شعار الموقع

رؤية العالم عند عبد الرحمن بن خلدون

فتحي حسن ملكاوي 2006-11-11
عدد القراءات « 2344 »

 

فتحي حسن ملكاوي([1])

* مقدمة

يعاني الفكر الإسلامي المعاصر هذه الأيام من أزمات متنوعة، لعلّ أهمها الطريقة التي نجيب فيها عن الأسئلة الكلية المتعلقة بالعالم الذي نعيش فيه وعلاقتنا به ودورنا فيه، الأمر الذي يقتضي من المفكرين تجديداً معرفياً جادّاً، وجهداً نقدياً مسؤولاً. وربما كان العطاء الفكري المتميز لابن خلدون هو في هذا الجانب على وجه الخصوص.

ولذلك فإن من المفيد مراجعة ما توصل إليه ابن خلدون حول تصوره للعالم والعناصر المكونة له، وطبيعة المعرفة الإنسانية ومصادرها وأدواتها، وتطبيقات ذلك في تصنيفه للعلوم والمعارف. فالرؤية الكونية العامة عند ابن خلدون، أو رؤيته للعالم، تمثل مصدراً مهماً لا تقتصر أهميته على إدراك الحضور الفكري المعاصر لابن خلدون بعد مرور ستمائة عام على وفاته، بل إن هذه الأهمية -فضلاً عن ذلك- تعرض منهجاً فاعلاً في فهم العلاقة بين النص والواقع وأنموذجاً لجهود الاستيعاب والتجاوز المطلوبة للخروج من أزماتنا المعاصرة.

وسوف تتناول هذه الورقة أهمية مفهوم رؤية العالم أو الرؤية الكونية العامة، في فهم واقع الفكر الإسلامي المعاصر وطبيعة التحديات والفرص التي تواجهه. ثم تستعرض الورقة الجهد الذي قام به ابن خلدون في استلهام مقاصد الدين ومصالح الدنيا في نقد الحالة المعرفية السائدة في عهده، ومن ثمّ تطوير نسق معرفي متميز، يجيب عن الأسئلة الكلية ويبيّن دورها في بناء العمران البشري وتحقيق النهوض الحضاري.

من المؤكد أن «المقدمة» لابن خلدون كانت كتاباً مستقلاً قائماً بذاته، وهو من طبيعة مختلفة عن بقية كتاب العبر، وإن جاء مقدمة لكتاب العبر تماماً. كما يمكن النظر إلى كتاب «التعريف بابن خلدون مؤلف الكتاب ورحلته غرباً وشرقاً» هو كتاب قائم بذاته وإن جاء في خاتمة كتاب العبر.

فإذا كان كتاب العبر هو كتاب تاريخ للعرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، فإن المقدمة ليست بحثاً في التاريخ، وإنما هي رؤية كلية للتاريخ البشري، بوصفها عرضاً للعمران والاجتماع الإنساني، وكيف يجب أن يكتب هذا التاريخ.

ولذلك ليس غريباً أن يقوم الباحثون في الشرق والغرب بدراسة المقدمة بصورة مستقلة عن كتاب العبر، وأن يكون الجزء الأكبر من الأدبيات التي تناولت ابن خلدون تتعلق بمحتوى المقدمة، وقليل منها يتعلق بكتاب العبر الذي كانت «المقدمةُ» مقدمةً له.

وإذا كانت المقدمة رؤية عامة وكلية للعمران البشري في ضوء تاريخ المجتمع البشري الذي عاصره وعايشه وتفاعل معه ابن خلدون وفي ضوء ما نقل إليه من العلم عن المجتمعات المعاصرة له، وفي ضوء ما كتبه المؤرخون عن المجتمعات والعصور السالفة، فإننا نلمح أن هذه الرؤية متداخلة بكل فكرة وكل نتيجة توصل إليها، فهي الإطار الذي يشمل نظريته العامة في العمران البشري، والنظريات الجزئية التي يمكن تصنفيها في العلوم المعاصرة ضمن ميادين السياسة أو الاقتصاد أو التربية... إلخ.

ولا تودّ هذه الدراسة إثبات إسلامية ابن خلدون، والتأكيد على المرجعية الإسلامية لنظرياته، فقد تكفل بذلك عدد من الباحثين[2]. ومن المتوقع أن تتولّى ذلك أيضاً بالتوضيح والتعميق أوراق أخرى في هذا المؤتمر. وإنما تودّ أن تشير إلى موقع رؤية العالم في تفكير ابن خلدون، وفي منهجه في النظر إلى الأمور وفهمها. وأن تؤكد أن هذه الرؤية الكلية صفة واضحة، وخاصيّة راسخة من خصائص ابن خلدون. ولا يقتصر ذلك على طريقته في تناول الروايات التاريخية ونقدها وتصحيحها وحسب، ممّا يتعلق برؤيته للتاريخ، على اعتبار أن كتاب المقدمة هو مقدمة لكتابه في التاريخ «العبر، وديوان المبتدأ والخبر...»، وإنما يتضح من تناوله لقضايا الوجود والكون، وطبيعة الإنسان والمجتمع البشري، ونظريته في المعرفة ومنهج البحث، وغير ذلك من المحددات التي تعكس طرقُ تناولها عند أي عالم أو مؤلف نظرتَه الكلية أو رؤيته للعالَم.

وقد اعتمد البحث في هذه الورقة في الأساس على القراءة المتأنية والفحص الدقيق لما كتبه ابن خلدون في كتاب المقدمة، وعلى الطبعة التي ربما تكون أكمل الطبعات المتوافرة له. ومع ذلك فقد كان لا بد من الإشارة إلى ما ذهب إليه بعض الباحثين في الدراسات الخلدونية، وبخاصة تلك الدراسات التي تناولت ابن خلدون من خلال قراءات مجتزأة كان هدفها المسبق هو الإعلاء من شأن ابن خلدون أو الحطّ من قدره. ولمّا كان هدف الورقة هو الكشف عن رؤية العالم عند ابن خلدون، فإنّه لم يكن ممكناً الاكتفاء بقراءة جزء معين من كتاب المقدمة، كمن يبحث في رؤيته للتعليم أو الموارد الاقتصادية أو طبيعة السياسة وفن إدارة الحكم، فيكتفي بقراءة فصول محددة، بل كان من الطبيعي أن تتم قراءة الكتاب كلّه ومراجعة كثير من مسائله أكثر من مرة، ومقابلة بعض النصوص فيه ببعضها الآخر.

ومن اللافت للنظر أن النظرة الكلية كانت أمراً ظاهراً واضحاً عند ابن خلدون في معظم فصول كتاب المقدمة. وحتى لا يكون الحكم على ابن خلدون -في وعيه على الرؤية الكلية، وإعماله لها- هي قراءة خارجية مقحمة، فقد تم إثبات كثير من النصوص، التي ربما أثقلت الورقة وأطالت صفحاتها. ومع ذلك فإن رؤية العالم عند ابن خلدون لا تزال تتسع لأوراق مستقلة توضح كيف تمثلت هذه الرؤية في كل مجال من المجالات التي تعرضت لها هذه الورقة: الوجود والكون، الإنسان والمجتمع، العلم والمعرفة... وغيرها من هذه المجالات الأخرى التي لم تتسع الورقة للتعرض لها. وبالله التوفيق.

* أولاً: موضوع رؤية العالم

ثََمّة صورةٌ كلية يكوّنها الإنسان لنفسه عن نفسه وعن العالم من حوله، تعتمد على الموقع الذي يحاول منه الرؤية، وزاوية النظر التي يتخذها، والبيئة الطبيعية والنفسية والاجتماعية، والنظام الفكري بمكوناته اللغوية وأطره المرجعية... هذه الصورة الكلية هي التي تعرّف الإنسان، عندما تنظر إليه من الخارج، وتعرّفه برؤيته هو لنفسه وللأشياء من حوله، وهي ما يعرف بالرؤية الكلية، أو الرؤية الكونية، أو الفكرة الكلية، أو التصور الكلي، أو الفلسفة العامة، أو التفسير الشامل، أو النموذج التفسيري، أو الإيديولوجيا... أو ما أصبح يعرف على نطاق واسع: رؤية العالم.

ويبدو أن مفهوم رؤية العالم أصبح مفهوماً مفتاحياً في فهم جوهر النشاط العلمي؛ إذ يقوم هذا المفهوم بدور حاسم في الممارسة العلمية، لأن رؤية العالم تحدد أهمية المشكلات البحثية، ومناهج البحث وصلة البيانات ومحتوى المشاهدات بالمشكلة، وتقدم المعايير والقيم اللازمة لقبول الحلول. وقد أخذ الكثير من الباحثين يميلون إلى ما أكدّه «توماس كون» من أنّ طبيعة العقل العلمي تمارس البحث ضمن حدود رؤية للعالم تتصف بالشمول والعلمية والمنهجية[3].

ويتداخل مفهوم رؤية العالم في مختلف حقول المعرفة: في الدين، والفلسفة، والعلوم الاجتماعية والطبيعية، والفنون، والعلوم التطبيقية مثل الطب والهندسة...إلخ. فالمصطلحات الدينية مثل الإيمان والعقيدة والتصور الكلي تعبر عن مجموعة الأفكار والمفاهيم والمعتقدات التي تجيب عن الأسئلة الوجودية الكبرى التي يحاول مصطلح «رؤية ا لعالم» التعرض لها. وهي نفسها الأسئلة التي انشغلت بها الفلسفة منذ بداية عهد الإنسان بميادينها. وهي المحتوى الأساسي لفلسفة أي علم من العلوم الحديثة الذي يؤثر في تشكيل نظريات هذه العلوم ومناهج البحث فيها.

أي أن الموضوع يرتبط بالرغبة العميقة وبالحاجة الأصيلة من فطرة الإنسان في البحث عن إجابات الأسئلة الكلية والغائية التي يطرحها وجود الإنسان وحياته وعلاقته بالكون الذي يعيش فيه؛ من أين جاء وإلى أين يصير؟ لكن أمر هذه الأسئلة لا يبقى مجرد إحساس فطري بل يتحول إلى جهود عقلانية منظمة تُبنى عليها نظريات ويُلتزم وفقها بإيديولوجيات، وعلى أساس منها تقوم الدول وتُنظَّم الأحزاب وتعلن الحروب، ثم ينشأ المنظمات الدولية للسعي لحل النزاعات ونشر السلام وإقامة العدل...

ورغم المقولة المعروفة في استخدام المصطلحات: «لا مشاحة في الاصطلاح،» فإن بعض الناس لا يفضلون استخدام مصطلح لم يرد في نصوص القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف. ومع أن تطور العلوم قد أضاف إلى مفردات اللغة كثيراً من المصطلحات التي استقرت لدى أهل العلم، في الدلالة على فئات العلوم؛ فإنه ثمة من يتحفظ على استخدام مصطلحات جديدة؛ بحجة أن بعضها ربما يحمل جذوراً وملابسات تشوش دلالة المصطلح، وتبعدها عن المفهوم الذي يريده الكاتب. فالمرحوم سيد قطب كان مشغولاً منذ مطلع الخمسينات بالربط بين الفهم الذي تتطلبه عقيدة الإسلام وما يُبنى عليها من سلوك، والفكرة الكلية عن الكون والحياة والإنسان، وكان يَعِدُ بإفراد هذا الموضوع ببحث متخصص، إلى أن أخرج كتاب «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته». وقد ناقش أهمية استخدام مصطلح محدد لهذا الغرض، يعبر عن «الفكرة الكلية عن الكون والحياة والإنسان»، ولم يجد مصطلح العقيدة أو الفكرة الكلية كافياً، ولم يقبل بمصطلح الفلسفة الإسلامية الذي نُوقشت عناصر الموضوع تحته، وقرّر أنه لا بد من اختيار مصطلح محدد، فاختار مصطلح: «التصور».

وقد جرت الممارسة العلمية على التعبير عن المفاهيم والمبادئ العامة لأي علم، يتم بوساطة مصطلحات ومفردات لغوية، لكن أي من المصطلحات لا يقوم وحده، ولا تتحدد دلالته الكاملة منفصلاً عن غيره، فدلالات هذه المصطلحات والمفردات اللغوية متداخلة جداً، وتشتق معانيها من نظام واسع من العلاقات المتشابكة، الشديدة التعقيد. إنه النظام الفكري -الجشتالتي- الكلي الذي تتحدد ضمنه المعاني الكامنة والدلالات الحقيقية لهذه المصطلحات[4].

إن العلاقة بين رؤية التفاصيل والرؤية الكلية ليست علاقة سطحية خطية، وإنما هي علاقة تفاعلية جدلية معقدة، فالرؤية الكلية تضع التفاصيل في موقعها المناسب، وإدراك التفاصيل في حدودها الخاصة بها لا يقتصر على التقاطها وتمييزها في موقعها من الزمان والمكان، وإنما يتجاوز ذلك إلى ربطها برموزها ودلالاتها وما يرتبط بها من أفعال وردود أفعال، وهذا يعني الارتقاء بها إلى مستوى من التجريد الدلالي الذي يتطلب بالضرورة إعمال العقل والتأمل العميق، مما ينتج عنه تعديل في الرؤية الكلية وتوسيع في مجالاتها.

إن وجود تعدد في الرؤى الكلية حول العالم هو أحد خصائص الثقافة المعاصرة. وإذا كانت العولمة في هذا العصر هي اتجاه آخذ في الانتشار لتعميم ثقافة واحدة، فإن الاختلاف والتعدد في رؤية العالم هو خاصية مميزة لهذا العصر أيضاً، وربما تخدم العولمة في جعل هذه الرؤى المتعددة معروفة ومتاحة لأعداد متزايدة من الناس. وهكذا يستخدم مفهوم رؤية العالم في هذه الأيام لتوضيح ظاهرة التنافس الثقافي بين رؤى فلسفية ودينية متعددة. وهي من ثم رؤية «ما بعد حداثية» تتصف بالتعدد المعرفي والتناشز الأخلاقي.

وفي أثناء فترة الحرب الباردة كان التنافس والصراع على أساس سياسي ونفوذ إيديولوجي ومصالح اقتصادية وحول قضايا الولاء والهوية، وبعد انتهائها لم يتوقف الصراع، بل أخذ يشتد ويأخذ بعداً ثقافياً وحضارياً أوسع مدىً وأعمق في جذوره، وأوسع في مجالاته، فالشعوب أصبحت تحاول الإجابة عن الأسئلة التي تواجهها، وبالذات الأسئلة الأكثر عمقاً، وأصبحت تجيب عنها بالطريقة التقليدية التي كانت هذه الشعوب تستعملها سابقاً؛ أي بالإشارة إلى الأشياء التي هي أكثر معنى من غيرها. والأشياء الأكثر معنى لأكثر الناس هي أجدادهم ولغتهم وتاريخهم وقيمهم وعاداتهم ومؤسساتهم التقليدية، وبخاصة الدين. أما «صدام الرؤى الكونية» clash of worldviews فإنه يقع في القلب من هذه الحرب الثقافية على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي ويتجاوز هذا الصدام أحياناً الكلام ليصبح أكثر دموية، كما يتزايد الميل لتكون طرق التنافس في فهم الوجود الإنساني أكثر عنفاً، الأمر الذي يوضح أهمية البحث في مفهوم «رؤية العالم» أو «الرؤية الكونية.»

إن الصدام بين الطرق المختلفة في الوعي Collision of consciousness كان عاملاً محدداً لملحمة التاريخ البشري منذ عهود النشأة الأولى. فهو صدام حول المبادئ الأولى، فالأفكار لها نتائجها، ومع ذلك فإن ثمة مستوى عميقاً من إدراك الحقيقة يجب النظر إليه عند محاولة فهم الاختلاف الإيديولوجي الذي يقع في القلب من قصة الإنسان على هذه الأرض. ففي الوعي الديني (على الأقل في الأديان التوحيدية) يحتل الصدام بين رؤى العالم موقعاً مهماً في المعركة الروحية الخفية بين الحق والباطل، بين طاعة الله وطاعة الشيطان، وهي معركة تدور رحاها في عقول الناس وقلوبهم، ومن ثم في حياتهم ومصيرهم، منذ بدء الوجود البشري. وليس ثمة ما هو أكثر أهمية من الطريقة التي يفهم فيها الإنسان خالقه ونفسه والكون الذي يعيش فيه وموقعه فيه.

وبالرجوع إلى الموضوعات التي تبحث تحت عنوان هذا المصطلح سنجد أنها في مجملها ما يدخل تحت عنوان أركان الإيمان الستة المعروفة في الإسلام، أو أبواب العقيدة المعروفة لدى علماء الكلام في الفرق والمذاهب الإسلامية؛ أو الأصول الخمسة في الصياغة المعتزلية التي تميّزت بإضافة أصل العدل؛ أو أصول الاعتقاد عند الشيعة الاثني عشرية التي تميّزت بإضافة أصل الإمامة.

إن وظيفة رؤية العالم في الأساس هي تزويدنا بالإطار العام الذي نفهم به كل شيء ونفهم أنفسنا أيضاً، وجعل فهمنا ضمن كلٍّ موحَّد، فكلما حاولنا أن نكوِّن فهماً معيناً أو نصوغ نظرية لتفسير شيء ما، فإننا بالضرورة وبطبيعة عمل العقل نستخدم رؤيتنا للعالم. ولذلك فإن وظيفة رؤية العالم هي وظيفة معرفية. ودور المفكر المسلم المعاصر لا يقتصر على ضرورة استخدام رؤية العالم وحدة تحليل للأفكار والمواقف والأشخاص والمؤسسات، ليعرف أين وكيف تختلف رؤيتنا للعالم عن الرؤى الأخرى، بل عليه أن يجعل الرؤية الإسلامية للعالم معروفة لأصحاب الرؤى الأخرى.

* ثانياً: الدراسات الخلدونية

من المؤكد أن عبد الرحمن بن خلدون كان عالماً موسوعياً، شأنه في ذلك شأن كثير من علماء عصره والعصور السابقة لعصره. وقد حصّل نصيباً مقدّراً من ألوان المعرفة والثقافة المتعددة التي كانت سائدة في عصره. ويشهد لذلك ما أشار إليه في تعريفه بنفسه في كتاب مذكراته التي جاء في نهاية «كتاب العبر»[5]. كما يشهد لذلك عرضه للعلوم وأصنافها في الباب السادس من المقدمة. هذا التأكيد على موسوعية معارف ابن خلدون لا يتعارض مع ما يتبادر إلى الأذهان من أن ابن خلدون كان في جلّ ما كتبه مؤرخاً، ولم تكن المقدمة التي طبقت شهرتها الآفاق إلا مقدمة لكتاب (العبر) وهو كتاب في التاريخ.

لكن كثيراً ممّن كتبوا عن ابن خلدون وظفّوا رؤيتهم الجزئية لفصول محددة من كتاب المقدمة، أو جوانب معينة ممّا عرفوا عنه من سيرة حياته، وأعملوا فيها البحث والمناقشة والمقارنة ومارسوا عمليات الاستلاب والتجيير والإحالة إلى فروع العلم المعاصرة، التي تتسم بالتخصص الدقيق والتجزئة الشديدة، ليكتشفوا في نهاية المطاف أن ابن خلدون عالماً متخصصاً، وفقيهاً متبحراً، ورائداً مؤسساً في التربية وفي علم النفس وفي الاقتصاد وفي السياسة... وغيرها من العلوم المتخصصة، فوق أنه كان مؤرخاً فذاً، ورائداً مؤسساً لعلم الاجتماع، وفيلسوفاً مبدعاً وضع علم المناهج وصاغ نظرية المعرفة!

وتتكرر هذه الظاهرة كلما عُقِد مؤتمرٌ أو نُظِّمت ندوةٌ عن ابن خلدون، كما تتكرر في دراسات الباحثين الذين ينجزون دراساتهم في الميدان المهني (أساتذة الجامعات والباحثون في مراكز البحوث) أو الميدان الأكاديمي (أطروحات طلبة الدراسات العليا في الجامعات). ولعلّ مراجعة البحوث التي قدمت إلى مهرجان ابن خلدون المنعقد في القاهرة عام 1962 يمثل ذلك خير تمثيل.

فقد جاء في ورقة الإمام محمد أبو زهرة في ذلك المهرجان ما يُعلي قدر ابن خلدون في الفقه والقضاء، وينوّه بأنه: «قضى نحو أربعة وعشرين عاماً من سنّي نضجه الكامل يتردد بين الفقه والقضاء»، وأنّ في ممارسته القضاء «صفحة ناصعة البياض في تاريخ ابن خلدون، وهي مشرِّفة، تبين للقضاة أنهم يملكون الإصلاح وردّ الأمور إلى نصابها، ولكن لا يستطيع ذلك إلا أولو العزم من القضاة... وكان (ابن خلدون) من أعظم القضاة الذين رآهم تاريخ الإنسانية»[6].

ولاحظ حسين شحاته سعفان أن أهمّ ما ميّز ابن خلدون هو البعد الفلسفي والمنهجي الذي مكنه من تطوير علم اجتماع المعرفة (سوسيولوجية المعرفة) وتطبيقه لهذا العلم المنهجي في تمحيص المعرفة التاريخية[7]. أما حامد ربيع فحلل الفقه السياسي لابن خلدون وجعل منه «أحد آباء علم السياسة كما نفهمه اليوم»[8]. وقد جعل محمد حلمي مراد عنوان بحثه «أبو الاقتصاد ابن خلدون»[9]. واختتم محمد عبدالمعز نصر بحثه بالقول: إن ابن خلدون «وضع بهذا النظام السياسي الذي عرضه في المقدمة حول دراسته للدول أسس علم السياسة في اللغة العربية، وأنه خرج يطلب علم التاريخ فجاءه علم السياسة»[10]. وهكذا الأمر في معظم أوراق المهرجان!

وربما نكون أكثر إنصافاً لو دققنا النظر في الموضوع الذي كان ابن خلدون مهتماً بدراسته؛ وهو الظاهرة الاجتماعية، أو المجتمع الإنساني، وأن هدف الدراسة كان تحديد القواعد العامة التي تحكم تطورات هذه الظاهرة. عند ذلك يتبين لنا أن الظاهرة الاجتماعية هي ظاهرة كلية تتطلب دراستها التمييز بين جوانب مختلفة؛ فقضية السلطة السياسية هي جزء من الظاهرة، وقضية التعليم والتعلّم هي جزء آخر من الظاهرة، وموضوع الإدراك والمعرفة البشرية هو جزء من الظاهرة... إلخ. وقد تعرّض ابن خلدون لهذه القضايا بصورة تكشف عن وعيه بأهمية هذه الجوانب المختلفة دون أن تبرر اعتباره فقيهاً متخصصاً في كل جانب منها؛ سياسياً، واقتصادياً وتربوياً... إلخ.

ويبدو أن كل باحث حاول أن يجد في كلام ابن خلدون نصوصاً تدعم ما كان يذهب إليه، فتجد باحثاً يؤكد على رأي معين يميل إليه، مستشهداً بنصوص ابن خلدون، وفي الوقت نفسه نجد باحثاً آخر يؤكد على نقيض ذلك الرأي، وهو يستشهد كذلك بنصوص أخرى من ابن خلدون. وتجد مصداق ذلك في أوراق مهرجان ابن خلدون المشار إليه.

لكن الأهم من ذلك -في موضوع الأدبيات الخلدونية- تلك الجهود التي حاولت إخراج ابن خلدون من بيئته ونسبه وثقافته وأحياناً من دينه. فمن الباحثين من عدّ ابن خلدون متديّناً علمانياً يفصل بين التديّن الشخصي والممارسة العلمية، ومثال ذلك ما ذكره محمد عبد الرحمن مرحبا الذي عدّ ابن خلدون متديّناً، مع أن الدين عنده لا مدخل له في تفسير مصدر الأخلاق... «فالأخلاق عنده (عند ابن خلدون) ظاهرة كبقية الظواهر الاجتماعية التي درسها وهو يسجل هذه الظاهرة بموضوعية نادرة أخّاذة، دون أن تؤثر آراؤه الدينية أبداً في حكمه عليها، إنها ظاهرة ماديّة صرف، لها أسبابها المادية وظروفها الموضوعية... أما الدين فهو عقيدة شخصية لا شأن لها بالبحث العلمي...»[11].

وقد أشار «مصطفى الشكعة» إلى أن «كامل عيّاد» استخدم النهج نفسه، في رؤيته لابن خلدون في كتابه: نظرية ابن خلدون التاريخية الاجتماعية المطبوع في برلين (1930)، وإلى طه حسين في أطروحته للدكتوراة في جامعة السوربون سنة 1917 بعنوان: فلسفة ابن خلدون الاجتماعية[12]، وإلى عدد من المستشرقين، كل ذلك في سياق يتراوح بين الحطّ من قدر ابن خلدون والإشارة إلى شعوبيته وكراهيته للعرب، ووصف نظريته في العصبية بأنها تعبير عن الروح الحزبية والطبقية؛ أو التقليل من شأنه بمقارنته بمن سبقه من الفلاسفة، أو في امتداحه بأنه ارتفع فوق معتقداته الدينية وهو يحقق منجزاته الضخمة! ويبني نظريته العلمية بطريقة فريدة على المادة التجريبية! وأن نظريته تتفوق على المادية التاريخية التي جاء بها ماركس[13].

ونجد فكرة التمييز بين المرجعية الدينية عند ابن خلدون، وما توصل إليه من أحكام وآراء يحلو للباحثين تسميتها بالنظريات، شائعة عند كثير من الباحثين الغربيين. ومن ذلك ما أكده «دي بور» في كتابه عن تاريخ الفلسفة الإسلامية من أن الدين لم يؤثر في آراء ابن خلدون العلمية[14].

ومن جهة أخرى تجد بعض الباحثين الغربيين يجتزئون من معرفتهم المحدودة، أو المشوهة عن التاريخ الإسلامي والإسهامات العلمية للمسلمين، جوانب في غاية الضيق والجزئية، وقطع المادة من سياقها ونقل الأفكار دون تمحيصها أو عزوها إلى مصادرها الأولية. وربما أصبحت هذه الإشارات العابرة بعد ذلك مصادر أولية لكثير من الباحثين والدارسين العرب. ومن الأمثلة على ذلك كتاب جامعي في «الفكر الاجتماعي الغربي» الذي انتشر على نطاق واسع، ويرى فيه المؤلفان أن «المجتمع المحمدي(!) الوسيط الذي كان في صراع مع العالم المسيحي خلال الحروب الصليبية... أنتج تلميذاً لافتاً للانتباه هو الفيلسوف والمؤرخ العربي(!) ابن خلدون، وهو مواطن بربري(!) من تونس... وطور في هذا الكتاب (المقدمة) نظرية الصراع في التغيير الاجتماعي وعزا أهمية كبيرة للبيئة الطبيعية في تشكيل النظام الاجتماعي...»[15].

وإذا كانت هذه الأمثلة تقع في سياق الظلم للحقيقة ولابن خلدون معاً، فإن من الظلم للحقيقة ولابن خلدون أيضاً أن يذهب محقق المقدمة المشهور علي عبدالواحد وافي[16] إلى مقارنة جهود ابن خلدون بجهود طائفة من العلماء الأوروبيين الذين درسوا فلسفة التاريخ منطلقين من نظرياتهم الفلسفية وآرائهم المبيّته من قبل، وحاولوا أن يخضعوا حقائق التاريخ لهذه النظريات والآراء... حتى تنثني لما يعتنقونه من مذاهب، بينما كان منهج ابن خلدون لا يعتمد إلاّ على الملاحظة واستقراء الحوادث[17].

كذلك فإن من الظلم لابن خلدون أن نحاسبه على أنه فقيه تربوي ونناقش آراءه وأحكامه العابرة في التربية، في ضوء العلوم المعاصرة في التربية والمناهج وتقنيات التعليم وعلم النفس؛ أو أنه فقيه الاقتصاد، أو فقيه السياسة وغير ذلك، ثم نحاسبه بناءً على ذلك في ضوء العلوم المتخصصة في حالتها الراهنة، بل إنه يتفوق فيها على هذه العلوم في بعض المسائل فضلاً عن أنه كان سابقاً عليها بستة قرون!

وفي مقابل هذا الظلم، فإننا نرى أن من العدل أن نكتفي في دراستنا لابن خلدون بالإشارة إلى الجوانب المعرفية العامة والأطر المنهجية التي شكلت فقهه الاجتماعي ووعيه بصلة الجوانب السياسية والاقتصادية والتربوية والبيئية وغيرها بالظاهرة الاجتماعية، وهذه في نظرنا هي ملامح الرؤية الكلية عند ابن خلدون.

* ثالثاً: مصدر رؤية العالم عند ابن خلدون

وضع الباحثون تصنيفات عديدة لرؤى العالم، وكل تصنيف منها يعتمد إلى حد كبير على رؤية العالم عند ذلك الباحث، فالذين يتحدثون عن الإسلام في مقابل الجاهلية يميّزون بين رؤية العالم (التصور الإسلامي)، وهو تصوّر واحد ذو مصدر رباني، الإسلام فيه ليس مجرد مجموعة من المعتقدات والشعائر، وإنما هو نظام كامل لحياة البشر في جوانبها كافة، والتصورات الجاهلية وهي تصوّرات عديدة تشترك في أنها تصورات غير إسلامية.

وهذا (محمد نقيب العطّاس) يؤكد على وجود رؤية واحدة للعالم هي الرؤية الإسلامية لأنها تتصف بالمصداقية والنهائية، وتشير إلى المطلق، وتعكس فهماً للحقيقة التي تتضمن الوجود والحياة بكاملها، وبإدراك كليّ، ولأن عناصرها قد تأسست بصورة تامة ودائمة؛ صفات الله (عز وجل) وطبيعة الوحي (القرآن الكريم)، وطبيعة المخلوقات، وسيكولوجية النفس الإنسانية، والمعرفة، والحرية، والفضائل والقيم، والسعادة، وكل هذه العناصر ومعها المصطلحات المفتاحية والمفاهيم التي تعرِّفها هي عناصر رؤية العالم الإسلامية، التي تؤثر على أفكارنا عن التغيّر والتطور والتقدم وتشكل بنية متماسكة تستحق أن تسمّى رؤية للعالم، أما الحداثة وما بعد الحداثة فإنهما لا يمتلكان تقديم رؤية متماسكة يمكن وصفها بأنها رؤية للعالم[18].

واستخدم (مرتضى مطهري) مفهوم الرؤية الكونية، وميّز بينها وبين المصادر التي تُبنى عليها الرؤية، وأكد أن جميع المذاهب والفلسفات والأحزاب والمدارس والأديان تنطلق من رؤية كونية تميّزها، وتنبثق عنها مفاهيمها ومعارفها وأنظمتها، وصنّف الرؤى الكونية الرئيسة إلى علمية وفلسفية ودينية وعرفانية. وحدّد المعايير التي تُوزن بها كل رؤية لبيان إيجابياتها وسلبيانها[19].

وتحدّث (فرانسيس شيفر) عن رؤية دينية مسيحية واحدة تواجه رؤى متعددة تنافسها، وأكّد أن «المسيحية ليست مجرد دين يوضح للإنسان كيف يمكن أن يغفر له، وإنما هي رؤية كلية للكون والحياة، وأن على المسيحيين أن يعرفوا أن إيمانهم يعكس أشياء مهمة عن الحياة البشرية كلها»[20].

وميّز (جيمس سير) بين ثماني رؤى للعالم على أساس قربها أو بعدها من رؤية العالم الدينية المسيحية التي يتبنّاها Theism، وهي تؤمن بخالق مدبر، ورؤية دينية أخرى تؤمن بخالق غير مدبر Deism ترك الخلق وشأنه، تجري أموره وفق النظام الذي وضعه له، ورؤية طبيعية مادية لا تؤمن بخالق، ورؤية وجودية، ورؤية عدمية، ورؤية حلولية شرقية، ورؤية العصر الجديد، ورؤية ما بعد حداثية،... إلخ[21].

فأين تقع رؤية ابن خلدون من هذه الرؤى المختلفة؟

ربّما كانت جوانب تميّز عبقرية ابن خلدون سبباً في تنازع أصحاب الرؤى المختلفة للعالم فيه وتصنيفهم له، وتوظيفهم لأفكاره ضمن رؤاهم الخاصة بهم، حتى لو كانت هذه الرؤى في أقصى طرفي التناقض. وإذا كان من السهل على أصحاب رؤية العالم الدينية بصورها المختلفة أن يتبنّوا ابن خلدون ويصنّفوه في معسكراتهم، فإن أصحاب الرؤية المادية الماركسية يفعلون ذلك أيضاً، فهذا (سال روستيفو) يضع كتاباً بعنوان رؤية العالم الاجتماعية[22] ينعى فيه على الآخرين من علماء الاجتماع وصفهم لعلم الاجتماع بأنه حقل من حقول المعرفة أو مهنة أو مادة دراسية، ويقرر بدلاً من ذلك أن علم الاجتماع هو طريقة في النظر إلى الحقيقة وتنظيمها في صورة رؤية كلية أو رؤية للعالم، وأن علم الاجتماع في هذه الصورة هو علم وضعي علماني للوجود الإنساني والفعالية الإنسانية. ورؤية العالم الاجتماعية هذه هي منهجية عولمية تاريخية ذات توجه عبر ثقافي، لا تقبل بأية تفسيرات غيبية وتؤمن بأن الإنسان قائم بذاته لا يحتاج إلى دعم علوي ميتافيزيقي، وهو قادر بنفسه على بناء معنى لحياته، ويجب أن يزيل من طريقه أية عقبة تمنعه من التفكير في أي شيء، حتى من التفكير في غير المفكر فيه! وبهذه الرؤية الاجتماعية للعالم يفهم المؤلف إنجازات ابن خلدون ويرى أنه أحد المنافسين لأوجست كونت في كونه منشئ علم الاجتماع[23].

أما ما لفت انتباه هذا المؤلف في أفكار ابن خلدون وجعله يصنّفه ضمن هذه الرؤية (الماركسية) للعالم فهو أن ابن خلدون -حسب فهمه- تبنّى منهجاً يقوم على النظرة التاريخية، التحليلية، الشمولية، عبر الثقافية، للجنس البشري ويبرز أشكال الصراع (الجدلي) وتصادم المصالح بين الفئات (الطبقات) والمجموعات البشرية، ويكثر من التساؤل، والنقد، والمقارنة، والتقويم، والبحث عن الأسباب والقوانين العامة (الشبيهة بالقوانين الطبيعية)، ويعزز مسؤولية السعي البشري (الكسب) والمصير الذي ينتهي إليه البشر -في حياتهم- من الغنى والفقر، أو من القوة والضعف، أو من النصر والهزيمة[24].

وعلى الشاكلة نفسها لاحظ مؤلف كتاب الفكر الاجتماعي الغربي أن: «المجتمع المحمدي(!) الوسيط أنتج تلميذاً لافتاً للانتباه هو الفيلسوف والمؤرخ العربي ابن خلدون...» لكن المؤلِّفَيْن لم يجدا في الفكر الاجتماعي لابن خلدون أكثر من «نظرية الصراع في التغير الاجتماعي، والأهمية الكبيرة للبيئة الطبيعية في تشكيل النظام الاجتماعي[25].

وعلى كل حال فإن هذه الورقة تنظر إلى ابن خلدون على أنّه عالم عربي، مسلم، ملتزم بفهم السنة والجماعة، على المذهب المالكي، والكلام الأشعري. ولذلك يتوقع أن تتصف رؤيته للعالم بمجمل الخصائص العامة لرؤية العالم الدينية الإسلامية، ومن ثم لا نجد ما يبرّر قبول بعض الآراء الشاذة التي اتهمته بالشعوبية أو التشيع، أو الاعتزال، أو المذهب التجريبي المادي الجدلي. ففي كتاب التعريف -الذي يعرّف فيه بنفسه على طريقة المذكرات الشخصية المعروفة اليوم- يفتخر بنسبه العربي الحضرمي، وفي كتاب المقدمة مواطن كثيرة ينتقد فيها التشيع وعلى الخصوص من يسميهم الرافضة وينتقد فيه المعتزلة... ويؤكد مرجعيته القرآنية في تفسير الظواهر والسنن الإلهية في الكون والمجتمع والنفس، وفي دعائه إلى الله بالتوفيق والهداية وزيادة العلم... إلخ. ويؤمن بالآخرة ويرجو ثوابها، فقد دافع عن شرف قوم وصحة نسبهم، وادخر أجر هذا الدفاع إلى يوم القيامة: «لكني جادلت عنهم في الحياة الدنيا، وأرجو أن يجادلوا عني يوم القيامة...»[26].

وابن خلدون عالم موسوعي مثل أكثر علماء عصره والعصور السابقة. ورغم أنه مصنَّف في فئة المؤرخين بسبب كتابه (العبر)، فإن ما جاء في الجزء الأول منه وهو كتاب المقدمة، من عرض واف ودقيق للعلوم المختلفة التي كانت معروفة في عصر ابن خلدون، يكشف عن اطلاع واسع وعميق في تفاصيل هذه العلوم، سواءً كانت علوم اللغة أو علوم القرآن والحديث أو علوم الصنائع والحرف والمهن وما يتصل بها من علوم طبيعية وتطبيقية، أو علوم تربوية ونفسية وروحية... إلخ.

ولا شك في أن ابن خلدون كان فقيهاً وقاضياً أمضى قرابة الربع قرن الأخير من حياته متنقلاً بين الفقه والقضاء. وله طريقة مميزة في تعليم الفقه ومنهج متميز في ممارسة القضاء. ولكن ابن خلدون في تعامله في العلوم والمهن كان يتجنب الوقوف عند القضايا الجزئية والتفصيلات الدقيقة إلا على سبيل المثال، عندما يريد أن يثبت قاعدة أو يبرهن عليها، ولذلك لا غرابة في أن مجالات إبداعه هي المجالات الأقرب إلى الكليات التي تخدم الوصف الإجمالي والإحاطة العامة والنظرية الكلية.

وإذا كانت رؤية ابن خلدون للعالم تقوم على الإيمان الديني الإسلامي بكل تفاصيله النقلية المعروفة، فإنها تميزت عن رؤية غيره من أهل العلم في الرؤية الإسلامية، حين اعتمد نظرة كلية وشمولية لمصادر معرفته حول موضوعات بحثه. فقد كان ابن خلدون يبحث في طبيعة التاريخ بوصفه خبراً عن الاجتماع الإنساني، الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من التوحش والتأنس والعصبيات أو أصناف التغلبات بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومعاشهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع... ولذلك فقد شملت نظرته الكلية إلى العالم وتفسيره لما يحدث فيه، أثر البيئة الطبيعية الجغرافية في واقعات العمران البشري، وأثر أساليب إدارة الموارد الاقتصادية وطرق الاستثمار، وأثر السلوك النفسي عند الناس ودوافعهم في أشكال السلوك. وهذا يعني أن تفسير ابن خلدون للظواهر الاجتماعية لم يقتصر على مصدر واحد أو سبب واحد، وإنما أكد دور التداخل والتفاعل بين الأسباب المختلفة.

كذلك فإنه لم يرَ العالم الذي كان يدرسه مجموعة من المشاهد والصور الثابتة التي يمكن وصفها في لحظة معينة من الزمن، ومن ثم إصدار الأحكام واستخلاص النتائج، وإنما رأى العالم البشري في حالة تطور دائم فالأمم «لا تدوم عوائدها ونحلها على وتيرة واحدة، وإنما تختلف باختلاف الأزمنة وظروف البيئة الطبيعية والاجتماعية،» فتنتقل المجتمعات مثلاً من البداوة إلى الحضارة ثم إلى الأفول، ثم تبدأ من جديد في دورات متلاحقة، وحال الأمم في هذا الشأن هو حال الأفراد الذين يمرون بعد مجيئهم إلى هذا العالم من حالة الصبا والشباب ثم الكهولة والهرم. ويؤكد ابن خلدون مرة بعد أخرى أن «الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام هو داءٌ شديد الخفاء، إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يفطن له إلا الآحاد من الخليقة...»[27].

والعالم عند ابن خلدون أكثر وأكبر من أن ينحصر في عالم المشاهدات المحسوسة، أو المدارك البشرية المباشرة، فثمة عالم نفساني وعالم روحاني إضافة إلى العالم المادي، ومدارك البشر لا تستطيع أن تستوفي إدراك هذه العوالم بجملتها، فالعالم الطبيعي فيه من الظواهر ما لا يقع عليه الحس، والعقل الإنساني محدد فيما يدرك من أنواع الوجود، فحقيقة الألوهية والنفس وأحوالها والنبوة والبعث والآخرة، وغيرها... لا يدرك الإنسان منها إلا الشيء القليل، وهو ما أتيح للإنسان معرفته بطرق النقل وبشيء من الرياضة والتجربة.

لكن المعرفة الموسوعية لابن خلدون في العلوم المختلفة لا تتناقض مع تصنيف ابن خلدون ضمن المبدعين في العلوم الاجتماعية تحديداً، وليس في العلوم الطبيعية مثلاً، ولا حتى في العلوم الشرعية. ومن المعروف أن الظاهرة الاجتماعية هي موضوع دراسة العلوم الاجتماعية، أما هدف دراستها فهو تحديد القواعد العامة التي تحكم تطورات هذه الظاهرة. وهي ظاهرة كلية بطبيعتها، لكن من الممكن أن نميّز فيها جوانب مختلفة، فقضية السلطة السياسية هي جزء من الظاهرة، وقضية التعليم هي جزء منها، وقضية تنمية موارد الاقتصاد وإدارتها هي جزء منها أيضاً، وموضوع الإدراك والمعرفة البشرية هي جزء منها كذلك... وهكذا. وقد تعرّض ابن خلدون لهذه القضايا بصورة لا تبرر بالضرورة اعتباره فقيهاً متخصصاً في أي من هذه الجوانب الاقتصادية أو السياسية أو التربوية، وإنما جاء تعامله معها معبّراً عن وعيه بصلة هذه الجوانب بالظاهرة الاجتماعية، وهي -أي الظاهرة الاجتماعية- عند ابن خلدون موضوع الرؤية الكلية.

وهذه الرؤية الكلية ذات مستويين: الأول يتوافر للعلماء والباحثين القادرين على صياغة فهمهم ووعيهم على الجزء الأكبر من محددات تلك الرؤية وخصائصها، والتعبير عنها بصورة تكشف عن الانسجام والتكامل بين عناصرها. والمستوى الثاني يتوافر للعامة من الناس الذين ينطلقون في فهمهم وسلوكهم من رؤيتهم الكلية للعالم بطريقة واعية أو غير واعية، ولذلك ربما لا يستطيعون ربط هذه الرؤية الكلية وعناصرها في صورة منسجمة فيما بينها ومع أشكال فهمهم وسلوكهم. ولا شك في أن ابن خلدون كان يقع في المستوى الأول، ومع ذلك فإن أي مفكر يتأثر بالثقافة السائدة في بيئته وعصره. وابن خلدون يؤكد أثر هذه البيئة الزمانية والمكانية على مزاج السكان ونفسيّاتهم وحتى قدراتهم على الإنجاز الحضاري ودورهم في طبيعة العمران. ولا عجب -إذن- أن يكون ابن خلدون نفسه متأثراً في بعض أحكامه النظرية الكلية بالحدود التي تحدّ خبرته ومعتقداته، ولذلك جارى أهل زمانه في عدد من المسائل؛ منها مثلاً طريقة وصفه للعلوم التي كانت سائدة في زمانه وبيئته، حين تكلم عن علوم السحر والطلسمات وحساب الحروف والسيمياء... إلخ.

إن تحديد رؤية العالم عند ابن خلدون يعين في حسم الجدل حول انتمائه وحول الإيديولوجية التي يتبنّاها. فالبعد العمراني من حياة البشر في هذه الأرض ليس توجهاً مادياً في رؤية العالم، كما يحاول بعض الماديين أن يصوروا رؤية العالم عند ابن خلدون، وإنما هو تحقيق لإرادة الله -عزّ وجلّ- في عمران العالم، والخلافة في الأرض {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا...} وما فيها وما حولها، ولذلك فإن الإنسان ممكَّنٌ في الكون بإذن ربه، وكلُّ ما خلقه الله هو مسخرٌ لهذا الإنسان، «بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له»[28] وابن خلدون يجعل هذا التأكيد في موقع مبكر من المقدمة، ويعود إليه بصورة متكررة، وبصورة تعكس وضوح رؤيته وانسجام عناصرها المنطلقة من عقيدة التوحيد الديني في إطارها الإسلامي الصريح.

ومهما اختلف الباحثون في تقويم جوانب العبقرية التي تمثلها ابن خلدون، فإنهم يتفقون على أنّ محور إبداعه كان في النظرية التاريخية الاجتماعية، أو نظرية ا لعمران، وهي بإيجاز شديد رؤية كلية تستهدف فهم الكيفية التي يقوم بها الاجتماع البشري ويتطور المجتمع الإنساني من مرحلة إلى ما بعدها من مراحل، ومن حالة حضارية إلى حالة أخرى، وبيان العوامل المؤثرة في نشأة الدول وقيام الحضارات وانهيارها، مع اهتمام شديد بالعلاقات السببية والقوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية.

ومع أن كثيراً من المستشرقين وبعض الباحثين العرب قد أوّلوا آراء ابن خلدون بأنها تعبير عن الموضوعية والحيادية، وفصل بين التدين ومنهجية البحث العلمي، فإن المستشرق هاملتون جب كان أكثر إنصافاً حين قرر: «أن ابن خلدون كان من كبار علماء المسلمين ومن الشخصيات المرموقة في مذهب الإمام مالك، وأنه على سعة أفقه لم يصدر رأياً واحداً يجافي تعاليم الإسلام، بل إن مفاهيمه المتطورة كانت تطويعاً للمجتمع من منطق روح المبادئ الإسلامية»[29].

إن منطلقات ابن خلدون الإسلامية الصريحة في كتاب المقدمة، وتبنّيه لعناصر الرؤية الإسلامية للعالم، لا تنفي أنه قد جانب الصواب في حكمه على بعض الأمور الجزئية والقضايا التفصيلية، مثله في ذلك مثل أي عالم أو مفكر مسلم في القديم أو الحديث؛ فليس ثمة معصوم من الخطأ من بين البشر إلا الأنبياء والرسل، وابن خلدون نفسه ترك المجال مفتوحاً لتصحيح أفكاره، باعتبار أن بعضها كان في رأيه جديداً مبتكراً أو موجزاً مختصراً.

* رابعاً: رؤية ابن خلدون للكون والوجود

لا خلاف على أن رؤية الله الخالق تنبثق من العقيدة في الله والإيمان بألوهيته وربوبيته وصفاته، فابن خلدون عالم مسلم على طريقة أهل السنة والجماعة في العقيدة الأشعرية، والمذهب الفقهي المالكي. وإنك لتجد ذلك واضحاً في الأسطر الأولى من المقدمة في صيغة حمد الله والثناء عليه وذكره بأسمائه وصفاته، كما تجده مبثوثاً في أنحاء كتاب المقدمة كلِّه، حيث ينهي المؤلف كل فقرة تقريباً بذكر الله والدعاء باسم من أسمائه أو صفة من صفاته بما يلائم موضوع الفقرة.

فإذا كان موضوع الفقرة بيان أخطاء المؤرخين والصواب فيها فإنّه ربما ينهي الفقرة بقوله: والله الهادي إلى الصواب، أو بقوله: والله يهدي من يشاء. وإذا كان يتحدث عن قانون من القوانين أو سنة من السنن فإنه ربما ينهي الفقرة بقوله: سنة الله التي خلت في عباده، وإذا وعد بأن يتحدث في الفقرات اللاحقة عن أمر من الأمور فإنه يستعين به ويتوكل عليه ويطلب منه العون والسداد «والله المسدد والمعين وعليه التكلان»[30]. وإذا كان يتحدث عن العلم المعروف في فن من الفنون وكيفية تحصيله وحدود اكتسابه فإنه ربما يختم بقوله: والله أعلم، أو: وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً[31]. وإذا أشار إلى أنه انتهى من بحث مسألة من المسائل فإنه ربما يختم بقوله: «نسأل الله تمام الخاتمة بمنّه»[32]. وإذا انتهى من الحديث عن أقاليم الأرض واختلافها في العروض والساعات والأميال والدرجات فإنه ربما يختم بقوله: «والله الخلَّاق العليم، خلق كل شيء فقدّره تقديراً»[33]، أو بقوله: «وفي خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات للعالمين»[34] وهكذا.

وابن خلدون يقرر ما هو معروف في الإسلام من أن الله هو «ربُّ العالمين» أي ربُّ جميع العوالم المعروفة لنا في عالم الشهادة وغير المعروفة مما يعلمه الله، وفي عالم الغيب الذي نعرف آثاره. وكما يميز ابن خلدون تمييزاً حاسماً بين الخالق والمخلوق، فإنه يميّز بصورة صريحة بين عوالم ثلاثة هي: عالم الحس وعالم النفس وعالم الروح. كما يميز تمييزاً حاسماً بين علوم الإنسان وعلوم الأنبياء وعلوم الملائكة[35]. ويفصل في بيان مخلوقات العالم ليؤكد أنها مخلوقة للإنسان لتحقيق هدف الاستخلاف. ويقرر ابن خلدون أن الله سبحانه لم يخلق الناس ويتركهم سدى أو يغفل عن شؤونهم، وإنما يواصل عنايته ورعايته لهم، ومن ذلك أنّه: «اصطفى من البشر أشخاصاً فضّلهم بخطابه وفطرهم على معرفته وجعلهم وسائل بينه وبين عباده، يُعرفونهم بمصالحهم ويحرِّضونهم على هدايتهم، ويأخذون بحُجُزاتهم عن النار، ويدلّونهم على طريق النجاة»[36]. ويتحدث عن فئات من المتصوفة وأهل الكرامات فيقرر أن هذه الكرامات «فضلُ الله يُؤتيه من يشاء وأنه سبحانه يخصّها (بعض النفوس الإنسانية) بما يشاء من مواهبه...»[37].

وتدبير الله ورعايته للإنسان لا تقتصر على هدايته للإيمان به والاستقامة على شريعته، وإنما تشمل أيضاً هدايته إلى التماس أسباب الحياة، وقيام العمران والاجتماع. حتى تتم حكمة الله في بقاء الإنسان وحفظ نوعه: «فإذنْ هذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني لما يكمل وجودهم وما أراده الله من اعتمار العالَم بهم واستخلافه إياهم وهذا هو معنى العمران، الذي جعلناه موضوعاً لهذا العلم»[38]. وما يتحقق من إلهام وهداية وتوفيق يكون بأمر الله. حتى إن كتاب المقدمة وما فيه من استحداث علم العمران إنما هو جَعْلٌ إلهي، وإلهام ربّاني، يقول ابن خلدون: «ونحن ألهمنا الله ذلك إلهاماً، وأعْثَرَنا على علمٍ جَعَلَنَا سِنّ بَكْرِه، وجُهَيْنة خَبَرِه»[39].

ومع أن هذا الربّ الخالق قد أعلمنا بأسمائه وصفاته فإنه لم يعرفنا بكنه حقيقته، «إذ ذاك متعذرٌ على إدراكنا ومن فوق طورنا، فكلفنا أولاً اعتقاد تنزيهه في ذاته عن مشابهة المخلوقين، وإلاّ لم يصحّ أنه خالق لهم لعدم الفارق على هذا التقدير، ثمّ تنزيهه عن صفات النقص وإلاّ لشابه المخلوقين، ثم توحيده بالإيجاد وإلا لم يتم الخلق للتمانع...»[40].

وقد أشار ابن خلدون إلى ما ورد في الكتاب والسنة وتحقيقات الأئمة من أسماء الله وصفاته التي مثلت أمهات العقائد، وكيف أخذها الصحابة والتابعون على ظاهرها وألحقوا المتشابه منها بالمحكم حين غيَّبوا أدلة التنزيه عن التشبيه: «وعلموا استحالة التشبيه وقضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل. إلاّ أنه عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد... فدعا ذلك إلى الخصام والتناظر، والاستدلال بالعقل زيادة إلى النقل فحدث بذلك علم الكلام». وأشار ابن خلدون إلى من شذ من المبتدعة الذين «توغلوا في التشبه، ففريق أشبهوا في الذات باعتقاد اليد والقدم والوجه عملاً بظواهر وردت بذلك فوقعوا في التجسيم الصريح...، ثم يفرّون من شناعة ذلك بقولهم: جسم لا كالأجسام. وفريق منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات كإثبات الجهة والاستواء،... وآل قولهم إلى التجسيم، فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم: جهة لا كالجهات... ثم لما كثرت العلوم والصنائع وولع الناس بالتدوين والبحث في سائر الأنحاء، وألَّف المتكلمون في التنزيه حدثت بدعة المعتزلة في تعميم هذا التنزيه في آي السُّلوب فقضوا بنفي صفات المعاني من العلم والقدرة والإرادة والحياة... والسمع والبصر... والكلام... فقضوا بأن القرآن مخلوق، وذلك بدعة، صرّح السلف بخلافها... وكان ذلك سبباً لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعاً في صدور هذه البدع، وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق، ونفي التشبيه وأثبت الصفات المعنوية... ورد على المبتدعة في ذلك كله، وتكلم معهم فيما مهدوه لهذه العقائد في البعث. وألحق بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذٍ من بدعة الإماميين من قولهم إنها من عقائد الإيمان... وقصارى أمر الإمامة أنها قضيّة مصلحيّة إجماعية ولا تلحق بالعقائد...<[41].

وواضح أن رؤية ابن خلدون لهذه العوالم ذات مصادر ثلاثة: الأول هو المصدر الشرعي، حين يستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويحيل إليها العلم بتفاصيل العالم الروحاني الذي ندرك مجمله، ونستدل عليه من آثاره التي تلقى في أفئدتنا.. لوجود آثارها فينا مع ما بيننا وبينها من المغايرة، وربما نستدل على هذا العالم الأعلى الروحاني وذواته بالرؤيا. فنعلمه كذلك على الجملة ولا ندرك له تفصيلاً. «ولا يبقى لنا مدرك في تفاصيل هذه العوالم إلا ما نقتبسه من الشرعيات التي يوضحها الإيمان ويحكمها...»[42].

وكذلك يستشهد بالقرآن الكريم حين يرفض مقالة المؤرخين حول العمالقة مِنْ أَنَّ أجسامهم كانت كبيرة وهياكلهم عظيمة فيشير إلى توجيه الله سبحانه لنا بأننا نمر بمساكن هؤلاء الأقوام فنجدها مثل مساكننا: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ} كما يستشهد بالحديث النبوي فيقول: وقد أشار النبيّ (صلى الله عليه وسلم) أنها ديارهم[43]. ويستشهد بالآية القرآنية التي تشير إلى تيه بني إسرائيل ومدة هذا التيه، ليستنتج أن الجيل الذي ينزل به الذُّلّ منزلةَ الطبيعة والجبلّة وصار له خلقاً لا يحقق غَلَبَةً، ولا بد من فنائه ونشأة جيل آخر «وأنّ الأربعين سنة هي أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة آخر»[44].

وعلى العموم فإن ابن خلدون مع إيمانه بالسببية فإنه يقرر أن إحاطة العقل الإنساني بجميع الأسباب مستحيلة، وإذا حاول العقل ذلك فإنه لا يأمن من الضلال، كما تتسع به مجالات النظر حتى يحارَ في إدراكه فيكلّ ويضلّ، لذلك فإنه يرى التسليم بما جاء به الشرع والثقة به، ونسكت عما لم نفهمه ونفوّض إلى الشارع ونعزل العقل عنه.

ومما يلفت النظر أن منهج ابن خلدون في الاستشهاد بالقرآن والحديث لا يكون دائماً على صيغة البرهان كما يقرره، وإنما يضمّن الاستشهاد في الغالب تضميناً لطيفاً، يجعل القارئ يتذكر النصَّ الذي يضمّنه من القرآن أو السنة، دون أن يوثق هذا النص أو يثبته بنصّه. فبدلاً من إيراد نص الآية القرآنية يكتفي بالقول: «وهو أن الإنسان رئيس بطبعه، بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له...»[45] وبدلاً من أن يأتي بنص الحديث المتعلق بتأبير النخل في مساق حديثه عن علم الأنبياء يكتفي بالإشارة إلى الحديث، ثم يؤكد أنّ الأحاديث الواردة في شؤون الطبّ ليست من الوحي وإنما هي نوع من ذكر أحوال النبيّ التي «كانت عادة وجبلّة، فإنه (صلى الله عليه وسلم) إنما بعث ليعلمنا الشرائع ولم يُبعث ليعلّمنا الطب ولا غيره من العاديات»[46]. ويقول: «فإذا علمت هذا فلعلّ هناك ضرباً من الإدراك غير مدركاتنا، لأن مدركاتنا مخلوقة محدثة، وخلق الله أكبر من خلق الناس (وهو اقتباس من نص الآية: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}. غافر: 57) والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقاً من ذلك، والله من ورائهم محيط (وهو اقتباس لنص الآية من سورة البروج: 20)»[47].

والمصدر الثاني هو المصدر النقليّ الأخباري، وهو ما اطلع عليه من أقوال الحكماء والمؤرخين، ومعظم كتاب «العبر» من هذا الوجه، ومعظم ما جاء في المقدمة من وصف العالم الطبيعي وجغرافيا الأرض وأقاليمها من هذا الباب. فهو يبدأ المقدمة الثانية من الباب الأول بقوله: «اعلم أنه قد تبين في كتب الحكماء والناظرين في أحوال العالم أن شكل الأرض كروي وأنها محفوفة بعنصر الماء»[48]، ثم وصف تقسيم الكرة الأرضية عن طريق خطوط العرض، وأشار إلى أن الجزء المعمور من الأرض هو ما كان شمال خط الاستواء، ووصف الجزء المعمور وقسّمه إلى سبعة أقاليم، ونسب معرفته هذه إلى كتابين في الجغرافيا الأول لبطليموس، والثاني للشريف الإدريسي. وفي تفاصيل هذا الوصف كان ينقل ما قاله المخبرون فيقول: «ثم إن المخبرين... قسموا هذا المعمور...» ويبدأ كل فقرة تالية بكلمة: «قالوا».

أما المصدر الثالث فهو الخبرة العملية والمشاهدة المباشرة للأشياء والوقائع والطبائع. وهي المنهجية التي امتاز بها ابن خلدون عن كثير من غيره من العلماء. وأكثر مادة المقدمة هي من هذا الباب. واستشهاده بمرجعية هذا المصدر المعرفي تشمل العالم الطبيعي والعالم النفسي والأحداث التاريخية. ويستشهد به أيضاً في مجال البرهان على صحة رؤيته لدلالة المصدر الشرعي وصحة المصدر التاريخي، وحتى في تأكيد بعض غرائب الأمور وعجائبها، ويصل اعتماده على مصدر الخبرة العملية إلى حد أنه كان يجرب بنفسه بعض الحالات النفسية التي يقرأ عنها «في بعض كتب أهل الرياضيات». ومن ذلك ما أشار إليه فيما يتعلق بالرؤى والأحلام: «وذكر منها مسلمة في كتاب الغاية بعد فراغ السّر وصحة التوجّه هذه الكلمات الأعجمية... ويذكر حاجته، فإنه يرى الكشف عما يَسأل عنه في النوم، وحُكي أن رجلاً فعل ذلك بعد رياضة ليالٍ في مأكله وذكره، فتمثل له شخص... فسأله وأخبره عما كان يتشوّف إليه... وقد وقع لي أنا بهذه الأسماء مراءٍ عجيبة، واطلعت بها على أمور كنت أتشوّف إليها من أحوالي. وليس ذلك بدليل على أن القصد للرؤيا يحدثها، وإنما هذه الحالومات تحدث استعداداً في النفس لوقوع الرؤيا... فاعلم ذلك وتدبره فيما تجد من أمثاله، والله الحكيم الخبير»[49].

وثمة جانب لافت للنظر في رؤية ابن خلدون للوجود، يتعلق برؤيته للمخلوقات من حيث تدرجها في مراتب الخَلْق من جهة، واستعداد كل رتبة للاستحالة إلى ما يليها صعوداً وهبوطاً من جهة أخرى. فهو يرى أننا: «نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام، وربط الأسباب بالمسببات، واتصال الأكون بالأكوان، واستحالة بعض الموجودات إلى بعض... ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد القريب (الطبيعي) لأن يصير أول أفق الذي بعده». وقد طبق هذه الفرضية على أفراد (عالم العناصر) ومنها الأرض والماء والنار، ثم على أفراد (عالم التكوين) ومنها المعادن ثم النبات ثم الحيوان، وذلك: «على هيئة بديعة من التدريج... وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروّية، ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك ولم ينته إلى الرَّوِيَّة والفكر بالفعل». ثم ينتقل بعد ذلك إلى عالم النفس المدركة وما فوقها من وجود آخر يعطيها الإدراك والحركة ويتصل بها، وهو (عالم الملائكة) فوجب أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملكية لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات[50].

وقد ربط ابن خلدون هذا الفهم بتفسيره لظاهرة النبوّة، وبعض ظواهر التصوف والكرامات. والتحول الذي يتم في حالة النبي البشرية حتى تصبح في الحالة الملكية هو عند ابن خلدون تحوّل مؤقت، لا يلبث أن يعود بعده النبي إلى حالته البشرية[51]، فثمة استعداد للتحول، وهو تحول نفسي وليس بيولوجياً عضوياً. فالنبي لا يستحيل واحداً من الملائكة، ويستقر على الحالة الملكية، ولا المَلَك يستحيل واحداً من البشر ويستقر على الحالة البشرية. وإذا كان ابن خلدون قد أشار إلى إمكانية استحالة الفرد من المخلوقات إلى النوع الذي فوقه أو دونه فإنه لم يعط مثلاً على أي استحالة بالفعل غير حالة الأنبياء والملائكة، وإنما اكتفى بالتأكيد على التقارب في الخصائص. ولذلك فإن النتيجة التي يصل إليها علي عبد الواحد وافي -محقق المقدمة- في أن ابن خلدون يقول بنظرية التطور البيولوجي العضوي، قبل خمسة قرون من داروين وغيره من الارتقائيين، ليست نتيجة مسلمًّا بها. ولا يتوافر دليل على أن ابن خلدون يختلف في هذا عن القزويني وابن طفيل وإخوان الصفا وغيرهم من المسلمين، وأرسطو من غير المسلمين الذين قالوا بمثل هذا الفكر التطوري، من حيث تدرج الخصائص في مراتب المخلوقات، وتقارب خصائص الأفراد في كل مرتبتين متتاليتين. أمّا أن أولئك لم يقولوا بنظرية استحالة النوع إلى النوع الآخر، وقال بها ابن خلدون فلا يقوم دليلاً كافياً على التحول أو التطور العضوي البيولوجي، لأن ابن خلدون نفسه ربما كان يقصد العالم الروحي وليس المادي، وهو العالَم الذي اختار ابن خلدون المثل منه على قضية الاستحالة. ثم إنّ ابن خلدون حين يميّز (بين الممكن والممتنع) بصريح العقل ومستقيم الفطرة، لا يقصد «الإمكان العقلي المطلق، فإن نطاقه أوسع شيء، فلا يفرض حدًّا بين الواقعات، وإنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التي للشيء. فإذا نظرنا إلى أصل الشيء وجنسه وصنفه ومقدار عظمه وقوته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله وحكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه»[52].

وثمة قضية أخرى لافتة للنظر في رؤية ابن خلدون للعلاقة بين الوجود الطبيعي والوجود البشري مما أصبح موضع جدل في الدراسات الخلدونية، وهي تقريره لأثر العوامل المناخية والبيئية الجغرافية في اختلاف خصائص البشر الخَلْقِيّة والخُلُقية وعلى العمران البشري والأداء الحضاري. ويذهب بعض الدارسين لابن خلدون ومنهم محقق المقدمة علي عبد الواحد وافي إلى أن ابن خلدون يقول بحتمية أثر البيئة على الأداء الحضاري للشعوب[53]، ويجمعه في هذا مع (منتسكيو) مؤلف كتاب روح القوانين. لكن المتأمل في عبارات ابن خلدون في هذا المجال يجد أن ابن خلدون -في الوقت الذي يقرر أثر العوامل المناخية والظروف البيئية على خصائص الشعوب، ومظاهر التطور والتقدم في جوانب العمران البشري- لا يقول بحتمية هذا الأثر، بدليل أن إشاراته إلى طبيعة العمران في الأقاليم هي في الأساس وصف لما هو كائن في حدود ما وصل إليه من علم عن حقيقة ذلك العمران «بالمشاهدة والأخبار المتواترة...» ذلك أن «العمران متدرج ويأخذ في التدريج من جهة الوجود لا من جهة الامتناع»[54]. كذلك فإنه يفسر كثيراً من مظاهر التقدم والتطور عند البشر بأسباب لا علاقة لها بالبيئة. ومن ذلك أنه يشير إلى أن خُلُقَ البداوة عند العرب جعل المباني والمصانع في بلادهم قبل الإسلام قليلة، ولما انتشروا في مواقع الحضارة بعد الإسلام استخدموا ما كان قائماً من المباني التي شيدتها الأمم من قبلهم، ولما اضطروا إلى بناء مدن جديدة مثلما حصل في الكوفة، بنوها أول الأمر من القصب، وبعد أن وقع الحريق فيها استأذنوا خليفة المسلمين عمر بن الخطاب في بنائها بالحجارة، فسمح لهم بشروط لا تقربهم من السرف ولا تخرجهم عن القصد. ولما بعد العهد بالدين والتحرج من مثال هذه المقاصد وغلبت طبيعة الملك والترف... فحينئذ شيدوا المباني والمصانع. وهذه إشارة إلى إدراك ابن خلدون لأثر القرب أو البعد من أحكام الدين والتقيد بها في صور الحضارة ومنشآت العمران[55].

والذي يوضح موقف ابن خلدون في هذا الأمر هو تأكيده على أهمية عامل محدد من العوامل المؤثرة على العمران الحضاري، عندما ينظر إليه في معزل عن غيره من العوامل. أما ما يحدث في الواقع فهو أن حضارة أي مجتمع تتأثر في الوقت نفسه بعدد من العوامل الطبيعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويتم ذلك بصورة متداخلة وحيوية. ثم إن أثر أي عامل من هذه العوامل يتوقف على المرحلة الحضارية للمجتمع. وينسجم هذا التوضيح مع ما يميز ابن خلدون من رؤية كلية تمتد على امتداد الزمان واتساع المكان وتغير الأحول، وتأكيده على السنن والقوانين العامة المرتبطة وطبائع الأمور وخصائص الظواهر. والذي يقرأ كتاب المقدمة كلّه بقدر من التأني والتأمل، سيلاحظ أن المؤلف يريد من القارئ أن يوقن بأن المقدمة هي كتاب في العمران البشري أو الحضارة، وأن العوامل التي تؤثر في هذه الحضارة متنوعة منها: الإقليم، والسياسة، والدين، والتعليم، والاقتصاد، والعادات والتقاليد.

* خامساً: رؤية ابن خلدون للعلم والمعرفة

ينطلق ابن خلدون في رؤيته للعلوم والمعارف من التمييز بين علم الله سبحانه، وعلوم الملائكة وعلوم الأنبياء وعلوم البشر. وفيما يتحدث بإيجاز عن علم الله في مواقع متفرقة، ويتحدث عن علوم الملائكة وعلوم الأنبياء تحت عناوين خاصة ولكن بصورة مختصرة أيضاً، يتوسع في الحديث عن علوم البشر وأصنافها وتقسيماتها، حتى لكأنه يمكننا النظر إلى المقدمة وكأنها كتاب في المعرفة الخاصة بالاجتماع الإنساني.

ففيما يتعلق بعلم الله سبحانه يوضح ابن خلدون كيف يصل الإدراك الإنساني بالضرورة إلى أنَّ علمَ الله علمٌ محيط. فهو يرى أن الإنسان يدرك الحوادث في عالم الكائنات سواءً كانت من الذوات أو من الأفعال، ولا بد لهذه الحوادث «من أسباب متقدمة عليها، بها تقع في مستقر العادة، وعنها يتم كونها، وكل واحد من هذه الأسباب حادث أيضاً، فلا بد له من أسباب أخر، ولا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلى مسبب الأسباب موجدها وخالقها سبحانه لا إله إلا هو... ولا يحصرها إلاّ العلم المحيط... فإذا علمت هذا فلعلّ هناك ضرباً من الإدراك غير مدركاتنا، لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة، وخلق الله أكبر من خلق الناس، والحصر مجهول، والوجود أوسع نطاقاً من ذلك، والله من ورائهم محيط... فاتّهم إدراكك ومدركاتك في الحصر، واتّبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك وعملك... وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح... غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال... وإذا تبين لك ذلك فلعلّ الأسباب إذا تجاوزت في الارتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا خرجت عن أن تكون مدركة، فيضلّ العقل في بيداء الأوهام ويحار وينقطع. فإذن التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب وكيفيات تأثيرها وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها... وعلمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنه... وهذا هو معنى ما نقل عن بعض الصديقين: العجز عن الإدراك إدراك»[56].

فعلم الله علم محيط، ويعجز الإنسان عن وصفه ويكتفي بالإيمان بأنه سبحانه عالم الغيب والشهادة فلا يعزب عنه شيء، وما من مثقال حبه في السماوات والأرض إلا أحاط بها، ويعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما يعرج إلى السماء وما ينزل منها، ويعلم السرّ وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو سبحانه العليم الخبير، وهو علام الغيوب.

أما علم الملائكة فيتعلق بعالم غيبيّ روحاني: «فيه ذواتٌ مدركة... ليس لنا مدرك في تفاصيلها إلا ما نقتبسه من الشرعيات التي يوضحها الإيمان ويحكمها... أما ما يزعمه الحكماء الإلهيون في تفصيل ذواته وترتيبها على ما يسمّونه بالعقول فليس شيء من ذلك بيقينيّ.

ومع ذلك فإن ابن خلدون يرى أننا يمكن أن «نستدل على هذا العالم الأعلى الروحاني بالرؤيا وما نجد في النوم ويُلقى إلينا فيها من الأمور التي نحن في غفلة عنها في اليقظة، وتطابق الواقع في الصحيحة منها، فنعلم أنها حق ومن عالم الحق، وأما أضغاث الأحلام فصور خيالية يختزنها الإدراك في الباطن، ويجول فيها الفكر بعد الغيبة عن الحسّ»[57]. ويوضح ابن خلدون ذلك في موقع آخر حين يشير إلى الحديث النبوي: >الرؤيات ثلاث: رؤيا من الله ورؤيا من المَلَك ورؤيا من الشيطان، فالرؤيا من الله هي الصريحة التي لا تفتقر إلى تأويل، والتي من الملك هي الرؤية الصادقة تفتقر إلى التعبير، والرؤيا التي من الشيطان هي الأضغاث»[58].

وقد بيّن ابن خلدون أن الملائكة: «ذواتٌ مجردة عن الجسمانية والمادة، وعقل صرف يتحد فيه العقل والعاقل والمعقول، وكأنه ذات حقيقتها الإدراك والعقل. فعلومهم حاصلة دائماً مطابقة بالطبع لمعلوماتهم لا يقع فيها خلل البتّة...» وإذا كانت علوم الملائكة علوم معاينة بسبب الطبيعة الروحانية فإنّ البشر يمنعهم الحجاب عن مثلها من العلوم، فإذا انكشف للإنسان الحجاب بالرياضة الروحية من أذكار وصلاة وتنزه عن المتناولات المهمة والتوجّه إلى الله بجميع قواه، فإنه يصل إلى المطابقة بالعيان الإدراكي[59].

وقد يلقي الملك إلى الإنسان بعض العلوم عن طريق الرؤيا، ذلك أن ابن خلدون يعدّ علم تعبير الرؤيا من العلوم الشرعية. «وهو علم حادث في الملة عندما صارت العلوم صنائع... والرؤيا مدرك من مدارك الغيب. وقال (صلى الله عليه وسلم): الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. ويستطرد ابن خلدون في توضيح حقيقة الرؤيا فيبني على ما قرره من استعداد الإنسان للارتقاء إلى صنف الملائكة في بعض حالاته، ويصبح بذلك قادراً على تعقل المدارك الغيبية. ويتم ذلك في حالة النوم عندما يتحرر الروح القلبي من حجاب الاشتغال بالبدن وشواغل الحسّ، ويرتقي من المحسوس إلى المعقول ومن عالم الخلق إلى عالم الأمر[60]. يضاف إلى ذلك كله أن جبريل (عليه السلام) وهو أحد الملائكة مكلف بحمل الوحي وما فيه من علوم إلى الرسل والأنبياء.

أمّا الأنبياء فهم صنف من البشر تعتريهم حالة إلهية خارجة عن منازع البشر وأحوالهم، لتصير نفوسهم البشرية «بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات، ثم ترجع إلى بشريتها وقد تلقت في عالم الملكية ما كلفت بتبليغه إلى أبناء جنسها من البشر، وهذا هو معنى الوحي، وخطاب الملائكة وعلم الأنبياء هذا هو علم شهادة وعيان لا يلحقه الخطأ والزلل، ولا يقع فيه الغلط والوهم، بل المطابقة فيه ذاتية لزوال حجب الغيب وحصول الشهادة الواضحة... لا يفارق علمهم الوضوح استصحاباً له تلك الحالة الأولى ولما هم عليه من الذكاء...»[61].

ومهمة الأنبياء إبلاغ الناس بما أوحي إليهم من علوم يهتدون بها إلى ربهم وإلى أسباب الاستقامة في حياتهم ومرضاة ربهم. والأنبياء معصومون عن الخطأ فيما يبلغون عن ربهم، فعلومهم في مسائل الشريعة هي غير علوم سائر البشر، فالنبي يتلقى هذا العلم مباشرة من الوحي ولا يتعلمه من مصدر آخر. من أجل ذلك يقرر ابن خلدون أن أميّة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، هي كمال في حقه، إذ هو منقطع إلى ربّه، والكمال في حقه تنزيهه عن علوم البشر، وليست الأمية كمالاً في حق سائر البشر، لأنهم متعاونون على الحياة الدنيا، يتعاطون الصنائع والعلوم ويترقون فيها. وأما فيما عدا علوم الشريعة والوحي، فإن النبي هو بشر، ويستشهد ابن خلدون بالآية القرآنية: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ، أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}[62] لكن الأنبياء في حالتهم البشرية يتعاملون من أمور الدنيا بما يتوافر لهم من معرفة بشرية، فإنّ ما جاء من «الطبّ المنقول في الشرعيات من هذا القبيل، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عادياً للعرب. ووقع في ذكر أحوال النبي (صلى الله عليه وسلم) من نوع ذكر أحواله التي هي عادة جبلّة لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنه (صلى الله عليه وسلم) إنما بعث ليعلمنا الشرائع ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات»[63].

أما علوم البشر فقد أطال ابن خلدون الحديث عنها وصنّفها بطرق متعددة وحسب معايير مختلفة؛ لكنه لم ينس أن ينسب كلّ العلم إلى الله سبحانه، فقال: «ومردّ العلم كله إلى الله، والبشر عاجز قاصر، والاعتراف متعين واجب، ومن كان الله في عونه تيسرت عليه المذاهب، وأنجحت له المساعي والمطالب»[64]. أما طرق تصنيف العلوم فهي من حيث مصدرها على صنفين: الأول علوم طبيعية حكمية فلسفية يهتدي إليها الإنسان بطبيعة فكره، وهي علوم غير مختصة بملّة، بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كلهم، ويستمدون من مداركها ومباحثها، وقد قسم ابن خلدون هذا الصنف إلى أربعة أقسام: علم المنطق؛ وعلم الطبيعة ومنه علم الحيوان وعلم النبات وعلم الإنسان وعلم المعادن وعلم الحركة ومنه أيضاً علم الطب والفلاحة؛ والعلم الإلهي أو علم ما وراء الطبيعة؛ وعلم المقادير الذي ينقسم بدوره إلى أربعة علوم هي الهندسة، والعدد، والموسيقى، والهيئة.

والصنف الثاني هو العلوم النقلية الوضعية المستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ودور العقل فيها هو إلحاق الفروع من المسائل بالأصول، وهي علوم خاصة بالحكمة الإسلامية، وذكر ابن خلدون من هذه العلوم علوم التفسير والقراءات والحديث والأصول والفقه والعقائد والكلام واللغة والنحو والأدب والتصوف وعلم تعبير الرؤيا، وفصّل في كل علم نشأته وموضوعاته وشيوخه وكتبه.

وألحق ابن خلدون بهذه التصنيفات بعض العلوم التي شاعت في عهده مثل علوم السحر والطلسمات وعلم السيمياء أو علم أسرار الحروف، وعلم الكيمياء وعلم النجوم.

ثم أعاد ابن خلدون النظر في هذه العلوم جميعاً فصنفها على أساس القصد منها إلى صنفين الأول: علوم المقاصد أي العلوم المقصودة لذاتها كالشرعيات مثل التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام، وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة. وعلوم الوسائل أو العلوم الآلية، التي هي وسيلة لعلوم المقاصد كالعربية والحساب للشرعيات، وكالمنطق للفلسفة، أو لعلم الكلام أو أصول الفقه. ونصح العلماء والمتعلمين أن لا يستبحروا من علوم الوسائل، بل يهتموا بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها، «فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد؟!»[65]

وقد بيّن ابن خلدون «أن العلوم البشرية خزانتها النفس الإنسانية بما جعل الله فيها من الإدراك الذي يفيدها ذلك الفكر المحصل لها بتصور الحقائق أولاً ثم بإثبات العوارض الذاتية لها أو نفيها عنها ثانياً، حتى يستنتج الفكر بذلك مطالبه التي عُني بإثباتها أو نفيها، فإذا استقرت من ذلك صورة علمية في الضمير فلا بد من بيانها لآخر، إما على وجه التعليم، أو على وجه المفاوضة لصقل الأفكار في تصحيحها...» والبيان عمّا في الضمائر يكون بالكلام المنطقي... والكتابة...»[66] ثم بيّن مقاصد المؤلفين في العلوم المختلفة وعدّ منها سبعة مقاصد، وهي: استنباط العلم، وشرحه وبيانه، وتصحيح خطئه، وإتمام مسائله، وترتيب مسائله وتهذيبها، وتجميع مسائله من علوم أخرى، واختصاره أو تلخيصه[67].

ولابن خلدون رأي وجيه في وصف العلوم البشرية، فهو يؤكد في أكثر من مكان أن العلوم التي يحصلها البشر هي علوم كسبية وصنائع مدنية معاشية: «وعلم البشر هو حصول صورة العلوم في ذواتهم بعد ألَّا تكون حاصلة، فهو كلّه مكتسب... فقد تبين أن البشر جاهل بالطبع، للتردد الذي في علمه، وعالم بالكسب والصناعة، لتحصيله المطلوب بفكره بالشروط الصناعية....»[68] «وانظر إلى قوله مبدأ الوحي على نبيّه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[69] أي أكسبه من العلم ما لم يكن حاصلاً له بعد أن كان علقة ومضغة، فقد كشفت لنا طبيعته وذاته ما هو عليه من الجهل الذاتي والعلم الكسبي، وأشارت إليه الآية الكريمة، تقرر فيه الامتنان عليه بأول مراتب وجوده، وهي الإنسانية وحالتاها الفطرية والكسبية»[70].

أما عن أغراض العلماء وأهدافهم من تطوير العلوم فقد ميّز ابن خلدون بين غرضين، الأول: شائع ومعروف، وهو أن معظم الحكماء والعلماء كانوا يريدون من كتابتهم للعلوم تحقيق أغراض عملية من تحقق النفع المباشر من مقاصد الشرائع والأديان مثلاً. لكن ابن خلدون أكد على موضوع العلم نفسه من المقاصد السبعة للمؤلفين، المشار إليها من قبل، كما أكد على أن التوصل إلى القوانين البرهانية في العلم غاية شريفة في حد ذاتها، بغض النظر عن الفوائد العملية المترتبة على توظيف العلم.

وثمة معيار آخر لتصنيف العلوم عند ابن خلدون، وهو مراتب الفكر. ذلك أن الله سبحانه جعل للإنسان السمع والبصر والفؤاد وسائل لاكتساب العلم، فالحواس الظاهرة يدرك بها الإنسان ما هو خارج عن ذاته، ويشترك في ذلك مع الحيوان، ولكنه يتميز بالفكر الذي وراء حِسّه، وذلك بقوى جُعلت له في بطون دماغه، ينتزع بها صور المحسوسات، ويجول بذهنه فيها فيجرد منها صوراً أخرى، والفكر هو التصرف في تلك الصور وراء الحس، وجولان الذهن فيها بالانتزاع والتركيب وهو معنى الأفئدة في قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} والأفئدة جمع فؤاد وهو هنا الفكر، وهو على مراتب: ففي المرتبة الأولى يقع الفكر الحاصل من العقل التمييزي، الذي يحصل الإنسان به منافعه ومعاشه ويدفع مضاره؛ والمرتبة الثانية هي الفكر الحاصل من العقل التجريبي، وأكثره تصديقات تفيد آداب التعامل مع أبناء جنسه وسياستهم؛ والمرتبة الثالثة هي الفكر الحاصل من العقل النظري، وهو يفيد العلم أو الظن بمطلوب وراء الحسّ لا يتعلق به عمل لكنه يفيد من تصور الوجود على ما هو عليه بأجناسه وفصوله وأسبابه وعلله[71].

وتمييز ابن خلدون بين عوالم ثلاثة يشير إلى ميادين الإدراك البشري الذي هو أصل علم الإنسان ومعرفته.

أما أغراض العلم والهدف منه فإن ابن خلدون ميّز بين نوعين من الأغراض، الأول: هو ما كان يسعى الحكماء إليه في الغالب، إذ ربما يبحثون في الأشياء والظواهر سعياً لتحصيل معرفة ذات نفع مباشر، ولذلك لم ينتبهوا إلى علم العمران مثلاً، و«ربما هجره الحكماء من قبل لأن ثمرته في الأخبار فقط وهي ثمرة ضعيفة مع أن مسائل هذا العلم في ذاتها وفي اختصاصها شريفة، لذلك يرى ابن خلدون أن الغرض المباشر لكل علم هو معرفة طبيعة الظواهر التي يتعلق بها، ومعرفة القوانين التي تحكمها.

«فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والاستحالة، أن ينظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ويميز ما يلحقه لذاته، وبمقتضى طبعه وما يكون عارضاً لا يعتدُّ به، وما لا يمكن أن يعرض له[72]. وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار، والصدق من الكذب، بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه. وهذا هو غرض الكتاب الأول من تأليفنا، وكأن هذا علم مستقبل بنفسه... فإنه ذو موضوع: وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل: وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته، واحدة بعد الأخرى. وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أو عقلياً. واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة عزيز الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص، وليس من علم الخطابة، وما هو من علم السياسة المدنية، فقد خالف موضوعه موضوع هذين الفنين اللذين يشبهانه، وكأنه علم مستنبط النشأة، ولعمري لم أقف في منحاه لأحد من الخليقة...».

وكأن ابن خلدون في هذا التوضيح لغرض إنشائه لعلم العمران يدعو إلى التمييز بين العلوم على أساس أغراضها، فمنها ما يكون غرضه الخطابة والسياسة المدنية والنفع المباشر... ومنها ما يجب أن يبحث فيه عن القوانين التي تحكم الظواهر في أي حقل من الحقول وهو هدف شريف للعلم سوف ينتهي بتطوير علم متخصص يكون مستقلاً عن غيره من العلوم.

ومن صور الرؤية الكلية عند ابن خلدون أنه جعل الكتابة والتأليف في الموضوع الذي تصدى له مفتوح النهاية، قابلاً للزيادة والتكميل والتصحيح، ومع أنه ادَّعى أنه: «لم يترك شيئاً من أولية الأجيال والدول... وأسباب التعرف والحول... وما يعرض في العمران من دولة وملّة... إلا استوعبتُ جُمَلَه، وأوضحتُ براهينه وملله...» فإنه أقرّ بالقصور والعجز، وتقدم بالرجاء من أهل العلم أن يمارسوا النقد والإصلاح لما كتبه. «وأنا من بعدها موقن بالقصور بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء (أي القطع في الأحكام) في مثل هذا القضاء، راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتسقة الفضاء، النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والتغمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء، فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة، والاعتراف من اللوم منجاة، والحسنى من الإخوان مرتجاة...»[73].

ثم ختم الكتاب بقوله: «ولعلّ من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح وعلم مبين يغوص في مسائله على أكثر مما كتبنا. فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله، وإنما عليه تعيين موضع العلم وتنويع فصوله، وما يتكلم فيه، والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئاً فشيئاً إلى أن يكمل»[74].

* سادساً: رؤية ابن خلدون للإنسان والمجتمع الإنساني

الإنسان صنف من مخلوقات الله في هذا العالم. وهو عالَم قائم بذاته يسميه ابن خلدون عالم البشر، ومتميز عن العوالم المخلوقة الأخرى مثل العالم الطبيعي وعالم الملائكة وعالم الجن وعالم البهائم. وقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم على صورته التي نعرفه بها الآن، ويرفض ما زعمه المسعودي نقلاً عن الفلاسفة «أن الطبيعة التي هي جبلّة الأجسام لماّ برأ الله الخلق كانت في تمام المرّة ونهاية القوة والكمال، وكانت الأعمار أطول والأجسام أقوى لكمال تلك الطبيعة... وهذا رأي لا وجه له إلا التحكم لما تراه؛ وليس له علّة طبيعية ولا سبب برهاني...» ويستشهد بالقرآن الكريم والسنة النبوية على فساد هذا الزعم[75]. ومن صور التكريم الإلهي للإنسان أن الهدف من خلق العالم الطبيعي هو تسخيره للإنسان ذلك أن «يد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه، بما جعل الله له من الاستخلاف»[76].

يتحدث ابن خلدون عن طبيعة الإنسان من حيث توافر خِلاَلِ الخير والشرّ فيه. فيقول: «اعلم أن الله سبحانه ركب في طبائع البشر الخير والشر، كما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[77]، وقال: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[78]»[79] ولكن الإنسان أيضاً تجتمع فيه القوة الناطقة العاقلة من جهة والقوة الحيوانية من جهة أخرى. لذلك «كان الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشر بأصل فطرته وقوته الناطقة العاقلة، لأن الشر إنما جاءه من قبل القوى الحيوانية التي فيه، فأما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب»[80]. وهذا ما يوضح عبارة ابن خلدون في موقع آخر حين يقول: «والشر أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده، ولم يهذبه الاقتداء بالدين. وعلى هذا الجمّ الغفير، إلا من وفقه الله. ومن أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعضهم على بعض، فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه امتدت يده إلى أخذه، إلا أن يصدّه وازع...» من الدين أو التربية أو سلطان الدولة. لكن أهل النسب والعصبية الواحدة يذودون عن أنفسهم وعن بعضهم بعضاً، ذلك أن: «نعرة كل أحد على نسبه وعيبته أهم. وما جعل الله في قلوب عبادة من الشفقة والنعرة على ذوي أرحامهم وقربائهم موجودة في الطبائع البشرية، وبها يكون التعاضد والتناصر»[81].

ومع إقرار ابن خلدون بوجود الطبيعة الأصلية والجبلّة الفطرية في البشر فإنه يقرر: «الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه، فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خُلُقاً وملَكَة وعادة، تُنَزَّل منزلة الطبيعة والجبلّة... واعتبر ذلك في الآدميين تجده كثيراً صحيحاً، و{اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء}»[82].

ويَحسِم فهمَنا لموقف ابن خلدون سياق آخر، عندما يتحدث عن فطرة الإنسان الأولى عند ولادته وما ينطبع على هذه الفطرة من خِلاَلِ الخير أو خلال الشرّ التي يكتسبها بحسب ما يسبق إلى النفس من تربية على أي منهما. وعلى هذا يفسر سبب كون فئة من الناس أقرب إلى الخير من غيرها فيقول: «وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع بها من خير أو شر، قال (صلى الله عليه وسلم): «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» وبقدر ما سبق إليها من أحد الخُلُقين تبعد عن الآخر ويصعب عليها اكتسابه؛ فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير، وحصلت لها ملكتُه، بَعُدَ عن الشر وصعب عليه طريقه؛ وكذا صاحب الشرّ إذا سبقت إليه عوائده»[83].

ولعل الرؤية الكلية عند ابن خلدون هي التي توضح دلالة العبارات التي تبدو متناقضة إذا نظر إلى كل منها في غيبة عن النظرة الكلية الإجمالية، ويظهر ذلك في صورة واضحة عندما يتعامل ابن خلدون مع الاجتماع البشري، فالظاهرة الاجتماعية التي كانت موضوع دراسة ابن خلدون في المقدمة تتعلق بكون الإنسان مدنيًّا بالطبع إنما يجتمع الناس للتعاون على تحصيل معاشهم[84]. ثم تتبدل أحوالهم من حال إلى حال آخر، كلما حصل لهم ما فوق الحاجة. ولذلك فإن من البساطة المخلّة دراسة أفراد الناس أو دراسة أفراد الآثار والعوامل المؤثرة على الظاهرة الاجتماعية. فالظاهرة الاجتماعية تتأثر بمجموعة من المتغيرات والعوامل في وقت واحد، بل إن حياة الفرد الإنساني نفسها تتضمن عدداً كبيراً من الظواهر النفسية والاجتماعية والمشاعر والأهواء والعلاقات، وتأثير أي عامل من هذه العوامل لا يتم بصورة مستقلة عن تأثير العوامل الأخرى، وحتى لو أمكن دراسة ذلك لأغراض التبسيط فإنه لا يعطي الخريطة الحقيقية للمؤثرات التي تعمل معاً على الفرد الواحد أو المجتمع الواحد.

وعلى ذلك فإن الواقع الاجتماعي للفرد والواقع الاجتماعي للجماعة ظواهر معقدة تحتاج إلى رؤية كلية لفهمها؛ لأن الناس يعيشون في جماعات من الأسر والقبائل والشعوب، وفي أحوال من البادية والحضر، وطبقات من الغنى والفقر، ومجموعات من العاملين في الحرف والمهن والمؤسسات. وكل جماعة لها شخصيتها وخصائصها المستقلة عن الأفراد الذين ينتمون إليها. وكل مجتمع له خصائصه وهويته العامة، حتى لو تغيّر أفراد المجتمع، ما دامت العلاقات التي تحدد خصائص المجتمع قائمة دون تغيير. ولعل أهم ما توصل إليه ابن خلدون هو إدراك الخصائص الجمعية للمجتمعات والجماعات المتمايزة، فمجتمع البادية له خصائصه المختلفة عن خصائص مجتمع الحضر، وجماعة العلماء غير جماعة السياسيين، وطبقة التجار غير طبقة الفلاحين.

وقد تأصلت الرؤية الكلية عند ابن خلدون لأن منهجه في البحث كان يأخذ بالاعتبار الطبيعة الحية المتحركة والمتطورة للظاهرة الاجتماعية، فالمجتمع في تغيّر دائم؛ من البدوية إلى التحضر، ومن شظف العيش إلى الترف، ومن النهوض إلى الاستقرار ثم التدهور. وتأصلت هذه الرؤية الكلية أيضاً عند ابن خلدون لأنّّ منهجه يجمع بين مصادر متنوعة من المعرفة تشمل المشاهدات والتجارب الحية، والأخبار المنقولة عن مشاهدات الآخرين وتدويناتهم، والنصوص الدينية التي تمثل مصدر هداية ومرجعية في استلهام الحكمة والمآل.

من ملامح الرؤية الكلية أو رؤية العالم عند ابن خلدون، أنه استهدف في دراسته استخلاص السنن والقوانين الكونية في الاجتماع البشري، وهذا يتضمن البحث في العلاقات السببية في الظواهر والأحداث. وقيمة هذا الهدف لا تتوقف على كونه النتيجة التي يريد ابن خلدون الوصول إليها، وإنما في كون ذلك منهجاً في البحث أيضاً. والمعروف أن المنهج السنني يستهدف الكليات من الأمور، ذلك أن السنن: «تعبر عن نظرة شاملة كلية ممتدة تمتد عبر الزمن وعبر المكان، وعبر عالم الأحداث المتنوعة وتفاعلاتها، وعبر العلاقات بأطرافها المختلفة ومستوياتها المتعددة...»[85] وأهمّ ما يميّز السنّة أو القانون العام هو صفة الثبات والدوام، فسنة الله لا تجد لها تبديلاً ولا تحويلاً. وهذا لا يتناقض مع كون التبديل والإحلال سنّة من السنن[86].

وقد لفت ابن خلدون الأنظار بصورة حاسمة إلى أن التفكير السنني في كتابة التاريخ يحتاج إلى نظرة كلية شمولية وإلى استصحاب عدد من العلوم التي تتجاوز معرفة الأحداث في مكانها وزمانها وشخوصها. فقال: «فلذا يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف وتعليل المتفق منها والمختلف.... وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول... ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام... وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنّما اختلاف على الأيام والأزمنة والانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يكون في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول...» ثم يختم هذه الفقرة باقتباس جزء من الآية: {سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ..}.

* سابعاً: رؤية العالم عند ابن خلدون في إطار الفكر السياسي الراهن

عند الاطلاع على الأدبيات المتعلقة برؤية العالم التي تنشرها بعض المؤسسات الدينية المسيحية، نلاحظ كثرة حديثها عن الإسلام والمسلمين، وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وأنّ مثل هذا الحديث يرد في سياق الوضع العالمي الراهن، والقضايا التي تشغل الإعلام والسياسة الدولية. وبطبيعة الحال فإن قضية الإرهاب الدولي الذي ينسب في الغالب إلى المسلمين يأخذ حيّزاً مهماً في هذه الأدبيات. وتطرح في هذا السياق رؤية العالم الإسلامية التي ترى هذه المؤسسات المسيحية أن المتطرفين المسلمين يتبنونها، وتوسع بعض هذه المؤسسات نظرتها النمطية للإسلام والمسلمين، حين تؤكد أن «أي حديث عن الإسلام بمعنى السلام، أو أن أكثرية المسلمين معتدلون، وأن المتطرفين لا ينطلقون في رؤيتهم ومواقفهم من رؤية إسلامية وإنما من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية معينة... هو مجرد وهم وخرافة، وأن العنف أمر كامن في جوهر الإسلام وفي نص الكتاب المقدس للمسلمين»[87].

رؤية العالم على هذا الأساس هي رؤية لتقسيم العالم إلى: نَحْنُ وَهُم، أو إلى: الذات والآخر. فإذا تعلق الحديث برؤية العالم عند المسلمين يكون المقصود كيف يرى المسلمون موقعهم في العالم بالنسبة إلى الآخرين من غيرهم، وكيف يرون موقع الآخرين بالنسبة لهم. ويختلط الحديث في هذا الموضوع مع قضايا التقليدية التي ظهرت في الفكر السياسي الإسلامي تحت عنوان دار الحرب ودار الإسلام، أو العناوين الأخرى القريبة منها أو البديلة لها. كما يلتبس الحديث نفسه مع كثير من القضايا الدولية الراهنة ذات الصفة السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية، مثل الضغوط الدولية التي تمارسها الدول القوية على الضعيفة، وممارسات الشركات العابرة للقارات ومشاريع العولمة الاقتصادية والثقافية، وتحرير التجارة العالمية وحوار الثقافات وحوار الأديان وصدام الحضارات... وغير ذلك. وينتهي كثير من الأدبيات التي تصدرها المؤسسات الدينية المسيحية المشار إليها بنتيجة صريحة في أن صدام الحضارات أمر قائم، وأن كل الممارسات التي تتبنى الإرهاب وما يقابلها من حرب دولية معلنة على الإرهاب هي مظاهر لنظرية صدام الحضارات، ومن ثم فإن هذه النظرية نفسها هي في حد ذاتها رؤية للعالم.

ومن الجدير بالذكر أنّ المؤسسات التبشيرية لا تزال نشطة في دراسة الثقافة العامة السائدة في عالم المسلمين، وبخاصة ألوان الثقافة التي تعبّر عن الوجه غير المرئي من الإسلام حسب تعبير أحد المبشرين، ذلك أنهم يحرصون على رؤية الإسلام كما تعكسه ممارسات المسلمين، وليس في مبادئه ومصادره الأصلية. وعلى سبيل المثال نشر «بل موسك» في عام 2003م كتاباً بعنوان: الوجه غير المرئي من الإسلام: تقديم الإنجيل إلى المسلمين العاديين على مستوى الشارع. تحدث فيه عن رؤية العالم عن عامة المسلمين، بهدف مساعدة المسيحيين على التعرف بطريقة أفضل على المسلمين العاديين حتى يتمكنوا من إشراكهم في المسيح. وقد لاحظ المؤلف أن معظم المسلمين العاديين يعيشون في عالم معقد غامض، لا يعرف الناس في الخارج عنه كثيراً. إنّه عالم الجنّ وأثر العين أو الحسد، ويد فاطمة، ومواثيق سليمان، اللعنات والسحر... إنه إسلام معقد مملوء بالآمال والمخاوف وبعيد تماماً عن إسلام العلماء وعناوين الصحف. ومن ثمّ يبين الكاتب كيف أن المسلمين بحاجة إلى مساعدة عميقة في حياتهم اليومية[88]. والمؤلف حالياً رجل دين في الكنيسة الإنجليكانية المتعددة الأعراق في لندن، وعمل في عدد من المؤسسات التبشيرية البريطانية، وهو أيضاً باحث في التاريخ وعلوم الكلام.

ومن هنا يكون من المفيد التعرف إلى رؤية ابن خلدون للعالم، بوصفها نموذجاً لرؤية عالم مسلم، خاض غمار السياسة وشؤون الحكم، في ظروف معقدة، واستقرأ أحداث الماضي وتتبع «العبر» فيه، وعرك الواقع الحاضر، أشخاصاً وأفكاراً وظواهر، مجتهداً في استخلاص القوانين واكتشاف السنن. ولعلّ رؤية ابن خلدون هذه في مسائل العلاقة بالسلطان وأنظمة الحكم، وفهمه لمواقف الحكمة والشريعة في هذه العلاقة أن تكون مؤشراً مفيداً لمن يبحث عن رؤية إسلامية للعالم، تنعكس على فهمنا للواقع السياسي الراهن ومنهج التعامل معه.

كان ابن خلدون يميل إلى موادعة السلطان الحاكم، والعمل في خدمته. وقد ظهر ذلك في نهجه العملي في التعامل مع أهل الحكم في الأندلس وشمال أفريقيا ومصر. ويرى شيئاً من الخير والمصالح التي يمكن أن تتحقق من أعمال السفارة بين سلطان المسلمين أو جماعتهم والأمراء الطغاة من غير المسلمين، كما فعل هو ذلك حين ذهب سفيراً إلى ملك قشتالة، وإلى تيمورلنك عند حصاره لدمشق. كما ينتقد بشدة أولئك الذين يخرجون على أهل الجور من الأمراء المسلمين، كما ظهر ذلك في الفصل الذي عقده بعنوان: «فصل في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم». حيث قال: «... ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء، فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء، داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، والأمر بالمعروف، رجاء في الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء، ويعرّضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم، وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه». ثم ذكر أمثلة عديدة لمن فعلوا ذلك، وختم الفصل بقوله: «... وأمثال ذلك كثير، والغلط فيه من الغفلة عن اعتبار العصبية في مثلها، وأما إن كان التلبيس فأحرى ألا يتم له أمر، وأن يبوء بإثمه، وذلك جزاء الظالمين»[89].

هذا الموقف الذي يحاول فيه ابن خلدون تجنب الوقوع في الفتن وسفك الدماء، بقوله وفعله، لا يعني أنه رؤيته في مسألة الحكم ملتبسة بالضعف أو الهوى، فهو يقرر بصورة حاسمة أن نظام الحكم الذي يرتضيه هو الخلافة الشرعية؛ فبعد أن يبين مقاصد سياسة الملك الطبيعي على مقتضى الغرض والشهوة، والسياسة العقلية، على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح ودفع المضار، يقول: «إن الخلافة هي حمل الكافة على النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، فافهم ذلك واعتبره فيما نورده عليك من بعد، والله الحكيم العليم»[90].

وقد فهم ابن خلدون شرط القرشية في الخليفة في أول عهد الخلافة من باب تحقيق مصالح العباد ودفع التنازع بينهم وتجنب عموم الفتنة، وهو ليس شرطاً دائماً في القائم بأمور المسلمين من بعد. فقد: «جاء اشتراط القرشية في الخليفة في أول عهد الخلافة لاعتبار العصبية التي تكون بها الحماية والمطالبة، فإذا ثبت أن اشتراط القرشية إنما هو لدفع التنازع مما كان لهم من العصبية والغلب، وعلمنا أن الشارع لا يخصّ الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمة، علمنا أن ذلك من الكفاية، فرددناه إليها وطردنا العلة المشتملة على المقصود من القرشية، وهو وجود العصبية، فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية قوية على من معها لعصرها... وإنّما يخصّ لهذا العهد كل قطر بمن تكون له فيه العصبية الغالبة، وإذا نظرت سرّ الله في الخلافة لم تعْدُ هذا؛ لأنه سبحانه إنما جعل الخليفة نائباً عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ويردهم عن مضارّهم، وهو مخاطب بذلك، ولا يخاطب بالأمر إلاّ من له قدرة عليه... وقلّ أن يكون الأمر الشرعي مخالفاً للأمر الوجودي، والله تعالى أعلم»[91].

أما التغيير في واقع المجتمع فإنه عند ابن خلدون يرتبط بالحالة النفسية لأفراده، فقد لا يحصل الملك للأمة إذا اعتاد أفرادها المذلة للقبيل والانقياد إليه، كما حصل لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر، من تخاذلهم عن قتال الجبارين ودخول الأرض المقدسة، رغم قيادة النبوة الراشدة لهم. لذلك حرمه الله عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض. وقد لاحظ ابن خلدون: «من سياق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة، وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة، وتخلقوا به، وأفسدوا من عصبيتهم، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر، ولا يسام بالمذلة، فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب، ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي به فناء جيل ونشأة آخر. سبحان الحكيم العليم»[92].

* ثامناً: رؤية ابن خلدون للتاريخ

لعلّ أبرز ما يلفت الانتباه في رؤية ابن خلدون للتاريخ تأكيده أن التاريخ هو كسب الناس فيما يصنعون، لذلك فإن الناس مسؤولون عن نتائج كسبهم وعملهم، وما يترتب عليه في الدنيا من «خصب العيش وغضارة النعيم» أو «تناقص العمران وتلاشي المكاسب والمساعي» وما تكون عاقبته ويحاسبون عليه في الآخرة. ثم إن هذا الكسب يتم وفق السنن والقوانين والطبائع والعوائد، وأن أحداثه لا تقع خبط عشواء.

ويمكن أن يعدّ ابن خلدون مؤرخاً مثل الطبري والمسعودي، لكنه تميّز من غيره ممن سبقه من المؤرخين بوعيه أمرين مهمّين في فنّ التاريخ: الأول هو تمييزه بين «التاريخ في ظاهره» وهو رواية التاريخ وسرد أحداثه، و«التاريخ في باطنه» وهو فلسفة التاريخ حيث النظر والتحقيق والتفسير والتعميم.. أما الأمر الثاني فهو محاولته التمييز بين التاريخ باعتباره ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل من جهة، وتعميم الأحكام في «الأحوال العامة للآفاق والأجيال والأعصار» من جهة أخرى، وذلك بالنظر في علل الحوادث وأسباب الوقائع[93].

وتتسع رؤية ابن خلدون لفلسفة التاريخ حين يحذر مما يقع للمؤرخين حين يغفلون عن تلك الرؤية الكلية الواسعة، ومن ثم فهو يؤكد أن تعميم الأحكام والتوصل إلى السنن والقوانين لا يكون كافياً حين يغفل المؤرخ «عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام» فالذهول عن ذلك هو «من الغلط الخفيّ في التاريخ... وهو داء دويّ شديد الخفاء، إذ لا يقع إلاّ بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر... وكما يقع ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله التي قد خلت في عباده»[94].

ومن أجل ضمان استكمال متطلبات هذه الرؤية الكلية للعالَم فقد توسع ابن خلدون في تحديد المؤهلات اللازمة للمؤرخ لتشمل: «العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السِّير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال، والأحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل، ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعباً لأسباب كل حادث، واقفاً على أصول كل خبر...» ونظراً لأن كثيراً ممن تصدى لكتابة التاريخ لم تتحقق فيه هذه المؤهلات «وذهل عن هذا السرّ فيه» فقد «صار انتحاله مجهلة...»[95].

مع أن ابن خلدون أراد في أول الأمر أن يكتب تاريخ المنطقة التي عاش فيها والشعوب التي تعامل معها على مدى ربع قرن من حياته، فإنّه قرر فيما بعد أن يتوسع في ذلك، فيضيف إليه تاريخ سائر الشعوب التي وصل خبرها إليه عن طريق كلام الحكماء والمؤرخين، ثم حاول في تاريخه أن يستوعب أخبار الخليقة استيعاباً. وجاءت كتابة المقدمة بعد أن تهيأت له عوامل عديدة، منها تكامل الخبرة العملية في معرفة الناس، وتقلب أحوالهم في البأساء والنعماء، من خلال معاناته الشخصية في التنقل من بلد إلى آخر، ومن وضع إلى آخر، عانى فيه من صور الرخاء والابتلاء، ومكر الأعداء والأصدقاء، وشاهد بنفسه كيف تبدلت حياة الملوك والكبراء ذلّة وهواناً، وكيف قامت دول ثم دالت، وعزّ قوم ثم ذلّوا، فتارة انبسط العيش ولانت الحياة للناس، وتارة أخرى أحاطت بهم نكبة «الطاعون الجارف فطوى البساط بما فيه»[96]. ومنها أنه حين قرر التفرغ للكتابة صرف وقتاً ليس بالقليل في تجميع حصيلة كبيرة من التاريخ. فقد استقر في قلعة ابن سلامة بدءاً من عيد الفطر سنة 776هـ وحتى رجب سنة 780هـ. ومع ذلك فإنه حدد المدة والسنة اللتين كتب فيهما المقدمة بخمسة أشهر من سنة 779هـ[97]، مما يعني أنه كتبها بعد أن أنجز قدراً كبيراً من كتابة التاريخ أو تجميع مواده. ثم إنه واصل تهذيب المقدمة وتنقيحها مرة بعد الأخرى بعد أن أكمل كتاب العبر، ويشهد لذلك تعدد النسخ التي عرفت بها المقدمة التي وصلتنا، وهي النسخ التي يستكملها في كل مرحلة من حياته اللاحقة ويقرر أن يهديها لمكتبة أحد الحكام.

وقد أعمل ابن خلدون الرؤية الكلية في كتابة التاريخ من خلال منهجية متميّزة، فإنّه -في اختياره لما يدوّنه من الوقائع التاريخية- لم يكتفِ بالنقل عن المؤرخين القدامى، بل اختبر بعض ما كتبوا في ضوء طبائع الأمور وقوانين العمران، مما اضطرّه إلى استبعاد بعض ما كتبوه، لأنّه غير ممكن الحدوث، وردّ بعض الروايات التي يراها متناقضة مع السياق التاريخي للأحداث وتطوّرها. وهو يؤرّخ للأحداث بوصفها تعبيراً عن الظاهرة الاجتماعية، لذلك فإنّه يحاول الكشف عن طبيعتها والقوانين التي تسير وفقها والعلاقات التي تربطها وما ينتج عن هذه العلاقات من نتائج تؤثر في وقوع هذه الظواهر وتغيّرها واختلافها باختلاف المجتمعات والعصور. ومن هنا جاء كتاب المقدمة عرضاً للنتائج التي استخلصها من التأمل في البيانات المتعلقة بجانب محدد من جوانب الظاهرة الاجتماعية. فعناوين الفصول في هذا الكتاب هي نظريات أو قوانين، وما يأتي تحتها أسباب تفسيرية وبيانات توضيحية وأمثلة برهانية تعتمد النظر العقلي والحقائق الاجتماعية أو النفسية أو الكونية.

* الخاتمة

إنّ في قراءة «المقدمة» متعةً حقًّا، ويتعمق الشعور بالمتعة عندما يكتشف القارئ أن فيها الكثير مما له علاقة بالواقع المعاصر. ولعل موضوع رؤية العالَم أن يكون من الموضوعات التي تستحق العناية في عالَم اليوم، وهو الذي يوصف أحياناً بأنه عالم الصدام والتدافع بين رؤى العالَم. ذلك أن قوى العولمة المعاصرة تجتهد في فرض رؤية محددة للعالَم على شعوب العالَم. ومع أن أكثر الناس يتبنّون رؤية محددة للعالَم عن غير وعي منهم، فإنّ بعض الناس يفاجؤون أحياناً بأنهم يستهلكون بعض الأشياء وبعض الأفكار التي تستبطن رؤية للعالَم غير رؤيتهم. وإذا كان من المفيد أن يزداد وعي عامة الناس بمحددات تفكيرهم وأصول معتقداتهم ودوافع سلوكهم، فإن من المتوقع أن يكون المثقفون -من بين الناس- أكثر وعياً وأقدر على نشر هذا الوعي. وقراءة ابن خلدون أو غيره من علماء المسلمين لملاحظة الطرق التي تمثلت فيها رؤيتهم للعالَم، قد يكون أسلوباً مهماً في تدريب العقل على تطوير الوعي برؤية العالَم وكيف تبدو هذه الرؤية في حالة فاعلة نشطة.

ولا تسمح المساحة المتاحة في هذه الورقة بالاستطراد في مقارنة الرؤية الإسلامية التي يتبناها ابن خلدون والرؤى الإسلامية التي يراها غيره من العلماء وأتباع المذاهب الأخرى، أو الرؤى غير الإسلامية التي تتبناها الأديان والإيديولوجيات الأخرى. قد تمت الإشارة في مقدمة هذه الورقة إلى إمكانية التوسع في تتبع رؤية العالَم بصورة مستقلة وبقدر من التفصيل في مجالات محددة من اهتمامات ابن خلدون، ولكن الذي يمكن إضافته هنا هو إمكانية دراسة رؤية العالَم عند علماء آخرين. والاهتمام في هذا الصدد بالدراسات المقارنة التي تزيد رؤى العالَم ووضوحاً وتمايزاً، وتسمح من ثمَّ في تحديد المشتركات بين هذه الرؤى المختلفة. ذلك أن تناول الرؤى الجزئية حول المسائل التفصيلية للمفكرين والباحثين والأحزاب والحركات... إلخ، أو الدخول في تفاصيل الثقافات بين الشعوب، سوف يكشف عن مساحات واسعة من الاختلاف والتضارب مما يعمّق الخلاف بين الناس، ويضيّق فرص التعاون والعيش المشترك. ولكنّ الناس، على مستوى الأشخاص والأحزاب والحركات والشعوب، مهما اختلفوا في الرؤى الجزئية للمسائل التفصيلية، واتسعت فيما بينهم مساحات البعد والتفاوت والتضارب والاختلاف، فإنّ ثمَّة مساحات مشتركة تجمع بين العقلاء من الناس على تعدد توجهاتهم وطرق تفكيرهم وانتماءاتهم. وعندما تكون بؤرة الاهتمام هي المقارنة بين رؤى العالَم والنظرة الكلية والتناول الشمولي للأمور الأساسية في حياة الناس، فإن ملاحظة الجوانب المشتركة تزداد احتمالاً وتتسع مساحة. ونحن نلاحظ أن مجالات التعاون المشترك بين الشعوب والأمم إنّما تكون في المسائل العامة والمصالح العليا، وكلما تعددت أوجه التعاون وتعمقت أهميتها حدّ ذلك من أثر الاختلاف في الخصوصيات والتفاصيل.

وبقدر ما تبدو ضرورة الاهتمام بالوعي على رؤية العالَم التي نمتلكها، ومدى اقترابها من رؤية العالم التي ينبغي علينا أن نمتلكها، فإن الضرورة ربما تكون أكبر لتعريف الآخرين برؤيتنا للعالَم، كما هي، متميّزة عما يريد هؤلاء الآخرون أن يعتقدوه عنها، في حال تخلفنا عن التعريف بها وتوضيحها. وقد اعترف بعض الباحثين الغربيين (مشكورين) بعجزهم عن عرض الرؤية الإسلامية للعالَم حين عرضوا رؤى العالم المتعددة التي يتوزع عليها أكثر الناس في عالَم اليوم، بينما تطوع بعض الغربيين لعرض الرؤية الإسلامية للعالَم بصورة في غاية التشويه. ومن المؤلم حقًّا أن بعض من أدعياء الثقافة والفكر في بلادنا، ممن يدّعون امتلاك مشاريع فكرية متميزة، نجدهم أسرع من أولئك الغربيين في تشويه الرؤية الإسلامية للعالَم بما يكتبون وما يفعلون!

 



[1] دكتوراه في التربية العلمية وفلسفة العلوم، المدير التنفيذي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي.

[2] انظر في ذلك على سبيل المثال لا الحصر:

- المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية. أعمال مهرجان ابن خلدون، القاهرة: المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، 1962.

- خليل، عماد الدين. ابن خلدون إسلامياً، بيروت: المكتب الإسلامي، 1983.

- عويس، عبد الحليم. التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون، قطر: وزارة الأوقاف، سلسلة كتاب الأمة رقم 50، ذو القعدة 1416.

- الشكعة، مصطفى. الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته، القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 1986.

[3] Kuhn, Thomas. The Structure of Scientific Revolutions. 2nd. Enlarged Edition, Chicago: University of Chicago Press, 2000, p. 121.

[4] Izutsu, Tohsinhiko. God and Man in the Koran: Semantics of the Koranic Weltanschauung, Tokyo: The Keio Institute of Clutural And Linguistic Studies, 1964, p.12

[5] ابن خلدون، عبد الرحمن. رحلة ابن خلدون. تحقيق وتعليق محمد بن تاويت الطنجي، بيروت: دار الكتب العلمية، 2004. ص 32 - 64. واسم الكتاب كما ورد في آخر كتاب العبر: «التعريف بابن خلدون مؤلف الكتاب ورحلته غرباً وشرقاً».

[6]  أبو زهرة، محمد. ابن خلدون الفقه والقضاء. أعمال مهرجان ابن خلدون، القاهرة: المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، 1962، ص 611 - 638.

[7]  سعفان، حسن شحاته. سوسيولوجية المعرفة عند ابن خلدون، أعمال مهرجان ابن خلدون، مرجع سابق، ص 228 - 252.

[8] ربيع، حامد. فقه السياسة في فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، أعمال مهرجان ابن خلدون، مرجع سابق، ص 267 - 304.

[9] مراد، محمد حلمي، أبو الاقتصاد ابن خلدون، أعمال مهرجان ابن خلدون، مرجع سابق، ص 305 - 318.

[10]  نصر، محمد عبد المعز. فلسفة السياسة عند ابن خلدون، أعمال مهرجان ابن خلدون، مرجع سابق، ص 318 - 345.

[11] مرحبا، محمد عبد الرحمن. جديد في مقدمة ابن خلدون، بيروت: منشورات عويدات، 1989، ص 156.

[12] الشكعة، مصطفى. الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته، القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 1986 ص 73.

[13] المرجع نفسه، ص 86.

[14] De Boer. T. J. The History of Philosophy in Islam, Translated into English by Edward R. Jones, New York: Dover Publications, Inc. 1967.

[15] Kilzer, E. and Ross, E. J. Western Social Thought, Milwaukee: The Bruce Publication Company, 1954. p. 131-132.

ورغم أن الكتاب يتحدث عن تاريخ الفكر الاجتماعي الغربي من عهد ما قبل أفلاطون، مروراً بأفلاطون وأرسطو والفكر اليهودي، والمسيحية الأولى والإصلاح الديني المسيحي في أوروبا، وظهور المدارس الفلسفية والنظريات الاجتماعية الحديثة حتى تاريخ طباعة الكتاب عام 1954، فإن المؤلفين لم يجدا في تاريخ الإسلام والمسلمين (المجتمع المحمدي كما يسميانه) غير حوالي صفحة عن ابن خلدون وثلاث كلمات عن ابن رشد تأتي عرضاً تصفه بأنه «الشارح العربي لأرسطو». ص 129.

[16] مع ذلك لا ينكر فضل المحقق، ولا يقلل ذلك من الجهد العظيم الذي بذله في تحقيق المقدمة وإصدارها في ثلاثة مجلدات، وبأوفى ما صدرت به حتى الآن.

[17] ابن خلدون، عبد الرحمن. مقدمة ابن خلدون، تحقيق ودراسة علي عبد الواحد وافي، طبعة مزيدة ومنقحة، القاهرة: نهضة مصر، 2004، ج1 ص 206، من صفحات الدراسة الواردة في الجزء الأول. وستكون هذه الطبعة هي المرجع المعتمد الذي تحال إليه جميع الإشارات في نصوص ابن خلدون في المقدمة.

[18] Al-Attas, S.M Naquib. Prolegomena to the Metophysics of Islam, Kuala Lumpur, International Institute of Islameic Thought and Civilitation, (ISTAC), 1995, P. 15.

[19] مطهري، مرتضى. المفهوم التوحيدي للعلم بيروت: دار التيار الجديد، 1985.

[20] Schaeffer, Francis A.  The Complete Works of Francis A. Shaeffer: A Christian Worldview, Vol. I,  2nd ed. Wheatonm, Ill.: Crossway, 1982, p. 178.

[21] Sire, James, W. The Universe Next Door: A Basic Worldview Cataloque, 4th. Edition Downers, Ill: InterVasity Press, 2004.

[22] Restivo, sal. The Sociological Worldview, Oxford, UK: Basil Blackwell, 1991.

[23] Ibid, p. 25.

[24] Ibid, p. 18-19.

[25] Kilzer, E. and Ross, E. J. Western Social Thought, Milwaukee: The Bruce, Publication Co., 1954, 131-132.

[26]  ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 317.

[27]  ابن خلدون. المقدمة، مرجع سابق، ج 1، ص 321.

[28]  ابن خلدون. المقدمة، مرجع سابق، ج2 ص. 521.

[29] جب، هاملتون. الأساس الإسلامي للنظرية السياسية لابن خلدون، مجلة مدرسة الدراسات الشرقية، ج1 مجلد 7، ص. 23. نقلاً عن: الشكعة، مصطفى. الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته، القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 1986، ص 166.

[30] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 327.

[31] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 333.

[32] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 354.

[33] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 358.

[34] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 391.

[35] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 922.

[36] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 405.

[37] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 431.

[38] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 341.

[39] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 335.

[40] ابن خلدون. المقدمة، ج3، ص 971.

[41] ابن خلدون. المقدمة، ج3، ص 971-975.

[42] ابن خلدون. المقدمة، ج3، ص 922.

[43] ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 546.

[44] ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 442-443.

[45] ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 506.

[46] ابن خلدون. المقدمة، ج3، ص 1027.

[47] ابن خلدون. المقدمة، ج3، ص 968.

[48] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 342.

[49] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 423-424.

[50] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 410-414.

[51] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 416.

[52]  ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 553.

[53] وافي، علي عبد الواحد. المقدمة، ج1، من الدراسة المطولة التي أضافها المحقق في مقدمة كتاب المقدمة، ص 229.

[54] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 354.

[55] ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 800-801.

[56] ابن خلدون. المقدمة، ج3، ص 966-968.

[57] ابن خلدون. المقدمة، ج3، ص 921.

[58] ابن خلدون. المقدمة، ج3، ص 1005.

[59] ابن خلدون. المقدمة، ج3، ص -922.

[60] ابن خلدون. المقدمة، ج3، ص 1004.

[61] ابن خلدون. المقدمة، ج3، ص-922.

[62] سورة فصلت، الآية 6.

[63] ابن خلدون. المقدمة، ج3، ص 1027.

[64] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 327.

[65] ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 1115.

[66] ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 1103-1104.

[67] ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 1105-1107.

[68] ابن خلدون. المقدمة، ج3، ص 922.

[69] سورة العلق، الآية 1 - 5.

[70] ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 924.

[71] ابن خلدون. المقدمة، ج3، ص 916-917.

[72] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 332-333.

[73] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 287.

[74] ابن خلدون. المقدمة، ج3، ص 1213.

[75] ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص546-547.

[76] ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص832.

[77] سورة البلد، الآية 10.

[78] سورة الشمس، الآية 8.

[79] ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 479.

[80] ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 499-500.

[81] ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 480-479.

[82] ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 477.

[83] ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 473.

[84] ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 467.

[85] عبد الفتاح، سيف الدين. «تنظير السنن: قراءة في نماذج سننية لدى ابن خلدون» ورقة قدمت إلى ندوة: عبد الرحمن بن خلدون: قراءة معرفية ومنهجية، التي عقدها المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالتعاون مع قسم علم الاجتماع بجامعة عين شمس في أغسطس عام 2000م. ص27.

[86] {لقد كان لسبأ في مَسْكَنِهم آيةٌ، جنّتانِ عن يمين وشمال، كُلُوا من رزقِ اللهِ واشْكُروا له، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ورَبٌَ غفور. فأَعْرَضُوا، فأرسلنا عليهم سَيْلَ العَرِم، وبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جنتين ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وشيءٍ من سِدْرٍ قليل. ذلك جزيناهم بما كفروا، وهل نُجَاِزي إلا الكَفُور؟} (سبأ: 15-17).

[87] لا يتسع المقام للاستطراد في الحديث عن كثرة الكتابات من هذه النوع. وتكفي الإشارة إلى ما تنشره مجلة Christianity Today. انظر مثلاً عدد 7 يناير عام 2002 مقالة بعنوان: «رسم حدود المعركة» للكاتب شارلس كولسون، ومقالة: «هل الإسلام دين سلام؟» للكاتب جيمس بافرلي. كما تكفي الإشارة إلى كتاب:

Islamic Invasion: Confronting the Wrolds Fastest Growing Religion, by Robert Morey, published by The Christian Scholars Press, 2001.

[88] Musk, Bill.  The Unseen Face of Islam: Sharing the Gospel with Ordinary Muslims at Street Level, Grand Rabids, MI: Monarch Books, 2003, p. 288.

[89]  ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 521-524.

[90]  ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 563.

[91]  ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 570-571.

[92]  ابن خلدون. المقدمة، ج2، ص 498.

[93] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 282.

[94] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 321.

[95] ابن خلدون. المقدمة، ج1، ص 320.

[96] ابن خلدون. رحلة ابن خلدون، تحقيق محمد بن تاويت الطنجي، بيروت: دار الكتب العلمية، 2004، ص 45.

[97]  ابن خلدون. رحلة ابن خلدون، المرجع السابق، 186-188.