شعار الموقع

التسامح كنظام معرفي

ذاكر آل حبيل 2007-04-26
عدد القراءات « 774 »

 

الطبيعة - المعرفة - التراكم

 

مقدمة

المفاهيم التاريخية الكبرى بوظائفها المستندة إلى تراكمية الخبرة الإنسانية، والمندفعة نحو مزيد من دافعية إنجازاتها المستمرة بوعد مفارقة التغيير والتجديد لحياتنا الإنسانية، والرافدة لقيمنا الاعتبارية على أسس موضعة الإنسان كركيزة محورية وعملانية، تفترض عدم الغرق في التجريد والمثالية، على حساب الواقع الماثل والمعاش، الذي يتشظى بغربال الخلاف والصراع والغرق في أتون حروب طاحنة لا نهاية لها، دفع ولا زال الإنسان المزيد من خسائره المادية على مدى تاريخه، بسبب التشبث بمفاهيم وقيم وأحكام وسلوكات مغلوطة، ومعكوسة، في ذات القائلين والمنفذين لها، والمراهنين على دغمائيتها الفارطة، ورمزيتها المختلة بموازين القهر والاستبداد والتسلط والأحادية العمياء، وعدم رؤية الذات من خارجها في محضر الآخر الإنساني المشترك، الذي لا تقر بحقوقه، ولا تعترف بمجاله الحيوي، ولا تأنس بمشاركته الخلاقة والفاعلة، بل هي في همٍّ دائم نحو مزيد من الاستعداء، والاستبعاد، والإقصاء، الذي يسبب بدوره مزيداً من ردود الفعل العنيفة، والموجبة لمنازلة الآخر بأسلوبه وبمجال قهره وعدوانه، وهكذا هي الصراعات المبنية على الظلم والعدوان، واقتراف الجرائم الإنسانية الكبرى في التاريخ الإنساني المديد، الذي ينتهي دائماً بمصالحات، تقتضيها حالة الإنهاك من قتل الإنسان لمثيله وأخيه الإنسان، ومهما تكن التسويات في مداها القصير أو البعيد، إلا أن السلام هو نهايتها المقررة حتماً، إذ ليس من حرب لا نهاية لها.

إن التسامح كأحد المفاهيم الإنسانية الكبرى، والذي شق تاريخنا الإنساني بمزيد من الإشعاع والإشراق والسلام في هذا العالم، مرَّ كغيره من المفاهيم الناجعة، بسلسة طويلة من المد والجزر، إنْ في معناه وقيمته، أو في سبل سلوكه واستخداماته، أو في تراكمه المعرفي الفعَّال، أو كيفيات توقده وخموده، كل هذه المباني المعرفية لمفهوم التسامح تتجاذب بين الخفاء والتجلي على مرِّ تاريخنا الإنساني بنسبوية القول والفعل في مدار وجودنا.

في معنى مفهوم التسامح

تستمد كثير من المفاهيم الإنسانية الكبرى بدايات تكوينها من بداية حضور هذا الإنسان في هذا العالم، كونها لصيقة بتكوينه الطبيعي، فهذه المفاهيم ملازمة له على نحو الضرورة الوجودية، وهي ضمن سمة من سمات المشترك الإنساني العام، التي تؤطر علاقته بنفسه وبالآخرين، والتسامح هو من المفاهيم الطبيعية التي تتسم بالثبات والاطراد، الثبات على مستوى التكوين الطبيعي الفطري لذاتية الإنسان، والاطراد ضمن ظاهرية المعنى، ومزيد من قصدية الوعي الإنساني بها، وهو كالمفاهيم الطبيعية الأخرى التي ذهب العارفون من فلاسفة وغيرهم إلى تسميتها بالمبادئ الإنسانية العامة، أو بالقوانين الطبيعية، التي لا تتبدل باختلاف الأزمنة والأمكنة، وإن كان تمظرها النسبي بين الحس والعقل هو الذي يوازن فيما بين الثابت والمتغير فيها، إلا أن جدلاً لا زال قائماً على مستوى هذا التكوين الطبيعي للمفاهيم، بين حكماء الفلاسفة من أتباع الديانات، والفلاسفة الذي يعلون من قيمة التكوين الطبيعي للعقل ويرونه مصدر الأحكام، بينما يقول الفلاسفة الدينيون، بأن هذه المفاهيم، إن هي إلا انعكاس لإرادة الخالق سبحانه.

إذن يتفق العارفون في معنى تكون المفاهيم الطبيعية على ماهية تراكمها المعرفي عقليًّا ووظيفيًّا، وإن تداولها لا زال يستوعب تجليات المزيد من القول فيها، وتعزيز سبل استخدامها على نحو أفضل، وبطاقة ومهارة إنسانية عالية، تفي بغرض العيش الإنساني المشترك، بمزيد من العدل والأمن والحرية.

إن مروراً خاطفاً على سيرورة معنى التسامح في الحياة الإنسانية، يرينا بوضوح كيفية تشكل صيرورة معناه أفقيًّا، نحو مزيد من تجلياته ووضوحه، فالتسامح من الجهة النفسانية «سلبياً.. يفضي إلى التساهل وترك الأمور على غاربها، وإما متفهماً وإيجابيًّا ويعبر عن هاجس العدالة بسب الطابع الخاص للظروف أو لشخصية فاعل المخالفة. وعلى صعيد شخصي يصف التسامح أيضاً الموقف الذي يقضي بالاعتراف للآخر بحق التصرف والتفكير بشكل مختلف. هذا الموقف يتعلق بوجود التجانس الذي يرفع مستوى قبول الهامش والأصالة والمخالفة والانتهاك. والتسامح من ناحية نفسانية اجتماعية، يقع هامشه بين حدود التغاير الاجتماعي الكائن بين القبول السلبي لوضع أو تصرف غير طبيعي أو غير منتظم واستعمال ردود الفعل الرافضة، الدفاعية والمعيارية. وتتغير [عتبة التسامح] ومدته وقدرة التشبث به، على حسب تكوين ووضع نفسية وثقافة الأفراد وحسب طبيعة وحدة الإثارات. ويستخدم مفهوم [عتبة التسامح] أحياناً للتذكير بحد حرج، تكون السلامة والامتيازات والتوازن بعده مهددة في مجموعة معينة، تتغير ثوابت تقييم هذه العتبة حسب الجماعات والأوساط ومقام الأفراد وتتعلق بتصورات بين الذاتيات تغذيها الإشارات والقوالب الجاهزة أكثر مما تغذيها المعايير الموضوعية. يجري بلوغ العتبة الحرجة في جماعة معينة عندما لا تعود الأكثرية تقبل باختلاف أو بانحراف أحد أعضائها أو أقلية معينة وتقوم بعزلهما. يسبق رد الفعل هذا تغيرات في وتيرة وطبيعة الاتصالات وفي معاشرة الأفراد غير الملائمين وفي تصوراتهم. ويحصل رد الفعل بصورة أسرع كلما اعتبرت الجماعة أن تماسكها مهدد»([1]).

ومن وجهة العلوم الاجتماعية، فالتسامح: موقف يتجلى في الاستعداد لتقبل وجهات النظر المختلفة. فيما يتعلق باختلاف السلوك والرأي دون الموافقة عليها. ويرتبط التسامح بسياسات الحرية في ميدان الرقابة الاجتماعية حيث يسمح بالتنوع الفكري والعقائدي على أنه يختلف عن التشجيع الفعال للتباين([2]). وهو عكس التعصب الذي يعني: غلو في التعلق بشخص أو فكرة أو مبدأ أو عقيدة، بحيث لا يدع مكاناً للتسامح، وقد يؤدي إلى العنف والاستماتة([3]).

وإذ لا بد من مصطلح اللغة في معنى التسامح فنقرؤه في لسان العرب لابن منظور بعودته لجذر سمح: السماح والسماحة: الجود. وسمح سماحة وسموحة وسماحة: جاد؛ الإسماح: لغة في السماح؛ يقال: سمح وأسمح إذا جاد وأعطى عن كرم وسخاء، وقيل: إنما يقال في السخاء سمح، وإما أسمح فإنما يقال في المتابعة والانقياد؛ ويقال أسمحت نفسه إذا انقادت، والصحيح الأول؛ وسمح لي فلان أي أعطاني؛ وسمح لي بذلك يسمح سماحة. وأسمح وسامح: وافقني على المطلوب؛ أنشد ثعلب:

لو كنت تعطي حين تسأل، سامحت

لك النفس، واحلولاك كل خليل

والمسامحة: المساهلة. وتسامحوا: تساهلوا.

وفي الحديث المشهور (السماح رباح) أي المساهلة في الأشياء تربح صاحبها.

وسمح وتسمّح [بشد الميم]: فعل شيئاً فسهّل فيه؛ أنشد ثعلب([4]):

ولكن إذا ما جل خطب فسامحت

به النفس يوماً، كان للكره أذهبا

وفوق كل ذلك جاءت آيات الذكر الحكيم بما لا يدع مجالاً للشك للأهمية التي أولاها الخالق لتجلي بعد التسامح في النسيج السلوكي للمؤمنين به في مدار آيات كثيرة نورد منها على نحو الإجمال لا الحصر ما يلي:

{وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.([5])

{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}([6]).

{فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا}([7]).

وكذلك قول الرسول الكريم «ولكن بعثني معلماً ميسراً»([8]).

ولعمري إن ما قرأناه يفي بغرض المعنى اللغوي الأخلاقي الوفير والجم لمفهوم التسامح، وكذلك ما جاء في القرآن الكريم وعن النبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم، على عكس من يذهب إليه من بهروا بثقافة الآخر، وحضورها الكوني، وهموا بمحاولة تسييدها والركون إليها تبعاً وانقياداً، لعقدة النقص التي يعانون منها، ولمرمى يستهدفون به المختلف معهم، بالرغم من سيادة المعنى، وولوجه أدباً وبلاغة ومعرفة وأخلاقاً في كيان ثقافتنا، وإن ما كان من غياب للتسامح في واقعنا، فإنما لكثرة الفتن والاستبداد والتسلط، وغلبة الأهواء والدعة في جسد الأمة. إذ لا مانع من إذكاء روح التلاقح بين الثقافات، ما دام التراث الإنساني لا يحد بجغرافيا الأمم، بل هو ملك للإنسانية، وروح سنى التعايش فيما بينها، وسراج أمنها وحريتها وسلامها العالمي، لما فيها من مشترك إنساني عميق.

أما في المعنى الفلسفي، فيري التسامح قاموس «لاروس» الفرنسي أن التسامح Tolérance يعني احترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه السياسية الدينية.

وفي موسوعة «لالاند» الفلسفية، طريقة تصرف شخص يتحمل، بلا اعتراض، أذى مألوفاً يمس حقوقه الدقيقة، بينما في إمكانه رد الأذية؛ طريقة تصرف سلطان يتقبل علناً، بحكم نوع العادة، هذه المخالفة أو تلك المخالفة للقوانين أو للأحكام المولج بتطبيقها. وهو استعداد عقلي، أو قاعدة مسلكية قوامها ترك حرية التعبير عن الرأي لكل فرد؛ حتى وإن كنا لا نشاطره رأيه([9]).

وبحسب «لالاند» فإن مفهوم التسامح، أخذ في التمظهر في التاريخ الغربي، في القرن السادس عشر الميلادي بعد الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت: فقد انتهى الأمر بأن تساهل الكاثوليك مع البروتستانت، وبالعكس. ثم صار التسامح يرتجى تجاه جميع الديانات وكل المعتقدات. وفي آخر المطاف، في القرن التاسع عشر الميلادي، شمل التسامح الفكر الحر([10]).

كما تقوم فكرة التسامح الحديثة بحسب إد. غوبلو على أنه ليس على المرء التخلي عن قناعاته أو الامتناع عن إظهارها، والدفاع عنها أو نشرها، بل تقوم على امتناعه من استعمال جميع الوسائل العنيفة، والقدح والذم.، بكلمة: يقوم التسامح على تقديم أفكاره دون السعي لفرضها([11]).

كما تقدم لنا موسوعة ويكيبيديا الحرة الإلكترونية تعريفاً للتسامح أو العفو على أنه كلمة دارجة تستخدم للإشارة إلى الممارسات الجماعية كانت أم الفردية تقضي بنبذ التطرف أو ملاحقة كل من يعتقد أو يتصرف بطريقة مخالفة قد لا يوافق عليها المرء. تعد ممارسات النظم الشمولية نقيضاً للتسامح وتسمى تعصباً. مصطلح التسامح أكثر شيوعاً من مصطلحات أخرى مثل «القبول» و «الاحترام» التي تدين بها جماعات مختلفة.

التسامح كمفهوم يتضمن القدرة على إيقاع العقوبة إلى جانب القرار الواعي بعدم استخدام تلك القدرة. يستخدم مصطلح التسامح عادة للإشارة إلى الممارسات الجماعية غير المبررة في أي مجال كان وهي نادراً ما تفسح المجال للتصرفات العنيفة([12]).

وفي الأخير هي احترام ودي لآراء الآخر، وذلك باعتبارها مساهمة في الحقيقة الشاملة([13]).

التسامح كسلوك

في عملية التسامح، لا بد من تأصيل وتجذير قيم التفاهم المتبادل، التي تمكننا من معرفة بعضنا البعض بطرق مختلفة، فهم وقبول قائم على معرفة أهداف ومبررات تفاعل الغير معنا، ونزعة وطبيعة الأشخاص المستهدفين بتسامحنا، الأمر الذي يذكي حالة التفاعل وييسر التقاء وجهات النظر، ويحدد قيمة العلاقات، ويقاربها، ويشحنها بمزيد من المشاعر الإيجابية الدافعة. كما يساهم هذا التفاعل في خلق مستويات عليا في نظام العلاقة، والذي من أهمها حالة الجذب، التي تتساوق بفعل عمق التعايش البيني ورصد نتائجه الإيجابية، والتقليل من أهمية الخسائر، ومستويات التنازلات المقدمة، في سبيل شراكة أفضل.

التدخل الوظيفي الذي لا بد للقائمين على مجال نشر المعارف بين الناس، من قيادات ومبلغين، ومثقفين وتربويين، وغيرهم، لا بد أن يضعوا في حسبانهم ضرورة اختيار الأساليب الفعَّالة، والقادرة على نشر القيم المتقصد تقعيدها في مساحة المستهدفين المستفيدين، والتي منها: أسلوب العدوى الإيجابية: والمقصود بها المقدرة على ضبط إيقاع التوتر الذي تفرضه ردات فعل مجاميع الناس على شيء ما مستفز لها، وأمرها بالتهدئة وعدم الغضب والتهور، ومحاولة تفهم ما يجري بشكل أفضل، والامتثال إلى أحكام العقل والتعقلية، وبذلك تنسرب لبقية الجمهور حالة التهدئة التي يقررها النافذون في أوساط جمهورهم، بشكل عدوى إيجابية متراسلة، تسري بينهم مؤكدة على تسامحهم الأرشد. أما أسلوب الإحياء: فهو رافد معنوي يستهدف التاثير بالإيعاز والإبلاغ المباشر وغير المباشر، يقوم بها فرد أو جهة، لتعزيز قيمة معنوية أو سلوكية، يراد تعميمها في فرد أو جهة، لتكريس تلك القيمة وذاك السلوك. وإذا ما أخذنا التسامح كقيمة أو سلوك نود تعميمه، فإننا سنقوم أولاً بإرسال إشارة بلاغية بأي وسيلة إرسالية كانت، في محاولة لتزكية مفهوم التسامح وأهميته للمستهدفين، والخسارة الفعلية في حين تركه، والنتائج التي نصل إليها عن طريق تطبيقنا لمهمات فعل التسامح، وأي صحة نفسية، وعافية جسدية سنصل إليها إذا أخذنا أنفسنا إلى ساحة التسامح الفسيحة، التي تستوعبنا كما تستوعب الآخرين في فضاءٍ يتنفس الجميع فيه الصعداء. الأسلوب السلوكي الأخير الذي نود ذكره، هو أسلوب الاقتداء: وهو أسلوب تأثيري بالغ الأهمية، ودوره في الأفراد والفئات الاجتماعية التي تتعلق برموزها، التاريخية والدينية والاجتماعية والسياسة وأي فاعل قيادي في شخص أو في جمهور من الناس، تمارس فعل الهيمنة الإيجابية، وتؤثر فيها بأي شكل من أشكال التأثير، الذي يفترض بأن لها طبيعة النفاذ الضمني، والتأثير الأبلغ، والتي باستطاعتها فرض نوع من المحاكاة والتقليد لها، قولاً وفعلاً، خصوصاً إذا كان تصور التابعين لهذه القيادة، يرون فيها الكاريزما (القيادية) المثالية، المكتملة، وتحمل صدقية عالية في تصورهم، ونسبية عالية من الانطباق بين القول والفعل في مكون شخصياتهم، مما يؤدي إلى مستوى عالٍ من الاقتداء.

كما أن البعد عما يمكن تسميته، بالفهم الانفعالي، القائم على فهم الآخر في خلال فترات الشد والتوتر والنزاع والهيجان، الأمر الذي يترتب عليه فهم مغلوط تتكون على علاته مواقف وسلوكات ارتدادية مشبعة بالشحن السلبي، ومكونة لعلاقة تسير إلى الخلف، نحو الانفصال والقطيعة، والتجاوب مع فرص الاستعداء والعنف بمستوياته المادية والمعنوية.

إن فرزاً موضوعيًّا بين تراكمات مؤاخذتنا السلبية على الآخر، يفي بغرض التقليل من شحن فهمنا الخاطئ، وبالتالي حصر ردات فعلنا المقللة لتسامحنا تجاهه.

وقد يكون لتكوين انطباعنا الأول عن إنسان لا نعرفه حق معرفته، خصوصاً إذا ما كان انطباعنا عنه سلبيًّا بالغاً، أبلغ الأثر في موجبات مسامحة أقل، وفشل في إدراك الآخر، على نحو لا موضوعي، ومضر لنا بعدم الفوز بموجبات علاقة قد تكون مفيدة ومثمرة، وضرر للآخر الذي قد لا يستحق عدم مسامحتنا له.

فيما تذهب عملية تقليب معرفتنا للناس، وفحصها على مستوى الدراية والإدراك، إلى سبر شخصياتهم على نحو أفضل، وفاءً لشروط علاقة أفضل، تظهر معادنهم الشريفة والنظيفة، وتدفع بنا إلى مزيد من المشاعر الجميلة، والنبيلة، وتركز العلاقة في مستويات فضلى تستوجب مزيداً من احترامنا وعلائقنا المتضامنة معهم في السراء والضراء وهذا هو لب وروح عملية التسامح.

ومن سبل القدرة في زيادة منسوب التسامح بين الناس، المقدرة الواعية عند بعض الناس الذين يقومون بترسية سلوك إزالة العوائق الموجبة للتعكر وسوء الفهم، وتصفية الأجواء الملبدة بغيوم غير مرغوب فيها في فضاء العلاقة وصفائها، وهو ذات الفعل الأخلاقي الرفيع الذي يطلق عليه في ثقافتنا الإسلامية، أصلاح ذات البين، مما يوجب فرص للتفاهم غير المباشر، لإعادة نصاب العلاقة إلى مجالها الطبيعي، وإذكاء روح المسامحة وفعل التسامح.

كما تساهم عمليات التجديد والتطوير المستمر لمعارف الناس، في مختلف أعمارهم، وفئاتهم الاجتماعية، وفي شتى مجالات شؤونهم الخاصة والعامة، للحفاظ على مرونتهم النفسية والعقلية، ولأن التطوير الدائم لمعارفنا يحركنا باتجاه الآخرين حتماً، ويحسن من قدراتنا ومهاراتنا وخبراتنا المعرفية والعملية، التي تعيننا على معرفة الذات بشكل أعمق، ومعرفة الآخرين بشكل أفضل، ويعزز البعد الاتصالي في شخصياتنا، وروح التبادل الاجتماعي الفعال، في تكامل وظيفي كل بحسب دوره وتخصصه، ويحافظ على سلامة التماسك الاجتماعي، ويحسن القدرة على تعايشنا المشترك، ويرفعنا في عليين السلم وجنة التسامح.

الحكماء والتسامح

يروق لمؤرخي مفهوم التسامح ذكر المساهمة التي أضافها الفيلسوف جون لوك سنة 1689 الذي عنون بـ«رسالة في التسامح Lettre sur tkolérance» حيث يعلن في طيّات هذه الرسالة: «أن التسامح جاء كرد فعل على الصراعات الدينية المتفجرة في أوروبا، ولم يكن من حل أمام مفكري الإصلاح الديني في هذه المرحلة التاريخية، إلا الدعوة والمناداة بالتسامح المتبادل والاعتراف بالحق في الاختلاف والاعتقاد».

وكذلك مساهمة الفيلسوف الفرنسي فولتير Francois Marei Voltaire (1694 ـ 1778) فيلسوف التسامح بحق لأنه ارتفع بالتسامح واقترب فيه من المفهوم المعاصر، إذ وضعه في صيغة المبدأ الطبيعي وكأساس للقول بحقوق طبيعية للإنسان. يقول فولتير في هذا الخصوص: كلنا ضعفاء وميالون لقانون الطبيعة، والمبدأ الأول للطبيعة هو التنوع وهذا يؤسس للتنوع في مجال الحياة الإنسانية، وقبول هذا التنوع حق أساسي للوجود».

وقال الفيلسوف الفرنسي فولتير كلمته المشهورة التي تُعلي من شأن الحرية والتسامح وقبول الآخر على مبدأ الاختلاف إذ يقول: «إنني لا أوافق على ما تقول، ولكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقوله».

ويبرز اسم ليزلي جورج سكارمان من بين جمهرة العلماء الذين أعادوا فتح باب النقاش حول مفهوم التسامح وعمقوه، فقد كان صاحب أكبر إسهام، من وجهة نظر قانونية بالطبع في توضيح ضرورة الانتقال من التسامح باعتباره موقفاً سلبيًّا خالصاً إلى التسامح الذي يتجاوز مبدأ عدم التدخل في حياة الآخرين، لكي يتضمن واجبات إيجابية يتعين أن يعترف القانون بها ويحترمها، أي إلى نوع من التمييز الإيجابي([14]).

فيما يقرر فيلسوف العلم والمجتمع المفتوح المعاصر «كارل بوبر» بأن التسامح موقف أخلاقي وعقلي ينبع من الاعتراف بأننا غير معصومين عن الخطأ وأن البشر خطَّاؤون، ونحن نخطئ طوال الوقت. وذلك خلاف موقف المتعصب الذي ينبع أصلاً من اليقين بصحة الآراء والتنكر لحقيقة وجود الخطأ في كل ما نعرف. ومن هنا يرى بوبر أن ثمة حدود للتسامح: فنحن ندمر التسامح ونهدم الدولة الدستورية حين نتحمل التعصب ونمنحه حق البقاء([15]).

وبأن التسامح حين يتسع ليشمل غير المتسامحين، سيهلك التسامح نفسه وأعوانه المتسامحين([16]).

التسامح في المجتمع الدولي

التسامح في عرف المجتمع الدولي يقوم على مبادئ حقوق الإنسان العالمية، كما حددت له وثيقة مستقلة، هي إعلان المبادئ العالمي الصادر في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1995 بين التسامح وحقوق الإنسان والديموقراطية والسلم، وبالتالي ارتقت بالتسامح إلى صورة قيمة قانونية تتطلب الحماية من قبل المجتمع الدولي. حيث ورد في البند الأول من هذه الوثيقة إعلان المبادئ حول التسامح الصادرة عن اليونسكو بصدد معنى التسامح أن مفهوم التسامح يتضمن العناصر التالية:

أولاً: قبول تنوع واختلافات ثقافات عالمنا واحترام هذا التنوع.

ثانياً: التسامح موقف يقوم على الاعتراف بالحقوق العالمية للشخص الإنساني، والحريات الأساسية للآخر.

ثالثاً: التسامح هو مفتاح حقوق الإنسان والتعددية السياسية والثقافية والديموقراطية.

رابعاً: إن تطبيق التسامح يعني ضرورة الاعتراف لكل واحد بحقه في حرية اختيار معتقداته، والقبول بأن يتمتع الآخر بالحق نفسه، كما يعني بأن لا أحد يفرض آراءه على الآخرين.

وربطت الوثيقة بين مفهوم التسامح والسلام على أساس أن هذا الأخير لن يرسخ كثقافة إلا بوجود الأول. فالتسامح على حد تعبير فدريكو مايور F.Mayor شرط ضروري للسلم ما بين الأفراد كما بين الشعوب وهو بمثابة «التوابل» اللازمة لكل ثقافة للسلام.

مسوغات التسامح ووحدة الإنسانية

الإنسانية في الأصل واحدة، والإنسان بتعدده الفردي والجمعي يقع بالضرورة في فرادة الاختلاف، وهنا تقع التقاطعات والانقطاعات والتجاذبات بين التجارب الإنسانية التي خاضتها الإنسانية الواحدة، في تعددها واختلاف إنسانها في ميوله وأهوائه، وأرائه ومعقوليته، وهو ما يجعلنا نقر التعدد والاختلاف، ونتفهم بالضرورة عوامل المفارقات في حركته الخاصة والعامة، ونتجاوز التناقض بين الوحدة والتنوع.

إن الإقرار بمبدأ التعدد الإنساني، يفضي إلى القبول بنسبية الثقافة في مجالها الإنساني العام، والكوني تحديداً، القائم على الشراكة والتضامن من أجل الأمن والسلم والحرية، ضمن مبدأ وحدة النوع الإنساني في أصل الخلقة والتكوين، في إنسانية متماثلة، وضمن مسوغات مقاربة الاحترام المتبادل، ولا يكون ذلك إلا ضمن مبدأ التسامح الذي أصبح في السنوات الأخيرة «هو الراية والوسيلة الحيوية التي يأخذ بها كل من يفكر في تشجيع التطور السلمي للعلاقات الدولية وأن يرد على التحديات التي تواجه المجتمعات متعددة الأعراق والمجتمعات متعددة الأديان والمجتمعات متعددة الثقافات، سواء على المستوى الأخلاقي أو على الصعيد السياسي. وهؤلاء يعتقدون أن التسامح يمكن أن يبدد خوف الأفراد والفئات الاجتماعية والأمم نفسها من أن تمتصهم أو تستوعبهم حضارة أو ثقافة أقوى، أو تقع في أزمة هوية.

واليوم تطالب الشعوب التي لا تنتمي إلى الثقافة الغربية بتجاوز مفهوم التسامح حتى بمعناه الإيجابي ليشمل المفهوم الأرقى وهو احترام الاختلاف. وذلك هو الذي يضمن المساواة في الحقوق والكرامة ويكفلها، ذلك المبدأ الذي مارسه العرب في نهاية الألفية الميلادية الأولى في أسبانيا وصقلية».

فالحوار يتأسس على الاختلاف كقيمة داخل قناعة الانفتاح على الآخر الموجود والذي يبني نفسه مع الأنا، والذي يتأسس على الوعي بأنه بالإضافة إلى هويتي ومعتقداتي هناك هويات ومعتقدات أخرى كما يقول «روبرتو دي فيتا». يتأسس الحوار على أنه يجب عليه هو أن يقدم هويته، لأن أعظم إهانة يمكن أن نوجهها للآخرين هي أن نتولى نحن تحديد هوياتهم بالنيابة عنهم.

إن الديانات لا تتحاور، ولكن المتحاورين هم من ينتمون إلى الأديان المختلفة، والذين يبنون خلال الحياة اليوم علاقاتهم وصلاتهم في مجتمع أصبح من نافلة القول أن نطلق عليه مجتمع الأعراف والثقافات والديانات المتعددة.

ولا يجب أن يقوم الحوار بين الانتماءات الدينية المتعددة على اللامبالاة أو على معتقدات واهية، بل على هوية قوية. وما يسمى بالحوار بين الأديان لا يجب فهمه على أنه بحث عن عناصر مشتركة يمكن أن تسخر كوسيلة فيما بعد لفرض قناعات معينة ونشرها في العالم، ولكن حوار الأديان هو احترام أصالة وصحة الأديان جميعاً([17]).

كما أن التسامح ليس عفواً تصدره المجتمعات عن مارقين، بعد توبتهم، أو خارجين مخربين للقيم الكبرى، إنما هو قبول كامل ونهائي بالآخر المختلف، بما يجعله مشاركاً في كل شيء، وليس ملحقاً مهمشاً ذا دور تكميلي. لا تسامح دون اختلاف؛ فالتسامح ثمرة مران طويل على قبول حراك الصورة والفكرة والمفهوم، وقبول استئناف النظر الدائم بكل شيء، وعدم الارتماء في منطقة المطلق، وقبول الذات بتغيراتها، والآخر بسياقاته الثقافية؛ فالتسامح ليس منة أو هبة يتفضل بها أحد على غيره، إنه حق تنتزعه المجتمعات، حينما تنخرط بفعالية الاختلاف متعدد المستويات والمعاني([18]).

إذن التسامح حركة بإزاء الآخر، ملؤها الإيمان بقيم التعدد، الذي هو في حده الأدنى معبر عن وجود فوارق طبيعية مادية ومعنوية يقر الجميع اعترافاً بها وبضرورة وجودها في الحيز المشترك، وبذلك يكون الانفصال في الذاتية والخصوصية، والاتصال في موضوعية العلاقة، في المصالح المشتركة في بعدي الزمان والمكان، والمثال والواقع، وكل ما يضفي حالة المشترك المتصل، ويوسع دوائر القبول البيني على أسس التفاهم والتعايش، لكي تتنوع عمليات التعاون، في الكيف والكم، بشكل يضمن استمرار الزيادة المحورية للعلاقة، وعدم ثباتها، وبالتالي الحكم عليها بالنقصان والتقهقر، الأمر الذي يؤكد انخفاض منسوب التسامح في مسار العلاقة مع الآخر.

فكلما تأكد الاعتراف بالمغايرة والغيرية على نحو أعلى، والقائمة على التفاعل والتكامل، تأكد فعل التسامح، وأثبت جدواه، لأن وجود الغير في مدى وجودنا، هو خروج على مركزية الذات، وأدركنا فعل الحرية اللازمة لحركتنا فيما بيننا وبين الأغيار، والذي هو متحقق من خلال مصاديق الدخول في علاقة ما، أو خروج عن علاقة أخرى.

لا يكون التسامح إلا بوعي مفارق، يقظ ومنتبه، لأن خصائص الفهم والإدراك تؤثر بشكل مباشر في طبيعة حرية القرار المتجه صوب التسامح ومداه المناسب. ولا يكون ثابت الدعائم إلا بشرط الحرية للجميع، في شرط تنظيم تلك الحرية وتحقيق مبادئها الأولية، ورفع قيمتها العالية بالتدبر الاختياري للأقوال والأفعال، فإن أخطأنا فهو ضمن قول أو فعل الإنسان الخطَّاء، الذي يظل صاحب كرامة، وحرية، يجب تقديرها وعدم المساس بها، والأخذ بقانون محاسبة الخطأ فقط، بعيداً عن شيءٍ آخر، وهذا هو عين التسامح ومبدؤه وقانونه.

التسامح يعيد تنظيم الأمور، ويحقق أكثر فأكثر فعل التجديد والتغيير والحركة الفاعلة في حياتنا بكل يسر، بل ويمنحها المدى وديمومة الفعل، ويحافظ على الدور الإنساني في العلاقة على نحو أفضل، ويتجمل الإبداع بمزيد من فضاءات الحرية، ويصل الوعي إلى آفاق غير منظورة، وتبرز في الحيز الأعلى منه مجالات التحقق للعبقرية الإنسانية القائدة.

 



([1]) تمت الاستفادة بتصرف من موسوعة علم النفس، المجلد الثالث، ص1080 دار عويدات، بيروت - لبنان.

([2]) معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، د. أحمد زكي بدوي ص426.

([3]) نفسه ص154.

([4]) لسان العرب، لابن منظور، المجلد الثاني، ص 489.

([5]) سورة فصلت، الآيات 34-36.

([6]) سورة الأعلى، آية 8.

([7]) سورة الإسراء، آية 28.

([8]) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، الحديث رقم 29.

([9]) موسوعة لالاند الفلسفية، دار عويدات، بيروت، المجلد الثالث، ص1460.

([10]) نفسه ص1460.

([11]) نفسه ص1461.

([12]) موسوعة ويكيبيديا الحرة الإلكترونية http://ar.wikipedia.org مادة تسامح.

([13]) موسوعة لالاند الفلسفية، دار عويدات، بيروت، المجلد الثالث، ص1461.

([14]) أخبار الأدب المصرية، العدد 612، بتاريخ 3 أبريل 2005.

([15]) من الإبستمولوجية إلى المجتمع المفتوح (التاريخانية والمجتمع المفتوح عند بوبر) فؤاد محمود ناصر خيربك، وزارة الثقافة دمشق منشورات 2002، ص240.

([16]) نفسه ص212.

([17]) أخبار الأدب المصرية، نفس العدد.

([18]) قضايا أسلامية معاصرة، العدد 27 ربيع 2004.