شعار الموقع

السجال الفكري والفقهي عند الفكر الاسلامي الشيعي حول الدولة

عقيل سعيد 2004-09-21
عدد القراءات « 816 »

 عقيل سعيد*

الكتاب: الفقيه والدولة ـ الفكر السياسي الشيعي.
المؤلف: فؤاد ابراهيم
الناشر: دار الكنوز الأدبية ـ بيروت.
الصفحات: 462 من القطع الكبير.
سنة النشر: ط1 ، 1998م.

لم تفتأ مسألة العلاقة بين الفقيه والدولة تشكل محوراً للنقاش والسجال منذ وقت بعيد، وتبلورت حدة ما يدور في هذا المحور من تعدّد رؤى وتنوع اجتهادات بانتصار الثورة الاسلامية في إيران (شباط/ فبراير 1979)، وتصاعد السجال ليصل راهناً إلى محدّدات معينة لكل رؤية أو اجتهاد في ضوء ما أسفرت عنه التجربة الواقعية لتمكن واحدة من هذه الرؤى (القول بالولاية العامة المطلقة للفقيه) من قيادة دولة اسلامية متمذهبة شيعياً.
وموضوعة (الفقيه ـ الدولة) ليست من الموضوعات المشبعة بالبحث فقهياً وتاريخياً وسياسياً; نظراً لطبيعة العلاقات التي حكمت الطرفين تاريخياً، وموضعت كلاً منهما، وبالتالي أفرزت كون هذه العلاقة خارج دائرة التقعيد النظري المسبق في اهتمامات فقهاء الشيعة إلاّ بالقدر الذي ينظم تموضع الفقيه، وما مراحل تطور «النظرية» الفقهية السياسية لدى الشيعة سوى سيرورة تاريخية لازمة فرضت اصطباغ كل مرحلة من هذه المراحل بلون ما، تنسجم تداخلاته مع ملابسات قرب الدولة أو بعدها عن الفقيه الشيعي.

ملاحظات أولية:
ولذلك، فإننا لانتفق والباحث فؤاد ابراهيم في اعتباره أن الفقهاء المسلمين الشيعة واجهوا منذ اكتمال تكوّن الجماعة الشيعية الإمامية اشكالية مشروعية الدولة في عصر الغيبة ويرى في كتابه (الفقيه والدولة... الفكر السياسي الشيعي) أن هذه المشروعية حجبت تبعاً لاحتجاب الإمام المهدي (عجل الله فرجه) عام 329 هـ; أولاً لأننا نرى أن الجماعة الشيعية لم يكتمل تكوّنها في التاريخ الذي اختاره، بل على عهد الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعد أن بذرت بذرتها الأولى في أيام الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيما مثلت المراحل اللاحقة تطورات لاتخلو من حركتها أية جماعة عقيدية ـ سياسية، وثانياً لأن الجماعة الشيعية واجهت الإشكالية ذاتها على عهد الأئمة (عليهم السلام) وكانت معالجاتهم في قبالتها مرتكزة إلى وعي تكييف الواقع وتكيّفه مع قضية عدم مشروعية الدولة القائمة بناءً على أصل غصب الخلافة العامة للمسلمين وإقصاء أصحابها عن ممارسة السلطة الزمنية، وثالثاً لأن عصر الغيبة حسم في بدئه مشكلة عدم مشروعية الدولة، باعتبار أن مسألة الغصب والإقصاء أضحت بغيبة الإمام (عليه السلام) غير ذات موضوع، فبرز الحديث عن إمكانية‏(أو مشروعية) قيام دولة الحق كمحور دارت في أفلاكه الإجتهادات الفقهية متأثرة بوعي القائلين بها المتشكّل من جملة عناصر ذاتية وموضوعية ساهمت مع الظروف الإجتماعية والسياسية المتزامنة والتاريخية في بلورة هذا الاتجاه الفقهي أو ذاك.
وتارة أخرى نجد أنفسنا غير متفقين مع الباحث في قصره الإرتباط بين الفقيه والسياسي، على تأثير الأول في الثاني، وبالتالي إنعكاس التبدلات الفقهية وبطريق مباشر على المجال السياسي، فالمعادلة متبادلة التأثير، وربما نجد منحى التأثير الآخر أكبر وأعمق، بل إن الباحث نفسه لم يعدم الإشارة في مواضع مختلفة من بحثه تلميحاً أو تصريحاً إلى مدى تأثير السياسة في المجال الفقهي، خصوصاً أن الأطروحة الفقهية الشيعية تتسم بالواقعية، ولاتبدأ من التنظير المجرد بقدر ما هي تعالج تحديات واقعية قائمة. ولعلنا نستطيع الإستدلال بتطورات كثيرة في هذا الصدد حصلت في فقه الدولة الإسلامية في ايران خلال عقدين من تجربة الحكم والتطبيق، ففراغ ما بعد مرحلة الإمام الخميني أملى إجراء تعديل الدستور ـ في حياة السيد الإمام ـ ألغي بموجبه شرط المرجعية في منصب القائد، والإكتفاء بالفقاهة، ما أهّل إناطة المسؤولية القيادية بالسيد علي الخامنئي.
وتارة ثالثة لانذهب إلى ماذهب إليه الباحث في اطلاق مصطلح الفقه السلطاني بصورة متماهية أحياناً كثيرة مع الفقه السلطاني; إذ الأخير ربما يقابل مباحث القانون الإداري في فقه القانون الوضعي، بوصفه يضع معايير وحدود وممارسات الإدارة الحكومية، كما يقابل أيضاً بعضاً من مباحث القانون الدستوري في تنظيمýأعمال السلطة، بينما الفقه السياسي يمثل عنواناً جامعاً‏يتناول في موضوعاته مباحث القانون الدستوري ونظرياته، بالإضافة إلى مباحث القانون الدولي والعلاقات الدولية. وقد كثف المؤلف البحث في موضوعات تصنف في موضوعات القانون الدستوري، فتكون العنونة المطلوبة ـ جرياً‏مع المصطلح الإسلامي ـ هي الفقه السياسي.

حول مصادر البحث
إذا كنا قد بدأنا بتسجيل هذه الملاحظات الأولية العامة على الأستاذ فؤاد ابراهيم في كتابه (الفقه والدولة... الفكر السياسي الشيعي) فإن هذا لايضيع من جهده الكبير الذي بذله في محاولته الدراسية التي هي بحق واحدة منýأرقى الدراسات المعاصرة المعمقة في هذا المجال، ولاسيما أنه سبر غور كمٍّ كبير من المصادر (95 مصدراً) وتعامل معها بروح بحثية نقدية موضوعية حققت شروط البحث العلمي على درجة عالية من الكفاءة والمكنة في تناول موضوعة حيوية ما تزال بحاجة ماسّة إلى مزيد من الإشتغال الدؤوب.
وإن العودة المحمودة إلى المراحل التاريخية في تطورها حققت للبحث قدراً لابأس به من الإحاطة، كنا نتمنى لو أنها غاصت في أعمق من ذلك; لتشمل مراحل سابقة كان فيها لسلوك الأئمة (عليهم السلام) في مواقفهم إزاء الدول التي عاصروها، أو في توجيهاتهم لأتباعهم في العلاقة مع الحاكمين، وهذا ما يسهم في تقديم صورة أوضح لأسباب ما آلت إليه التطورات في الفكر السياسي الشيعي في مراحل ما بعد الغيبة. وفي الوقت ذاته، بدت الدراسة بحاجة إلى الإحاطة بشيء أكثر من التفعيل في التوفر على دراسات معاصرة على صعيد الدراسات التي عالجت قضايا الدولة الإسلامية المعاصرة; حيث تشهد الجمهورية الإسلامية في إيران حركة ناشطة في البحث والتنظير، وعلى مستويات عدة فقهية وسياسية وتاريخية وفكرية وقانونية، فمن شأن ذلك اسباغ طابع عملي على النتائج.

فصول الكتاب
بعد مقدمة وموجزة يلج الكاتب فؤاد ابراهيم بحثه عبر مدخل يمهّد فيه عبر عرض ماهية الفقيه والدولة، ثم تتوالى فصول الكتاب التسعة، كما يلي:
الفصل الأول: التكوين السياسي الشيعي.
الفصل الثاني: الفقيه وفتنة الدولة.
الفصل الثالث: الدولة ونيابة الفقيه.
الفصل الرابع: التجاذب بين الفقيه والدولة.
الفصل الخامس: ولاية الفقيه في العصر القاجاري.
الفصل السادس: المواجهة بين الفقيه والدولة.
الفصل السابع: اتجاهات التغيير السياسي وانتصار الفقيه على الدولة.
الفصل الثامن: الفقيه والدولة في العراق... انقطاع التيار السياسي.
الفصل التاسع: الحزبية الشيعية... سعياً إلى الدولة الدينية.
ويختم المؤلف دراسته بـ «استنتاجات وتجليات» تليها سبعة ملاحق، وحواران مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله.

في مفهوم الدولة
يعرض الكاتب مفهوم الدولة في الإصطلاح السياسي الغربي الحالي موضحاً اختلاف هذا المفهوم عما كان شائعاً ومعروفاً حتى بداية العصر الحديث، «فتكوين الدولة القديمة بكامل حمولتها (= عناصرها، ومؤسساتها، وصيغها، وروافدها) لايأخذ نفس التكوين العصري للدولة» (الصفحة 31). غير أنه يعطي معنى لمصطلح الدولة لدى العرب يبدو غريباً عن روح العربية، «كما في تناول القرآن الكريم موضوع الفيئ (كي لايكون دُولةً بين الأغنياء) أي حتى لايتعاقب عليه الأغنياء» (الصفحة32).
وهنا ملاحظة أن ماورد في الآية الكريمة مضموم الدال، بينما لفظ الدولة مفتوح الدال، على أن مصطلح الدولة يختزن معنى التعاقب.
وأما عدم إمكان التمييز بين الدولة والسلطة في التراث السياسي العربي حتى وقت قريب، فإنه ليس مقتصراً على العرب، وإنما يشاركهم في ذلك الشعوب الأخرى في تراثها السياسي، وإنما فرضت طبيعة التطور في النظريات السياسية والدستورية أن يتضح التمايز بين مفهومي الدولة والسلطة. ويبدو أن هناك تلازماً بين تركز صلاحيات الحاكم (الممثل للدولة) وبين تماهي المفهومين، بالإضافة إلى الجانب الوظيفي للدولة الذي يشير إليه المؤلف فيما بعد.
وفي غير موضع من الدراسة يشير الدارس إلى مسألة إقامة الدولة الدينية (مثال: الصفحة 59، الصفحة 327)، والواقع أن الإسلام لايهدف إقامة دولة دينية (وما يستبطن ذلك من ثيوقراطية)، بل هو يهدف تأسيس دولة مدنية ومجتمع مدني يكونان متحركين في إطار الأحكام والتعاليم الدينية. إن الدولة الاسلامية ليست دولة دينية، بل هي دولة مدنية ايديولوجيتها ودستورها وقوانينها دينية، وهي دولة قانونية (راجع: الشهيد السيد محمد باقر الصدر في الإسلام يقود الحياة) يخضع حكامها ومحكوموها للقانون بدرجة متساوية، فيما يكون الحاكم مصوناً غير مسؤول في الدولة الدينية باعتباره الإله أو ظل الإله.

رسالة الشيخ النائيني
يعتبر الأستاذ فؤاد ابراهيم رسالة الشيخ محمد النائيني «تنبيه الأمة وتنزيه الملّة» محاولة تأصيل شرعي لسلطة مدنية، وبما تمثله هذه الرسالة من وعي متقدم لقضية السلطة والدولة، صادر عن فهم اجتهادي متعاطٍ مع واقع تطورين داخلي وخارجي، فإنها كانت مصبّ اهتمام الدارس على مدى خمس وعشرين صفحة‏(من الصفحة 236 إلى الصفحة 259)، فأولاها من الشرح والتوضيح ما لم يولِ غيرها، واعتبرها «أول مدونة سياسية في التاريخ الشيعي على الإطلاق أسست لقائمة جديدة من التصنيفات العلمية، لاتندرج البتة ضمن القائمة التقليدية لتصنيفات الفقهاء (...) فهي صياغة توفيقية لايديولوجية السلطة، بالسعي إلى قولبة المفاهيم الدينية في أوعية سياسية حديثة، إنها أيضاً محاولة لإيصال البيان الفقهي/ التاريخي الشيعي مع منظومة المفاهيم السياسية والدستورية الحديثة» (الصفحة 237).
ويعمل الدراس على تفكيك مكونات الرسالة «المكوّن الفلسفي ـ المكوّن الفقهي/ العقدي الشيعي السلطاني ـ الفكر السياسي الحديث»، ويذهب إلى أن «النائيني كفيلسوف لايحمل تلك النظرة التشاؤمية عن السلطة التي تفرض مواصفات صارمة كما عند فقهاء الشريعة الشيعة المتقدمين منهم بدرجة أساس، كما ينبه أيضاً إلى أن السلطة ليست شأناً دينياً محضاً حتى تكون مورد احتكار طبقة معينة (...) إن هذا الوعي الفلسفي عند النائيني ساعد على وضع تصور عام للسلطة في إطارها الإنساني العام» (الصفحة 239)، ويقدّر أن النائيني «يسعى حثيثاً لإيجاد مخرج مناسب أو تأويل عقلي» لإشكالية الغصبية مؤصلاً ومؤسساً على معطيات ثلاثة تبدأ بوجوب فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمرّ بالولاية العمومية بما «يقيم صلة وثيقة بين نيابة الفقهاء في عصر الغيبة وبين حفظ المصالح العامة، لتصل إلى وجوب رفع يد المتسلّط على الأوقاف العامة والخاصة».
إن ضمانات هذا التأصيل (التأسيس) تتم عن طريق الدستور والسلطة الرقابية، فلاتحول إشكالية الغصبية دون قيام السلطة في عصر الغيبة (صدرت الرسالة ابان معارك المشروطة والمستبدة)، فلا اعتزال للحياة السياسية، ولاعطالة للنص الديني. (الصفحات 239 ـ 243).
ويوضح الكتاب أن النائيني يعتقد بأن الولاية في عصر الغيبة هي للأمة، وبالتالي فإن ولاية الأمة على نفسها «شأن سياسي لاشأن شرعي»، فهو «يؤسس لسلطة بشرية (...) هي نتاج بنية المجتمع وخصوصياته، (...) وأقل ما ينبئ عنه هذا الرأي أن السلطة ليست مقاساً واحداً، وشكلاً ثابتاً، وإنما هي تتشكل وفق بنية كل مجتمع، وإنما السلطة تتقولب بحسب الخصوصيات الثقافية والحضارية لكل أمة، بمعنى آخر، إن السلطة ما هي إلاّ نتاج إجتماعي، وهي تالياً التعبير الشفهي لثقافة الأمة وهويتها»(الصفحة 247).
ونحن إن كنا نوافق بعضاً من هذه الأفكار إلاّ أننا نرى فيها تحميلاً لنص النائيني، فالشيخ النائيني إنما يقنّن ممارسة السلطة ويضع لها الشروط والحدود التي يراها ضرورية لضمان عدم استبدادها، ولانجد في رسالته ما يدلّ على انتفاء الشأن الشرعي فيها. نعم، لم يحدد الإسلام شكلاً معيناً للسلطة، ولكنه يضع القواعد الأساسية لهذا الشكل (انظر: دراستينا المنشورتين في مجلة الفكر الجديد التي تصدر عن دار الإسلام/ لندن: نظرية الدولة عند الإمام الشهيد الصدر ـ ممارسة السلطة عند الإسلاميين: الصدر والمودودي نموذجاً).

ثنائية الديني/ السياسي
لم أجد مسوّغاً للكاتب أن يتعامل مع ثنائية (الديني/ السياسي)، فلا انفصام بين الدين والسياسة في المبدأ العام، كما أن الكاتب نفسه لحظ أثناء بحثه مدى تأثير قضايا دينية بحتة وسجالات فكرية محضة على التطور السياسي.
إن الثنائية المذكورة إن كانت تصح في دراسة الحضارات أو الثقافات الأخرى فإنها لاتصح في الإشتغال على القضايا الإسلامية، والشيعية منها على وجه الخصوص. وإذا كانت ثمة «ثغرات» في الفكر أو السلوك السياسي للفقهاء فإنها نتاج ابتعاد البعض منهم ـ بمحض إرادته أو بتأثير ما ـ عن الميدان السياسي، وهذا جدّ طبيعي لأي فرد في أية شريحة من الشرائح الإجتماعية، وعلى الرغم من أن هناك من حاول أن يؤجل عدم الخوض في السياسة وينظّر له فإنه حتى أولئك مارسوا السياسة والعمل السياسي بصورة أو بأخرى، والأمثلة في هذا المجال كثيرة.

الإمام الخميني... ولاية الفقيه
يقرّر الباحث كون الإمام الخميني، أول فقيه شيعي يتطابق أفقه السياسي مع حركته الاحتجاجية، بكلام آخر، أول فقيه شيعي يحمل مشروع دولة، ويسعى لتجسيده فعلياً، ونقطة تميّز هذا المشروع، بأنه ثوري في خطابه السياسي والديني، ثوري أيضاً في آلياته. لقد بدأ السيد الخميني تنفيذ مشروعه بجرأة نادرة على أساس تقويض التدابير الفقهية السلطانية المرتهنة إلى النص الديني»(الصفحة 275). ولكنه يعود ليؤشر على أن السيد الإمام لم يتجاوز إبان أحداث خرداد (عام 1963) أهداف أنصار المشروطة ومن بعدهم السيد حسن المدرس، وإن الإطاحة السياسية بالنظام القائم لم تكن بعد من أهدافه، «وإن كان يحمل تصورات أولية حول الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه، بل الصحيح أنه كان يدعو إلى اشراك الفقيه في برلمان الشاه»(الصفحة275). والواقع أن خطاب السيد الخميني كان واحداً في كل مساراته، وما يلحظ فيه من مطالب «اصلاحية» أو تأشيرات في هذا الاتجاه تضمنتها نصوصه، خصوصاً كتابه (الحكومة الإسلامية) إنما هو جزء من حركته السياسية «الإنقلابية» أو «الثورية» بتعبير آخر. فوحدة وثورية الخطاب الخميني هي إحدى سماته البارزة، وإحدى معالم مشروعه الإسلامي (انظر: عادل رؤوف في كتابيه: الإمام الخميني: الخطاب الثوري والدولة الثورية ـ الإمام الخميني رجل القرن الحادي والعشرين.... ركائز ومقومات مشروعه الإسلامي).
مضافاً إلى ذلك، فإن السيد الخميني كمصلح لايؤدي به إلى أن «يصعب حبسه في قائمة الفقهاء بالمعنى الحرفي، لالكونه فاقداً لملكة استنباط الأحكام الشرعية (الاجتهاد)، وإنما لأن الفقه كما تشي تجربة السيد الخميني مدخل موضوعي لتوجيه الجماهير وممارسة الإصلاح الاجتماعي، والتغيير السياسي» انتهى كلام المؤلف (ص 279). ونقول: وهل مهمة المرجع (الفقيه) غير هذه المذكورة؟!، إذ لاتقاطع بين مهمة الإصلاح والفقاهة.
وفي معرض تناوله للحركة الخمينية، يوضح فؤاد ابراهيم أن أبنية تأسيس النظرية الجديدة (الخمينية) للحكومة الإسلامية تشكل في النهاية ما أسماه شبه قطيعة مع المتخيل السياسي الشيعي المستوحى من تراث الغيبة والإنتظار، ومع تجربة النضال السياسي الشيعي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ومع الفكر السياسي الحديث. وفي هذه النقطة الأخيرة يقول: «أعاد السيد الخميني احياء طائفة كبيرة: المفاهيم الدينية القرآنية والنبوية في خطابه السياسي الثوري (...) وليس من المبالغة القول، بأن السيد الخميني لم يقم بمشروعه السياسي من خلال فلسفات سياسية حديثة، أو متبنيات الفكر السياسي الحديث، وربما سيذهل الخطاب السياسي للسيد الخميني الكثير من الباحثين; لكونه لم يقتفِ أثر معاصريه في التوفيق بين مفاهيم اسلامية محددة في الحكم والإدارة والمفاهيم السياسية الغربية... كما هي سيرة المنظّرين والحزبيين الإسلاميين». (الصفحة 282).
في هذا الموضع ينتظر القارئ من الكتاب مقارنة هي أكثر من مطلوبة، بين الإمام الخميني وغيره من «المنظّرين» أو على الأقل بينه وبين النائيني.
ويعتبر الكاتب ولاية الفقيه المطلقة عند الإمام الخميني ناسخة لما قبلها من طروحات يطلق عليها «سلطانية»، وإنها ذروة الفكر السياسي الشيعي المعاصر (الصفحة 283)، كما يقول في مقدمته:«تمثل ولاية الفقيه كعقيدة دينية/ سياسية للدولة الإسلامية في إيران الصيغة النهائية في تراث الفقه السياسي الشيعي، كما تمثل النتيجة القصوى التي أسفرت عن الصيرورة التاريخية لتسيّس الفقه الشيعي» (الصفحة5). إن هذا التقرير وبهذا الإطلاق مصادرة على المطلوب كان ينبغي للباحث أن يتجنبها، حيث أن التطور بالمنحى التصاعدي أو التنازلي هو من طبيعة الأفكار والنظريات، ومسألة الحكم بالنسخ محل تأمل شديد، وبخاصة مع لحاظ الواقع السياسي الديني الشيعي، والكاتب نفسه يتحدث عنه: «يرتسم طيف واسع من الفقهاء المناهضين لكلية ما جاء في النظرية»(الصفحة 284).

الحركية السياسية الشيعية
انبثقت الحزبية الشيعية من رحم الحوزة الدينية، وتحت عباءة المرجعية، واختارت من أول حركتها أن تتأسس على يد حوزيين ومثقفين مدنيين غير بعيدين عن أجواء الحوزة، واعتبرت نفسها ذراع المرجعية (الفقهية)، ولم يكن انبثاق الحزب الاسلامي الشيعي «محاولة جادة لتجاوز مراكز الإستقطاب المرجعي» (الصفحة 318)، بل كانت تعبيراً عن ضرورة لتكثيف مراكز الإستقطاب هذه، ولذلك ما برحت الحزبية الإسلامية (في واقعها العملي) محتمية بعباءة الفقيه في كل مراحلها. ولم تكن «المحازبة تكشف ابتداء عن المفارقة مع المرجعية النجفية‏(أو) تتخذ أسلوباً متقدماً في الاحتجاج على صيرورة المرجعية» (الصفحة 334). ولاهي «تنتحل لنفسها صفة البديل الجديد، أولاً للقيادة الدينية بتجسيد ذلك عملياً في الحقلين الإجتماعي والسياسي النشطين بطبعهما، وثانياً للمجتمع القائم»، (الصفحة 334) والمشكلة ـ فيما يبدو ـ تنشأ من الاعتماد على التحليلات التي ناهضت الحزبية فيما بعد (انظر: هوامش الفصل التاسع).
ويبدو من خلال أفكار حزب الدعوة إيمانه بالولاية للفقيه في رعاية شؤون المسلمين العامة، وله نظرته في العلاقة مع من يمثل هذه الولاية، ويعتقد بذلك، ولكن السجال الحزبي لم يحسم، ولاتدخل القضية في مسألة (العروبة) و (الايرننة). (الصفحة356).
والملفت في الكتاب أنه اقتصر على نموذجين حزبيين (في العراق حصراً)، ولم يتطرق إلى نماذج أخرى في العراق أو غيره مثل الحركات الإسلامية في إيران (السابقة على الثورة الإسلامية، والتالية عليها مثل: الحزب الجمهوري الإسلامي) أو حركة الشباب المسلم في العراق‏(سبقت حزب الدعوة الإسلامية)، كما لم يتطرق كذلك إلى تجربة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان.

الحوار مع الشيخ شمس الدين
في الحوار مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين أحد عشر سؤالاً حول مباحث تخص الكتاب، طرح خلالها الشيخ شمس الدين افكاره وتصوراته بشأن الدولة الإسلامية في عصر الغيبة، ولم يعتبرها نظرية مقفلة‏«بل هي مشروع تاريخي مطروح للتنفيذ دائماً، ولابد من إقامته (...) والموقف الفقهي من الدولة هو غير الموقف الكلامي من الإمامة» (الصفحة 427). ويرفض القول بالتنكر من قبل فقهاء الإمامية أول أمرهم للدولة بشكل مطلق ويرد عدم اعترافهم بضرورة وجود دولة، مستدلاً بأن كلمات الفقهاء لاتدلّ على ذلك (الصفحة 428).
ويشرح الشيخ شمس الدين في الحوار تضمن مصطلح الجور لبعدين أحدهما يتصل بمفهوم الإمامة، والآخر بمعنى من مخالفة أحكام الشريعة في المجال التطبيقي (الظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي = سوء ممارسة السلطة والخروج بها عن حدود القانون)، ويطرح رأيه في اقامة الدولة في عصر الغيبة كضرورة على قاعدة (ولاية الأمة على نفسها)، حيث تتمكن الأمة من التعبير عن إرادتها بآلية الشورى، وبالتالي يرى أن الفقيه لايمتلك صلاحيات سلطوية، وهو يتمتع بصفة الخبير في الحقل الذي تحتاج فيه الدولة إلى تنقيح الحكم الشرعي. (الحوار في الصفحات 427 ـ 438).

الحوار مع السيد فضل الله
دار الحوار مع السيد محمد حسين فضل الله في ثمانية أسئلة، يدعو خلالها إلى التحرك «لإيجاد دولة اسلامية في نطاق النظرية الإسلامية في الحكم أو من خلال نظرية ولاية الفقيه والشورى» (الصفحة440) ويعتبر أن الواجب تأييد الحكم العادل في الواقع الإسلامي «حتى لو اختلفنا معه في بعض الأساليب والوسائل» (الصفحة 442) ولايرى ان التعامل مع السلطة يعتبر إقراراً بالمشروعية (في حالة الحكم غير الاسلامي): «نحن نتعايش مع الواقع ولانعترف بمشروعيته» (الصفحة 443)، ويؤكد رفضه لفصل الدين عن السياسة «فالسياسة هي قلب الدين (..) لهذا نقول: إن الشعار الذي يقول: ديننا سياسة وسياستنا دين هو شعار دقيق في هذا المجال» (الصفحة 443)، كما يطرح مسألة المزاوجة بين ولاية الفقيه والشورى، ويطرح رأيه الذاهب إلى «ولاية الفقيه الواقعية»: «إننا من الناس الذين يرون الحكم من المسائل الأساسية في الإسلام (...) لأن مسألة الحكم تعيش في النظام. وعلى ضوء هذا فلابد لهذا النظام من شخصية تشرف عليه، وإذا دار الأمر بين الفقيه وغير الفقيه فالفقيه هو المرجّح (...) لانرى أن الفقيه له ولاية مطلقة، بالمعنى الذاتي للمسألة، الفقيه لابد له أن يحكم من خلال برنامجه الفقهي الذي بين يديه» (الحوار في الصفحات 439 ـ 445)
لعلنا في خاتمة المطاف يجدر بنا الإشارة مجدداً إلى الجهد الكبير الذي بذله مؤلف الكتاب، ومهما كان من ملاحظات سقناها في صدد المناقشة فإنها تعبّر في ذات الوقت إلى قيمة العمل الذي أنجزه الأستاذ فؤاد ابراهيم، وربما أن هذا العمل يشكل ريادة على هذا المستوى من المتابعة والصبر والمثابرة.

* باحث قانوني من العراق