*
بعد أن كتبت عن (منهج التأليف اللغوي عند الدكتور عبدا لهادي الفضلي) كرسالة جامعية في قسم اللغة العربية، أحببت الكتابة عن المنهج الأصولي والفقهي عند أستاذنا المحقق الشيخ الفضلي (حفظه الله).
ونظراً لزحمة الأعمال وقلة الزاد ارتأيت أن أكتب ما يخدم الفكر الإسلامي بعرض مختصر للمنهج الأصولي الذي طرحه أستاذنا المحقق الفضلي في ثلاث محاولات قيمة طبعت في فترات متباعدة نسبيًّا خصوصاً في محاولاته الأولى أعني كتاب (مبادئ أصول الفقه) الذي ألفه عام 1386هـ في النجف الأشرف بإشراف أستاذه المفكر الإسلامي آية الله السيد محمد تقي الحكيم (قدس سره) صاحب كتاب (الأصول العامة للفقه المقارن).
وقبل كتابة هذا المقال كتبت دراسة قبل سنوات عن (التجديد في أصول الفقه الإمامي) وذكرت فيها ملامح التجديد عند المحقق الفضلي في المنهج الأصولي، وفي هذا المقال أعود لأكتب مرة أخرى حتى نقدم المحقق الفضلي كأنموذج لتطور علم الأصول في المدرسة النجفية منذ أن كتب الشيخ الأنصاري (قدس سره) كتابه الأصولي (فرائد الأصول) المعروف بـ(الرسائل)، إلى نظريات لفقهاء كبار أمثال الشيخ حبيب الرشتي والسيد ميرزا حسن الشيرازي والمحقق الأخوند الخرساني صاحب (الكفاية)، وتلامذته الأعلام النائيني والعراقي والأصفهاني ثم جاء تلميذهم الفذ آية الله المحقق السيد الخوئي وتلميذه العبقري الشهيد السعيد آية الله السيد محمد باقر الصدر (قدس سره).
ويأتي في هذا السياق محاولة آية الله الشيخ محمد رضا المظفر بكتابه (أصول الفقه) وتلميذه المخلص ورفيق دربه المجدد الأصولي السيد التقي الحكيم بكتابه الرائد (الأصول العامة للفقه المقارن).
لم يكن أستاذنا المحقق الفضلي بعيداً عن هذه الأجواء العلمية خصوصاً وأنه تتلمذ في (علم الأصول) على هؤلاء الأساطين أمثال أستاذه السيد الخوئي وشيخه المظفر والتقي الحكيم الذين لازمهم طالباً مجداً في كلية الفقه، وأيضاً لازم المجدد الشهيد الصدر وكان له بمثابة الموجه والمربي.
وفي هذه الأجواء العلمية (الأصولية) تربى أستاذنا المحقق على هؤلاء الأعلام، وكان أشدهم تأثيراً -كما أعلم- أستاذه السيد محمد تقي الحكيم الذي أولاه عناية ورعاية خاصة وأشرف على كتابه (مبادئ أصول الفقه) كما هو مذكور في مقدمة الكتاب([1]).
والشيخ العلامة الفضلي كان منذ بدايات حياته العملية يقرأ بجد واجتهاد الكتب الحديثة ويحاول بكل إتقان المزاوجة والجمع بين الدراسة الحوزوية والأكاديمية حتى استطاع في فترة قصيرة أن يحظى بفضيلة علمية راقية كما تشهد له مؤلفاته في علوم اللغة والمنطق والأصول والفكر الإسلامي، وملازمته لجيل الرواد في النجف الأشرف في عصرها الذهبي.
ولعل هذا يرجع -فيما أقدر- إلى فكره الثاقب ونظرته التجديدية من خلال معايشته للمناهج الحوزوية ومعرفته بالنواقص الأسلوبية والمنهجية خصوصاً وأنه متابع بشكل كبير الإصدارات الحديثة في كتب التربية ومناهج البحث العلمي وطرق التدريس كما هو واضح في سيرته العلمية.
من هنا بدأ المحقق الفضلي مشروعه الثقافي الرائد بتأليف أول محاولة ودراسة أصولية وهو كتابه (مبادئ أصول الفقه) وهي دراسة منهجية ومختصرة كتبها للمبتدئين، وقد اقتصر فيها على أهم المسائل الأصولية عارضاً للتعاريف وشروحها ومكتفياً بالإشارة إلى المسألة ودليلها، فبدأ بالمقدمة ثم مصطلحات العلم ثم عرض لموضوعات العلم وأبحاثه، وقد كتبه بأسلوب تربوي، ولغة سهلة يسيرة غير معقدة، وقد أصبح هذا الكتاب الصغير من المقررات المعتمدة في كثير من الحوزات العلمية الإمامية.
ويعود هذا إلى المنهجية العلمية الواضحة وسهولة اللغة حيث نرى اهتمام المحقق الفضلي في أغلب مؤلفاته باستخدام هذه الطريقة العلمية في تدوين العلوم والمعارف.
وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على إصدار هذا الكتيب يعود أستاذنا المحقق ليكتب من جديد في علم الأصول كتاباً دراسياً وسيطاً بين الكتاب الأول (مبادئ أصول الفقه) وكتابه الأخير كما سيأتي (دروس في فقه الإمامية) كتابه الموسوم (الوسيط في قواعد فهم النصوص الشرعية) المطبوع في (مؤسسة الانتشار العربي) عام 2001م، وهي محاولة تجديدية في علم الأصول كتبها للمرحلة الثانية لطلاب العلوم الدينية، ولنا وقفة مع هذا الكتاب الرائد لنتعرف على المنهج الأصولي الذي طرحه المحقق الفضلي في مشروعه الثقافي الحوزوي حيث استطاع أن يطور مادة العلم وييسرها لطلابه، ولأن علم الأصول هو رحى علم الفقه، والأداة لاستنباط الأحكام الشرعية فإن دخول النظريات الحديثة كنظريـة (حساب الاحتمالات) التي طرحها الشهيد الصدر في كتابه الأصولي الرائد شجّع تلميذه المحقق الفضلي للدخول في هذا الميدان والكتابة بهذا المستوى، وعلى هذه الطريقة العلمية حتى نجد أنه أبدع فيما قدم من نتاج ثرّ العطاء.
وفي كتابه (الوسيط) قدم للكُتَّاب بحثاً علمياً عن (الاجتهاد) طبع مستقلاً في كتاب (المنهاج) الصادر عن دار الغدير عام 1421هـ.
وكانت هذه المقدمة القيّمة بمثابة مدخل هام في دراسات علم الأصول وقد قسّم كتابه إلى أبواب وفصول، كتب في الفصل الأول عن (القاعدة الأصولية) تعريفها، ومصدرها، والغاية من دراستها، وهي -كما نرى- الطريقة العلمية لإثبات حجية القاعدة الأصولية التي يستخدمها (الفقيه) في طريق استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها المقررة، وقد أوضح المحقق الفضلي أن الطريق السليم لإثبات حجية هذه القواعد هو (تباني العقلاء) نتيجة الظواهر الاجتماعية العامة التي يتفق عليها جميع البشر والتي تتسم بـ(الشمولية - العقلانية - الإلزام) وقد دلل على ذلك بالظواهر أمثال:
- الاعتماد على ظواهر الألفاظ في إفهام الآخرين([2]).
إن هذه الظواهر لها سمات الشمولية والعقلانية والإلزام ونتيجة ذلك تبانى عليها العقلاء، ولكي يكون هذا التباني مشروعاً لابد له من أمور لإثبات شرعيته وهي:
1- تصريح المشرع الإسلامي بذلك.
2- عمله على وفقه.
3- عدم منعه المسلمين من سلوكه.
4- قيام قرائن حالية أو مقالية على إفادة ذلك([3]).
وحصول أحد هذه الأمور يفيدنا أن المشرع الإسلامي قد أمضى هذا السلوك المعين.
وعرض في الفصل الثاني (النص الشرعي) متمثلاً في الكتاب والسنة، ثم درس في الفصل الثالث (حجية الظهور) التي تقع (كبرى) -كما يقول علماء الأصول- في عملية الاستنباط.
وفي الفصول اللاحقة عرض لمباحث أصولية مهمة مثل الأساليب الإنشائية وتعيين مراد المشرع من النص ويشمل (الحقيقة والمجاز)، ودرس النص الشرعي المتمثل في توثيق النص كحجية خبر الثقة، ودلالة النص المتمثل بدراسة عناصر النص كالمشترك والمشتق وفي الفصل الأخير تعرض لعلاقة النصوص كظاهرة التخالف ومشكلة التعارض.
وبهذا يقدم المحقق الفضلي هذه الدراسة عارضاً للمنهج الأصولي أحدث النظريات والآراء الأصولية مستفيداً من الدراسات الحديثة وإبداعاته المتميزة، ومحاولة الريادة في عرض هذا المنهج المبسط للدارسين وكخطوة أولية لدراسة علم الأصول بطريقة أكاديمية حديثة تعتمد على:
1- العمق والشمولية.
2- الدقة العلمية.
3- سهولة التعبير ومتانة اللغة.
4- الأسلوب التربوي المبسط.
5- إدخال الآراء والنظريات الحديثة في علم الأصول.
وفي عام 1420هـ قدَّم المحقق الفضلي كتابه الأصولي الرائد (دروس في أصول الفقه الإمامي) كمحاولة جديدة تعرض (المنهج العلمي) بعيداً عن التعقيدات الفلسفية التي رانت على كتب الأصول، وأصبحت دراسة الكتاب تحتاج إلى وقت طويل لفك لغته المطلسمة، وإن كانت هذه المؤلفات - بحق - من الكتب العميقة والدقيقة في هذا العلم الشريف، ولكن تحتاج إلى إعادة صياغة وتطوير في المنهج بالإضافة إلى دخول نظريات حديثة في علم الأصول كما أشرنا إلى ذلك سابقاً.
وقد لاحظ المحقق الفضلي على هذه الكتب عدم اهتمامها بالجانب التربوي، وعدم مسايرة هذه الكتب للمنهج العلمي الحديث، ومن قبله أشار إلى ذلك أستاذه الشهيد الصدر (قدس سره) في مقدمة (الحلقات)، من عدم مواكبة هذه الكتب لذهنية الطالب العلمية من التدرج في عرض الأفكار من البسيط إلى المعقد ومن الأسبق رتبة إلى المتأخر([4]).
من هنا انطلق المحقق الفضلي في عرض هذا المنهج الأصولي الجديد خدمة للدارسين لمرحلة ما قبل (الخارج) حتى يواكب الطالب أحدث النظريات الأصولية التي ابتكرها أعلامنا الكرام نظراً لمشروعية (الاجتهاد) عند الشيعة الإمامية.
والتجديد بطبيعته يحتاج إلى عقلية واعية، وذهن وقاد، وشجاعة أدبية لا تتوافر عادة إلا للعباقرة، وإن كانت هناك صيحات تنادي بعدم التجديد في الحوزات العلمية، وهذا بحث طويل ومتشعب لا مجال لذكره في هذا المقال المختصر.
نعود فنقول: إن المحقق الفذ الشيخ الأستاذ الفضلي طرح كتابه الأصولي في مجلدين من القطع الكبير، وقد طبع عن (مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر) عام 1420هـ، وسوف نقوم بعرض شامل لهذا الكتاب وقراءة سريعة لأبحاثه ومنطلقاته، ومباني الأستاذ الفضلي الأصولية التي دوّنها في هذا الكتاب القيم.
وفي الجزء الأول كتب مقدمة كبيرة عن مواد البحث الأصولي تعد من المصادر الأصولية الهامة كمدخل إلى دراسة هذا العلم الشريف متمثلة في:
1- مادة العلم.
2- منهج البحث.
3- تاريخ العلم.
4- التطور الفكري للعلم.
5- مصطلحات العلم.
6- أعلام العلم.
7- الدراسات المقارنة.
8- المدارس العلمية.
9- فهرست النتاج العلمي.
وقد كتب فهرسة للكتب الأصولية المطبوعة من أول كتاب أصولي إمامي وهو كتاب (أصول الفقه) للشيخ المفيد إلى آخر الدراسات الأصولية الحديثة، وكقراءة سريعة لهذا الكتاب نقول: إن المحقق الفضلي رسم منهجه الأصولي وفق الطريقة العلمية في تدوين العلوم، ونجد ذلك في أغلب مؤلفاته الأخرى.
فكان منهجه على النحو التالي:
1- علم أصول الفقه: (تعريفه - موضوعه - فائدته - حكم تعلمه - علاقاته بالعلوم الأخرى).
2- التمهيد ويشمل (مصدر علم أصول الفقه - وظيفته).
3- تصنيف المباحث على أبواب:
- مباحث الدليل والحكم (القرآن والسنة والإجماع والعقل).
- تقسيمات أدلته وعرض لـ(القطع والظن وخبر الثقة).
- تعيين مراد المتكلم (لوازم الدليل الشرعي).
- ثم درس (قاعدة الظهور - قاعدة تعارض الخبرين - قاعدة الاستصحاب).
4- الحكم الشرعي: (تعريفه - تقسيماته - مفردات الحكم التكليفي - مفردات الحكم الوضعي).
5- مباحث الدلالة والألفاظ ويشمل: (الدلالة - التباين - الترادف - الاشتراك - التضاد).
هذه هي أهم الموضوعات التي احتواها الجزء الأول من الكتاب، وقد احتوى الجزء الثاني على عرض (الحقيقة والمجاز) وعلامات الحقيقة والمجاز، المشتق في اللغة العربية وكيفية الاشتقاق، ثم تطرق (للجملة اللغوية) وعناصرها وأقسامها ووظيفتها. وهذه الموضوعات تدخل في القسم الأول من المنهج القديم وهو (مباحث الألفاظ) كما سارت عليه أغلب الكتب الأصولية.
وحاول المحقق الفضلي أن يعرض آراءه اللغوية مثل قضية (حقيقة الإعراب) و(وظيفة الإعراب) التي درسها في كتابه (دراسات في الإعراب)، ودرس أيضاً (الأساليب الإنشائية) (الأوامر والنواهي)، ودرس (المفاهيم) كمفهوم الوصف ومفهوم الشرط ومفهوم الغاية، وبحث موضوع (العام والخاص)، وطرح آراء علماء اللغة أمثال ابن فارس والسيوطي.
وتعرض لمسألة (التخصيص) ومصادره (القرآن والسنة) وعرض لموضوعات قيمة في هذا السياق.
ولم يخرج المحقق الفضلي كثيراً عن المنهج الأصولي السائد ونظرياته في قضايا العام والخاص حيث عرض للشبهة المفهومية والمصداقية والمخصص اللبي. وجاء بعرض للمطلق والمقيد باختصار يتناسب وحجم الدراسة.
وفي الباب الثالث تعرض لبحث (الملازمات العقلية) وتطرق لأهم مباحثها الموجودة في كتب الأصول كمقدمة الواجب والنهي عن الضد واجتماع الأمر والنهي واقتضاء النهي الفساد، وحرر هذه المسائل مع عرض لبعض الأمثلة التطبيقية حتى تتكامل هذه الدراسة الرائدة.
وختم كتابه كعادة السلف من قبله بالتطرق إلى مباحث (الأصول العملية) أو (الأدلة الفقاهية) كما يعبر بذلك علماء الأصول.
وبحث مسألة (الاستصحاب) بتعريفه وذكر عناصره وأطرافه وتقسيمه ومشروعيته وأدلته، ودمج بين مبحثي (البراءة والاحتياط) ذلك لاشتراك البراءة والاحتياط في موضوع واحد وهو الشبهات الحكمية التحريمية يجريان فيه ويطبقان عليه([5]).
وعرض المحقق الفضلي لموضوع (التخيير) الأصل الرابع في موضوع التعارض.
ومن خلال قراءتي لهذا الكتاب توصلت إلى نتائج، وتعرفت على منهجية الشيخ الفضلي الأصولية، واستخرجت بعض المباني الأصولية لدى سماحته من خلال قراءة كتبه والمناقشة الشفهية مع سماحته.
فمن هذه الآراء الأصولية:
1- الابتعاد عن المنهج الفلسفي كما أشار في مقدمة كتابه (دروس في أصول الفقه الإمامي)، ومحاولة الرجوع إلى الأساليب اللغوية الاجتماعية، يقتضينا تحليل النص تحليلاً لغوياً اجتماعياً لا تحليلاً فلسفياً عقلانياً..([6])
2- الابتعاد عن المباحث التي ليست لها علاقة بعملية الاستنباط مثل مبحث (التجري) الذي يذكر في مبحث (القطع)؛ فقد ذكر لي شفهياً أن هذا البحث ليست له مدخلية مباشرة في عملية الاستنباط..([7])
3- الاعتماد على أوثق المصادر اللغوية خصوصاً المعاجم الحديثة، وقد سمعت ذلك منه شفهياً في سياق الحديث عن حجية قول اللغوي.
4- الأخذ بنظرية أن اللغة ظاهرة اجتماعية، وقد أشار إليها في بعض كتبه اللغوية.
5- الدمج في الأصول العملية بين (البراءة والاحتياط).
6- إن الفقيه الذوقي أقرب إلى فهم النصوص من الفقيه الصناعي، فالفقيه الأديب أدرى بشعاب مكة لأنه من أهلها..([8])
والخلاصة أن ما اعتمده أستاذنا المحقق العالم الشيخ الفضلي (حفظه الله)، في كتاباته الأصولية هو تقديم (المنهج العلمي) البعيد عن غلواء المنهج الكلامي الذي طغى على الدراسات الأصولية، وتقديم المنهج الحديث الذي يعتمد على فهم النصوص الشرعية وفق القواعد العلمية والذوق العرفي الذي يعيشه الفقيه من خلال خلفياته الثقافية ودراساته لعلوم اللغة والأدب العربي.