر عنده في شأن العولمة يتعلق بإيديولوجيا صريحة حسب وصفه، تقوم على ثلاثة ركائز:

1ـ شل الدولة الوطنية، وبالتالي تفتيت العالم لتمكين شبكات الرأسمالية الجديدة، والشركات العملاقة متعددة الجنسية من الهيمنة عليه والسيطرة على دواليبه.

2ـ توظيف الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة في عملية الاختراق الثقافي واستعمار العقول.

3ـ التعامل مع العالم، مع الإنسان في كل مكان، تعاملاً لا إنسانياً، تعاملاً يحكمه مبدأ البقاء للأصلح، والأصلح في هذا المجال هو الناجح في كسب الثروة والنفوذ وتحقيق الهيمنة[15].

وهناك العديد من المفكرين العرب الذين يميلون إلى مثل ما ذهب إليه الجابري.

في حين يرى الدكتور برهان غليون أن العولمة تجمع بين الصورة الذاتية والصورة الموضوعية، وحسب رأيه «العولمة ككل ديناميكية اجتماعية حركة مزدوجة تنجم عن تفاعل بين عوامل بعضها موضوعي من دون أدنى شك، لا ينبع من فعل الإرادة والوعي، وعوامل ذاتية تابعة للإرادة والوعي، سواء أتعلق ذلك بوعي الجماعات أو الأفراد. فهي ثمرة التقاء التطور الموضوعي لحقل التقنية والعلوم الذي يتم بصرف النظر عن رأي واحد منا، وأي واحد من المراكز والمؤسسات التي تساهم في تطويره، وإرادة المجتمعات أو الجماعات والنخب التي تسيطر عليها في توظيف هذا التطور الموضوعي لضمان سيطرتها أو تحسين مواقعها أو تكريس هيمنتها وسيادتها»[16].

ويتصل بهذا الجدل أيضاً الحديث عن العلاقة بين العولمة والأمركة، وفيما إذا كان هناك تلازم وتطابق بينهما، وأنهما تعبير عن صورة واحدة؟ أم لا تلازم وتطابق بينها، وأنهما يعبران عن صورتين مختلفتين؟

وأمام هذا الجدل هناك من يرى التلازم والتطابق بين العولمة والأمركة، واعتبار الأمركة إيديولوجية العولمة، وهناك من يرى أن بعض العولمة هي أمركة، وليست العولمة هي بتمامها أمركة، إلى جانب من يرى أن العولمة هي شيء مختلف عن الأمركة.

والذي أراه في هذا الشأن -عند النظر المعرفي للعولمة- أن بالإمكان تفكيك النظر وتمييز ثلاثة أبعاد في العولمة، هي:

البعد الأول: ويتصل بجانب العلم والواقع الموضوعي. ويرتبط هذا البعد أساساً بالتطور والتقدم في ميادين العلم والتقنية والتكنولوجيا، وميادينه الإعلام والمعلوماتية والاتصالات والمواصلات، وتقنياته الهاتف والتلفاز والكمبيوتر والأقمار الصناعية التي جعلت من العالم الكبير والواسع متقارباً ومتداخلاً بصورة كما لو أنه قرية صغيرة، أو هكذا يوصف افتراضاً ومجازاً. هذا الجانب الذي يتصل بالعلم والتطور العلمي، لا يمكن رفضه أو مناهضته أو استنكاره. كما ليست له علاقة من حيث الذات بالإيديولوجيا.

البعد الثاني: تحويل العولمة إلى إيديولوجيا. وهذا هو منشأ الحذر والخوف من العولمة، وذلك من خلال توظيف العولمة لخدمة بعض الأهداف والمصالح، وتحقيق بعض الامتيازات، والاستفادة منها في فرض بعض الاتجاهات، وقولبة بعض المفاهيم والأفكار، وتكوين خطاب يحاول أن يحتكر تفسير وفهم العولمة بحيث يكون متلازماً معها، والترويج لهذا الخطاب وتعميمه.

البعد الثالث: التفسير الإيديولوجي للعولمة، والنظر لها من زاوية الإيديولوجيا، أي من خلال قوالب وتركيبات فكرية وسياسية واقتصادية متحيزة، وتوليد فهم محدد والتمسك به لدرجة التشدد، والانغلاق عليه لدرجة الجمود.

وهذا ما وقعت في إشكاليته معظم القراءات اليسارية، ومنها القراءات العربية التي تسرعت في إعطاء أحكام اتصفت بالنهائية والجزم والقطع، وربطت العولمة بآليات تطور الرأسمالية، كالذي ظهر في قراءات صادق جلال العظم وسمير أمين وغيرهما. فالعولمة عند صادق جلال العظم هي: «وصول نمط الإنتاج الرأسمالي عند منتصف هذا القرن تقريباً، إلى نقطة الانتقال من عالمية دائرة التبادل والتوزيع والسوق والتجارة والتداول، إلى عالمية دائرة الإنتاج وإعادة الإنتاج ذاتها. أي أن ظاهرة العولمة التي نشهدها هي بداية عولمة الإنتاج والرأسمال الإنتاجي وقوى الإنتاج الرأسمالية، وبالتالي علاقات الإنتاج الرأسمالية أيضاً، ونشرها في كل مكان مناسب وملائم خارج مجتمعات المركز الأصلي ودوله. العولمة بهذا المعنى هي رسملة العالم على مستوى العمق، بعد أن كانت رسملته على مستوى سطح النمط ومظاهره»[17].

ويطابق هذا المعنى ما ذهب إليه سمير أمين بقوله: «ليست العولمة ظاهرة حديثة في تاريخ الرأسمالية، بيد أنها دخلت بالفعل في مرحلة جديدة من تطورها وتعمقها خلال العقدين الأخيرين. وإن هذا التغيّر الكيفي تزامن مع أزمة التراكم على صعيد عالمي. لا تخص ظاهرة العولمة وتعمقها التبادل التجاري فقط. فقد أخذت النظم الإنتاجية المتمركزة على الذات، حتى تاريخ قريب، في التفكك لصالح إعادة تكوين منظومة إنتاجية مندمجة عالمياً، وكذلك منظومة إنتاجية مندمجة عالمياً، كذلك أخذ تقسيم العمل بين المراكز والأطراف في التغير من حيث الكيف كناتج تصنيع العالم الثالث واختراقه الأسواق العالمية»[18].

لا شك أن هذه قراءات صافية للتفسير الإيديولوجي للعولمة.

الاتجاه الرابع: العولمة وأنسنة العولمة

تعد فكرة العولمة من أكثر الأفكار التي جوبهت بالنقد الشديد منذ بداية انبعاثها، وشاركت في هذا النقد معظم الثقافات والمجتمعات على مستوى العالم برمته، التي أظهرت قلقها ومخاوفها من العولمة. ليس هذا فحسب فقد تحوّل الشارع إلى مسرح مناهض بقوة وعنف للعولمة كما ظهر ذلك في سياتل وبراغ، وفي العديد من العواصم والمدن الأوروبية والآسيوية.

كثافة النقد وقوة المعارضة ومناهضة الشارع ساهمت في إعادة التفكير في العولمة، ومراجعة حركتها واتجاهاتها، والعمل على تصحيح صورتها. أو هكذا كان يظهر على الملأ لجعل العولمة أكثر توازناً وضبطاً وعدالة، والتخفيف من سرعة حركتها، أو الإفراط في التفاؤل بنتائجها ومكاسبها.

وأشارت لمثل هذه المراجعات العديد من البيانات والتقارير والمواقف التي صدرت من أشخاص ومؤسسات وثيقة الصلة والتفاعل بحركة العولمة.

ففي إبريل 1999م أعلن مسؤولو البنك الدولي عن عزمهم على إعداد إطار تنموي جديد يركز على العوامل الاجتماعية والإنسانية. وصدر بهذا الخصوص في يناير 2001م، تقرير استراتيجي هو الأول من نوعه الذي يشرح رؤية البنك الدولي عن استراتيجيته الجديدة التي تؤكد على حماية الفقراء من مخاطر العولمة، وتمكين هؤلاء للاستفادة من منافعها الاقتصادية، الأمر الذي يقتضي -كما شرح التقرير- من الدول النامية تحسين شبكات الأمان الاجتماعي، وضرورة تحويل برامج الحماية الاجتماعية من أشكالها التقليدية التي تنحصر في تقديم المساعدة للفقراء، إلى قواعد انطلاق تتيح للفقراء الخروج من دائرة الفقر والانتقال إلى حياة أكثر أماناً.

وفي ديسمبر 1999م وخلال اجتماع منظمة التجارة العالمية الذي عقد في سياتل بالولايات المتحدة الأمريكية، دعا وزير الاقتصاد الفرنسي آنذاك كريستيان سوتيه إلى اعتماد ميثاق للعولمة من أجل أن تلتزم جميع الدول باستراتيجية مشتركة للتنمية المتبادلة، واعتماد قواعد عادلة في حقل التجارة، وحذر من اللامساواة التي يمكن للعولمة أن تخلقها على مستوى العالم. وفي يناير 2000م أطلقت الأمم المتحدة موقعاً على شبكة الإنترنت لغرض أن تستخدمه المؤسسات الكبرى والنقابات لتبادل وجهات النظر حول المشاكل المتعلقة بالعولمة. وكان الهدف الرئيس لهذا الموقع هو تحسين القيم العالمية المتعلقة بحقوق الإنسان وقوانين العمل والبيئة.

وفي مؤتمر الأمم المتحدة العاشر للتجارة والتنمية (اونكتاد) الذي عقد في فبراير 2000م بالعاصمة التايلندية بانكوك، دعا الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان في كلمة الافتتاح إلى ضرورة تقاسم فوائد العولمة بالتساوي بين الجنوب والشمال. وكان الهدف الرئيس لهذا المؤتمر هو إشراك الدول الأكثر فقراً في العولمة. وبمناسبة اختيار برنامج الأمم المتحدة للتنمية باريس لإصدار تقريره السنوي حول التنمية، في يونيو 2000م، اعتبر الرئيس الفرنسي جاك شيراك أن العولمة قد تكون خيّرة وشريرة، ولذا من الضروري أنسنتها والسيطرة عليها.

وفي سنة 2000م أطلق منتدى دافوس العالمي على أعماله شعار العولمة المسؤولة أو العولمة الرؤوفة. أما شعاره سنة 2001م فكان بعنوان دعم النمو وتجاوز الفروقات بين الأغنياء والفقراء. وفي سنة 2003م ناقش المنتدى موضوع مدى إمكانية أن تكون العولمة أخلاقية.

وجاء في إعلان الألفية الذي صدر عن قمة رؤساء دول العالم الذي دعت إليه الأمم المتحدة في سبتمبر 2000م، أن التحدي الرئيس الذي يجب أن نواجهه اليوم هو أن تتحول العولمة إلى سلاح إيجابي من أجل الإنسانية جمعاء. أما المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد بمدينة كانكون المكسيكية في فبراير 2001م، فقد كان موضوعه الأساس مناقشة الفجوة القائمة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، واعترف الحاضرون بأن بعض الانتقادات التي وجهها معارضو العولمة يمكن الأخذ بها.

وفي هذا النطاق أيضاً جرى ويجري الحديث عن العولمة البديلة التي تكون أكثر عدلاً وتوازناً من العولمة السائدة والتي تنسب إلى الرأسمالية الغربية.

هذه لعلها أبرز اتجاهات النقد والجدل والتطور في حركة العولمة، لكنها بالتأكيد ليست نهايتها.

وعلى ضوء هذا الجدل والنقد تبلورت وتحددت تجاه العولمة ثلاث نظريات كبرى، تنتمي إلى ثلاثة عوالم ثقافية وتاريخية. أو هي النظريات التي تظهر لنا، ونكون نحن على علاقة بها أو نشعر بالحاجة إلى الحديث عنها. هذه النظريات هي:

أولاً: النظرية الليبرالية

وهي النظرية التي تنسب العولمة إليها، وتدافع عنها، وتبشر بها، وتحاول أن تقنع العالم بالانخراط في حركتها، والتكيّف مع شروطها، والاندماج في عصرها. وحسب هذه النظرية فإن العولمة هي فرص ومكاسب وإنجازات، وعلى المجتمعات أن تستغلها وتستفيد منها. بعد أن أصبحت العولمة واقعاً فعلياً لا يمكن تجاهله أو التنكر له أو عدم الاكتراث به، وهي ماضية في طريقها شاء من شاء وأبى من أبى. وحسب رأي فرانسيس فوكوياما العولمة لن تتراجع، لأن الذي يدفعها هو تقدم التقنية المعلوماتية والذي لا يمكن مقاومته، والأمم التي ترفضها محكوم عليها بأن تكون متخلفة[19].

ويرى أصحاب هذه النظرية أن التوترات والمضاعفات التي أحدثتها العولمة ما هي إلا أعراض طارئة يمكن معالجتها، أو التخفيف منها، وبالتالي لا يمكن الاستناد إليها في الاحتجاج على العولمة أو رفضها.

ثانياً: النظرية اليسارية

وهي النظرية التي اتخذت موقف معارضة العولمة ومناهضتها، وكشف عيوبها ومخاطرها. وحسب هذه النظرية فإن العولمة تكرس الفروقات الطبقية، وترسخ اللامساواة بين الشرائح الاجتماعية، وتدمر التماسك الاجتماعي، وتمحو إمكانية العدالة الاجتماعية، وترمي إلى العودة بالعالم إلى العصر الاستعماري، أو أنها تعبّر حسب وصف الدكتور الجابري عن مرحلة ما بعد الاستعمار، الذي يعني عنده الاستمرار فيه بصورة جديدة، كما أنها في نظره نظام يقفز على الدولة والأمة والوطن، وفي مقابل ذلك يعمل على التفتيت والتشتيت[20].

وقدر برعت هذه النظرية وأسرفت في نقد العولمة، كما برعت من قبل الماركسية في نقد الرأسمالية، وكان هذا النقد في نظر البعض من أعطم نجاحاتها.

ثالثاً: النظرية الإسلامية أو التي تنتمي إلى المجال الإسلامي

لا بد من القول ابتداء إنه لا توجد بالمعنى العلمي، أو في المجال التداولي نظرية إسلامية حول العولمة. ويأتي هذا الاستعمال مجازاً، وبقصد تصنيف المفاهيم والأفكار من جهة، ولكوننا نبحث عن مثل هذه النظرية التي تنتمي إلى مجال الفكر الإسلامي، في محاولة لتطويرها والارتقاء بها.

وبشأن علاقة هذه النظرية بالعولمة، فإنها منذ البداية تعاملت معها بمنطق الخوف والشك والرفض، باعتبار أنها تمثل مرحلة خطيرة ومتقدمة في الغزو الفكري، والاختراق الثقافي، والتدمير القيمي والأخلاقي. وهذه كانت وما زالت الصورة الغالبة على موقف الخطاب الإسلامي المعاصر من العولمة.

ومن حيث الروح العامة فإن هذه النظرية هي أقرب إلى النظرية اليسارية، وأكثر توافقاً معها في نقد العولمة، وفي تأثرها بها أيضاً.

عند تحليل هذه النظريات يمكن تحديد المفارقات الأساسية بينها، ومعرفة طبيعة كل نظرية من حيث بنيتها الفكرية، واتجاهاتها الاجتماعية. ومن هذه المفارقات:

أولاً: من حيث المنطلق، تنطلق النظرية الأولى الليبرالية من منطلقات وخلفيات الانتماء إلى العولمة، ومن كونها الصانعة لها. بينما تنطلق النظرية الثانية اليسارية من منطلقات وخلفيات الانشقاق عن العولمة ومعارضتها، ويأتي هذا الموقف في سياق موقفها التاريخي من الرأسمالية والليبرالية. في حين تنطلق النظرية الثالثة الإسلامية من منطلقات الخوف والشك من العولمة، وتعبر عن طبيعة العلاقة المتوترة بين عالم الإسلام وعالم الغرب.

ثانياً: من حيث المسار، تحاول النظرية الأولى أن تبرز إيجابيات العولمة ومكاسبها وإنجازاتها، في حين تحاول النظرية الثانية أن تبرز سلبيات العولمة وأضرارها ومخاطرها، بينما تحاول النظرية الثالثة أن تبرز تهديدات العولمة ومخاوفها وعواقبها.

ثالثاً: من حيث التركيز، تركز النظرية الأولى على الأبعاد الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، في حين تركز النظرية الثانية على الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، بينما تحاول النظرية الثالثة التركيز على الأبعاد الثقافية والدينية والأخلاقية.

رابعاً: من حيث بنية التكوين، فإن بنية النظرية الأولى من حيث الأصل هي بنية اقتصادية تنتمي إلى المجال الاقتصادي وتصنف عليه، في حين أن بنية النظرية الثانية من حيث الأصل هي بنية اجتماعية أو اجتماعية اقتصادية وتنتمي إلى هذا المجال الاجتماعي، وتصنف عليه، بينما بنية النظرية الثالثة هي بنية ثقافية، وتنتمي إلى المجال الثقافي وتصنف عليه.

هذه النظريات الثلاث في ميزان النقد والتقويم، فإننا لا نقبلها بشكل مطلق، ولا نرفضها بشكل مطلق، وهذا يعني ضرورة أن نتعامل معها بالمنطق النسبي النقدي والتحليلي، وبإعمال هذا المنطق النسبي تتكشف لنا الأمور التالية:

1ـ أن العولمة لها إيجابيات ومكاسب ومنجزات، لكنها بالتأكيد ليست كلها إيجابيات ومكاسب ومنجزات كما تدعي النظرية الأولى.

2ـ أن العولمة لها سلبيات وأضرار ومخاطر، لكنها بالتأكيد ليست كلها سلبيات وأضرار ومخاطر كما تدعي النظرية الثانية.

3ـ أن العولمة لها تهديدات ومخاوف وعواقب، ولكنها بالتأكيد ليست كلها تهديدات ومخاوف وعواقب كما تدعي النظرية الثالثة.

الموافقة النسبية مع هذه النظريات هي التي تساعدنا في بناء رؤية ناضجة ومتوازنة حول العولمة، وهذا ما نفتقده بالفعل، والوصول إليه هو أصعب مما نتصور.

ـ 5 ـ

العولمة.. وتجديد منهج النظر

لا شك أن الفكر الإسلامي المعاصر بحاجة لأن يطور من رؤيته للعولمة، ويتجاوز تلك النظرية الأحادية والمطلقة والخائفة، ويتخلى عن قراءته الأولى المنفعلة والمرتبكة بسبب صدمة العولمة نفسها، إلى بناء قراءة ثانية تكون أكثر اعتدالاً وتوازناً وموضوعية، تستفيد من مكاسب وإنجازات العولمة، وتتحصن من أضرارها ومخاطرها، تتفاعل مع العولمة وتتحصن من استلابها.

والسؤال هو كيف يطور الفكر الإسلامي رؤيته ويجدد في منهج النظر للعولمة؟

تطوير الرؤية وتجديد المنهج بحاجة إلى إدراك الحقائق التالية:

أولاً: أن العولمة ليست من نسق الأفكار التجريدية أو التي تنتمي إلى المجال النظري، وهي ليست نظرية يمكن أن تقبل أو ترفض على أساس التحليل العقلي أو المحاكمة الذهنية. كما أنها لم تعد مجرد خرافة لا أساس لها في الواقع الموضوعي.

الغاية من هذا القول هو تحديد صورة العولمة قبل الحكم عليها، استناداً إلى قاعدة أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. فلا يمكن الحكم على شيء بصورة صحيحة إذا اختُلف في تحديد ماهيته وحقيقته، أو كان مجهولاً أو غامضاً.

وحقيقة العولمة أنها تستند إلى واقع موضوعي يشكل الأساس الثابت لها، وهي محصلة لهذا الواقع الموضوعي، ومنه تكتسب مبررات ومقومات الوجود والاستمرار. وعندما نريد أن نفهم العولمة، ونتعامل معها نحتاج إلى أن نرجع لذلك الواقع الموضوعي ونفحصه ونشخصه، ونرتكز عليه في تكوين المعرفة بالعولمة.

ويرتبط هذا الواقع الموضوعي بما أحدثه عصر العلم والتقانة في مجال ما سمي بثورة المعلوماتية أو انفجار المعرفة، وفي مجال تكنولوجيا الاتصالات، وشبكات الإعلام، وتقنيات المواصلات.

ثانياً: لا يكتمل فهم العولمة دون تكوين المعرفة بالعولمة الاقتصادية، وهذا هو النقص الفادح في رؤية الفكر الإسلامي المعاصر للعولمة، الذي ركز نظره على الأبعاد الثقافية، وعلى العولمة الثقافية، ولم يقترب كثيراً من الأبعاد الاقتصادية والعولمة الاقتصادية. والقدر الذي حصل من الاقتراب من الأبعاد الاقتصادية في معظمه جاء متأثراً بالكتابات والدراسات النقدية التي تصنف على النظريات والاتجاهات اليسارية المناهضة بشدة للعولمة الاقتصادية بالذات.

ومن يراجع أدبيات الفكر الإسلامي يكتشف بسهولة مثل هذه الملاحظة، التي يظهر فيها تركيز الاهتمام على الأبعاد الثقافية في العولمة من جهة، وعلى التأثر بالاتجاهات النقدية اليسارية في نقد العولمة اقتصادياً من جهة أخرى. ومن النادر أن نجد في هذه الأدبيات كتابات أو دراسات لافتة ومميزة في نقد وتحليل العولمة الاقتصادية.

ومن دون تدارك هذا النقص في تكوين المعرفة بالعولمة الاقتصادية، فإن الضعف أو عدم اكتمال الرؤية سيظهر واضحاً ومتجليًّا في رؤية الفكر الإسلامي للعولمة، حيث يشكل الاقتصاد بنيتها الرئيسة، ومجالها الحيوي، وحقلها الأساس، منه جاءت وتشكّلت، وفيه انتظمت وتكوّنت، ومن خلاله برهنت على وجودها وثباتها.

ثالثاً: تعبر العولمة عن مرحلة متقدمة في مراحل تطور الاجتماع الإنساني، وسوف تكون الفكرة التي تشكل روح القرن الحادي والعشرين، كما أنها الفكرة التي ستحل مكان الحداثة التي شكلت روح القرن العشرين، ويقترب من هذا المعنى الكتاب الذي حمل عنوان (من الحداثة إلى العولمة... رؤى ووجهات نظر في قضية التطور والتغيير الاجتماعي) الصادر عام 2000م، لمؤلفيه تيمونز روبيرتس وأيمي هايت. يحدث ذلك بحكم هيمنة الغرب على العالم، وتربعه على الحضارة المعاصرة، وتأثيره الواسع والكبير في تشكيل مناخ وروح العصر.

لهذا فإن أنماط الفهم والتعامل مع العولمة تتعدد وتختلف بحسب تباين مستويات التقدم في الأمم والمجتمعات. فكلما تقدّمت الأمم تغيّرت عندها صورة العولمة، وأنماط الفهم والتعامل معها، بحيث من الممكن القول: إن المجتمعات المتقدمة تغلب إيجابيات العولمة على سلبياتها، في حين قد يحدث العكس عند المجتمعات غير المتقدمة حيث تتغلب سلبيات العولمة على إيجابياتها.

فالصينيون واليابانيون مثلاً لا ينظرون إلى العولمة كما نحن ننظر إليها، فالعولمة بالنسبة للصينيين كما يقول الكاتب الصيني لاو سي «بالنسبة لنا نحن الصينيين، فالظاهرة التي يسميها الغربيون بالعولمة أو الكونية، لا تعني شيئاً غير الأهمية المتنامية لآسيا في التجارة العالمية، وبالمحصلة تؤكد وضعها المركزي في قلب العلاقات الدولية، فنحن نشهد اليوم عودة لآسيا، وللصين بصفة خاصة»[21].

والعولمة بالنسبة لليابانيين كما يقول الكاتب الياباني هاماشا نوبورو «من جانبنا، نحن اليابانيين، لا تهمنا كثيراً مشكلة العولمة، فلدينا اقتصاد كوني هو في القلب من الاقتصاد العالمي وهذا التوجه يتنامى بمرور الأعوام. وبالأحرى فإن مشكلتنا هي في معرفة أين سيكون مركز هذا الاقتصاد الذي نسميه -نقلاً عن برودل- البحر المتوسط الآسيوي، فهل سيكون هذا المركز على سواحل الصين أم في اليابان؟»[22].

ونلمس مثل هذا التباين في وجهات النظر حول العولمة حتى بين مجتمعات العالم الإسلامي المتفاوتة في مستويات التقدم، حيث نجد أن نظرة الماليزيين إلى العولمة، وهم من أكثر المجتمعات الإسلامية تقدماً، نظرتهم تختلف عن نظرة كثير من المجتمعات الإسلامية، ومنها المجتمعات العربية. فحين يتحدث محضير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق عن العولمة يقدم لنا وجهات نظر جديرة بالتأمل، ومختلفة عن المنحى الإسلامي العام في النظر إلى العولمة، فهو يدعو إلى تحويل العولمة إلى عولمة يستفيد منها العالم الإسلامي، وحسب قوله: «ويقيني أن مفهوم العولمة الذي يطرح علينا في الوقت الحالي، مخاطر وتحديات مخيفة، يمكن أن يصبح إسلامياً بمفهوم الإسلام للأمة أكثر منه قطرياً، كما يمكن أن يشكل قوة ديناميكية فعالة لتعزيز وتدعيم التعاون بين بلداننا الإسلامية، ويوفر زخماً جديداً لدفع النمو والتنمية فيها إلى الأمام. هذه القناعة يمكن أن تتحقق متى ما ضمنا أن منافع العولمة وإيجابياتها تشمل جميع الناس، وأنها ليست محتكرة لصالح فئة قليلة مهما كانت المبررات»[23].

ويرى محضير محمد أن بالإمكان تعديل مفهوم العولمة بالشكل الذي يناسبنا نحن مجتمعات العالم الإسلامي، حيث يمكننا -كما يقول- «أن ندخل التعديلات التي تناسبنا على معنى ومضامين العولمة، كأن نطلق عليها تعريفاً أكثر شمولية يتضمن التأكيد على حقوق مواطني الدول الفقيرة في العبور السلس إلى الدول الغنية. هذه الخطوة ستساهم بكسر حدة الفقر وتضييق نطاقه في بلداننا من خلال التحويلات التي يرسلها المهاجرون إلى بلدانهم الأصلية. كما أن زيادة حجم وعدد الجاليات الإسلامية في البلدان الغربية والغنية، سيمكن المهاجرين منا من المحافظة على معتقداتهم وثقافتهم، بما يمكن أن يعزز نفوذهم على مختلف الصعد في بلدان المهجر»[24].

وهذا يعني أن جوهر مشكلتنا مع العولمة هي في الأساس ترتبط بالمستوى التاريخي الذي نحن عليه من جهة مستوى التطور والتقدم الحضاري، فإذا تغير هذا المستوى وتقدم نحو الأمام فإن من الممكن أن تتغير نظرتنا إلى العولمة. باعتبار أن العولمة تتناسب والمجتمعات المتقدمة، ومن هذه الجهة فإن العولمة تفرض علينا خيار التقدم الحضاري كشرط تاريخي يضمن لنا البقاء والوجود في هذا العالم المتغير.

رابعاً: لا ينبغي النظر إلى العولمة بوصفها فكرة جامدة أو ثابتة، ولا بوصفها فكرة مكتملة أو نهائية، بل بوصفها فكرة متحركة ومتغيرة بفعل قانون الصيرورة التاريخية. القانون الذي يربط العولمة بعجلة الحركة، ويجعلها في حالة تطور وتحول لا يهدأ أو يتوقف، وتتغير بموجبه صورة العولمة وملامحها ومعالمها. فبعد أن كانت العولمة تتحدد في صورتها الاقتصادية، تغيرت هذه الصورة فيما بعد، وبات الحديث عن عولمة سياسية وثقافية إلى جانب العولمة الاقتصادية، وسوف تظل العولمة تغيّر وتطوّر من صورتها وهويتها في عصر تتراكم فيه المعارف بسرعة مدهشة.

وهذا يعني أن فهم العولمة ينبغي أن يتجدد ويتطور بصورة دائمة ومستمرة، وبشرط ألَّا نعطي هذا الفهم صفة النهائية أو الاكتمال، ولا صفة الجزم أو القطع لأننا نتعامل مع ظاهرة لها طبيعة التغيّر والتغيّر السريع.

الأمر الذي يتطلب مراقبة العولمة بشكل دائم ومستمر لكي نحافظ على تجدد الفهم من جهة، وحتى نتعرف على قوانينها من جهة أخرى. وهذا الذي يوفر لنا إمكانية القدرة على ضبط أوضاعنا، والسيطرة عليها، والتحكم بعض الشيء في آليات العولمة، والتخفيف من عواقبها، والحد من أضرارها.

خامساً: إن إنجاز مثل هذه المهام السالفة الذكر، أو التقدم نحوها، يتطلب تأسيس مراكز ومعاهد للدراسات والبحث تكون متخصصة في دراسة العولمة وأبعادها الشاملة، وكل ما يتعلق بها، من أجل مراقبة حركتها، ومعرفة قوانينها، وتجديد الفهم لها بطريقة مستدامة، وهذا ما ينقصنا فعلاً.

فمن الغريب حقاً ألَّا تجد في طول العالم العربي وعرضه مركزاً أو معهداً متخصصاً بقضية العولمة، كما لا توجد عندنا مجلة متخصصة حول العولمة. ليس هذا فحسب بل نحن بحاجة أيضاً إلى معاهد وكليات أكاديمية تخرج متخصصين في العولمة. وذلك بعد أن أصبحت العولمة تؤثر على كافة أبعاد حياتنا الاقتصادية والسياسية والثقافية والتربوية والاجتماعية والإعلامية، وتؤثر على حاضرنا ومستقبلنا، ومصيرنا في هذا العالم.

ومتى ما تقدمنا خطوات في هذا الاتجاه بتأسيس مراكز وكليات، عندئذ سوف نشعر أننا نتقدم خطوات في تكوين المعرفة بمنطق العولمة وفلسفتها، وقوانين حركتها. ونحن في انتظار إنجاز مثل هذه الخطوات حتى نطمئن أن بالإمكان إبداع عولمتنا التي تخدم مشروع النهضة والتقدم في أمتنا.

ـ 6 ـ

استنتاجات

1ـ إن الفكر الإسلامي المعاصر بحاجة لأن يجدد في منهج النظر إلى العولمة، ويطور ويوازن في موقفه منها، ويتجاوز قراءته الأولى التي يغلب عليه موقف الخوف والشك والرفض، إلى موقف يتصف بالقراءة العلمية والتحليل العلمي.

2ـ ينبغي أن نفرق بين العولمة، وإيديولوجيا العولمة، أو بين الذي يتصل بجانب العلم والتقنية في العولمة، والجانب الذي يتصل بتوظيفات العولمة، أو التفسيرات الإيديولوجية للعولمة.

3ـ علينا أن نوازن بين سلبيات العولمة وإيجابياتها وتهديداتها، فلا نرفض العولمة بشكل مطلق، ولا نقبلها بشكل مطلق، وإنما بشكل نسبي ومعياري.

4ـ إن فهم العولمة لا يكتمل دون تكوين المعرفة العلمية بالعولمة الاقتصادية، وهذا ما ينقص الفكر الإسلامي المعاصر في موقفه من العولمة.

5ـ تعبر العولمة عن مرحلة متقدمة في تطور الاجتماع الإنساني، وتفرض علينا شروط التقدم، ونظرتنا إلى العولمة سوف تتأثر وطبيعة المستوى الحضاري الذي نحن عليه.

6ـ إن فهم العولمة يتطلب مراقبتها بشكل دائم ومستمر لأنها في حالة تغير وتطور دائم ومستمر.

7ـ إننا بحاجة إلى تأسيس مراكز ومعاهد دراسات تكون متخصصة في دراسة العولمة، كما نحتاج إلى كليات ومعاهد أكاديمية تُعنى بقضية العولمة.

 

 



[1] ورقة مقدمة لندوة (العولمة وانعكاساتها على العالم الإسلامي في المجالين الثقافي والاقتصادي) عقدت في العاصمة الأردنية عمان، في الفترة ما بين 3 ـ 4 مايو 2006م.

[2] أنطوني جيدنز. الطريق الثالث.. تجديد الديموقراطية الاجتماعية، ترجمة: أحمد زايد ومحمد محيي الدين، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1999م، ص 62.

[3] أنطوني جيدنز. عالم جامح.. كيف تعيد العولمة تشكيل حياتنا، ترجمة: عباس كاظم وحسن ناظم، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2003م، ص 26.

[4] بول هيرست وجراهام طومبسون. ما العولمة.. الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم، ترجمة: فالح عبد الجبار، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2003م، ص 12.

[5] هانس بيتر مارتين وهارالد شومان. فخ العولمة.. الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية، ترجمة: عدنان عباس علي، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2003م، ص 8.

[6] أنطوني جيدنز. الطريق الثالث، مصدر سابق، ص 62.

[7] بول هيرست وجراهام طومبسون. ما العولمة، مصدر سابق، ص 17.

[8] سمير أمين. في مواجهة أزمة عصرنا، بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، 1997م، ص 93.

[9] أنطوني جيدنز. عالم جامح، مصدر سابق، ص 30.

[10] أنطوني جيدنز. الطريق الثالث، ص 63.

[11] بول هيرست وجراهام طومبسون. ما العولمة، ص 12.

[12] أنطوني جيدنز. الطريق الثالث، ص 64.

[13] جيرار ليكلرك. العولمة الثقافية.. الحضارات على المحك، ترجمة: جورج كتورة، بيروت: دار الكتاب الجديد، 2004م، 19.

[14] جيرار ليكلرك. المصدر نفسه، ص 23.

[15] محمد عابد الجابري. قضايا في الفكر المعاصر، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997م، ص 145.

[16] برهان غليون وسمير أمين. ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، دمشق: دار الفكر، 1998م، ص 24.

[17] أسامة أمين الخولي. العرب والعولمة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998م، ص 28.

[18] برهان غليون وسمير أمين. ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، مصدر سابق، ص 72.

[19] رجب بودبوس. العولمة بين الأنصار والخصوم، بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، 2000م، ص21. نقلاً عن صحيفة اللوموند الفرنسية، 8 ديسمبر 1999م.

[20] محمد عابد الجابري. قضايا في الفكر المعاصر، مصدر سابق، ص 149.

[21]  لاو سي. نعم للعولمة.. لا للغربنة، الثقافة العالمية، الكويت، نوفمبر وديسمبر 1997م، العدد 85، ص 60.

[22] هاماتا نوبورو. اليابان هي العولمة الآن، الثقافة العالمية، المصدر نفسه، ص 67.

[23] محضير محمد. الإسلام والأمة الإسلامية، دمشق: دار الفكر، 2002م، ص 19.

[24] محضير محمد. المصدر نفسه، ص 33.