شعار الموقع

مفهوم التسامح وقضايا العيش المشترك

محمد محفوظ 2007-04-26
عدد القراءات « 781 »

مفتتح

في زمن الصراعات المذهبية والدينية والقومية تتأكد الحاجة إلى ثقافة التسامح والحوار، لأنه لا يمكن الوقوف ضد نزعات القتل والإلغاء لدواعي دينية أو مذهبية أو قومية إلا بتعميق خيار التسامح والحوار في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

لأن هذا الخيار هو الذي يساهم في إعادة صياغة علاقة الإنسان بأفكاره وعقائده. فالتعصب الأعمى للذات وأفكارها وعقائدها هو الذي يدفع الإنسان للتجاوز على حقوق وكرامات الآخرين. وثقافة التسامح هي التي تضبط علاقة الإنسان بعقائده وأفكاره، بحيث لا تصل إلى مستوى التعصب الأعمى الذي يقود صاحبه إلى القتل وممارسة التدمير باسم القيم والعقيدة.

لهذا فإن ساحتنا العربية والإسلامية اليوم أحوج ما تكون إلى هذه الثقافة، التي تطرد من فضائنا الاجتماعي والثقافي والسياسي كل مظاهر العنف وأشكال الإلغاء والنفي، وتؤسس لقيم الحوار والتواصل والاحترام، وتقودنا جميعاً صوب صياغة علاقتنا بعضنا ببعض مع تعدديتنا الدينية أو المذهبية أو القومية أو العرقية، على أسس العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص واحترام وصيانة حقوق الإنسان.

وفي سياق العمل على تعميق خيار وثقافة التسامح والعدالة في الاجتماع الإسلامي المعاصر، نتطرق إلى المحاور التالية:

أولاً: التسامح في الإسلام

ثمة مداخل منهجية عديدة لتوضيح مفهوم التسامح في المنظور الإسلامي، إلا أن من أهم هذه المداخل هي تلك المرتبطة بطبيعة الإسلام وتشريعاته ونظمه.إذ لا يمكننا منهجيًّا أن نتصور تشريعات الإسلام وأحكامه ونظمه بكل مستوياتها، بعيداً عن حقيقة التسامح التي تحتضنها كل قيم وتشريعات الإسلام. ووجود مفارقة صارخة على هذا الصعيد بين قيم الإسلام ومثله وواقع المسلمين المليء بالكثير من المظاهر والحقائق المضادة لمفهوم التسامح... يدفعنا إلى الإصرار على أهمية اكتشاف رؤية الإسلام لمفهوم التسامح، من داخل قيمه ومن الطبيعة التشريعية والقانونية التي تمثلها قيم الإسلام ونظمه الأساسية.

ففي الإسلام «تعتبر الكلمة أول شيء وآخر شيء في الدعوة، ذلك لأن الدعوة إلى الله تعالى لما كان الهدف منها إيصال الحق إلى القلوب، ليستقر فيها ويحرك الإنسان باتجاه الفضيلة، فإن من الضروري أن تكون الكلمة الوسيلة الأساس في تحقيق هذا الهدف، بسبب ما فيها من رؤية ولين وقدرة على الإقناع، وبسبب ما تحققه من ضمانة الثبات والتمكن لأفكارها في القلوب والسلوك. وهذا السياق هو الذي تؤكده الآيات الكريمة بوصفه الميزة التي اختصت بها الدعوة الإسلامية، التي أرادت السمو بالإنسان إلى ملكوت الله تعالى والأنس بجواره»([1]).

فيقول تبارك وتعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}([2]). والموعظة الحسنة على حد تعبير بعض المفسرين هي: التي تدخل القلب برفق، وتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية. فإن الرفق في الموعظة كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة ويؤلف القلوب النافرة ويأتي بخير من الزجر والتأنيب.والدعوة إلى سلوك الطريق الأحسن في مقام الجدل والصراع الفكري، هي دعوة قرآنية تخاطب كل مجال من مجالات الصراع في الحياة وتتصل بكل علاقة من علاقات الإنسان بأخيه الإنسان في مجالات الصرع. إنها دعوة الله إلى الإنسان في قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}([3]). وقوله: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا}([4]).

هذه الدعوة الصافية توحي للإنسان في كل زمان ومكان أن مهمته في الحياة هي أن يثير في الإنسانية عوامل الخير ويلتقي بها في عملية استثارة واستثمار، بدلاً من عوامل الشر التي تهدم ولا تبني وتضر ولا تنفع، وتدفعه في الوقت نفسه إلى أن يجعل اختيار الأحسن في كل شيء وفي كل جانب من حياته شعاره الذي يرفعه في كل مكان وزمان.

وإن القوة مهما كانت درجتها لن تنسجم مع طبيعة الرسالة الإسلامية، مادامت القوة تعني محاصرة العقل وفرض الفكرة عليه تحت تأثير الألم أو الخوف. لذلك فإن الباري عز وجل يحذر رسوله أن يمارس التبليغ بروح السيطرة والاستعلاء، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}([5]).

ولما كانت الأخلاق تتجلى رقةً وحناناً واستيعاباً للآخرين، فإننا نلاحظ أن الله تعالى يُذكِّر نبيه بالقاعدة الذهبية التي جعلته داعيةً ناجحاً ومقبولاً، ويؤكد له أن حيازته هذه السجية إنما هي بفضل الله وتوفيقه. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}([6]). وفي هذا الجو المفعم بالأخلاق وطيب القلب والعفو، نحدد علاقتنا بالأشياء والأشخاص، لتكون بأجمعها مشدودة إلى هذه القيم النبيلة، وسائدة في هذا الاتجاه. فالأصل في العلاقة بين بني الإنسان بصرف النظر عن منابتهم الإيديولوجية والفكرية، هو الرحمة والإحسان والبر والقسط وتجنب الإيذاء.

فالتسامح وفق المنظور الإسلامي، فضيلة أخلاقية، وضرورة مجتمعية، وسبيل لضبط الاختلافات وإدارتها.

والسؤال الذي يطرح في هذا السياق هو: ما هي الجذور المعرفية والفكرية لمفهوم التسامح في الرؤية الإسلامية.

وبإمكاننا أن نجيب عن هذا السؤال من خلال النقاط التالية:

1- يعترف الإسلام في كل أنظمته وتشريعاته بالحقوق الشخصية لكل فرد من أفراد المجتمع، ولا يجيز أي ممارسة تفضي إلى انتهاك هذه الحقوق والخصوصيات. ولا ريب أنه يترتب على ذلك على الصعيد الواقعي الكثير من نقاط الاختلاف بين البشر، ولكن هذا الاختلاف لا يؤسس للقطيعة والجفاء والتباعد، وإنما يؤسس للمداراة والتسامح مع المختلف. فالاختلاف بكل صوره وأشكاله، ليس مدعاة أو سبباً لسلب الحقوق أو نقصانها، وإنما تبقى حقوق الإنسان مصانة وفق مقتضيات التسامح والعدالة.

2- إن الحقيقة الكاملة والناجزة لا يمكن الوصول إليها دفعة واحدة، وإنما هي بحاجة إلى فعل تراكمي يستفيد من كل العقول والجهود والطاقات الإنسانية. لذلك من الأخطاء الفادحة والقاتلة التعامل مع القناعات الإنسانية بوصفها حقائق جزمية ومطلقة. وذلك لأن هذا التعامل، هو الذي يؤسس للدوغمائية التي ترى في قناعتها الحقيقة المطلقة، فتمارس على ضوء ذلك التطرفَ والتشددَ على قاعدة امتلاك الحقيقة المطلقة. وعلى اعتبار أننا كبشر لا نمتلك هذه الحقيقة المطلقة، وإنما هي موزعة بين البشر، وتحتاج إلى إنصات وتواصل مستمر بينهم. لذلك فإن التسامح هو الخيار السليم الذي ينبغي أن يتم التعامل به.

3- إن المنظومة الأخلاقية والسلوكية التي شرعها الدين الإسلامي من قبيل الرفق والإيثار والعفو والإحسان والمداراة والقول الحسن والألفة والأمانة، وحث المؤمنين على الالتزام بها وجعلها سمة شخصيتهم الخاصة والعامة؛ كلها تقتضي الالتزام بمضمون مبدأ التسامح. بمعنى أن تجسيد المنظومة الأخلاقية على المستويين الفردي والاجتماعي يفضي لا محالة إلى شيوع حالة التسامح في المحيط الاجتماعي. فالرفق يتطلب توطين النفس على التعامل الحضاري مع الآخرين، حتى ولو توافرت أسباب الاختلاف والتمايز معهم. والمداراة تقتضي القبول بالآخر، واليسر والتيسير يتطلبان التعايش مع الآخرين، وحتى ولو اختلفت معهم في القناعات والتوجهات. إذ يقول عز من قائل: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([7]).

ومن خلال هذه المنظومة القيمية والأخلاقية نرى أن المطلوب من الإنسان المسلم دائماً وأبداً وفي كل أحواله وأوضاعه، أن يلتزم بمقتضيات التسامح ومتطلبات العدالة.

فالتسامح كسلوك وموقف ليس مِنَّةً أو دليل ضعف وميوعة في الالتزام بالقيم، بل هي من مقتضيات القيم ومتطلبات الالتزام بالمبادئ. فالغلظة والشدة والعنف في العلاقات الاجتماعية والإنسانية هي المناقضة للقيم، وهي المضادة لطبيعة متطلبات الالتزام، وهي دليل ضعف وخواء.

وعليه فإن التسامح الذي يقود إلى التعايش والاستقرار الاجتماعي وتطوير أواصر وأسباب التعاون بين مختلف أبناء وشرائح المجتمع، هو من صميم القيم الإسلامية النبيلة، وكل إنسان خالف ذلك، ومارس الغلظة والشدة في علاقاته الإنسانية والاجتماعية لدواعي مختلفة، هو الذي يحتاج إلى مبررات إيديولوجية واجتماعية. فالأصل في العلاقات الاجتماعية والإنسانية أن تكون علاقات قائمة على المحبة والمودة والتآلف، حتى ولو تباينت الأفكار والمواقف، بل إن هذا التباين هو الذي يؤكد ضرورة الالتزام بهذه القيم والمبادئ.

و«في القراءة المتأنية للقرآن الكريم نلتقي بعنوان «العفو» {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، و «المغفرة» {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللهِ} {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللَه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وهاتان الكلمتان تدلان على التساهل في مسألة الحق بإسقاطه، وفي الذنب والخطأ بمحوه، كما ورد في الحديث: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له». والصبر على ضغط الانفعالات النفسية في مؤثراتها السلبية بمنعها عن الانفجار ورد الفعل، وليس فيها أية إيحاءات للمعنى الإنساني السلبي بالنسبة إلى المعفو عنه بما يعبر عن الإسقاط والإذلال، بل هو تعبير عن المبادرة إلى إعطاء الفرصة للآخر بالتخفف من ضغط الذنب والخطأ وإنكار الحق، ما يساهم في إسقاط الحواجز الداخلية والخارجية بين العافي والمعفو عنه"([8]).

فالإسلام بقيمه ومبادئه، وتجربته التاريخية المجيدة، لم يشرع لممارسة العنف ضد المختلف، ولم يؤسس للمفاصلة الشعورية والعملية ضد المغاير الذي لم يمارس عملاً عدوانيًّا ضد المسلمين. لذلك يقول تبارك وتعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}([9]).

والمنهج النبوي مليء بالقصص والنماذج على سماحة الإسلام، وسعي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) وصحبهم الكرام (رضي الله عنهم) من أجل استيعاب مخالفيهم والإحسان إليهم، والعفو عن المسيء، وحسن الظن بالناس.

فالمجتمع المتعدد الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لم يبنه على القهر والقسر وفرض اللون الواحد، بل على التسامح وحسن الظن والحوار والاحترام المتبادل. وجاء في عهد الإمام علي بن أبي طالب لمالك الأشتر حين ولَّاه على مصر «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً، تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ. فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولَّاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم، ولا تنصبن نفسك لحرب الله، فإنه لا يد لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة...»([10]).

«ولم يسجل التاريخ حوادث طائفية، أو سجالاً عقائديًّا، أو تناحراً، أو احتراباً على أساس ديني، رغم تواصل الحوار بين الأطراف المعنية، كما لم يصدر النبي أو الصحابة خطاباً تحريضيًّا يقوم على الإقصاء أو الرفض للآخر المختلف دينيًّا، بل كان السائد هو لغة الحوار والتفاهم بين الأديان السماوية الثلاثة {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}، بل قنن القرآن أسلوب الحوار مع أهل الكتاب على أساس {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. وإنما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحرب مع أهل الكتاب بعد أن نقضوا بنود الميثاق (صحيفة المدينة) وتواطؤوا مع العدو لإجهاض الدولة الفتية، إذ كان ذلك مبرراً لدخوله معهم في عدة حروب وفي أكثر من موقع، وأصبح الدفاع عن النفس والمجتمع آنئذ أمراً مشروعاً لحماية النفس والمجتمع من مداهمات الأعداء»([11]).

ووجود حالات من انتهاك حقوق الإنسان، أو الضيق بالرأي المختلف في تجربة المسلمين، ينبغي أن تقرأ هذه الحالات في سياقها السياسي والاجتماعي والثقافي القائم. فهذه الممارسات هي وليدة ظروفها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نحسبها على الإسلام. فالقيم الإسلامية جاءت من أجل صون الحرية والحقوق، وأي تجاوز عليهما مدان ومستنكر وفق المقتضيات والضوابط الإسلامية.

لذلك من الأهمية بمكان قراءة التاريخ والتجارب المختلفة للمسلمين بعيداً عن عقلية التقديس والنزعات النرجسية، التي لا ترى في التجربة التاريخية للمسلمين أي خطأ أو تجاوز لقيم الإسلام.

ووحدتنا الاجتماعية والوطنية اليوم بحاجة إلى غرس قيم ومتطلبات التسامح في فضائنا الاجتماعي والثقافي والسياسي. كما أن من مقتضيات مواجهة التحديات الكبرى التي تواجهنا إشاعة قيم الحوار والتسامح والمحبة والألفة بين أبناء المجتمع والوطن الواحد.

فالتسامح بما يعني من قيم وسلوك ومواقف هو جسرنا لإعادة تنظيم علاقتنا الداخلية، بما يوفر لنا إمكانية حقيقية وصلبة لمواجهة كل التحديات والصعوبات.

فالتسامح اليوم ليس فضيلة فحسب، بل هو ضرورة اجتماعية وثقافية وسياسية، وذلك من أجل تحصين واقعنا أمام كل المخاطر الزاحفة إلينا، والتي تستهدفنا في وجودنا ومكاسبنا وتطلعاتنا.

ولا شك أن تعميم وغرس هذه القيمة في فضائنا الاجتماعي بحاجة إلى سياج قانوني وإجرائي يحمي هذه القيمة ويوفر لها الإمكانية الحقيقية لكي تستنبت في تربتنا الاجتماعية.

وهذا يتطلب منا العناية والالتزام بالأمور التالية:

1- ضرورة تجريم كل أشكال بث الكراهية والحقد بين أبناء الوطن والمجتمع الواحد. فاللحظة الراهنة تتطلب منا جميعاً القبض على وحدتنا واستقرارنا، وهذا بطبيعة الحال يتطلب الوقوف بحزم ضد كل محاولات بث الفرقة والكراهية والحقد بين أبناء الوطن الواحد.

2- أن تعتني وسائل الإعلام والتثقيف والتوعية في مجتمعنا بهذه القيمة، وتعمل على تكريسها في خطابها الثقافي والإعلامي، حتى يتوافر المناخ المناسب لكي تكون هذه القيمة جزءاً من نسيجها الثقافي والاجتماعي.

3- إن المؤسسات والمعاهد والشخصيات الدينية في المجتمع تتحمل مسؤولية كبرى على هذا الصعيد. لذلك فإن هذه الجهات معنية اليوم بضرورة إشاعة وتعميق متطلبات التسامح في واقعنا الاجتماعي والثقافي والسياسي.

فالمطلوب من هذه المؤسسات والجهات، ليس تبرير وتسويغ أشكال وممارسات الكراهية في المجتمع، بل محاربتها ورفع الغطاء الشرعي عنها، والعمل من مختلف المواقع وعبر مختلف الوسائل لتعميق قيم الحوار والتسامح وصيانة حقوق الإنسان في المجتمع.

ثانياً: رؤية في العيش المشترك

ثمة سؤال مركزي تثيره الأحداث والتطورات في أكثر من بلد عربي وإسلامي. وهو كيف نعيش معاً ونحن مختلفون. وذلك لأن الاختلاف في أي دائرة من دوائر الحياة والفكر من الحقائق الثابتة والشاخصة في حياة الإنسان بصرف النظر عن بيئته أو تكوينه المعرفي والعقدي. ولكن في الوقت ذاته لا يمكن للإنسان أن يعيش وحده، وإنما هو مجبول على أن يعيش حياة اجتماعية وإنسانية مع آخرين قد يختلفون معه كليًّا أو جزئيًّا. وكل المحاولات التي بذلها الإنسان الفرد أو الجماعة لتعميم قناعاته ومواقفه، واستخدام القهر والغلبة لسيادة أفكاره ومعتقداته، لم تفضِ إلا إلى المزيد من الاختلاف والاحتقان.

لذلك فإننا بحاجة إلى أن نبحث عن إجابة أو صيغ حضارية للتعامل مع حقيقة الاختلاف الإنساني وضرورات العيش المشترك. فلا يمكن أن ندحر الاختلافات أو نطمسها بين البشر، كما أنه لا يمكن أن ينعزل الإنسان وينكفئ عن غيره بدعوى الاختلاف والتباين في وجهات النظر.

ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن طبيعة الإجابة عن هذا السؤال، هي التي ستحدد بشكل أو بآخر طبيعة المستقبل السياسي والاجتماعي للعديد من الدول والبلدان العربية والإسلامية. وإن مظاهر العنف والفوضى التي تشهدها بعض البلدان هي ليست من تداعيات حقيقة التنوع والتعددية الموجودة في هذه البلدان، وإنما هي لغياب صيغة حضارية تجمع بين حقيقة الاختلاف الذي لا يمكن نبذه وإنهاؤه من الوجود الإنساني وضرورات العيش المشترك. لهذا فإن الوصول إلى صيغة سياسية وثقافية ومجتمعية لهذا الأمر هو الذي سيحدد شكل المستقبل السياسي للعالم العربي. فكيف يمكن بناء رؤية وطنية في كل بلداننا وأوطاننا العربية لا تغفل حقيقة التعدد والتنوع والاختلاف، ولا تتجاوز متطلبات الوحدة والعيش المشترك؟

وإن التغافل عن هذه الحقيقة، أو عدم احترام متطلباتها، هو الذي ساهم بشكل أو بآخر بحالات الفوضى والعنف التي سادت في بعض البلدان العربية والإسلامية. فلا يمكن قهر الناس على رأي وطريقة واحدة، وإن أية محاولة في هذا الإطار لم تنتج إلا المزيد من التشبث بالخصوصيات الذاتية. فلا يمكن تعميم الخصوصيات الذاتية بالقهر والقسر، وإنما بالتوافق والحوار والانفتاح وخلق المساحات المشتركة بين جميع الخصوصيات والمكونات. فالمجتمعات لا تدار بالقسر، والاستقرار لا يتأتى بالقهر، والأمن بكل مستوياته ودوائره لا ينجز إلا بالتوافق واحترام الخصوصيات وتوطيد أركان العيش المشترك. ومن يبحث عن الأمن والاستقرار بعيداً عن مقتضيات السلم الأهلي وخلق التفاهمات والتوافقات الضرورية بين مختلف الخصوصيات والمكونات، فإنه لن يحصل إلا على المزيد من تشبث الناس بخصوصياتهم الذاتية. ولا يمكن لاعتبارات ذاتية وموضوعية أن تنجح تلك المحاولات والممارسات التي تستهدف تعميم خصوصية واحدة بوسائل قهرية على بقية الخصوصيات.

فالأوطان فضاء مشترك لكل الخصوصيات والمكونات، ولا تُبنى هذه الأوطان إلا بإعادة صياغة طبيعة العلاقة بين هذه المكونات والتعبيرات. بحيث تخرج من سياق الاستعداء والتحريض على الكراهية والمفاصلة الشعورية والعملية، إلى حقائق التفاهم والتقارب والاحترام المتبادل.

ومهما كانت قناعة الإنسان بصوابية أفكاره ومعتقداته، فإن هذا لا يبرر له ولا يشرع له أن يمارس الفرض والقهر وأدوات السلطة لتعميم أفكاره وقناعاته. فلكل إنسان الحق في الاعتزاز بأفكاره والتشبث بقناعاته والاعتزاز بعقائده، ولكنه ليس له الحق في قهر الناس عليها، وممارسة أساليب قسرية لتبنيها.

ولعلنا لا نبالغ حينما نقول: إن الكثير من المشاكل السياسية والثقافية والإيديولوجية، التي تعاني منها بعض البلدان العربية والإسلامية، هي من جراء هذه الرؤية والممارسة. حيث التعصب الأعمى والمقيت للذات وأفكارها، مما يقود إلى التوسل بوسائل القهر والظلم لتعميم هذه الأفكار والقناعات على بقية المواطنين. فالأحزاب الإيديولوجية التي حكمت في بعض البلدان العربية، وعملت بوسائل سلطوية وقهرية لتعميم إيديولوجية الحزب؛ هي بهذه الطريقة لم تعالج مشاكل المجتمع والوطن الذي تنتمي إليه، وإنما فاقمتها وبنت حواجز إسمنتية بين مختلف مكونات شعبها.

ونظرة واحدة إلى الدول العربية، التي حُكمت من قبل أحزاب إيديولوجية، تجعلنا نكتشف هذه الحقيقة، ونكتشف أن قهر الناس على فكرة ما، وإيديولوجية ما، لا ينتج إلا الحقائق المضادة لتلك الفكرة والإيديولوجية. كما أن التشكيلات الإيديولوجية والسياسية التي لا تمتلك سلطة سياسية، وتمارس في مجتمعها ووطنها هذه الممارسات وتتوسل بوسائل وأساليب إقصائية، تنم عن تعصب أعمى للذات وأفكارها. فهي لا تنتج الأمن والاستقرار، وإنما على العكس من ذلك تماماً.

فلكل إنسان على وجه هذه البسيطة الحق في أن يحمل فكرة أو يقتنع برؤية ومشروع، ولكن ليس له الحق في قهر الناس على هذه الفكرة أو الرؤية أو المشروع. لذلك نجد أن الباري عز وجل والذي اصطفى أنبياءه ورسله، وحملهم مسؤولية النبوة وهداية البشر إلى الطريق المستقيم، لم يعطهم سلطة القهر والسيطرة على الناس، وإنما حدد مهمتهم ووظيفتهم بالتذكير والتبليغ. قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}([12]).

فالمهمة كما يقول بعض المفسرين أن تطرح الكلمة التي تهز سمع الناس، لتنفذ إلى عقولهم، لتفتح في داخلها نافذة للتفكير في حساب كل تلك الاحتمالات ليعيشوا قلق المعرفة في مسؤولية المصير. وأن تحرك الأسلوب الذي يتفاعل مع فطرتهم ومشاعرهم وتطلعاتهم، ليثير اهتماماتهم حول الفكرة التي تقدمها، والخطر الذي يتهددهم، في الأجواء التي يحبونها ويرغبون فيها ويقبلون على الاندماج فيها. كما أن الإنسان مهما علت رتبته العلمية والاجتماعية فإنه لا يملك في طريق تكوين قناعات الناس أو إقامة الحجة عليهم إلا الجهد والكلمة. فإذا بذلهما الإنسان فقد قضى ما عليه. ولم يسلط الباري عز وجل أحداً على قلوب الناس، ولم يجعل مشاعرهم خاضعة لقدرة أحد الذاتية.

ولم يُمَكِّن الخالق عز وجل لأحد الأمر في تغيير ذهنيات الناس وقناعاتهم بطريقة قسرية - قهرية. فدور الأنبياء والرسل وهم أصفياء الله عز وجل هو الإبلاغ والدعوة إلى الله بالكلمة الواعية المذكرة، ليأخذ البشر بعد ذلك حريتهم في الإيمان والكفر ليكون حسابهم على الله.

فالله سبحانه وتعالى لم يشرع لأحد أن تكون لديه سلطة على قناعات الناس وأفكارهم. ومسؤولية صاحب الفكر والرؤية أن يعرض فكرته على الناس ويتوسل بوسائل الدعوة والتبليغ، ولكن ليس لأحد السلطة على قهر الناس وفرض الآراء قسراً عليهم.

فالاختلاف الديني والمذهبي، الفكري والسياسي، لا يشرع لأحد انتهاك حقوق الطرف الآخر بدعوى الاختلاف والتباين في العقيدة أو المذهب أو الفكر أو السياسة. فالاختلافات بكل مستوياتها لا تشرع الظلم والعدوان وانتهاك الحقوق. بل على العكس من ذلك تماماً. إذ إن المختلف في الرؤية الإسلامية له حقوق كاملة وعلى الطرف الآخر أن يصونها ويحترمها. وهذه المسألة هي حجر الزاوية في مشروع خلق السلم الأهلي والعيش المشترك في مجتمع متعدد ومتنوع.

وهذا بطبيعة الحال يقودنا إلى التأكيد على النقاط التالية:

1- إن التعصب الأعمى لأفكار الذات وقناعاتها يضر بمستوى انتشار وقبول الآخرين لهذه الأفكار. فالتعصب بكل مستوياته يضر بالأفكار والمعرفة، وينفر الناس منها، ويحول دون توسيع المقتنعين بها.

كما أن هذا الداء النفسي والعقلي والسلوكي الخطير يحول دون الاستقرار والأمن الاجتماعي. وهناك بون شاسع ينبغي الالتفات إليه، بين ضرورات ومتطلبات الدفاع والتبشير بالأفكار والقناعات التي يحملها الإنسان، والتعصب الأعمى. فالدفاع عن الأفكار لا يقتضي العدوان على الآخرين، في حين أن التعصب شكل من أشكال العدوان. ودعوة الآخرين إلى تبني قناعات ومواقف الذات لا تتطلب وصم الآخر بأشنع الصفات واتهامه بأسوأ الممارسات، في حين أن التعصب الأعمى يشرِّع ذلك ويقود صاحبه إلى ممارسات إقصائية وعنفية لا تنسجم ومقتضيات الدعوة بالتي هي أحسن، ولا تتناغم مع حاجات الاستقرار والأمن الاجتماعي.

لذلك فإن إزالة الآثار السلبية للاختلافات، تحتاج إلى الوقوف بحزم ضد ظاهرة التعصب الأعمى. لأن هذه الظاهرة بمثابة الوعاء الحقيقي للكثير من الآثار السلبية التي تمنع العيش المشترك بين المختلفين. من هنا فإن الوصول إلى حقيقة العيش المشترك والسلم الاجتماعي، يتطلب محاربة ظاهرة التعصب الأعمى وكل النزعات الإقصائية التي لا ترى إلا ذاتها الضيقة.

2- في إطار السعي والعمل المتواصل، لبناء حقائق العيش المشترك في الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي؛ من الضروري الفصل بين احتكار القوة واحتكار الحقيقة. فليس كل من يمتلك القوة بالضرورة يمتلك الحق. كما أنه ليس بالضرورة أن من يمتلك الحق يمتلك القوة التي تدافع عن هذا الحق.

والحقائق المطلقة لا يمكن أن يقبض عليها إنسان. لذلك فإن كل محاولات ادعاء امتلاك الحقيقة هي محاولات لا تستهدف على الصعيد العملي إلا تبرير وتسويغ عمليات النبذ والتهميش والتمييز تجاه الآخرين المختلفين معه. ومن الخطايا المميتة على هذا الصعيد المماهاة بين القوة والحقيقة. وأن كل من يمتلك القوة قادر فعلاً على امتلاك الحقيقة.

وهذا هو الذي يهيئ الأرضية الاجتماعية لكل المقولات والممارسات التي تهدم وتمنع بناء أركان وقواعد العيش المشترك في المجتمع المتعدد. فالحقيقة ينبغي أن تكون غاية الجميع، ولا يمكن أن يقبض عليها أحد بوسائل العنف والتعصب والغلو والنفي. فالخدمة الحقيقية التي يمكن أن يقدمها أي إنسان لفكره وقناعاته، هي حينما يبتعد عن كل نزعات التعصب والغلو، لأن هذه النزعات تحول دون المعرفة العميقة والحقيقية لمضامين تلك الأفكار، كما أنها (أي نزعات التعصب والغلو) تمنع إقبال الناس تجاه تلك الأفكار والقناعات.

فالتعصب يميت صاحبه دون أن يحيا الفكر والمبدأ. لأن هذه النزعة المقيتة تطمس كل نوازع الخير وموجبات العدالة من نفس وكيان المتعصب سواء كان المتعصب فرداً أو جماعة.

3- إن العيش المشترك يقتضي من كل المكونات والتعبيرات العمل على إعادة صياغة علاقتها بأفكارها وقناعاتها العامة. فالعيش المشترك لا يعني أن تنحبس كل فئة في إطارها الفكري الضيق، بل يعني الانفتاح والتواصل المستديم مع بقية المكونات، وذلك من أجل نسج العلاقات الإيجابية، وتجاوز كل الأوهام والهواجس تجاه بعضنا البعض. وهذا بطبيعة الحال يتطلب إعادة صياغة العلاقة مع الأفكار والقناعات الخاصة بكل مكون وفئة. بحيث تصبح العلاقة حيوية ومرنة وفعالة.

والأمم والمجتمعات الإنسانية التي استطاعت أن تطور في واقعها نهج العيش المشترك، هي التي تمكنت من إعادة بناء علاقتها مع أفكارها. بحيث لا تكون العلاقة جامدة ومتخشبة. وإنما علاقة تفاعلية بكل ما لكلمة التفاعل من معنى ومضامين عميقة.

وجماع القول: إن العيش المشترك في أي تجربة إنسانية ليس وصفة جاهزة، وإنما هو رؤية واضحة وإرادة صلبة وعمل مستديم باتجاه خلق الحقائق وتعزيز متطلبات التلاقي والتفاهم بين مختلف الفئات والشرائح والمكونات.

ثالثاً: التربية الجمالية والسلم الأهلي

لعلنا لا نحتاج إلى ديباجة ومقدمة توضح أهمية التفاهم والتلاقي بين مختلف المكونات والتعدديات والتعبيرات في المجتمع الواحد لتحقيق مفهوم الأمن والاستقرار. فالأخير ليس وصفة جاهزة، وإنما هو مرحلة وفضاء تصل إليه المجتمعات حينما تزداد وتيرة التفاهم والتلاقي بين تنوعاتها ومكوناتها المختلفة.

وما نود أن نثيره في هذا الصدد هو دور التربية الجمالية في تعزيز خيار الاستقرار والسلم الأهلي والاجتماعي. فلو تأملنا قليلاً في مفهوم التربية الجمالية نجد أنه يعتمد اعتماداً أساسيًّا على حقيقة الشعور بالبعد الجمالي لحقيقة التعدد والتنوع الموجود في الطبيعة والحياة الإنسانية. فالطبيعة ليست لوناً واحداً، كما أنها ليست منظراً واحداً، من هنا فإن تنمية الذائقة الجمالية لدى الإنسان يعني الاقتراب من مفهوم التنوع الهائل الذي تشهده الحياة الطبيعية.

كذلك هي الحياة الإنسانية، فإن التربية الجمالية تعني اكتشاف حقيقة التنوع الرائعة التي يعيشها الإنسان فرداً وجماعة. وإن مقتضى الذائقة والتربية الجمالية هو التعامل مع حقيقة التنوع والتعدد المتوافرة في حياة الإنسان من منظور جمالي. بمعنى لو غاب التنوع من الوجود الإنساني، لأضحت حياة الإنسان جحيماً لا يطاق.

من هنا فإن التربية الجمالية تقتضي التعامل مع الحياة الطبيعية والإنسانية على قاعدة وجود حالة التنوع، وأن جمال الحياة الحقيقي ليس في تحولها إلى لون واحد، وإنما في استمرار تنوعها وتعددها. فالحياة كالشجرة التي تمتلك عشرات الأغصان، وكل غصن يمارس وظيفته ويعطي جماله الخاص. كذلك هي الحياة الإنسانية، فهي مليئة بصور التعدد والتنوع، وهذا هو سر جمالها. ومقتضى التربية الجمالية هو التعامل الخلَّاق مع تنوع الطبيعة وتعدد الحياة الإنسانية.

وأعتقد اعتقاداً جازماً أن تطور التربية الجمالية بكل أبعادها في حياتنا الاجتماعية، هو أحد المداخل الأساسية لتوطيد أركان الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي. لأن الركن الأساسي لعملية الاستقرار هو الاعتراف والتعامل الإيجابي والخلاق مع كل حالات وحقائق التنوع والتعدد الموجودة في الحياة الإنسانية. وإن التعامل بروح إيجابية أو بمنظور جمالي مع حالة التعدد والتنوع لا يأتي صدفة، وإنما هو بحاجة إلى تربية وتدريب في مختلف مراحل حياة الإنسان. فكما يحتاج كل واحد منا إلى أن يربي عقله، ويربي نفسه، ويربي روحه، ويربي جسده، هو بحاجة أيضاً أن يربي ذائقته الجمالية.

وهنا نحن لا نتحدث فقط عن ضرورة تنمية الذائقة الجمالية للاستمتاع بالجمال الحسي فقط. وإنما نحن نقول ونعتقد «أن مفهوم الجمال لا ينحصر في القضايا والمسائل الحسية، وإنما هو أوسع من ذلك بكثير. فأنا وأنت حينما نربي ذواتنا على الصدق مثلاً، فإننا نزرع في وجودنا وحياتنا شجرة جميلة، مزهرة، مثمرة، يراها الآخر في هذا السلوك اللطيف والتعامل الجميل والكلمات الطيبة فتبعث في نفسه ما تبعثه شجرة حقيقية مورقة، مشرقة. ويشير إلى هذه الحقيقة أحد الكتَّاب بقوله: إن الطفل الذي يفتح عينيه ليرى أمًّا صبوحة الوجه أنيقة الثياب، عذبة الألفاظ، وينتقل في بيت تكاد النظافة تنطق في كل جوانبه وزواياه، ويجد الصفاء يرفرف في أنحائه من أمٍّ حانيةٍ وأبٍ عطوفٍ، ينغرس حب الجمال في نفسه فينشأ وهو جميل في ملبسه وفي تعامله وفي نظرته للأشياء.

فدور الأم في تنظيم بيتها وتزيينه بما يحيله إلى جنينة يجعلنا نأخذ الدروس الأولى في التربية الجمالية بنحو غير مقصود. ثم تأتي العوامل الأخرى في تنشئتنا تنشئة جمالية، فأصدقاؤنا الذين انحدروا من بيوتات لا يسمع فيها إلا القول الجميل، ولا يرى فيها إلا التصرف الجميل، ولا يشم فيها إلا الأنفاس العاطرة، ولا يلمس فيها إلا نبض القلوب الحانية، سيتركون بصماتهم الجميلة علينا.

ومعلمونا الذين يقدمون لنا في حب وحرص وإخلاص وأبوة أساليب التعامل مع زملائنا والحياة من حولنا، تبقى وصاياهم ترن في آذاننا مدى الحياة. وما نقرؤه في كتاب الله الجميل، وفي كتاب الكون الحافل بمشاهد الجمال، إن ذلك كله يعطينا من التربية الجمالية ما لا تمحوه الأيام ولا تغيره الطبائع المتقلبة حتى لو انقلبت مفاهيم الناس فصاروا يرون القبح جمالاً والجمال قبحاً»([13]).

لهذا كله فإن التربية الجمالية والتي هي في جوهرها تعني القبول بحقيقة التعدد والتنوع، والتعامل مع هذه الحقيقة بوصفها هي سر جمال الكون والإنسان، هي أحد المداخل الأساسية لتوطيد أركان السلم الأهلي. ولو نظرنا قليلاً في كل الممارسات التي تناقض مفهوم السلم الأهلي والتعايش الاجتماعي، لرأينا أن هذه الممارسات لا تنسجم والرؤية الجمالية المتنوعة لحياة الإنسان فرداً وجماعة.

ونحن هنا لا نتحدث فقط عن الجمال الظاهري للإنسان، والذي يتجسد في النظافة وحسن الطلعة وفي الأناقة والزينة، وإنما نتحدث عن الجمال الباطني والجوهري والذي يتجسد في جمال البيان ورجاحة العقل والأخلاق الفاضلة.

ولو تأملنا في الفضائل الأخلاقية والاجتماعية كالحب والعفو والعفة والخير والتعاون والكرم والتواضع لرأينا أن هذه الفضائل وغيرها من صميم مفهوم الجمال الذي نتحدث عنه. وفي المقابل فإن كل الرذائل التي تضر بالحياة الإنسانية والاجتماعية فهي من القبائح التي تناقض مفهوم الجمال. فالكذب قبيح، والعدوان على السلامة الخاصة والعامة قبيح، والغش قبيح وهكذا دواليك.

لهذا نجد أن التوجيهات الإسلامية تحثنا وتدعونا إلى تجسيد المحاسن والابتعاد كل البعد عن كل ما يشين ويقبح حياتنا. فالآيات تدعونا إلى العمل الأحسن دائماً. قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}([14]). والقول الأحسن {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}([15]). والتحية الأحسن {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا}([16]). والصفح الجميل {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}([17]). إلى غيرها من التوجيهات التي تحثنا دوماً وفي كل الأحوال إلى تبني سلوك الجمال في حياتنا الخاصة والعامة.

لهذا فإن السلم الأهلي والاجتماعي يقتضي دائماً إشاعة الجمال من حولنا فيما نكتب وفيما نرسم وفيما نعمل وفيما نبني من علاقات. لنسهم جميعاً في إضافة ولو لبنة صغيرة في البناء الاجتماعي.

إن مسحة جمالية هنا ومسحة جمالية هناك، بكلمة جميلة هنا وموقف جميل هناك، بتخفيف ألم هنا وبزرع ابتسامة هناك، بدعوة إلى الخير هنا ودعوة إلى الهداية هناك، يمكن أن نزيل معاً من خلال هذه الممارسات الكثير من القبح المزروع في حياتنا.

وهنا نود أن نؤكد على النقاط التالية:

1- إن الكثير من المشاكل والتوترات في المجتمعات المتعددة والمتنوعة، ليست من وجود هذه الحالات والحقائق، وإنما لغياب الإدارة الحكيمة والواعية لهذه التعدديات والتنوعات. فكل المجتمعات الإنسانية لا تخلو من تعدد بنوع ما، إلا أن هذه المجتمعات تفترق عن بعضها من ناحية الطريقة وصيغ التعامل مع حالات التنوع الموجودة فيها. فالمجتمعات التي استطاعت أن تبلور لنفسها صيغ المشاركة وتحمل المسؤولية العامة لكل مواطنيها بصرف النظر عن أصولهم. فإن هذه المجتمعات حققت استقرارها ليس بدحر خصوصيات مواطنيها، وإنما ببناء علاقة إيجابية وحيوية مع هذه الخصوصيات. أما المجتمعات التي لم تتمكن من بناء هذه الصيغة لمختلف العوامل والأسباب، فإنها أضحت عرضة للمشاكل والأزمات المفتوحة على كل الاحتمالات.

لهذا كله فإننا نستطيع القول: إن جوهر المشكلة الحقيقية ليس وجود حالة التنوع والتعددية في المجتمعات الإنسانية، وإنما في غياب الإدارة الواعية والحكيمة والحضارية لحالة التنوع ومتطلباتها المختلفة.

2- إن تجارب المجتمعات الإنسانية تعلمنا أن الأفكار والرؤى والقناعات لا تنتقل بين الناس بالفرض والقهر، وإنما بالحرية والتداول الطبيعي للأفكار والثقافات. وإن المحاولات التي تبذل دائماً لفرض رؤية وقسر الناس على نمط واحد من الفكر والثقافة لا تفضي إلى نتائج إيجابية، حيث تتوافر كل موجبات التحرر من قهر الفرض والقسر.

لهذا -وكما يشير إلى ذلك (أدونيس)- إن الإفراط في فرض اتجاه فكري على المجتمع لا يؤدي إلا إلى الإفراط في التمرد عليه. والأفكار التي تفرض بالقوة، وتعمم بالقوة، لا تكون موضوع إيمان، بالنسبة إلى معظم العاملين في حقول الفكر والأدب بقدر ما تكون موضوع خوف. هكذا تهيمن شكليًّا، وسطحيًّا. وتفقد فاعليتها ومعناها. الأفكار الخلاقة الفعالة هي التي تولد حرة، ويستجيب لها الناس بحرية، من دون ترغيب ومن دون ترهيب.

من هنا فإن مقتضى التربية الجمالية للإنسان فرداً وجماعة، هو ألَّا تحتكر المعارف، وأن الإنسان مطلق الإنسان بإمكانه أن يستفيد من الأفكار والمكتسبات الحضارية. والثقافات الإنسانية في نتائجها الأخيرة ليست نهائية وجامدة، وإنما هي مفتوحة على كل الإبداعات والمبادرات والمكاسب. ومن الظلم أن نقهر الناس على قناعات مؤقتة ومتحولة باستمرار. فالحرية بكل آلياتها هي الشرط الضروري لتطور الثقافة، كما أنها السبيل لتقدم حياة الإنسان في مختلف المجالات. فلا القهر والقسر ينسجم ونواميس حياة وتاريخ الأفكار. ولا محاربة روافد الحياة الثقافية والعلمية الإنسانية تجدي نفعاً، وتوصلنا إلى ساحل الأمن والاستقرار. وحدها الحرية هي الكفيلة بذلك والقادرة عليه.

3- لعل من أبرز المخاطر التي تهدد السلم الأهلي والتعايش الاجتماعي، ولا تنسجم ومبادئ وأسس التربية الجمالية، هو خطر التعصب الأعمى للذات وأفكارها وقناعاتها الخاصة. وذلك لأن هذا الخطر، بمثابة الآفة التي تلتهم كل عناصر الجمال وحقائق الحيوية والدينامية في المجتمعات الإنسانية.

فالتعصب هو الذي يقود صاحبه بشكل أو آخر للتعدي على حقوق الآخرين ونواميسهم. والمتعصب هو الذي يقوم بتصنيف الناس وفق آرائه الخاصة. والأنكى من ذلك أنه لا يكتفي بهذا التصنيف وإنما يعمل ويتحين الفرص للانقضاض على الآخرين الذين اعتبرهم خارج دائرته أو لا ينسجمون وقناعاته الفكرية والثقافية. فالتعصب هو الذي يحيل الحياة الإنسانية المليئة بصور التعدد وحقائق التنوع إلى ساحة لممارسة العنف والقتل الجماعي.

فاحتكار المشروعية وممارسة الوصاية على شأن الحياة والإنسان هو الذي يدمر كل أسس ومكونات السلم الأهلي والاجتماعي.

وعليه فإننا نعتقد أن تنمية أسس وأبعاد التربية الجمالية من احترام عميق لكل أشكال التنوع الموجودة في الحياتين الطبيعية والإنسانية إلى تعزيز كل الفضائل الأخلاقية والاجتماعية، هو أحد السبل الأساسية لتجاوز كل المخاطر التي تهدد النسيج الاجتماعي لكل مجتمع.

فنحن مع الحب والمحبة قولاً وفعلاً، ومع احترام الإنسان بصرف النظر عن أصوله العرقية وانتمائه الإيديولوجي وصيانة كل حقوقه الخاصة والعامة. ومع الوحدة بكل مستوياتها، ولكنها الوحدة التي لا تُبنى على جماجم الآخرين أو خصوصياتهم الثقافية، وإنما الوحدة التي تُبنى من خلال احترام التعدد والتنوع، وفسح المجال لكل الخصوصيات لكي تمارس دورها في مشروع الوحدة وتمتين أواصر العلاقة بين كل مكونات الأمة والمجتمع الواحد.

فالسلم الأهلي لا يُبنى بنزعات الاستفراد والإقصاء، وإنما بمبادئ الشراكة والتعاون والتعاضد وإزالة كل الضغائن من النفوس والعقول والسلوك.

رابعاً: بين يدي الدعاة

ثمة خصائص ومميزات عديدة يمتاز بها الدين الإسلامي من غيره من الأديان. ولعل من أهم هذه الخصائص والتي تحتاج إلى المزيد من الفهم والاستيعاب، هي ميزة وخاصية حرية الاختيار وضرورة الاعتماد على العلم والمعرفة والبصيرة في اتخاذ المواقف أو بناء القناعات والتصورات. فالدين الإسلامي لا يبني أموره وقضاياه الاعتقادية والسلوكية على الجهل والتزييف والتضليل، بل على الحجة والبرهان والعلم. فالإسلام يدعو الإنسان إلى الإيمان بالله الواحد القهار، ولكنه الإيمان الذي يُبنى على حرية الاختيار وعلى الحجة والدليل العقلي والحسي.

لذلك نجد أن كل تشريعات الإسلام ونظمه المختلفة قائمة ومستندة على العلم والمعرفة. بحيث يكون الأداء والالتزام على قاعدة البصيرة، والتي تعني المعرفة الدقيقة والعميقة في آن واحد. لذلك نجد القرآن الحكيم يصرح {هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ المُشْرِكِينَ}([18]).

فالدين الإسلامي يعتز أيما اعتزاز بأن صبغته هي العلم والحرية. فلا تكليف ناجز بلا علم ومعرفة، والحرية بمعناها الواسع هي أحد شروط الإيمان والتكليف.

ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن الإسلام هو الدين الفريد الذي استطاع أن يحتفظ بصورته الأصلية بين عصف الأهواء وزلزلة الآراء، فأقام حولها سدًّا من المعرفة، وضرب فوقها سرادق من البرهان، وثبتها على أساس من القرآن، فلم تأسن لما أسنت الرواسب ولم تحل لما خلا الجو، ولم تضطرب لما اضطربت الأعاصير. يقول تبارك وتعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ}([19]). فالإسلام لا يقر القهر والإكراه، فوسيلته الدعوة بالتي هي أحسن، ولا يرتضي أن يدخل الناس فيه خوفاً وقهراً.

لهذا من الضروري اليوم بالنسبة إلى الدعاة والعلماء أن يفحصوا وسائل دعوتهم وأن يعرضوا مواقفهم وقناعاتهم في هذا الإطار على قيم الإسلام في هذا المجال.. فالإنسان الذي يمارس القهر والعسف لإدخال الناس في دائرة الالتزام، لا يناقض إلا الإسلام نفسه. فهو دين الاختيار والحرية. وعلى الدعاة مهما كانت الصعوبات والتحديات أن يلتزموا بهذا النهج، ويبتعدوا عن كل أشكال العسف والقهر في دعوتهم إلى الإسلام. والله سبحانه في محكم التنزيل يقول: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}([20]).

إن بناء الفكر والوعي العميق لا يكون بحشد البراهين والآراء المجردة عليها، وإن أوجبت اليقين أو الاقتناع بثبوتها، ولا بد للفكر والنفس من عملية أخرى وراء الاقتناع بها تكون الفكرة واضحة وعميقة الغور والتأثير في نفس الإنسان. وهذه العملية هي بناء حقائق ونماذج واقعية، تجسد تلك الأفكار وتلتزم بكل مقتضياتها ومتطلباتها. فالصدق في الإيمان والعاطفة والنصيحة له الأثر الأعظم في توجيه عقل المدعو ونفسه لذلك.

فالدعاة دائماً بحاجة إلى الصدق والإخلاص، لأن مهمتهم صياغة الضمائر وتنشئة الأخلاق وتوجيه العواطف والمشاعر. إن هذه المهمة دقيقة وعميقة، فلابد فيها من مناغاة العواطف، ولا بد فيها من مناجاة الضمائر والمشاعر، ولابد أن تكون المناجاة في ظلال الإيمان وتحت رعايته، ليسري الإيمان والتهذيب من طريق الحب، ويسري من طريق القدوة، ويسري من طريق الإشعاع.

«وأنجح الدعاة في مهمته وأمكنهم من بلوغ غايته من استطاع أن يتحدث إلى العاطفة بلسان العاطفة كما يتحدث إلى الفكر بلسان الفكر وإلى الوجدان بلسان الوجدان، من استطاع أن يتغلغل إلى هذه الأعماق فيوجه بالعمل كما يوجه بالقول.. وعدته في الوصول إلى هذا المدى هو الإيمان الشامل الذي يطبق أرجاء النفس ويضيء أطرافها.

هو الفكر المؤمن، والنفس المؤمنة، والضمير المؤمن، والعاطفة المؤمنة، والمشاعر المؤمنة، والخلق المؤمن»([21]).

بهذه العدة والأخلاقية والالتزام تمكن الدعاة عبر التاريخ من نشر الوعي والفضيلة. وهذه هي طريقة الإسلام في التربية، إنه يتصل بالفكر من طريق الفكر، ويتصل بالقلب من طريق القلب، ويتصل بالوجدان من طريق الوجدان، ويتصل بالعاطفة من طريق العاطفة، وبالمشاعر من طريق المشاعر، ثم يلقن مبادئه وتعاليمه بالحديث، ويلقنها بالعمل، ويلقنها بالإيحاء، ويلقنها بالواقع المجسد المحسوس. وإن الكلمة في ظل هذا الإيمان المشع يكون لها أكثر من مدلول، وإن الإيماءة يكون لها أكثر من أثر. فالدعوة إلى الله لا تشرع بث الحقد والكراهية، بل هي الرحمة والألفة والمحبة.

والدعاة الذين ينفرون الناس بسلوكهم المزدوج وأخلاقهم الخشنة والجافة، هم يسيئون إلى الدين وإلى أنفسهم. فالإسلام دين الرحمة ولا يجوز أن نعرضه وكأنه دين القتل والتدمير والكراهية. والإسلام دين صلة الرحم والتعارف والألفة، ولا يعقل أن نبرزه وكأنه دين القطيعة والمفاصلة بين البشر.

إننا اليوم بحاجة إلى إعادة النظر في المناهج والأساليب التي تساهم في تشكيل وعي الدعاة وتكوينهم النفسي والفكري. لأن بعض الدعاة ومن خلال تصرفاتهم وقناعاتهم الخاصة، يصادرون قيم الإسلام ويلوون عنق الحقيقة انسجاماً مع أمزجتهم وأهوائهم وميولاتهم. فالإسلام كله رحمة ومحبة وألفة، ولا يجوز أن نصوره وكأنه دين الانقضاض على مكاسب الإنسان والحضارة لتدميرها.

آن الأوان أن نخلص الإسلام من فهمنا القشري والجامد والمشوه له. لأن هذا الفهم ومتوالياته هو الذي أدخل العالم الإسلامي اليوم في الكثير من المتاهات والتحديات. ويخطئ من يتصور أن مقتضى الورع والالتزام هو التشدد في الفهم والسلوك. وذلك لأن هذا التشدد والغلو مناقض لجوهر الإسلام القائم على الرحمة والأخوة.

فالكلمة الطيبة هي عنوان أقوال المسلم، والعمل الصالح هو عنوان أعماله وأفعاله. يقول تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}([22]).

فالإسلام دين الحياة والآخرة، كما أن القرآن هو كتاب الحياة. لذلك فإن أية محاولة لفصل الإسلام عن الحياة أو فصل الحياة عن الإسلام، هي محاولات بائسة وفاشلة وعليه فإن الدعاة اليوم يتحملون مسؤولية كبرى تجاه مجتمعاتهم وقيمهم الإسلامية.

وبإمكاننا هنا أن نحدد مجموعة من النقاط في هذا الإطار وهي:

1- ضرورة الفصل والتفريق بين المزاج الشخصي للدعاة وبين قيم الإسلام ومبادئه الأساسية. ولعلنا نرتكب جريمة كبرى بحق قيمنا حين ندمج بين أمزجتنا وميولاتنا وقيم الإسلام. ولعل من أهم القضايا التي تلتبس فيها الرؤية بين ما هو شخصي وما هو إسلامي وقيمي. هي قضية المرأة في المجتمع المسلم المعاصر. فالقيم والمبادئ الإسلامية واضحة وصريحة في صيانة حقوق المرأة والتعامل معها كإنسان لها كامل الحق في ممارسة دورها ووظيفتها في الشأن العام.

إلا أن أمزجتنا وأعرافنا تحول دون ذلك. وتصاب الرؤية بالغبش حين المزج بين أعرافنا وقيمنا، بين أمزجتنا الشخصية وقيم الإسلام الثابتة. لذلك من الضروري التفريق الدائم والفصل المستمر بين أمزجتنا الخاصة وقيم الإسلام. وتتأكد هذه الحاجة لدى الدعاة، لأنهم هم الذين يتحدثون باسم الإسلام وقيمه الأساسية. فالتفريق ضرورة للوعي الاجتماعي والديني، وسبيلنا إلى منع الالتباسات التي تحدث باسم الإسلام وقيمه الأساسية.

فقيم الإسلام تسع كل تطورات الحياة، فلا نضيقها بأمزجتنا وأهوائنا وميولاتنا الضيقة.

2- عديدة هي عوامل نجاح الداعية في دعوته وعمله، إلا أن جوهر هذه العوامل وعمدتها هو {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ}([23]). فلا عدة أهم من هذه العدة، ولا أثر أكبر من الأثر الذي تتركه الأخلاق الفاضلة والابتسامة المؤمنة والإخلاص في العمل.

فالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ليست مقولة تقال، بل هي التزام وسلوك، خلق وممارسة، صفات ومسؤوليات.

كل هذه العناصر والآفاق ينبغي أن تنتظم في سياق الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.

فلا بؤس وخشونة في التعامل، ولا اكفهرار للوجه، ولا سب ولا شتيمة. وإنما الموعظة الحسنة والشعور بالمسؤولية والإرادة القوية المسيجة بسياج الإيمان والمحبة. إننا ندعو كل الدعاة وفي مختلف مواقعهم وأدوارهم، إلى إعادة النظر وفحص الكثير من ممارساتهم التي تبرز فيها أمزجتهم وميولاتهم أكثر من قيم الدين ومبادئه الأساسية.

3- من البديهيات القول: إن الإسلام هو دين الوحدة والاتحاد والألفة بين الناس. فالدين الإسلامي لا يفرق بين الناس فهم سواء. ولكن بعض الدعاة -ولعوامل نفسية وفكرية وإيديولوجية واجتماعية- يمارسون التفريق، وينظرون للمفاصلة الشعورية والاجتماعية بين الناس.

فيتحول دور الداعية من دور الوحدة وصناعة الألفة والمحبة بين الناس إلى دور التمييز وبناء الحواجز النفسية والإيديولوجية بين الناس. لذلك فإننا ندعو كل الدعاة إلى الوفاء لقيم الإسلام وثوابته، التي تدعو إلى الوحدة والألفة. وعلى الداعية أن يمتلك روح المسجد، فهي روح الجمع والاحتضان، فالروح المسجدية تجمع ولا تفرق، تستوعب المتعدد ولا تلغيه، تحترم التنوع ولا تحاربه.

لذلك كله فإننا اليوم أحوج ما نكون إلى دعاة للألفة والوحدة والمحبة وصيانة حقوق الناس وكراماتهم وأعراضهم ودمائهم. وإلى دعاة ينشدون العدل والمساواة بين الناس.

وجماع القول: فإن المشاكل والتوترات التي تعانيها الكثير من بلاد العرب والمسلمين على أكثر من صعيد، بحاجة في سياق المعالجة والخروج من نفق هذه المشاكل ومتواليات هذه التوترات، إلى منظومة ثقافية جديدة، قوامها الحرية والتسامح والاعتراف بالآخر وصيانة حقوق الإنسان وتعميق أسس العيش المشترك.

وحدها هذه القيم والمبادئ هي التي تضبط نزعات الاستقواء والتفتيت والتشظي، وهي التي تعيد صياغة العلاقة بين مختلف المكونات والتعبيرات الدينية والمذهبية والقومية والسياسية على أسس العدالة والمساواة.

 



([1]) محسن عطوي، زاد المبلغين، موسوعة إسلامية فكرية تعين الخطباء والموجهين، ص 21، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1409هـ.

([2]) سورة النحل، الآية 25.

([3]) سورة فصلت، الآية 34.

([4]) سورة الإسراء، الآية 53.

([5]) سورة الغاشية، الآية 22.

([6]) سورة آل عمران، الآية 159.

([7]) سورة النحل، الآية 90.

([8]) مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 27، ص 23، ربيع 2004م - 1425هـ.

([9]) سورة الممتحنة، الآية 8.

([10]) نهج البلاغة، الكتاب 52.

([11]) مجلة قضايا إسلامية معاصرة، مصدر سابق، ص 272.

([12]) سورة الغاشية، الآية 21 – 22.

([13]) التربية الجمالية، ص 7 - 8، سلسلة كتاب التوحيد، الكويت.

([14]) سورة الكهف، الآية 7.

([15]) سورة فصلت، الآية 33.

([16]) سورة النساء، الآية 86.

([17]) سورة الحجر، الآية 85.

([18]) سورة يوسف، الآية 108.

([19]) سورة المؤمنون، الآية 71.

([20]) سورة الإسراء، الآية 105.

([21]) محمد أمين زين الدين، إلى الطليعة المؤمنة، ص 45، مؤسسة الأعلمي، الطبعة الثالثة، بيروت 1985م.

([22]) سورة إبراهيم، الآية 24 - 25.

([23]) سورة النحل، الآية 125.