شعار الموقع

في نقد القول بالوسطية والاعتدال

معتز الخطيب 2007-04-26
عدد القراءات « 652 »

 

([1])

ربما تحولت مفاهيم مثل «الاعتدال» و «الوسطية» إلى مفاهيم هلامية يصعب تحديد مدلولاتها. فضلاً عن أن شيوع الألفاظ وتداولها العمومي، مع قطع النظر عن جذورها ودلالاتها وما تختزنه من إحالات رمزية ودلالية يجعلها تفتقر في مضامينها، وتتحول إلى مجرد مفردات في لغة يومية. وخلال هذه العملية يتم ارتكاب الكثير من التبسيط، خاصة من داخل التيارات الفكرية والدينية التي ربما تستعير ألفاظًا من القاموس الفكري الغربي وتنقلها إلى قاموسها الديني تحت ذرائع يحركها الحماسة أو التصورات البسيطة لمنظومة الأفكار وسياقات نشأتها، ومن هذا القبيل وقعت استعارة الكثير من المصطلحات من الفكر الغربي وتمت أسلمتها أو إسقاطها على مفاهيم ومصطلحات إسلامية بل وأحيانًا قرآنية!

تلك الاستعارات المنبتة الجذور عن أصول منابتها ونشأتها، والمنتزعة من بيئتها المفهومية التي نمت وترعرعت فيها، تسببت في سريان حالات من التشوش في المفاهيم والتبسيط الممجوج في الفكر واللغة والتصورات. فاستعارة مصطلحات من مثل التنوير والمستنير مثلاً وإقحامها في السياق الإسلامي أوقع في كثير من المشكلات، بعضها تبسيطي لا يعي أصول ومدلول ذلك المصطلح في سياق نشأته الغربية، فالمصطلح تكشّف في توسع الحداثة وكان الدافع الرئيس لظهور التنوير هو قهر التقليد، ومن ثم كان التصادم بين الحداثة والتقاليد.

ومن مظاهر النزعة التبسيطية في الفكر الإسلامي أن يتم «تأصيل» التنوير وتسكينه في الفكر الإسلامي من مدخل ورود كلمة «النور» في القرآن، على اعتبار أننا نحن المسلمين -كما قال لي أحد الدعاة المصريين- أحق بالنور من العلمانيين!. ناهيك عن كثير من المصطلحات الأخرى كالنسوية الإسلامية، والشمولية، والدولة الإسلامية، والجهاد المدني، والأصولية الإسلامية... إلى آخر القاموس الذي أورث فكرنا الكثير من التشوهات في المفاهيم والتصورات القائمة على ترقيعات وتركيبات متنافرة مختلطة الأنساب.

1- الاعتدال والوسطية سياسيًّا

مفهوم الاعتدال أضحى -بل ربما نشأ كذلك- مفهومًا ملتبسًا وزئبقيًّا يمكن له أن يحقق أهدافًا استراتيجية في السجالات الإيديولوجية، سواء الفكرية أم السياسية. وفي هذين المجالين يقع الكثير من التوظيف بالاستناد إلى استراتيجيات التسمية وسطوة التصنيفات، في الوقت ذاته الذي يتم فيه طرح الكثير من التساؤلات السياسية والمعرفية -على السواء- حول مضمون الاعتدال في الفكر والسياسة، ومرجعيات ذلك التصنيف لهذا الفكر أو ذلك الفرد، أو تلك الجماعات.

وكذلك مصطلح «الوسطية» الذي كثيرًا ما تتم المرادفة بينه وبين الاعتدال عند القائلين بهما في المجال العربي، وكلاهما ذو صلة بالمجالين السياسي والفكري، إذ يتوزع عليهما، ويستدعي فضيلة الانتساب إليهما الوسطي المعتدل.

غير أن المعجم العربي يقول: إن الاعتدال من العدل، بل هو إقامة العدل، ومن معانيه التوسط والخيرية. وهو ما ورد به تفسير النبي (ص) لآية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}([2]) حين قال: «الوسط: العدل»([3]).

وإذا كان الاعتدال مرتبطًا بمفهوم العدل، فإن الاستعمالات السياسية له -والإعلامية تبعًا- أدخلته في نطاق لعبة المصالح التي تحركها المواقف وحساباتها، وهي بطبيعتها خاضعة للنسبية والظرفية، فربما يُعتبر موقفٌ معتدلاً اليوم، إذ يحقق المصلحة الحالية، ويُعتبر نفسه متطرفًا في وقت آخر لأن مؤشر المصالح تغير. ومن ثم فإن أطروحة «الإسلام المعتدل» التي وردت في خطاب السياسة الأمريكية شكلت معضلة من حيث رسمها وتعريفها. فحين التقت مصالح كل من الولايات المتحدة الأمريكية والحكومات العربية وبعض الحركات الإسلامية على أرض مشتركة وهي الجهاد الأفغاني ضد الشيوعية، لم يكن هناك مدخل للحديث عن تطرف واعتدال، بل كان الأمر نضالاً من أجل الحرية، بل جهادًا ضد الإلحاد.

هذا الانتقال في تحديد مفهوم الاعتدال -على مستوى الحركات السياسية- من قيمة العدل كما تفيدها اللغة العربية، إلى مؤشر المصالح، في السياسة الأمريكية جعل من الصعب تحديد مدلول الاعتدال وفق منهج ثابت، ولذلك يصعب القول: إنه ثمة سياسة واضحة للولايات المتحدة الأمريكية تجاه الحركات الإسلامية، ومن ثم خلص روبرت ساتلوف([4]) من تحليل الخطابات والتصريحات المتعددة إلى أنه لا توجد سياسة أمريكية تجاه الإسلام السياسي، وإنما تجاه الدول والمؤسسات والمصالح. ومع ذلك يرى أن الحركات الإسلامية تمثل -في مجموعها- مصدر تهديد للمصالح الأمريكية؛ لأن الإسلاميين وإن اختلفوا في الوسائل والغايات فإنهم يتفقون على هدف قيام الدولة الإسلامية.

وهذا الموقف يحيل إلى أن معيار الاعتدال والتطرف -بغض النظر عن مدلوله- لا يمتلك وزنًا كبيرًا في تقدير السياسة. فضلاً عن أن ثمة توجهات بارزة تشكك في تلك التصنيفات أصلاً، فقد كتب دانيال بايبس متسائلاً: «كيف نحدد المسلمين المعتدلين؟»([5]) ومتحدثًا عن «معتدلين مزيفين»، وهناك اعتقاد بين الباحثين في شؤون الشرق الأوسط بأن الكثير من خبراء الإعلام وما يعرف بخبراء الشرق الأوسط المفعمين بالاستشراق، لا يزالون يجهلون الإسلام وواقع الحركات الإسلامية وتنوع الفكر الإسلامي، فهناك عدم تمييز كما يرى اسبوزيتو([6]) بين الحركات الإسلامية المعتدلة والمتطرفة، كما أن هناك دعوة إلى وضع جميع الإسلاميين في جانب التطرف. وهذا ما يراه صمويل هنتنغتون الذي يساوي بين فاطمة المرنيسي وأسامة بن لادن في الموقف من الغرب، وكذلك برنارد لويس وجوديت ميللر التي لا ترى أي تمييز بين إسلام معتدل وآخر متطرف وأنه لا فائدة من أي حوار مع الإسلام والمسلمين([7]). وهو التوجه ذاته الذي سلكه بعض الكتاب العرب([8]).

الاعتدال هنا في هذا السياق يأخذ منحى سياسيًّا حركيًّا، في مقابلة ما يسمى بالتطرف، كجزء من عملية الاستقطاب حول المصالح والسلطة وضمن الصراعات الإيديولوجية أيضًا، إسلامية وليبرالية وعلمانية، وهنا تتم مقايسة الاعتدال بقدر تطابق هذا التيار أو ذاك مع مصالح الأمريكي، أو مع توجهات الليبرالي والعلماني، فيكون الاعتدال بقدر ما يتحقق من ذلك.

ومن هنا فإن الحديث عن معايير للاعتدال تتلخص في ثلاثة هي: الموقف من الواقع، والتكوين الإيديولوجي والثقافي، والموقف من الآخر([9])، لا يمكن أن يضبط ذلك الاعتدال ويحده بحد يمكن الاتفاق عليه، فضلاً عن أنه يلغي ثراء التعددية في الفكر والحركة، فالاختلاف ما دام مستندًا إلى أسس معرفية ومنهجيات قائمة، ولا يؤدي إلى العنف والاقتتال فإنه اختلاف سننيّ لم يخلُ التاريخ منه، في كل مجالاته: العقدية والفكرية والفقهية والسياسية. ولا يمكن إلغاؤه تحت أي مسمى: اعتدال أو وسطية أو غير ذلك.

وإن جئنا إلى واقع الساحة السياسية العربية الإسلامية، فسنجد أنها تنقسم إلى اتجاهين رئيسين جامعين: الأول: جماعة الإخوان المسلمين، بتشكيلاتها المختلفة، والثاني: الاتجاه الجهادي الذي يضم حركات المقاومة وهذا الاتجاه أكثر تنوعًا وثراء في تشكيلاته. فالاتجاه الأول ينعت نفسه بالوسطية والاعتدال، وله أطروحات تصالحية مع الديموقراطية والحقوق والحريات والآخر، وغير ذلك من قضايا في سياق تواؤمي مع الحداثة الغربية وسياسات الضرورة وواقعية السياسة. وقد أدى الاستقطاب القائم بينه وبين التيار الجهادي، وبينهما وبين المؤسسات الإسلامية التقليدية إلى حالة من فقدان ثراء التعددية الفكرية والسياسية، التي يمكن أن تولد اتجاهات فكرية وسياسية جديدة، ومن ثم فقد احتكر التيار الإخواني تمثيل «الوسطية» في المجال السياسي، لكن بعض الباحثين يرى أن الوسطية الإخوانية ستواجه محنة في مستقبل العمل السياسي، لأسباب تاريخية وواقعية وفكرية أهمها([10]):

- أن إرساء تعددية سياسية سيفتح آفاق مرحلة مختلفة من تاريخ المجتمعات العربية والإسلامية وحينها لن تقتصر ساحة العمل السياسي على الجماعات الإخوانية.

- أن التعددية الإسلامية الداخلية لا تنهض إلا بضعف قوى التطرف العلماني، ليبرالية كانت أم يسارية، لأن التطرف العلماني يحول دون تعددية إسلامية داخلية تحظى بالقبول الإيجابي، ومن ثم فإن الإخوان حين يرفعون شعار «الإسلام هو الحل» في ظل أحادية إسلامية في مواجهة العلمانيين يظل شعارًا مقبولاً على المستوى الجماهيري، بخلاف ما لو كانت هناك تعددية إسلامية.

- أن بروز اتجاهي «الدعاة الجدد» وتجمعات «المثقف الإسلامي المستقل» كرد فعل على غلبة التسييس في الحالة الإسلامية وفشل الحركية الإسلامية في إقامة نموذج الحكم الصالح سيدفع إلى طرح اجتهادات جديدة ستفارق في جزء منها نماذج العمل الحركي التقليدي.

2- الاعتدال والوسطية معرفيًّا

وبالعودة إلى الحديث عن مدلول الوسطية والاعتدال، فإن مصطلح الوسطية نفسه الذي غلب على الشأن الفكري وبات يشكل اتجاهًا عريضًا ينعت نفسه به، حتى قيل: «إنه يستقطب غالبية المفكرين والناشطين في الوسط الإسلامي»([11])، بل اعتبر العلامة القرضاوي الوسطية روح الإسلام وإحدى الخصائص العامة له([12]). ويستند القائلون بالوسطية بهذا المعنى إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}.

ولا يُخفي عدد من الكتَّاب ضبابية تحديد مفهوم الوسطية نفسه، خاصة مع كثرة المؤتمرات التي تعقد لأجله، وافتتاح بعض المراكز لدراسات الوسطية في الكويت والأردن والسودان وغيرها، وتزاحم المنتسبين إلى الوسطية من شخصيات وتيارات مختلفة، ففهمي هويدي لاحظ أن المصطلح «صار فضفاضًا بصورة تستوجب تحريره قبل أي كلام بصدده»([13])، ومحمد عمارة قال: «إن مصطلح الوسطية من المصطلحات التي عَدَتْ عليها العاديات وجارت عليها النائبات فأخرجتها عن معناها الأصلي الأصيل وأبعدتها عن كونها أخص خصائص منهج الإسلام في الفكر والحياة والنظر والممارسة والتطبيق والقيم والمعايير والأصول...».

بل إن البعض حشر الوسطية تلك في المذهبية فغدت مُرادِفة السلفية، فقال: «أهل السنة هم الوسط في العدل والإنصاف»، وتتمثل الوسطية في «منهج السلف بعد ظهور أهل الأهواء والافتراق»([14]).

والمتتبع لهذا المصطلح واستثماراته سيجده يتردد في مجالات شتى، فمن مجال الاعتقاد وأن الأمة الوسط هي التي تلتزم بمذهب السلف في الأسماء والصفات، إلى أن الوسطية هي التي «تدين التطرف في كل صوره وأشكاله بوصفه لا يتفق مع القيم الإنسانية، وبذل الجهود لعرض الصورة الصحيحة للإسلام بصفته دين الوسطية والاعتدال، واعتماد خطاب إسلامي معتدل مقيَّد بالزمان والمكان والأحوال، وتطوير المناهج الدينية بمدارسها المتنوعة،... وتعزيز ثقافة السلام في المدارس والمجتمعات، وتعزيز الحوار بين الأديان»([15])، وصولاً إلى القول بوسطية الفتوى، ووسطية الجهاد، والوسطية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلاقة الوسطية بالحضارة الإسلامية والإنسانية، وغير ذلك([16]). بل وجد هناك من يتحدث عن «وسطية مستنيرة» و«ضرورة وضع خطة شاملة لبلوغ الوسطية المستنيرة بما يتفق مع تعاليم الإسلام»([17]).

إن هذا الاضطراب في تحديد مفهوم الوسطية التي يقال: إنها ترادف الاعتدال، وإنها روح الإسلام وإحدى خصائصه لا ينسجم مع الدور المنوط بها القيام به، أو المكانة التي تحظى بها. وهو يعكس إلى ذلك لونًا من ألوان الاستعارة والتبسيط التي تحدثنا عنها في مطلع هذا المقال. فبالعودة إلى اللغة المعجمية مرة أخرى نجد أن الوسط وسط الشيء ما بين طرفيه، وهو منه، والمعتدل من كل شيء. وذهب المفسرون إلى أن {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} يعني «عدولاً أخيارًا». وقديمًا عرّف أرسطو الفضيلة بأنها وسط بين رذيلتين، وعلى هذا فالفضائل وسطية، بحسب أرسطو، وهو يحيل في هذا إلى مسألة القيم.

وفي سنة 1934م كتب ليون تروتسكي مقالاً أسماه «الوسطية والأممية الرابعة» شن فيه هجومًا على الوسطية واعتبر أن الوسطية المعاصرة له، في الفضاء الماركسي لا تخضع إلا بصعوبة لتعريف إيجابي، بسبب انعدام الشكل لديها، قائلاً: «لم يسبق أبدًا للوسطية أن تلألأت كما هي اليوم بكل ألوان قوس قزح؛ لأن صفوف الطبقة العاملة لم تشهد من قبل مثل هذا الاختمار السياسي الحالي»، ويعني بالاختمار هنا الانتقال بين قطبي الماركسية والإصلاحية، أي الانتقال عبر مختلف أطوار الوسطية. ولخَّص فيه صفات الوسطية بأنها عديمة الشكل وانتقائية، وأن الوسطي يلجأ إلى دروس أخلاقية مثيرة للشفقة لإخفاء فراغه الإيديولوجي، وأنه يقبل -بضغط الظروف- أقصى الخلاصات([18]).

والوسطية التي يعلن عليها الحرب تروتسكي تعني -في معناها القديم- تكتيكًا سياسيًّا محضًا بين قطبين متضادين هما اليمين واليسار بمعناهما القديم. وعلى امتداد النصف الأول من القرن العشرين كان اليسار ينظر إلى الوسطية على أنها سُبة، بينما ينظر إليها اليمين على أنها ممالأة للتطرف، وجوهر الصراع كان يدور حول المفاضلة بين الفرد والجماعة، فيما يخص تفاوتات الثروة والسلطة بين طبقات المجتمع. غير أن تلك الانقسامات خفت في النصف الثاني من القرن العشرين.

وحين أخذت الليبراليات الفردية تتعلم من الجماعيات وجوب التوازن الاجتماعي، فنشأت دولة الرفاه التي تحولت إلى منظومة راسخة في الخمسينات، اكتشفت الجماعيات الجامحة وجوب الإصلاح على خطا اقتصاد السوق وفتح باب الحريات، فبدأت حركة الإصلاح مطلع الثمانينات. وفي خضم هذا التقارب ولدت فكرة الوسطية مجددًا ليس بوصفها تكتيكًا سياسيًّا هذه المرة، بل بوصفها فلسفة اجتماعية ذات منظور تاريخي([19]). ولعل أبرز من يمثل هذا الاتجاه أنطوني جيدنز الذي نظّر للوسطية أو الطريق الثالث بوصفها صيغة لإعلان البراءة من التطرف أو للتعبير عن يأس من المواقف الحادة والقاطعة توخيًا للاعتدال([20]).

أما الوسطية الإسلامية، فينفي محمد عمارة أن تكون شبيهة بوسطية أرسطو «لأن الوسطية الأرسطية.. هي في العرف الأرسطي أشبه ما تكون في توسطها بالنقطة الرياضية التي تفصلها عن القطبين -الرذيلتين- مسافة متساوية، تضمن لها التوسط والوسطية. إنها نقطة رياضية وموقف ساكن وشيء آخر لا علاقة له بالقطبين اللذين يتوسطهما، وليست هكذا الوسطية في منهج الإسلام، إنها في التصور الإسلامي موقف ثالث حقًّا.. وموقف جديد حقًّا»([21]). وفي الواقع أن الطريق الثالث أو الوسطية عند جيدنز هي كذلك إطار للتفكير وإحداث فلسفة سياسية تتجاوب مع التغيرات الكبرى التي تغير العالم.

والمتتبع للكتابات حول الوسطية الإسلامية يلحظ بوضوح إلحاحها على أنها طريق ثالثة بين جملة ثنائيات: الدين والدنيا، الروح والجسد، الدين والدولة، الذات والموضوع، المقاصد والوسائل، الثابت والمتغير، العقل والنقل، الاجتهاد والتقليد، الأصالة والمعاصرة، إلى آخر تلك الثنائيات الكثيرة التي ترد في كلام الشيخ القرضاوي وعمارة وغيرهما.

وفي أحيان كثيرة يبدو لي أن تلك الوسطية لا تكاد تغادر المعنى اللغوي البسيط الذي هو وسط بين طرفين، ومن ثم فهي تلح على فكرة الثنائيات تلك، وتقع في أسرها، بل تزعم أن الوسطية تحل كل معضلات تلك الثنائيات التي أعيت الفلاسفة والعلماء السابقين عبر القرون، وسنعود لمناقشة هذا لاحقًا.

لكن يحسن قبل ذلك أن نعود للمفهوم القرآني للوسطية، فقد جاءت الوسطية وصفًا للأمة المسلمة مرة واحدة فقط في القرآن، في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وسبقها وأعقبها الحديث عن التوجه إلى القبلة-الكعبة المشرفة، {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا...} وأعقبها {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ...}([22]).

وقد جعل الإمام عبد الحميد الفراهي الآيات (1 - 152) من سورة البقرة لإثبات البعثة المحمدية وذكر براهينها، وتخلله إثبات النبوات عمومًا، وجملة الكلام في تلك الآيات أنه تعالى أعطانا عهدًا وكتابًا فيه هدى وفلاح وأنه عام لجميع الناس حسب سنته، وأن بني إسرائيل نقضوا عهده فسلبوا هذا العهد، وأنه تعالى أنجز ما وعد إبراهيم من أنه يبارك جميع الأمم بنسل إسماعيل، فبعث الله به نبيًّا يبارك الأمم كافة. وكذلك اجتبى أمة جديدة لاتِّباع هذا النبي، أمة وسطًا شهداء لله على الناس أجمعين، فألزم الحجة على الناس عمومًا وعلى أهل الكتاب خصوصًا. والآيات (124 - 151) خطاب للمؤمنين مع تعريض ببني إسرائيل في إثبات هذا العهد الجديد بناء على العهد القديم بإبراهيم (عليه السلام) وعلى البيت العتيق، وأن أصل هذا العهد الصلاة والذكر ونفي الأنداد وتطهير البيت، فحجتهم أن لا دين إلا دين اليهود والنصارى داحضة، وأن أمة قد خلت بما كسبت، وبعثتم خلائف فلكم ما تكسبون. وأنكم أمة وسط وكذلك قبلتكم، وأنكم على صراط مستقيم([23]).

فالسياق كما هو واضح سياق إثبات البعثة، وأن الاقتران بين الأمة الوسط وبين الاتجاه إلى القبلة في مكة، له صلة بالعهد الذي عهد الله به إلى إبراهيم الذي بنى الكعبة القبلة التي استأنف التوجه إليها محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأمته التي جاءت لتحمل العهد وتحيي ذلك التوجه التوحيدي إلى بيت الله الحرام. فكانت أمة وسطًا بالنسبة للأمم السابقة من اليهود والنصارى.

وما يدعم هذا التفسير أيضًا ما جاء في السنة النبوية عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «يُدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب. فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ. ويكون الرسول عليكم شهيدًا، فذلك قوله جل ذكره: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}([24]). والوسطية هنا ليست وسطًا بين طرفين، أو بين ثنائية، بل هي الخيرية فقد، قال الطبري: الوسط في كلام العرب الخيار، ولهذا توارد المفسرون على القول: {أُمَّةً وَسَطًا}، أي خيارًا عدولاً. ولهذا فإن آية الوسط ذات صلة بآية {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}([25]).

وقد أشار المرزوقي إلى مسألة مهمة في هذا السياق، فقال: «إن مفهوم الوسطية القرآني أسيء فهمه، فمادة (و س ط)، لم ترد في القرآن إلا في خمس آيات لا غير، وكلها تتعلق بالتوسط الوجودي، أعني التوسط الذي يصف حالة موجودة خبريًّا ولا يتكلم في التوسط القيمي الذي يكلف بتحقيق الوسط، فهو فيها جميعًا خبري ووجودي وليس إنشائيًّا وقيميًّا... فالوسطية حال وجودية يتصف بها المسلمون»([26]).

وعلى هذا التحقيق فلا نجد معنى لإقحام تلك التوجهات على النص القرآني أو بذل الجهد لاستخراج أدلة للوسطية من القرآن والسنة النبوية([27]) لتؤول في نهاية المطاف إلى توجه سلفي أو إخواني أو توفيقي. ولا أزال أستريب في أمر يقال إنه روح الإسلام ومن خصائصه الكبرى ويحتاج إلى جلب الأدلة عليه وإثباته بهذه الطريقة، أو يقع الاختلاف فيه هذا الاختلاف الواسع، ليصل مع البعض إلى القول: «إن العلمانية المعتدلة تلتقي مع الوسطية في كفالة حرية الأديان وكفالة حقوق المواطنة للكافة والتناوب السلمي على السلطة عبر انتخابات حرة»([28]). ولنجد أن الوسطية تلك تتيح لنا منهجًا للتعامل مع العولمة ومسائل الحكم، والتراث والإصلاح الاقتصادي والسياسي والإرهاب والعلمانية، وهي كلها قضايا معضلة في الفكر العربي والإسلامي على السواء، فضلاً عن الفكر الغربي نفسه، ثم يأتي الفكر المنعوت بالوسطية ليزعم أن لديه المنهج الذي يؤهله لحل تلك المعضلات والتعامل معها جميعًا، وذلك المنهج هو روح الإسلام وإحدى خصائصه الكبرى! في الوقت الذي نجد أن الفقه الإسلامي نفسه يكتنفه الكثير من المشكلات والقصور في معالجة تلك المسائل التي نقول: إن الوسطية تلتقي فيها مع العلمانية المعتدلة.

ثم إننا حين نقول: إن الوسطية هي بتلك المنزلة من الإسلام فأين تقع المذاهب الإسلامية التي هي نتاج جدل وتفاعل المسلمين مع النص الديني؟ المذاهب الفقهية والعقدية على السواء. فهل تقع داخل الوسطية الإسلامية التي هي روح الإسلام أم خارجه؟ وإذا وصفت جميعًا بالوسطية من أشعرية وسلفية وماتريدية ومعتزلة إلى غير ذلك فأي معنى للوسطية بين هذه المختلفات التي تصل إلى حد التناقض في بعض الأحيان؟ ومن يملك مشروعية احتكار ذلك النعت وسلبه عن الآخرين؟

الشيخ القرضاوي يعلن انتماءه إلى تيار حسن البنا ومدرسته (الإخوان) ويقول: «هو التيار الذي أسميه تيار الوسطية الإسلامية»([29])، بل إن «نهر الوسطية» -كما سماه بعضهم- يشمل كل من أضاف إليه قليلاً أو كثيرًا، حتى إنه ليشمل محمد عبده وسيد قطب وجماعة الدعوة والتبليغ والحركة السلفية وجماعة الجهاد وحزب التحرير!([30]) بالرغم من أننا لو جئنا نطبق معالم ذلك النهج الوسطي على تلك الجماعات والشخصيات سنجد أنها لا تتفق معها وإن اتفقت في بعضها.

معضلة تحديد معنى واضح ومحدد للوسطية، والمشكلات التي تعتور تصنيف الوسطيين وغير الوسطيين -مع ما في ذلك التصنيف نفسه من مشكلات- دفعت إلى القول: إن الوسطية «مسألة نسبية؛ فالسلوك الوسطي في بلد مثل المغرب لا بد أن يختلف عنه في بلد تحت الاحتلال مثل فلسطين أو العراق»([31]). بل إن هناك من تتجاوز به النسبية إلى القول: إن «الاعتدال نفسه ليس لوناً واحداً، فالاعتدال عبارة عن إطار واسع قد يشمل أطيافًا وأطرافًا مختلفة، ولكنها كلها معتدلة، فعلى سبيل المثال المذاهب الفقهية الأربعة كلها تعتبر مذاهب وسط ومذاهب اعتدال، ومع ذلك بينها اختلاف حتى في طريقة الاستنباط والأصول الفقهية فضلاً عن النتائج والآراء التي وصلوا إليها»([32]).

وهكذا توزعت الوسطية بين الإخوانية، والسلفية المذهبية، والنسبية التقديرية، والشمولية التي تشمل المذاهب الفقهية الأربعة بكل ما فيها من أقوال. وهي إلى ذلك، روح الإسلام وإحدى خصائصه الكبرى!

بل أكثر من ذلك، الوسطية ترتقي لتصبح نهجًا معرفيًّا لدى عمارة، «فبهذه الوسطية الجامعة لم تعرف الفكرية الإسلامية عندما التزمت بها ذلك التناقض الذي لم يجد له حلاًّ بين الروح والجسد.. الدنيا والآخرة.. الدين والدولة.. الذات والموضوع.. الفرد والمجموع.. الفكر والواقع.. المادية والمثالية.. المقاصد والوسائل.. الثابت والمتغير.. القديم والجديد.. العقل والنقل.. الحق والقوة.. الاجتهاد والتقليد.. الدين والعلم.. إلى آخر الثنائيات»([33]).

هذه الخطابية الشديدة، تقفز فوق حقائق التاريخ والمعرفة، فتزعم أنها حلت كل مشكلات المعرفة، وتعالت على كل خلافات التاريخ، بمنهج الوسطية الذي قدم الحلول السحرية لتلك الثنائيات التي لا يزال الفكر المعاصر يقدم المقاربات العديدة لمحاولة -أقول محاولة- حلها، سواء في المجال الديني -وتحديدًا الإسلامي المنقسم إلى تيارات عديدة لكل منها مقاربته، ومنها التجديدي الذي له إسهامات بارزة في هذا المجال- أم في المجال الفكري العام.

فعلى سبيل المثال قدم سام هاريس  Sam Harris (([34]))    نقدًا لاذعًا للاعتدال، معتبرًا أن المعتدلين في الدين سيكونون السبب الرئيس في تعريض البشرية إلى السقوط في الهاوية، دون أن يؤيد التطرف. فالاعتدال القائل باحترام كل طرف لمعتقدات الطرف الآخر مع أنه على يقين من خطئها يعدّ نفاقًا، فكيف إذا كان يعتقد أيضًا بأن هذا الآخر سيكون مصيره الجحيم؟

ومع قطع النظر عن موقف هاريس الذي ينطلق من موقف لا ديني، فإن جداله يحيل إلى مسألة فلسفية وجيهة، تم طرحها تاريخيًّا ضمن جداليات العقل والنقل، وهي أن الاعتدال يلجأ إلى إعادة تفسير النصوص الدينية لكي تتماشى مع العقل وتواكب التطور العلمي والثقافي، وفي سبيل إعادة التفسير تلك أو انتقاء بعض النصوص والسكوت عن بعضها الآخر، تُرتكب خيانات بحق النصوص والعقل معًا، وهذا ربما يدفع إلى نمو ما يسمى بـ«الأصولية» التي تنهض دومًا لحماية طهورية النص ونقائه.

وقد علق المرزوقي على كلام عمارة بالقول: «إن عدم التمايز في المواقف التي أشار إليها الأستاذ يعني حتمًا عدم إدراك الفروق بين الأشياء ثم عدم التفكير أصلاً. هذا فضلاً عن كون أمة غارقة في أدنى مشكلات حياتها اليومية كيف يمكن أن تزعم أن فكرها قد استطاع حل كل هذه المعضلات الوجودية والمعرفية التي عجز دونها الفكر البشري في الحضارات الأخرى؟»([35]).

وكما أن الوسطية في المجال الديني تحتوي على تبسيط شديد، فإنها في المجال المعرفي أشد تبسيطًا، تبدأ من عدم القدرة على الزعم بوجود تصور ثابت للوسطية، وأنها ليست حلاًّ لتلك الثنائيات، ولا يمكن لها أن تكون كذلك على المستوى النظري الفلسفي، الذي ينزع إلى طلب الغايات دون الحلول الوسط أو التوفيقية التي يمكن للعمل أن يقبلها، وعدم التفريق بين الذريعية الواجبة في العمل، وطلب الغايات في النظر، اعتبره المرزوقي السبب الرئيس في موت كل إبداع في حضارتنا حتى إن القرنين الأخيرين لم ينبغ فيهما عالم أو فيلسوف واحد أبدع ما يمكن أن يعد توسيعًا لمجال معرفي أو لأفق خلقي في المسيرة البشرية.

وحين نقول: إن الوسطية تجمع بين صريح المعقول وصحيح المنقول، نفترض بأننا نملك صريح المعقول وصحيح المنقول وأن المهمة تنحصر في مجرد الجمع بينهما، فإذا تجاوزنا ذلك كله، إلى العلم/ المعيار الذي يمكِّننا من ذلك الجمع، غير الاعتباطي أو التوفيقي أو حتى التلفيقي، فسيكون ذلك العلم متعاليًا على الطرفين، الصحيح والصريح، ومن ثم فهذا المتعالي لا يقبل الوسطية والتوسط، لأنه علم معياري.

وبغض النظر عن الكلام الإنشائي لعمارة حول مفارقة الوسطية الإسلامية لوسطية أرسطو، فإن التدقيق لا يظهر فرقًا بين الموقفين، وانحصار الوسطية بكونها حلاًّ يتم تقديمه أمام تلك الثنائيات التي لا نهاية لها، هو خضوع لمنطق القول الأرسطي في تعريف الفضائل، والتي يكتفي فيها بالجمع بين رذيلتين، من خلال ارتكاب قليل من الإفراط وقليل من التفريط. والوسطية الإسلامية تتغافل عن أن الدخول في منطق الجمع بين الثنائيات تلك بأي شكل كان، يعني دخولاً في جدل جديد يتم فيه النقاش حول ذلك القدر الذي تم الجمع بينه من الطرفين، أو ذلك الشكل من الجمع، أو البحث في أي المجموعين تم إخضاعه للآخر؟ أو ما الذي تم قسره ليدخل في الآخر؟ أو هل تم فعلاً الجمع مع بقاء جوهر الطرفين دون تحوير أم تم تحوير الطرفين عينهما ليمكن الجمع من خلال طرف ثالث جديد مفارق للطرفين وإن كان فيه شبه بهما؟ فهل فعلاً الوسطية على هذا تشكل حلاًّ؟

إن الدخول في منطق الثنائيات نفسه، دخول في منطق تبسيطي ذي منحى توفيقي، أليق بالمنطق الدعوي والسياسي، وليس مسلكًا معرفيًّا، فالفعل المعرفي يحدد هدفه بالبحث عن موطن الإشكال الرئيس ويفحصه ليحاول معالجته والإجابة عنه، وليس يحاول الجمع بين طرفيه. من هنا فالوسطية تتجاهل موطن الإشكال في تلك الثنائيات، وتتوهم أنها يمكنها حله بمنطق الجمع الأرسطي. فتتحول إلى فعل إيديولوجي دفاعي في وجه التحديات أو لمواكبة المتغيرات. وفي سياق تدعيم فعلها الإيديولوجي تلجأ إلى القرآن لتفسير الوسطية بأنها جمع بين الثنائيتين: إفراط وتفريط بالتعبير الأرسطي، أو التوسط والاعتدال بين ثنائية اليهودية والمسيحية الديانتين السابقتين على الإسلام. في حين أن السياق القرآني كما شرحناه سابقًا يقع خارج منطق الثنائيات تلك، ويقدم الرسالة المحمدية (الإسلام) على أنها رسالة معيارية -وليست توسطية- يقاس إليها كل انحراف وقع في الديانات السابقة، وهي رسالة مهيمنة على ما سبقها وليست جامعة بين ما سبقها.

اقتصرت هنا في هذا المقال المتواضع على مناقشة منطق الوسطية دون الدخول في معالجاتها وأطروحاتها لحل تلك الثنائيات، الحل الذي تعزوه غالبًا إلى الإسلام جملة وتفصيلاً!، بالرغم من أن الدخول في حلولها الوسطية لتلك الثنائيات ومقارنتها مع أطروحات غيرها سيكشف ليس فقط عن تنوع، بل عن تناقضات هي موجودة داخل الفكر الإسلامي، لكن تثور المشكلات حينما يتم نسبة هذا فقط أو ذاك فقط إلى الإسلام فتمارس إقصاءً لما عداها، مع أنه ينبغي التصوّن في المسائل والتصورات التي تُعزى إلى الإسلام -بأل التعريف- من قبل كل الأطراف، لتبقى مساحة واضحة وبارزة للاجتهادات البشرية في فهم النصوص الدينية.

وبالرغم من أنه ثمة ثنائيات كثيرة ادّعت الوسطية الجمع بينها، يكتنفها الكثير من المعضلات، فحسبنا أن نشير هنا إلى ثنائية الأصالة والمعاصرة، أو السلفية والتجديد التي تجمع الوسطيةُ بينها على الرغم مما بين السلفية والتجديد من تباين شديد، يجعل من الوسطية فيهما تبسيطًا لهما، فالمدقق في الخطاب الإسلامي وتنويعاته، من اتجاهات إصلاحية وسلفية وتجديدية وغيرها، ورؤية كل منها للزمن والتاريخ، يدرك أن الوسطية تستبطن وعيًا سلفيًّا للتاريخ، وتتصالح -ظاهريًّا- مع العصر، وتؤجل كل الأسئلة بدلاً من أن تحلها. فالوعي السلفي بالزمن يتشكل على صيغة لحظة نورانية طاهرة ظهرت في عتمة التاريخ بعد أن كان كالحًا، لكن هذا النور التقوي (من التقوى) الذي أضاء التاريخ، لم يلبث لدى السلفية أن تحول إلى لحظة معرفية شاملة كل الكمال، ومن ثم فإن الزمن يسير نحو التناقص، والتاريخ -باستمرار- متقدم نحو الأسوأ، بحيث يجعل كل الفهوم والتصورات المعرفية موجودة هناك في تلك اللحظة النورانية، وعليه يكون مرجع كل المعرفة هناك عند لحظة الاكتمال([36]). وأحد تجليات هذا الاكتمال هو تلك الإحالة المستمرة في الخطاب الوسطي إلى أن كل ما قاله الغرب موجود لدينا منذ زمن، من نتاج تلك اللحظة النورانية المكتملة([37]).

تلك الإحالات لم تكن إحالات قولية مجردة، بل نشأ في ظل ما سمي بالصحوة الإسلامية نتاج كبير من كتابات غاية في السطحية تحمل عناوين حداثية ومحتويات سلفية رخوة، من مثل: علم الاجتماع الإسلامي، وعلم النفس الإسلامي،... فضلاً عن تلك اللغة السطحية التي استعارت العديد من المصطلحات الغربية وقامت بأسلمتها بشكل مبتذل، على نحو ما أشرت إليه في مقدمة هذا المقال. ولا يخرج عن هذا تلك الكتب التي كتبت لاستجلاب الأدلة من القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي «لتأصيل» علوم غربية إسلاميًّا من مثل تلك الكتب عن حماية البيئة في الإسلام.

بل إن المرزوقي يرى الرأي نفسه فيما يخص علم الكلام، فيقول: «إن الصحوة فرَّخت علم كلام سطحي أقل عمقًا وعلمًا من علم الكلام الوسيط، فضلاً عن كونه لا يسهم لا في العلم والفلسفة، ولا في العمل والدين، بل هو مجرد إيديولوجيا دفاعية تتغنى بأمجاد الماضي وتقتل الحاضر والمستقبل»([38]).

وفي الواقع إن الصحوة الإسلامية تلك، على الرغم مما أنتجته على مستوى الشعائر والتدين السلوكي، فإنها لم تنتج مدارس فكرية وعلمية، بل فرّخت كتبًا وأفكارًا وتصورات سطحية لا يمكن لها أن تشكل وزنًا في ميزان المعرفة المعاصرة، فتلك الأسلمة التي بدأت بمحاولات «تأصيل» إسلامية وبإثبات بأن ما لدى الغرب لدينا قديمًا، انتهت مع أمثال الإعجاز العلمي والطب النبوي والطب الإسلامي إلى مفاصلة مع علوم الغرب في هذا الميدان مفاصلة حادة في بعض الأحيان!

إذن هل بات من الضروري أن نعيد النظر في مفهوم الوسطية وفي مجال تحققها، وكيفياتها، وشروط استعمالها لتحقيق مدلولها السوي بعيدًا عن تلك التفسيرات السطحية، والاستعمالات الإيديولوجية؟

حسبي في هذا المقال أني أثرت بعض الأفكار، التي تحتاج إلى استكمال وتعمق، وتوسع، ربما يكون لها مجال آخر بحول الله.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.



([1])  كاتب وباحث سوري - مدير تحرير الملتقى الفكري للإبداع.

([2]) سورة البقرة، الآية 143.

([3])  رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري انظره في: الصحيح، كتاب التفسير، حديث رقم 4487.

([4]) روبرت ساتلوف، السياسة الأمريكية تجاه الظاهرة الإسلامية: مراجعة نظرية وتطبيقية، معهد الشرق الأدنى للدراسات، 2000م.

([5]) عنوان مقال لدانيال بايبس في صحيفة نيويورك صن، في نوفمبر 2004م، منشور على:http://ar.danielpipes.org/article/2246

([6]) جون اسبوزيتو، الإسلام السياسي والسياسة الخارجية الأمريكية، بحث ضمن: أحمد يوسف (إعداد)، مستقبل الإسلام السياسي: وجهات نظر أمريكية، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1، 2001م.

([7]) تركي علي الربيعو، الإسلام المعتدل والديموقراطية الأمريكية، الحياة اللندنية، 30/7/2005.

([8]) يبدو أحمد البغدادي في مقاله: أكذوبة التيار المعتدل، وكأنه يردد كلام بايبس. انظر مقاله في:http://www.kwtanweer.com/articles/articleforprint.php?articleID=119

([9]) وهي معايير ذكرها محمد محفوظ في  حوار معه حول الحركات الإسلامية وانشغالات اللحظة الراهنة، منشور على موقع:

www.balagh.com/islam/0c1eefr8.htm

([10])  أنور أبو طه، محنة الوسطية الإخوانية في مستقبل العمل السياسي، صحيفة الحياة اللندنية، 22-03-2006.

([11]) راشد الغنوشي، الوسطية في الفكر السياسي للقرضاوي، ضمن كتاب: يوسف القرضاوي: كلمات في تكريمه وبحوث في فكره وفقهه، الدوحة، 2003م، ص330.

([12])  يوسف القرضاوي، الخصائص العامة للإسلام، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط3، 1985م.

([13])  فهمي هويدي، يسألونك عن الوسطية، صحيفة الشرق الأوسط، 8 يونيو 2005.

([14])  ناصر بن عبد الكريم العقل، الوسطية والاعتدال في القرآن والسنة، مقال ضمن ندوة (أثر القرآن الكريم في تحقيق الوسطية ودفع الغلو)، منشور على موقع: www.al-islam.com وهو ذاته ما قام به وليد الرشودي عبر قناة المجد الفضائية حين حشر الوسطية في السلفية وضرب لها الأمثال العقدية في الصفات ليصل إلى أن الوسط هو أخص خصائص المعتقد السلفي في الأسماء والصفات!

([15]) كما جاء في برنامج العمل العشري لمنظمة المؤتمر الإسلامي، انظر نصه في: صحيفة الحياة اللندنية، 07-12-2005.

([16]) تلك بعض محاور مؤتمر «الوسطية .. منهج حياة» الذي انعقد في الكويت برعاية وزارة الأوقاف الكويتية بالتعاون مع الهيئة الخيرية الإسلامية بالسعودية، 21-23/05/2005.

([17])  أكمل الدين إحسان أوغلي، الوسطية المستنيرة في الإسلام، مقال منشور على موقع: www.islam-online.net/arabic/arts/2005/03/article07.shtml

([18]) ليون تروتسكي، الوسطية والأممية الرابعة، ضمن كتابات تروتسكي، بإشراف بيار برويه، باريس: معهد ليون تروتسكي، 1978، 3/239. نقلاً عن: www.marxists.org .

([19])  انظر: فالح عبد الجبار، العراق وسواه من أوضاع مشابهة: الوسطية الضائعة منذ نصف قرن، صحيفة الحياة اللندنية، 02-10-2006.

([20])  أنطوني جيدنز، بعيدًا عن اليسار واليمين، ترجمة شوقي جلال، الكويت: عالم المعرفة، عدد 286، أكتوبر 2002.

([21])  محمد عمارة، معالم المنهج الإسلامي، القاهرة: دار الشروق، ط1، 1991م، ص77.

([22]) سورة البقرة، الآية 142-143.

([23]) عبد الحميد الفراهي، تفسير نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان، (سورة البقرة)، الهند: الدائرة الحميدية، ط1، 2000، ص270-274. وأود تقديم الشكر الجزيل إلى الدائرة الحميدية في الهند التي تكرمت بإرسال هذا الكتاب إلي. فجزى الله القائمين عليها خيرًا.

([24]) رواه البخاري، الصحيح، كتاب الأنبياء، حديث رقم 4487، وكذلك رواه الترمذي، برقم 3140، وابن ماجة برقم 4284 وغيرهم.

([25]) سورة آل عمران، الآية 110.

([26]) أبو يعرب المرزوقي، تعليق على بحث الأستاذ محمد عمارة، مقال في وسطية العقلانية الإسلامية، منشور على: www.almultaka.net وأشار إلى مقومات لوسطية الأمة الإسلامية هي موضع نقاش بالنظر إلى السياق القرآني.

([27])  انظر مثلاً: محمد بن عمر بازمول، أدلة الوسطية في القرآن والسنة، ندوة «أثر القرآن الكريم في تحقيق الوسطية ودفع الغلو» 3-11/8/1424هـ، منشور على www.al-islam.com .

([28]) الصادق المهدي، يسألونك عن الوسطية، صحيفة الشرق الأوسط، 2 مايو 2006م.

([29]) يوسف القرضاوي، الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، القاهرة: دار الصحوة، ط1، 1988م، ص41.

([30]) هاني الطايع، الشيخ يوسف القرضاوي ومنهج الوسطية، ضمن كتاب: يوسف القرضاوي السابق ذكره، ص 908.

([31]) فهمي هويدي، يسألونك عن الوسطية، صحيفة الشرق الأوسط، 8 يونيو 2005م.

([32]) سلمان العودة، حوار معه في صحيفة المدينة، الاثنين 10/4/1427هـ.

([33]) محمد عمارة، معالم المنهج الإسلامي، مرجع سابق، ص80.

([34]) Sam Harris, The End of Faith: Religion, Terror, and the Future of Reason. نهاية الإيمان: الدين والإرهاب ومستقبل العقل.

([35]) المرزوقي، في تعليقه على عمارة، المشار إليه سابقًا، هامش رقم 5 من مقال المرزوقي.

([36]) انظر دراسة مهمة عن مفهوم الزمن في الخطاب الإسلامي: عبد الرحمن الحاج، التجديد الإسلامي وخطاب ما بعد الهوية، ضمن كتاب: الإسلام في عالم متغير: سياسات الإصلاح الإسلامي بعد 11 سبتمبر، (كتاب الملتقى الفكري للإبداع)، دمشق: دار الفكر، ط1، 2005م.

([37]) النصوص حول هذا كثيرة في كتب الوسطيين، لكن مما له دلالة هنا قول أوغلو في مقاله المشار إليه سابقًا «الوسطية المستنيرة في الإسلام»: «كلنا يعلم أن ما أدركه الغرب أخيرًا من فتوحات في ميادين التقدم والقيم والعلوم الإنسانية هو امتداد لإسهامات الحضارة الإسلامية، ولا يوجد خلاف للمسلمين مع كثير من القيم العالمية السامية الرائجة اليوم، أو مع مقتضيات القانون الإنساني الدولي، بل يمكننا القول بكل فخر: إن هذه القيم امتداد لقيمنا».

([38]) المرزوقي، في مقاله السابق.