د. عبد الكريم سروش
خلاصة: مفهوم الحكومة (والحكومة الدينية) المعاصر اختلف عما نعرفه في التراث الإسلامي القديم بسبب تلاشي الإطار المعرفي - الزمني الذي وُلد وتطور فيه هذا المفهوم. مشكلة الديموقراطية الدينية تكمن في صياغة نظام يجمع بين رضا الخالق والمخلوقين. التوصل إلى تركيب مناسب بين الدين والديموقراطية يتوقف على جمع سليم بين العقل والشرع ورعاية حقوق الإنسان.
مع انتهاء حقبة العلم القديم، وهيمنة العلم الحديث، تغيّر العالم كما تغير مفهومه وطريقة التفكير فيه. حتى القرن السادس عشر، كان المفكرون الأوروبيون يفهمون الكون على ضوء نظرية أرسطو الذي اعتقد أن الطبيعة منظمة طبقاً لمنظومة وظيفية متصلة ببعضها ومتجهة نحو غاية أسمى أو telos حسب التعبير اليوناني، ويقوم فوق هذا النظام كائن أعلى هو مصدر الخلق (الله). كان تغيّر هذه الصورة التيليولوجية هو نقطة التحول إلى ما سُمِّي بالعلم الجديد، الذي نظر إلى العالم نظرة ميكانيكية تفسر الظواهر الطبيعية بما فيها الفكر الإنساني كسلسلة من المقدمات والأسباب والنتائج، بغض النظر عن غرضها أو وظيفتها النهائية. موازياً لهذا التحول الفكري ظهر الإصلاح الديني البروتستنتي الذي رفض فهم العالم كنظام هرمي قائم على رؤية ميتافيزيقية تعرف هوية الأفراد تبعاً لمكانهم في هذا النظام.
تبدو صورة العالم في العلم الحديث كما لو أن هذا العالم ليس من خلق الله. لا يعني هذا بالضرورة أن هذا العلم ينكر وجود الله. بل هو بالتحديد لا يجد ضرورة لافتراض وجوده. بعبارة أخرى، فإنه حتى لو قَبِل فرضية وجود الخالق، فإن أتباع العلم الحديث لا يجدون حاجة إلى وجود الله، فالعلم يوفر لهم الأدوات اللازمة لفهم العالم. لم يقتصر تأثير العلم الحديث على علاقة الإنسان بالطبيعة، بل أثر أيضاً على سلوك الفرد وتوجهات الدولة. في المجتمعات الليبرالية المعاصرة تمارس الحكومات سلطتها كما لو أن الله غير موجود، ويعيش الناس كما لو أن وجود الله أو عدم وجوده سواء. رضا الخالق وإرضاؤه لم يعد موضوعاً للثقافة السياسية أو أخلاقيات الدولة والمجتمعات. كل ما يهم المجتمع هو تحقيق مراداته، وما يهم الدولة هو إرضاء المجتمع الذي تمثله وتحكمه.
بنظرة إجمالية يمكن القول: إن الفارق الرئيس بين الحكومات الليبرالية - الديموقراطية المعاصرة ونظيرتها الدينية القديمة (في عصر سلطة بابوات الكاثوليك في أوروبا كما في عهد الخلافة الإسلامية)، يكمن في غرضها الأول (الحقيقي أو المدعى). كانت الدولة القديمة تدَّعي أن غرضها هو تأمين رضا الله قبل كل شيء، وربما اهتمت بالمخلوقين كوسيلة لرضا الخالق لا كغاية قائمة بذاتها. في المقابل فإن الدولة الحديثة اهتمت أولاً وأخيراً برضا المخلوقين بغض النظر عن خالقهم.
مشكلة الحكومات الدينية الديموقراطية تكمن في هذه النقطة بالذات، أي صياغة معادلة في العمل السياسي تكفل الجمع بين رضا الخالق ورضا المخلوقين، وتوازن بين داخل الدين وخارج الدين (أو الجزء الديني والجزء غير الديني من العالم)، وتنظم سياساتها وأعمالها على نحو يحفظ في الوقت عينه حق الخلق وحق الخالق، ويصون كمال الإنسان وكمال الدين. من الإنصاف القول بأن مهمة هذه الحكومات ستكون أكثر صعوبة وعسراً مما كان معتاداً في الحكومات من النوعين الآخرين.
السؤال الأساسي الذي يلح علينا هنا هو السؤال المتعلق بالله: هل الله موجود أم لا؟ وإذا كان موجوداً فهل له حقوق أم لا، وهل يجب علينا مراعاة تلك الحقوق أم لا؟
* حق الله وحق الإنسان
لو وضعنا حقوق الإنسان وحقوق الله على مائدة واحدة، فلا شك أن شخصاً يحترم حقوق الإنسان سيرى من البديهي أيضاً أن حقوق الله -على فرض وجوده- أهل للرعاية والاحترام. ولن يستطيع هذا الشخص، وهو يسعى في حياته اليومية، أن يغفل هذا الوجود وما يترتب عليه من علاقات وحقوق. حين نفكر في أمورنا من زاوية حقوقية بحتة، فإن حقوق الله ليست أقل حرمة ومكانة من حقوق الإنسان.
ربما لم تغب هذه النقطة البديهية عن أذهان المفكرين العلمانيين. لكنهم رغم ذلك انشغلوا بالبحث في رضا المخلوقين وأغفلوا خالقهم لأسباب محددة، يمكن تلخيصها كما يلي:
1- أن الخالق على فرض وجوده، وعلى فرض أن له حقوقاً خاصةً، قادر كل القدرة على الدفاع عن تلك الحقوق وهو قادر على استيفائها، وليس في حاجة إلى مساعدة الغير كما هو حال البشر الضعفاء والمساكين.
2- لا يستطيع أحد مهما بلغت قوته أن يسلب الخالق حقه أو أن يظلمه (بالمعنى المادي الواقعي للكلمة). وحتى إذا أغفل البشر رعاية حقوق الله، فإنهم مع ذلك غير قادرين على إيذائه أو الإضرار به. ونذكر هذا بالمقارنة مع ضعف الإنسان وما يستدعيه من واجب أخلاقي على أخوته في الإنسانية. فالدفاع عن حقوق الإنسان منبعث من دافع أخلاقي - إنساني يتمثل في حاجة المظلومين والمحرومين الذين ضُيعت حقوقهم أو سلبت، ومثل هذا الأمر غير قابل للتصور أو التحقق إذا تعلق الأمر بالله.
3- الخلاف بين المؤمنين بوجود الخالق ومنكري هذا الوجود، والنزاع حول صفاته وأفعاله واسع وكبير. وبسبب هذا النزاع فقد خرجت مسألة وجود الخالق من دائرة البديهيات واليقينيات التي لا يختلف عليها البشر إلى دائرة المشكوكات وغير المسلمات، عند بعض البشر على الأقل. في هذا الخلاف لم تتصارع العقول بل العقائد، ولم يهتم كل من طرفي النزاع بمناقشة أدلة الآخر نقاشاً عقليًّا محضاً أو محايداً. ولهذا السبب فإنه لم يمكن الوصول بالمسألة إلى حل نهائي أو قريب من حل نهائي قطعي. ومن هذه الزاوية فإن قهر الغير على الإيمان بوجود الخالق أو عدمه كعقيدة قطعية، وإلزامهم برعاية مقتضياته، قد يكون بعيداً عن العدل والإنصاف.
لا يمكن إلزام الجميع بالإيمان بالله الواحد القادر، على نحو واحد وبمعنى واحد. وبالتالي فلا يمكن إلزامهم برعاية حقوقه على النحو الذي نتخيله أو نرغب فيه. إن الطريقة المثلى لحل مثل هذا الاختلاف في الرؤية هو التسامح، بمعنى ترك الفضاء متسعاً وحرًّا للجميع، بحيث يستطيع المؤمنون بالله والمنكرون له التعايش بسلام ومن دون تزاحم أو تنازع فيما بينهم، ويحصلون جميعاً على حقوق متساوية، ولا يفرض أحد على سواه عقيدة أو يجبره على فعل لا يفهمه أو يستسيغه.
4- على فرض وجود الخالق، فإنه لا يمكن معرفة حقوقه على وجه الدقة والكمال. كل دين من الأديان العديدة المختلفة له فهم خاص للخالق يؤمن به ويدعو إليه. وكل من هذه الأديان يرى أن مفهومه هو الحق المطلق أو الوحيد. ترى.. كيف يمكن اختصاص واحد من هؤلاء بالحق الأعلى أو المطلق؟ وكيف نعرف أن هذا حق وذاك باطل؟ وكيف نعرف حقيقة ما يريده الله من كل واحد منا؟ إنها أسئلة يستحيل التوصل إلى جواب واحد لها يتفق عليه جميع أهل الديانات. ومن هنا فإن الطريق المنطقي والأيسر هو العودة إلى أصل الاختيار في الدين، أي جعل الإيمان اختياراً للأفراد لا يحق للدولة أن تفرضه بالقوة أو القانون. بعبارة أخرى، أن تتحاشى الحكومة اتخاذ دين رسمي تفرضه على الناس رغماً عنهم. وهذا يتطلب أن تفصل الحكومة بين ما هو وظيفة عامة لها وما هو شأن خاص وشخصي للأفراد. وظيفة الحكومة طبقاً لهذه الرؤية هي إدارة المصالح العامة للمجتمع ورعاية الحقوق المشتركة بين المواطنين. أما الشأن الديني وحياة الأفراد الشخصية فهما خارج هذا النطاق، ويجب أن تترك للأفراد يمارسونها وفق ما تهديه إليه عقولهم وما يؤمنون به من دون جبر أو إلزام. وحتى لو أردنا معرفة أي دين هو الحق وأي دين هو الباطل وما هي حقوق الله، فليس للحكومة أيضاً أن تنحاز إلى جانب محدد، بل ينبغي لها أن تقف دائماً على الحياد، فتضمن حرية النقاش العقدي للجميع، من دون خلط بين الدين وبين مراداتها أو ميولها السياسية.
5- فوق ذلك كله، فإن الدين يجب أن يكون إنسانياً. جميع الناس وغيرهم من الخلائق مخلوقون لله سبحانه. وعلى المنوال نفسه فإن الدين مُنَزَّل للناس، لهديهم وخدمتهم ورفعتهم. الدين الذي يستحق الإيمان والاتباع هو الدين الذي تتجلى فيه تلك الأوصاف السامية التي نتصورها عن علاقة الخالق بالخلق، والصفات التي نتصورها في الإنسان لحظة كماله واتصاله بربه. ومنها أن يكون عادلاً، فطريًّا، حقًّا، وإنسانياً. ينبغي أن تتجسد وتتضح هذه الصفات كخواص وأغراض في كل حكم من أحكام الدين. فهذه ليست صفات تجميلية أو تكميلية بل هي معايير وضوابط أساسية يترتب عليها الوصف الديني للحكم أو التشريع، بمعنى أن أي حكم ديني يجب ألَّا يتعارض عند تطبيقه في الواقع الخارجي مع مفاد تلك المعايير وتمثلاتها، وإذا تعارض فإنه يفقد قيمته الدينية.
بناء عليه فإنه لا يصح إلزام أحد بتبني عقيدة أو القيام بفعل ضد الإنسانية أو ضد الحقيقة أو ضد العدالة. كما لا يمكن تبرير هذا الإلزام على أرضية الدين أو التاريخ أو باسم الله أو الأمة. ومن هذا نفهم أن تشخيص الوجه الإنساني من الدين مقدم على تشخيص وجهه الرباني. ومن حق البشر أن يرفضوا أي دين غير إنساني، بل من حقهم نفي صفته السماوية بناء على كونه غير إنساني. هذا أمر بديهي لأن الله سبحانه أراد الدين للإنسان ولم يرده لنفسه فهو غني عن الناس وعن دينهم.
6- لأنه لا يصح الاستدلال بما هو ثابت على ما هو مطلوب (بمعنى أن إثبات الشيء لا يثبت بالضرورة القول بإلزامات تترتب عليه)، فإنه لا يصح أيضاً تعريف وتعيين حقوق الناس بناء على قدراتهم أو أوضاعهم الفعلية، لأن هذا سيقود إلى العنصرية وأشباهها. تعريف وتعيين حقوق الإنسان يتوقف على واحد من طريقين: إما الاعتماد على مقاصد الخالق من خلق البشر، وإما تحديد البشر أنفسهم لغايات حياتهم وما يستطيعون إنجازه فيها. وفي كلا الحالين فإن عليهم تحديد الوسائل والمستلزمات الضرورية لنيل تلك المقاصد والغايات.
حينما نتحدث عن «حقوق طبيعية» للإنسان، فإن ما نعنيه على وجه التحديد هو أن احترام هذه الحقوق سوف يجعل حياة الإنسان أكثر إنسانية وأكثر عقلانية، وسوف يوفر للبشر الأمان والرفاهية والازدهار. هذه الغايات أي العدل والرفاه والتحرر من التمييز والجدل والتعصب والتقاتل والجهل والجوع والجور، هي غايات عقلائية بمعنى أن القبول بها كمسلمات هو نتاج لتجربة البشرية طوال تاريخها المتمادي. لقد ثبت صلاحها وضرورتها للإنسان بالتجربة المتكررة في أزمان مختلفة وأمكنة عديدة أوصلت البشرية إلى اعتبارها بديهيات لا يجادل فيها عاقل. ومن هنا فإنها لم تعد مورد جدل، كما لم يعد ممكناً نفيها بالاعتماد على أي تبرير عقلي ولا إغفالها أو التهوين من شأنها بالرجوع إلى بعض الدوغماءات الدينية. لقد عانت البشرية الكثير من الآلام وأريقت أنهار من الدماء بسبب التعصبات الطائفية والحروب الدينية والنزاع على إثبات حقانية هذا الدين أو ذاك أو للسيطرة على هذه القرية أو تلك. بعد هذه التجربة المريرة وصلت البشرية إلى النقطة التي نتحدث عنها اليوم، أي الاقتناع بأن الطريق الوحيدة لضمان حياة إنسانية سليمة، هو التراضي والتوافق فيما بينهم على اعتراف كل طرف بوجود الآخر وحقوقه المتساوية، والقبول بما يترتب على تلك الحقوق من واجبات لكل منهم على الآخر. وألَّا يُستهان بقيمة إنسان أو تنتقص حقوقه أو تؤجل بسبب اختلاف لونه أو عقيدته أو عرقه أو انتمائه أو ثقافته. إنسانية الإنسان، أي طبيعته الأولية كفرد في الجماعة الإنسانية، هي مبرر كافٍ كي ينال شريحة معينة من الحقوق التي وصفناها بـ«الحقوق الطبيعية» بغض النظر عن دينه أو عرقه أو لونه أو طبقته الاجتماعية أو مستوى معيشته أو البقعة التي ينتمي إليها.
7- تقتضي العدالة أن ننظر إلى التكافؤ بين الناس كحق مكتسب. يولد كل الناس متساوين متكافئين، فلا يحضى شخص بميزات أو حقوق استثنائية أو زائدة عن غيره لمجرد ولادته في عائلة معينة أو انتمائه إلى دين أو قوم أو أرض معينين. خلافاً لما يتبناه دعاة التفوق العنصري وبعض القوميين والمتدينين الذين يخصون أنفسهم بحقوق ثابتة مبررها الوحيد هو انتماؤهم إلى ذلك العرق أو القوم أو الدين، وينظرون إلى أنفسهم كجماعة متفوقة على سائر الناس، ويدَّعون لأنفسهم حقًّا في معاملة الآخرين معاملة ينقصها الإنصاف، وينكرون تكافؤ غيرهم معهم أو حقه المساوي لحقهم في اختيار دينه أو جنسيته أو زوجه أو نمط حياته... إلخ.
8- تدل التجربة التاريخية على أن الفكر الديني بشكل عام، والواجبات الدينية بشكل خاص، قد شهدت تغييرات وتحولات كثيرة على يد المفكرين الدينيين والقادة الروحانيين. في يوم من الأيام قررت الكنيسة إعدام الملحدين ومنكري الدين حرقاً بالنار. في يوم آخر رفض علماء المسلمين تولي النساء للمناصب السياسية أو مشاركتهن في المجالس التشريعية، وهذه الأمثلة وأمثالها كثير في كل الديانات. لكن هذه الأفكار تغيرت اليوم في الجوهر والمبررات. وسوف تأتي الأيام القادمة بتغييرات في غيرها من الأفكار والأحكام. ولهذا السبب فإنه لا يمكن اعتماد مثل هذه الآراء المتغيرة كأرضية وأساس لحقوق الله وحقوق والناس، ولا يمكن لنا أن ندعو الناس أو نلزمهم بمراعاتها أو القبول بها كمبررات ثابتة أو نهائية.
* عالم الشك وعالم اليقين
تلك الأدلة هي أدلة إنسان اليوم الذي يفتقر إلى اليقين. لكنه مع ذلك لا يستحق الملامة. التطورات التي جاء بها العصر الحديث تشبه طوفاناً عصف بالثقافة والمعتقدات في الغرب. العلم والفلسفة والتكنولوجيا فجّرت زلزالاً في داخل عقل الإنسان. ظهور النسبية التاريخية ولَّد أمواجاً هائلة في الفكر الإنساني، فتسارع ظهور النظريات العلمية والفلسفية وانطفاؤها حتى ضاق العالم بما يرد إليه من أفكار جديدة ومتعارضة كل يوم، ولم يبق متسع لثابت أو يقين. نحن اليوم لا نشعر بالأسف لتلك الأمواج الهائلة التي عصفت بالفكر الإنساني، وغيرته ولا زالت تغيّر فيه كل يوم، لأننا نفهم أن ذلك التغيير المتواصل هو الذي سمح بتقدم البشرية وتطورها. ولو لم يتسامح الناس مع التغيير ويقبلوا به، لكنا نعيش اليوم في المستوى نفسه وعلى المنوال ذاته الذي عاشه أسلافنا قبل قرنين أو ثلاثة. التحولات التي خضعت لها الأحكام الدينية والرؤى والأفكار الجديدة التي ظهرت في هذا المجال هي مثال آخر على التحول في مجال العلوم والفكر الإنساني بعامة. ولم تكن ممكنة لولا التسامح الذي أظهره المسملون تجاه التغيير، أي التخلي عن حكم قديم واتخاذ بديل له لأنه أصح أو أصلح «في هذا العصر» من سابقه الذي ينتمي إلى «عصر سابق». التسامح في العقيدة هو الابن الشرعي لقبول احتمال الخطأ في المعرفة العلمية، كما أن منهج التخطئة هذا هو الذي أطاح بالتوجهات الجزمية التي كانت رائجة فيما مضى.
تفاوت العالم الجديد مع العالم القديم إذن، هو تفاوت بين اليقين واللايقين. هذا التفاوت هو نفسه الذي جعل «إنسان العصر الجديد» في مجلس أعلى من العقيدة بعد ما كان مجلس «إنسان العصرالقديم» على الدوام أدنى منها. في الماضي كان الناس يُقتلون من أجل عقيدتهم كما يقتلون الآخرين من أجلها، أما إنسان اليوم فهو يعتبر قتل الناس من أجل عقائدهم عملاً بربريًّا يتنافى مع إنسانية الإنسان وحقوقه الطبيعية.
بطبيعة الحال فإن المبررات السابقة لا تتنافى أو تهوِّن من حق أي فرد في الإيمان ولا تعيب تبنيه لمعتقدات معينة باعتبارها يقينيات. فضلاً عن ذلك فإن التجاوز الذي تنطوي عليه إزاء المسألة شديدة الأهمية المتعلقة بالله ورضاه وحقوقه هو أمر غير مقبول من جانب المؤمنين. ومن هذه الزاوية فإنها قد تفيد أولئك الذين ينظرون في الدين من خارجه، أو الذين لا يزالون في مرحلة البحث والتحقيق ولم يصلوا إلى درجة الاعتقاد القلبي بدين معين، أو أولئك الذين يعيشون حياة غير دينية في مجتمع ملتزم كليًّا بالدين. أما بالنسبة للمؤمنين بأحد الأديان، أو أعضاء مجتمع متدين ملتزم بأحكام ومقولات دينه، وغير مهتم بالنظر في مناقشات غير المؤمنين، فإن تلك المبررات والأدلة لا فائدة من ورائها. أتباع الديانات والمؤمنون من أصحاب اليقين يرون في حقوق الإنسان نقطتين جديرتين بالتأمل:
الأولى: أن حرية العقيدة (الإيمان والدين) هي حق أولي وثابت للإنسان. ونعرف أن العقيدة متلازمة على الدوام مع اليقين. واليقين النظري يتبعه دائماً الحسم في العمل الذي يظهر أحياناً في شكل الجهاد وأمثاله. لكن مقتضيات اليقين العقدي (أي ما يترتب عليه من حسم عملي) ليست مقبولة عند دعاة حقوق الإنسان، وهو أمر يصعب على المؤمنين هضمه. يمكن بطبيعة الحال إيجاد تسوية من قبيل القول: إن المبادئ الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تحترم حرية العقيدة المرنة دون العقيدة اليقينية. وهذه توصية قد تستحق السماع لكن ليس مؤكداً أنها ستقبل من جانب المؤمنين.
الثانية: تحويل الحكومة الدينية إلى ديموقراطية - دينية، قد تعني عند بعض الناس غسل اليد من اليقين الديني، والتسليم بالأدلة والمبررات القائمة على أرضية عدم الإيمان. إذا كان هذا المفهوم صحيحاً فإن قبول المؤمنين بمثل هذه الحكومة أمر مستحيل. بعبارة أخرى فإن غسل اليد من رضا الخالق وتكريس الاهتمام كله على رضا المخلوقين، يساوي تماماً غسل اليد من الحكومة الدينية وتبديلها إلى حكومة علمانية وغير دينية. بطبيعة الحال فهذا ليس بالأمر الذي يسعد المؤمنين أو يرضيهم. كيف نقول بحق الإنسان في تبني ما يراه من يقين، ثم نطلب منه ألَّا يعمل بمقتضيات هذا اليقين وألَّا يحترم مؤدياته ومتطلباته؟ هذه التعارض يكشف لنا أن قبول منظومة مبادئ حقوق الإنسان المعروفة في العالم ليس بالأمر السهل في حكومة دينية. مشكلة أي حكومة دينية تكمن في أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان صيغ على أرضية مفهومية وضمن بيئة معرفية - اجتماعية لا تهتم بالدين، أو لعل واضعيه افترضوا أن المخاطبين بمضمون هذا الإعلان يعيشون جميعاً في مجتمع غير ديني، أو لا يهتمون بحقوق الخالق. من هنا فلن يكون من السهل على هذه الحكومة تكييف نفسها مع مباني وبنود ذلك الإعلان. التفاوت في لغة الحكام الدينيين من جهة، ودعاة حقوق الإنسان من جهة أخرى، ناشئ من إحساس أولئك بأن الدعوة إلى الديموقراطية الدينية ستقود في نهاية المطاف إلى تخلي الحكومة الدينية عن الدين، وتجريد المجتمع من الدين، وإعادة تأسيس مبانيه على قواعد اللاإيمان، ولهذا فهم يرجحون أن يبقوا غير ديموقراطيين إذا كان هذا ضروريًّا للاحتفاظ بدينهم.
لا ينبغي فهم ما قلناه كملازمة بين المحافظة على الدين وإنكار حقوق الإنسان. ما أردنا إيضاحه هو أن نمط التدين المتعارف لا يتوافق تماماً مع المبادئ المعروفة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. لكن هذا التدين يمكن أن يتوافق تماماً مع مفهوم آخر أو منظومة مبادئ أخرى لحقوق الإنسان تقوم على أرضية دينية أو على الأقل لا تتجاهل الدين. هذا التفارق بين التدين المتعارف وحقوق الإنسان راجع إلى تفاوت في تعريف الإنسان. يوفر كل دين تعريفاً محدداً للإنسان، ويشتق منه تعريفاً مماثلاً لحقوق هذا الإنسان. استبدال مفهوم حقوق الإنسان يستلزم أولاً استبدال تعريف الإنسان، وهذا ليس بالأمر اليسير. كمثال على ذلك فإن التعريف الديني يعتبر الدين حاجة للإنسان، بينما يُعتبر هذا الإنسان في التعريفات الأخرى مستغنياً عن الدين. من هنا نستطيع تفهّم دواعي قلق العلماء والحكام الدينيين من التعريفات الجديدة لحقوق الإنسان وإعراضهم عنها. إذ ليس من اليسير الجمع بين المنظومة المعاصرة لحقوق الإنسان وبين التعريف التقليدي للإنسان، بل قد يؤدي هذا الجمع إلى إضعاف أو تفكيك الفهم الديني التقليدي.
لكن المسألة لا تنتهي عند هذه النقطة. إذا كان مقصود الكلام هو تقرير أن مجتمعاً غير ديني لا يستطيع إقامة حكومة ديموقراطية دينية، أو أن الحكومة الدينية لا تستطيع ضمان رضا المخلوقين، فالكلام قد يكون في محله. من البديهي أن حكومة ديموقراطية غير دينية هي الأنسب لمجتمع غير متدين. أما إذا كان مقصود الكلام هو أن حكومة ديموقراطية دينية غير ممكنة في أي وقت وبأي صورة، حتى في مجتمع ديني، فإن هذا الكلام محل شك وتردد. نحن نزعم أن بالإمكان إقامة حكومة ديموقراطية دينية في مجتمع ديني. بل إنها الخيار المنطقي الوحيد. الحق أن الحكومة الدينية لا بد أن تكون مسبوقة بمجتمع ديني وأن تقوم على أسس تناسبه وتتناغم مع قناعاته. في مثل هذا المجتمع فإن أي حكومة غير دينية هي بالضرورة غير ديموقراطية لأنها لا تعكس ثقافته وهويته ولا تمثل همومه وتطلعاته. الفرضية الأولى إذن هي أن الديموقراطية الدينية مشروطة أولاً بكون المجتمع متديناً. أما كون الحكومة «الدينية» ديموقراطية أو استبدادية، فهذا يتوقف على عاملين إضافيين: أولهما مقدار اعتمادها على العقل الجمعي للشعب في صناعة سياساتها، والثاني مقدار احترامها لحقوق الإنسان الطبيعية والتعاقدية.
* التوفيق بين العقل والشريعة
يمكن تصور الجمع بين الديموقراطية والدين كواحد من النماذج التاريخية للتوفيق بين العقل والشرع، وكل نجاح يتحقق على المستوى النظري في هذا السبيل سوف يتجلى في ميدان العمل.
فهم الدين يحتاج ضرورة إلى معارف من خارج دائرة الدين. هذا أمر لا يمكن لعلماء الدين إغفاله كما لا يستطيعون إغفال ضرورة الموازنة بين داخل وخارج الدين (أي المكون الديني والمكون العرفي والعقلي للعالم). ويرجع هذا إلى حقيقة أن شريحة من الأوصاف التي ننسبها إلى الدين مثل كونه حقًّا وكونه عادلاً وإنسانيًّا... إلخ تستكشف وتشخص خارج الدين (ولو اعتمدنا حصراً على التعاريف والتشخيصات التي من داخل الدين فسيكون ذلك من نوع الدور أو المصادرة على المطلوب. من ناحية أخرى فإن الأدلة التي تُقدَّم لإثبات حقانية الدين وعدله هي جميعاً أدلة عقلية بشرية، لا مُنزَّلة أو منصوصة، ولو كانت كذلك للحقها الإشكال السابق. من ناحية أخرى فإن هذه الأدلة «البشرية العقلية» مؤثرة جميعاً في فهم الدين. ولهذا فإنه من غير المناسب واللائق بالالتزام الديني إغفال الأحكام العقلية مطلقاً أو التهوين من خطر التنافر بين الفهم الديني وأحكام العقل. هذا العقل هو الذي يثبت حقانية الدين وعدالته وإنسانيته (ولولا هذا الإثبات لما كان الدين مقبولاً)، هذا العقل نفسه ينهض بمهمة فهم تعاليم الدين. وهو إذ يقوم بهذه المهمة، لا يتوقع منه ولا يصح له أن يمارس دور المتفرج أو المصفق، فيقدّم أوصافاً ويصطنع تبريرات لأحكام دينية منفصلة عن، أو متعارضة مع الأوصاف التي نسبها سلفاً إلى الدين، مثل العدالة والحق والإنسانية وغيرها. إذا قَبِل العقل بهذا التعارض وأمضاه وبرره، فهو يقوض الأرض التي يقف عليها. ولهذا يمكن القول بأن تطوير الحكومة الدينية إلى ديموقراطية دينية، يتوقف على شرط أولي هو تسييل الفهم الديني عن طريق تعزيز وتعظيم دور العقل فيه. ولا نقصد هنا العقل الفردي، بل العقل الجمعي الحاصل من المشاركة العامة لجميع المواطنين، فضلاً عن الاستفادة من تجارب البشرية. وهذا أمر لا يتيسر إلا من خلال الطرق الديموقراطية.
الحكومات الديموقراطية هي الحكومات التي تجعل العقل الجمعي حكماً في النزاعات ووسيلة إلى حل المشكلات. أما الحكومات الدينية فهي التي تجعل الدين هو الحكم. كما أن الحكومات الديكتاتورية هي التي تفوّض الحكم وحلّ النزاعات إلى شخص الحاكم من دون مشاركة الشعب أو تحكيم الشرع. من المفهوم إضافة إلى ما سبق أن الدين (أي النص المنزل من السماء) لا يقوم أبداً بدور الحكم، بل الحكم على الدوام هو فهم للدين مستمد من جهد عقلي. حين يسعى العقل لفهم الدين فإنه يقوم في حقيقة الأمر بتنسيق وملاءمة فهمه الخاص للنص أو الموضوع مع بقية الأفهام، أي مفهوم الآخرين لذلك النص أو موضوعه. وقصة العبودية هي الدليل الناطق على هذا المدعى. يسعى علماء المسلمين اليوم بشتى الطرق لنفي تهمة الاستعباد والرق عن الإسلام ويجادلون بأن هذا الأمر متعلق بمرحلة زمنية خاصة، أو أن إلغاءه دفعة واحدة لم يكن ممكناً، أو أنه كان رد فعل على استرقاق الآخرين وما أشبه ذلك من الاحتجاجات. كل هذه التوضيحات تحتمل معنى واحداً فقط وهو أن هؤلاء العلماء قد استوعبوا حقيقة أن العبودية لا تنسجم مع حقوق الإنسان وكرامته، ولهذا فهم يسعون إلى نفي ما يعتبرونه «اليوم» تهمة للدين الحنيف. هذا الفهم «الجديد» للدين هو ثمرة التواصل مع العالم، فهم الدين ليس انشغالاً بالنص في عزلة عن العالم، بل محاولة للتوفيق بين ما يفهمه منه وما هو مفهوم ومقبول عند العرف العام على المستوى المحلي أو العالمي. على النسق نفسه يمكن القول: إن مجتمع المتدينين قد حصل على إدراك أفضل وأكمل وأصح عن مسألة الخالق نتيجة للمجادلات العقلية. مثل هذا الإدراك والفهم لا بد أن يؤثر بصورة مباشرة على نمط الحياة والحكومة. الرب المستبد هو أقوى دليل ومبرر للحكومات المستبدة، والعكس بالعكس. نتيجة هذا الكلام تتلخص في أنه لا ينبغي اتخاذ اليقين الديني مبرراً لتعطيل أو إغفال الحاجة إلى تجديد فهم الدين أو الاجتهاد فيه. من ناحية أخرى فإن تجديد الفهم هذا يتوقف على معارف خارج إطار الدين.
على المنوال نفسه فإن تحويل الحكومة الدينية إلى دينية - ديموقراطية لا يستدعي أبداً أن تنفض يدها من دينها، ولا أن تدير ظهرها لرضا الخالق. كي تكون الحكومة دينية فهي بحاجة إلى جعل الدين هادياً وحكماً في المشكلات والمنازعات. وكي تكون ديموقراطية فهي تحتاج إلى تسييل الفهم الاجتهادي للدين بالتلاؤم والتناغم مع أحكام العقل الجمعي. كي تكسب رضا الخالق فهي بحاجة إلى المحافظة على درجة عالية من الحساسية إزاء الدين، والسعي لفهمه على نحو أصح وأكثر إنسانية والسعي لهداية الخلق وفقاً له. هذه الطريق تستبعد الليبرالية أما الديموقراطية فسوف تندمج مع التدين العاقل، وسوف يحتضنهما معاً العقل الجمعي. التدين والعقل هما إذن الاساس الذي تقوم عليه الديموقراطية الدينية.
* حقوق الإنسان
يمكن لحكومة دينية - ديموقراطية أن تُؤَمِّن مستوىً رفيعاً من حقوق مواطنيها الإنسانية. لكن لا بد من الالتفات إلى النقاط الثلاث الآتية:
الأولى: أن البحث في حقوق الإنسان ليس بحثاً دينياً أو فقهيًّا تماماً، بل هو بحث كلامي - فلسفي. والأهم من ذلك أنه بحث سابق للدين، أي أنه مثل البحث في الحسن والقبح والجبر والاختيار والتوحيد والنبوة، مقدم على البحث في الفهم الديني وقبول الدين، ومن هذه الزاوية فهو مؤثر في فهم وقبول الدين. بالنظر لكونه بحثاً خارج إطار الدين، فإن القبول بمفهوم معين لحقوق الإنسان يترتب عليه قبول بالدين الذي يقبل هذا المفهوم، كما أن رفض ذلك المفهوم يقود طبعاً إلى رفض الصيغة الدينية التي ترتبط به. إن تقديم البحث في حقوق الإنسان على البحث في الدين سيقود إلى بحث فوق ديني يتحكم إلى حد كبير في تحديد الصيغة المقبولة من الدين. لو أخذنا مثال المتكلمين فإن كل رأي يختارونه في باب الحسن والقبح والجبر والاختيار، سوف يستعملونه ضرورة في فهم الدين، حتى أن آراءهم في هذا الباب قد تقود أحياناً إلى معرفة كلامية (حول الله والعقيدة) غريبة عن المعارف والأفهام السائدة والمألوفة.
كما أسلفنا فإن عدالة الدين وإنسانيته شرط للقبول به، بمعنى أن الدين الذي لا يهتم بالحقوق الإنسانية (ومن بينها الحاجة الإنسانية للحرية والعدالة)، لا يمكن قبوله. بعبارة أخرى فإنه لا يكفي أن يكون الدين حقًّا من الزاوية المنطقية، بل لا بد له أن يكون حقًّا من الناحية الأخلاقية أيضاً. ولهذا فإن البحث في حقوق الإنسان ليس بحثاً تجميليًّا أو إضافيًّا كي نؤجله. وليس بحثاً ملوثاً بالكفر كي نستغني عن طرحه أو نعرض عن بحثه وشرحه. ولا هو من الأحكام الفرعية كي نبحثه على ضوء القواعد الفقهية المتعارفة، ثم نعرض الحكم الذي نرجحه له غير عابئين بالاحتجاجات العقلية والأخلاقية وفوق الدينية. ينبغي ألَّا ننزلق إلى التوهم بأن الفتاوى والأحكام الشرعية الفرعية في باب حقوق الإنسان يمكن استنباطها من المتون وأصول التشريع الأولية، ذلك أن الفقه متأثر بالتأسيس العقلي «الكلام» الذي يقوم عليه. وينبغي أن تكون الأسس العقلية (المبادئ التي تقع خارج الدين) التي تقوم عليها الأحكام منقحة ومصححة، فمن دون ذلك سوف لن تكون الأحكام ثابتة راسخة أو واضحة ومتناغمة. كما أنه ليس من السهل كشف عيوب الأسس العقلية من داخل المباحث الفقهية، بل لعل هذا التوجه يقود في نهاية المطاف إلى حصر التركيز على الداخل والعمل بناء على مقدمات غير متينة، فيشغل الباحث بالموضوع عن مجادلة المقدمات التي هي بمثابة مسلمات وفرضيات أولية سابقة عليه.
الثانية: تنشغل الحكومة الدينية بهموم داخل الدين، كما تنشغل الحكومة الديموقراطية بهموم خارج الدين. ولكي تكون الحكومة جامعة للجانبين، أي ديموقراطية دينية، فعليها أن تجمع بين هموم داخل الدين وهموم خارجه. وما لم تُؤَمِّن تعادلاً وتفاعلاً مقبولاً عقلاً بين هذين الطرفين، فإنها لن توفي بأي من الركنين الديموقراطية أو الدين. أن تكون مهمومة هو أمر مختلف عن التسليم المحض. كلامنا لا يعني أن كل ما قاله المعاصرون في باب حقوق الإنسان هو عين الحق والعدل، أو أنه منزه عن النفاق والتزوير. ما نقوله هو أن المجتمعات الدينية، بحكم كونها دينية، محتاجة إلى مثل هذه الأبحاث. وإذا كان حديث السابقين قد دار حول الجبر والاختيار وتكليف ما لا يطاق، ووجدت هذه النقاشات موافقين ومخالفين. وكانت هذه النقاشات ومقبولة ورائجة من قبل المجتمع المسلم بدافع من غيرته على الدين، فإننا اليوم محتاجون، وبالمقدار نفسه إلى البحث فوق الديني حول حقوق الإنسان في المجتمع المسلم. ويجب أن نعتبر هذا البحث مباركاً ومحترماً وذا قيمة، وأن ننظر إلى المدافعين والمنادين والعاملين فيه -من أجل رضا الله- بعين التكريم وأن تُقبل آراؤهم من جانب الحكومة وأن تأخذ طريقها إلى ميدان العمل والتطبيق.
إذا كانت إنسانية الدين شرطاً لحقانيته، فإنها أيضاً شرط لمشروعية الحكومة الدينية؛ ولهذا فإن مراعاة حقوق الإنسان (من قبيل الحرية والعدالة... إلخ) ليست فقط معياراً لديموقراطية الحكومة بل أيضاً معيار لدينيتها.
الثالثة: القول بأن الاهتمام بحقوق الإنسان هو مولود الليبرالية ينطوي على جهل بالليبرالية كما ينطوي على ظلم للدين. ذلك أن الليبرالية تتخذ مجلساً يتجاوز هذا المكان بينما يتخذ الدين مجلساً أدنى منه. لا الليبرالية تستوفي جميع حقوق الإنسان ولا الدين غريب عن هذا المفهوم. صحيح أن البحث في حقوق الإنسان بالمعنى الجديد الذي نتداوله اليوم ظهر ابتداء بين أولئك الذين لا يلتزمون بالدين ولا يهمهم إرضاء الخالق، أو لا ينظرون إلى الدين كمصدر للقيم والمعايير. ولهذا السبب فقد اقتصروا على المصادر غير الدينية في بحثهم. لكن هذا شيء ودعوى أن حقوق الإنسان مولود لليبرالية وغريبة عن الدين شيء آخر. نحن نعلم أن بعض المتدينين قد عارض مبادئ حقوق الإنسان، لكن هذا الموقف قابل للتفهم والتبرير -رغم أننا لا نقبله تماماً-. ولعله يرجع إلى شعورهم بالاستغناء بالمنظومة الأخلاقية التي عندهم عن أي منظومة جديدة أو فلسفة للأخلاق مستحدثة. ولعلهم ظنوا أن الالتزام بمنظومة الواجبات والحقوق الدينية كفيل بصيانة جميع الحقوق التي قال بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. مثل هذا الاحتمال كان كافياً ربما لغض النظر عن البحث في فلسفة حقوق الإنسان الجديدة. نضيف إلى ذلك أن لغة الدين والفقه هي في الأساس لغة تكليف وليست لغة حق. الشخص المتدين يفكر في تكاليفه قبل أن يفكر في حقوقه. وهو منشغل بما يريده الله منه قبل أن يهتم بما يريده هو. بعبارة أخرى فإنه يبدأ بالتأمل في الواجبات والتكاليف الملقاة على عاتقه، كي يتعرف من خلالها على حقوقه المفترضة، بدل أن ينظر في حقوقه كي يفرز منها وفي مقابلها واجباته. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يتحدث عن واجبات مسبوقة بحقوق، بينما يتحدث الفقه عن تكاليف وواجبات تترتب عليها حقوق. هذا المفهوم قد يؤدي غالباً إلى تبريد حساسية الإنسان المتدين إزاء حقوقه مقارنة بالتكاليف والواجبات. لكن هذا الأمر لا يتنافي بأي صورة مع الربط بين التدين ومراعاة حقوق الإنسان، ولا يدل أبداً على ما يدعيه البعض من تماثل بين مراعاة حقوق الإنسان والتسليم بالليبرالية.
تتلخص هذه المناقشة إذن في أن الحكومة الدينية، المنبعثة من المجتمع الديني والمعتمدة عليه، قادرة على التحول إلى ديموقراطية - دينية. لكن هذا مشروط بتأمينها لرضا المخلوقين مع رضا الخالق معاً، ووفائها لخارج الدين وداخله معاً، وعرفانها لحرمة العقل والأخلاق السابقة على الدين، بقدر عرفانها لحرمة العقل والأخلاق المسبوقة بالدين. ومع حفظ التوازن والتعادل بين الاثنين سنحصل على تلك الكيمياء التي يعتبرها البشر -بسبب غفلتهم- غير قابلة للإيجاد أو غير مرادة.