د. إبراهيم أعراب ([1])
الكتاب: نحن والتنوير: عن الفلسفة والمؤسسة ورهانات التنمية والتحديث وتكوين الإنسان في أفق الألفية الثالثة.
المؤلف: الدكتور مصطفى محسن.
الناشر: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت.
الصفحات: 159 صفحة من الحجم الكبير
سنة النشر: الطبعة الأولى، 2006م.
في إطار مواصلة تأليفه وبحوثه الهامة في ميادين علم اجتماع التربية والثقافة والتنمية صدر مؤخراً للكاتب والباحث السوسيولوجي الدكتور مصطفى محسن كتاب جديد تحت عنوان: نحن والتنوير: عن الفلسفة والمؤسسة ورهانات التنمية والتحديث وتكوين الإنسان في أفق الألفية الثالثة.
ويتمحور المضمون العام للكتاب، أساساً، حول إشكالية العلاقة المعقدة بين الفلسفة والمؤسسة، تربوية كانت أو اجتماعية بشكل عام، وما اتسم به تاريخ هذه العلاقة من أنماط الصراع أو التجاذب أو التداخل أو التوظيف أو الاحتواء أو تبادل في المهام والمواقع والأدوار... كما يؤكد على دور الفلسفة في تحرير العقل وتكوين >الإنسان/ المواطن/ الفرد< المستنير، الدعامة المفصلية لكل تنمية أو حداثة.
ويضم الكتاب محاور أساسية هي:
تصدير عام: نحو فلسفة مدرسية للتنوير والتحديث في أفق الألفية الثالثة.
الفصل الأول: الفلسفة والمؤسسة: مساهمة في التحليل السوسيوتاريخي لتحولات العلاقات والأدوار.
الفصل الثاني: الفلسفة والتنمية و"مشروع الإنسان": نحو مقترب سوسيولوجي لـ"الدلالة الاجتماعية" لطبيعة حضور مفهوم "الإنسان" في الخطاب الفلسفي المدرسي.
الفصل الثالث: الفلسفة والمؤسسة التربوية ومهام التنوير والتحديث في زمن العولمة: تحديات ورهانات.
بيبليوغرافيا انتقائية عامة: وتضم جرداً غنياً لعدة مصادر ومراجع فكرية قيمة.
في التصدير العام للكتاب يوضح المؤلف أن موضوع كتابه -الذي هو في الأصل صيغة معدلة لمجموعة من المداخلات التي ساهم بها ضمن بعض اللقاءات العلمية- يتمحور، كما أسلفنا، حول معالجة "إشكالية العلاقة المعقدة بين الفلسفة والمؤسسة، تربوية كانت أو اجتماعية...". وذلك من منطلق التأسيس، في الفكر التربوي والفلسفي العربي، لمقاربة سوسيولوجية تحليلية ونقدية لرهانات وأبعاد ومضامين وخطابات الفلسفة المدرسية والجامعية تحديداً. ويندرج هذا النوع من الدراسة، كما يقول الباحث/ المؤلف، ضمن المجال التخصصي العالم لـ"سوسيولوجيا التربية"، التي تهتم عادة بمقاربة الأوليات والأبعاد والدلالات الإيديولوجية والسياسية والاجتماعية... للمؤسسات والظواهر والعلاقات والممارسات التربوية... في إطار ترابطها أو تبادلها الجدلي مع كافة مكونات ومجالات السياق المجتمعي العام الذي تنتمي إليه.
وكما ذكَّرنا بذلك آنفاً، فإن الكتاب موضوع هذا التقديم، يتكون من مجموعة دراسات قدمها الباحث في مناسبات فكرية، وطنية ودولية مختلفة. إلا أن القاسم المشترك الذي يجمع بينها -كما يقول الكاتب- هو انهِمَامُها كلها بالمعالجة النقدية للإشكالية المركزية في الكتاب: علاقة الفلسفة بالمؤسسة، بما تطرحه من إشكالات وقضايا وتساؤلات... وخاصة تلك القضية الأولى التي تشغل النخبة العربية حالياً، ألا وهي قضية التحديث أو التنمية، وكيفية إنجاز المشروع الحداثي والتنويري العربي، ودور ومساهمة الفكر الفلسفي في هذا الإنجاز.
ولم يخفِ الباحث، وهو يعرف بموضوع مؤلفه، موقفَه المبدئي الداعم والمنتصر للعقلانية والحداثة ومشروع التنوير... وضَمَّنه دفاعه عن الفلسفة ووجودها ضدًّا على منتقديها ممن يهاجمونها من ذوي النزعات التقنوية أو العلموية الضيقة... ممن يرفعون شعار "موت الفلسفة أو نهايتها" في زمن العولمة بكل إكراهاتها وتحدياتها وثقافتها ونظامها الدولي الجديد... (ص ص: 109 - 143).
وعلى النقيض من هذا الخطاب المتهجم على الفلسفة والمعتمد في خلفيته المرجعية على ما أصبح يُدعى بـ"حديث النهايات" الذي يروج له العديد من المثقفين والدعاة، وطنياً وعالمياً، اتخذ المؤلف: مصطفى محسن موقفاً إيجابياً من ضرورة وراهنية الفلسفة، وتوسيع دوائر تدريسها وتعميمها على جميع مؤسسات التربية والتكوين، بل وعلى مجالات المجتمع بشكل عام.
ويكمن وراء موقفه هذا تشبثه بالفكر الفلسفي النقدي، بغرض تغذية وإسناد المشروع الذي يؤمن به، ونعني بذلك "المشروع الحداثي التنويري العقلاني" الذي ما فتئ الباحث يُصرح في مختلف فصول كتابه بأنه هو البديل أمام المجتمعات العربية لتجاوز حالات التأزم والتأخر الكامنة في بنياتها ومؤسساتها وثقافتها وقيمها وسياساتها... ذلك أن هذه المجتمعات لن تكون -في رأي الباحث- قادرة على تخطي هذه الوضعية إلا إذا كان لها مشروع تربوي واجتماعي وحضاري واضح الأهداف والمقاصد... يتخذ مرجعيةً له: قيم ومبادئ العقلانية والحداثة والتنوير... مع اشتراطه ألَّا تكون هذه الحداثة أو الاستنارة "حداثة أو استنارة مستورة" بل حوارية مُؤَصَّلة ومنفتحة في آن.
ويبدو جلياً مما سبق تقديمه عن الكتاب، إشكالية ومضموناً محورياً عاماً، أنه قابل لقراءات متعددة؛ لأنه لا يخوض فقط في إشكالية الفلسفة في علاقتها بالمؤسسة، ولكنه يطرح ما يتقاطع أيضاً مع إشكاليات وقضايا أخرى لها علاقة بأسئلة الحداثة والتحديث والتنمية... وما تطرحه على المجتمعات العربية من استحقاقات وتحديات... غير أننا سنهتم أساساً بقراءة تركيبية عامة للكتاب، تَتَّجه إلى ما يتضمنه من مواقف دفاعية عن الفلسفة، وما يقترحه الباحث من حلول وآفاق لتجاوز أوضاع الهامشية والحصار التي يعاني منها هذا النمط من التفكير في مؤسساتنا التربوية والاجتماعية عامة.
إن السوسيولوجي الدكتور مصطفى محسن -وقد سبق له أن مارس تدريس الفلسفة بالثانوي- يدرك المشاكل والصعوبات التي تواجهها هذه المادة. ولذلك نقرأ في كتابه هذا ما يكشف عن انشغاله بهموم الفلسفة وتدريسها، وما تعانيه من أوضاع متأزمة في المؤسسات التعليمية الثانوية والجامعية، سواء في المغرب أو في مجمل البلدان العربية. ويعتبر هذه الأوضاع في تقديره كارثية خطيرة. ولذا يقترح للنهوض بالفلسفة مجموعة من البدائل والمقترحات والشروط... نجمل أهمها فيما يلي:
1- رفع الحظر عن التعميم الشامل لتدريس الفلسفة في مختلف مؤسسات التعليم والتكوين، وعدم التمادي في تقليص حجمها. (ص133).
2- ربط الفلسفة بالعلم والتكنولوجيا على مستوى التدريس والتكوين والبحث العلمي (ص133)، وتدريس الفلسفة بكليات العلوم والطب ومجمل المؤسسات العلمية والتكوينية والجامعية... (ص135).
3- فك العزلة عن الفلسفة وربطها بسياقها المجتمعي والحضاري العام، وبغايات وأهداف التنمية البشرية والاجتماعية والسياسية المتكاملة (ص136).
4- بلورة موقف علني ممنهج من غاياته تدريس الفلسفة بهدف استنبات فكر فلسفي عربي مؤصل (ص136).
5- نقد بعض الأطروحات التي تريد، باسم إبعاد الفلسفة عن التسييس والأَدْلجة...، جعلها "فلسفة مستقيلة" من دورها التحرري التنويري (ص138).
وهكذا يتضح من هذه المقترحات رؤية صاحب الكتاب لدور الفلسفة، فهي عنده ليست مجرد ترف فكري، وإنما هي أداة من أجل رفد التنوير، وتحرير العقل العربي المكبل بأغلال متعددة ثقيلة بما تحمله من رواسب الماضي وطابوهاته المحرمة... مما يحول بينه وبين التقدم والانخراط الفاعل في زمن الحداثة واستحقاقات العولمة.
من هنا تأتي حاجتنا -كما يقول المؤلف- إلى فلسفة مستنيرة متجددة، تكون منطلقاً لبناء الرؤية الفكرية والحضارية والتربوية... لمجتمعاتنا العربية، التي تواجه في هذه اللحظة من تطورها التاريخي تحديات داخلية وخارجية، كما تعاني من توعكات وأزمات ذاتية وموضوعية على صُعُد ومستويات مختلفة ومتعددة... مما يحول بينها وبين امتلاك جدارة التأهُّل للانتماء إلى >مجتمع المعرفة الجديد<.
والخلاصة: أن هذا الكتاب/ الإنجاز القيم للسوسيولوجي: مصطفى محسن عمل جدير بالقراءة الفكرية المتعمقة. لأنه، وهو يتناول إشكالية العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة، استطاع أيضاً أن ينفتح -في إطار ما يعتمده الباحث من منظور سوسيولوجي نقدي حواري "متعدد الأبعاد" باعتباره مرجعية فكرية موجِّهة للتحليل والبحث والتأويل لديه...- على إشكالية ثقافية أخرى تؤرق المثقفين المتنورين العرب منذ عصر النهضة، ألا وهي إشكالية التحديث، وكيفية تجاوز المجتمعات العربية لحالة تأخرها أو تخلفها التاريخي الذي تتفاقم عوامله وظواهره ومظاهره باستمرار.
ونحن، إذ نشاطر المؤلف موقفه الداعم للفلسفة، نضيف، تأكيداً لذلك، أن الفلسفة في زمن العولمة أو ما بعد الحداثة، ورغم ما قيل عن موتها أو نهايتها، قد ظلت حية مستمرة ومتجددة... وكما قال "إيتيان جيلسون"، فإن "الفلسفة تفلح دوماً في دفن حفَّاري قبورها".
فالمطلوب إذن إضافة إلى نقد الخطاب المعادي للفلسفة، هو العمل -كما أكد على ذلك المؤلف بحق- على تقويتها ليس فقط داخل المؤسسات التعليمية والتكوينية والجامعية، وإنما نقلها أيضاً إلى الفضاء الاجتماعي الأوسع خارج المؤسسات؛ لتصبح شأناً عاماً ومكوناً أساسياً في بناء المجتمع المدني والسياسي. وهذا ما سيساعدها على القيام بأدوارها ومهامها المنتظرة، لتكون بالفعل رافداً يغذي ويغني مشروع التحديث والتنوير والبناء الديموقراطي في مجتمعنا وطنياً وقومياً. ومن هنا يمتلك هذا العمل الجاد للأستاذ مصطفى محسن أهميته وراهنيته، ومن هنا أملنا في أن يجد فيه القارئ ما ينتظره من متعة فكرية وفائدة تربوية واجتماعية... وفي أن يكون، كما نرجو، إغناءً متميزاً للمكتبة العربية كذلك.