*
* أهمية البحث
1- يشكّل الفكر الإسلامي، والكلامي منه بخاصة، منعطفاً في تاريخ البشرية المعرفي والثقافي، بله الاجتماعي والسياسي والاقتصادي...، باعتبارين:
أ - أنه يشكّل التفسيرَ والبيانَ للحلقة الأخيرة من حلقات الوحي النازل من الله تعالى لإصلاح البشرية، عبر تزويدها بما يجب أن تتزود به من معارف عن الكون والحياة والإنسان، وعن المبدأ والمنتهى...
ب- أنه انفتح -بلحاظ غالبية منتسبيه- على مختلف صنوف التراث العلمي الإنساني، بشقيه الوحياني وغير الوحياني، فانتقى منه ما وجد صلاحه، وردّ ما وجد أنه لا ينسجم ومسلماته المستقاة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة.
2- عصف بالفكر الإسلامي، كغيره، عواصف، وألمَّت به عوامل فرّقت شمل أبناء الإسلام. يمكن تصنيف بعضها أنه موضوعي، وأنه من مقتضيات الطبيعة الإنسانية المستبطِنة للتنوع والتعدد والاختلاف من جهة، ومن مقتضيات الامتحان الرباني للإنسان، حيث ابتلي بالحق والباطل في جانبيهما العلمي والعملي من جهة ثانية، فيما يصنف بعضه الآخر ضمن ما هو غير موضوعي، تحكمت فيه الأهواء والسياسات والتعصب والجهل([1]).
3- فكان لابد للتعرف إليه من تأريخه أولاً، قبل الحكم له أو عليه. وكان لابد من تحري الدقة في قراءته وتفكيكه ثانياً، إذا كان الباحث بصدد الحكم عليه أو له.
4- تتفاوت المسائل المبحوثة في الفكر الكلامي الإسلامي من حيث أهميتها، فبعضها يأتي في المرتبة الأولى، وبعضها الآخر في المرتبة الثانية، وهكذا. وقد تعارف علماء الكلام وباحثوه على تسمية المسائل من المرتبة الأولى بـ(أصول الدين)، وجعلوا المسائل من المرتبة الثانية فروعاً لها.
5- تشكل (مسألة الإمامة) مفصلاً هاماً ومنعطفاً خطيراً في مسار الفكر الكلامي عموماً، والإمامي خصوصاً. انعكست صراعاً حادًّا في الأوساط الإسلامية لتتجاوز حلقات النقاش الفكري أحياناً لتصل إلى حد إراقة الدماء، حتى قال المؤرخ للفكر الكلامي محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: «وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة؛ إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلّ على الإمامة في كل زمان»([2])، وقال الخضري بك: «إن هذه المسألة كانت سبباً لأكثر الحوادث التي أصابت المسلمين، وأوجدت ما سيرد عليهم من أنواع الشقاق، والحروب المتواصلة، التي قلما يخلو منها زمن، سواء كان بين بيتين، أو بين شخصين»([3]).
وإذا كان للمسألة كل هذا الأثر فليس الحل هو أن نتجاهلها بألَّا تُبحث، فضلاً عن أن يُجرَّم من يقوم بذلك، لأن في ذلك إقراراً بالعجز من جهة، وهو ما لا يقوله أحد من العلماء والباحثين، أو التشكيك بأن القرآن الكريم والسنة المطهرة لم يعالجاها، وفي ذلك إنكارٌ لحقيقةٍ قرآنيةٍ مسلّمةٍ مفادها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهدٌ على الأمة، وأن القرآن تبيانٌ لكل شيء، وأنه هدى ورحمة وبشرى للمسلمين، قال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}([4]). فكيف يكون الرسول شهيداً على ما لم يفعله، وكيف يكون الكتاب تبياناً على ما لم يبينه، وبطبيعة الحال فإنه لن يكون -حينئذٍ- (هدى) ولا (رحمة) ولا (بشرى) للمسلمين.
أجل، لو قلنا: إن القرآن بيّن (الإمامة)، وكذلك الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أفصح عنها، غير أن المسلمين اختلفوا حولها وفيها، لدواعٍ متفاوتة، لكان أفضل وأليق وأصح، من نسبة التقصير لله تعالى عن ذلك علواً كبيراً، أو لكتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه([5])، أو لرسوله الموصوف بأنه {بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}([6]).
6- وعلى كل حال، فإذا كان لـ(الإمامة) هذه الأهمية، لدى (الإمامية)، وأضحت موضوعاً ومحوراً دارت عليه بحوث العشرات، إن لم نقل المئات والآلاف من العلماء، حتى إن البحاثة الطهراني قال في موسوعة (الذريعة إلى تصانيف الشيعة): إن الإمامة «من المسائل الكلامية التي قلّ في مؤلفي الأصحاب مَن لم يكن له كلامٌ، ولو في طيّ سائر تصانيفه أو مقالة مستقلة أو رسالة أو كتاب في مجلد أو مجلدات إلى العشرة فما فوقها»([7]). ثم سجّل أسماء كتب ورسائل تربو على المائة من الرقم 1261 حتى 1363، واستوعب الحديث فيها 22 صفحة.
مع التنويه إلى أن الطهراني (رحمه الله) اقتصر، فيما نقلناه عنه، على ما كان عنوانه (الإمامة) فقط، دون ما بُحثت الإمامة فيه ضمن سلسلة موضوعات، من قبيل جميع كتب العقائد التي لا يخلو منها كتاب من ذكر مبحث الإمامة...، أو ما كان موضوعه الإمامة ولم يكن عنوانه مشتملاً على لفظها، كـ(الإيضاح) لابن جرير الطبري الإمامي([8])، و(الإيضاح) للشيخ المفيد (رحمه الله) ([9])... أو ما ورد لفظها في العنوان بنحو المضاف إليه، من قبيل (الدلائل في الإمامة) للحميري([10])...
وإذا كان العلامة الدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي من المختصين والمهتمين بالفكر الإسلامي على مستوى الدرس والتدريس والبحث، والتعريف والتجديد، وهو الذي عقد البحث لأجل أداء بعض حقه في ملف خاص، فبطبيعة الحال سيكون لـ(الإمامة) في اهتماماته ونتاجاته الكثيرة حضورٌ يتناسب وأهميتها. وهو ما نجده في عدد من كتبه، وأخص بالذكر منها:
(1) كتاب في انتظار الإمام، والذي عالج فيه مسألة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة.
(2) كتاب الدولة الإسلامية.
(3) كتاب مذهب الإمامية.
(4) كتاب التربية الدينية.
(5) كتاب خلاصة علم الكلام.
* المطلب الأول: أصول الدين وفروعه
تتفاوت المعارف الدينية من حيث أهميتها، كما تقدم في الفقرة (4) بداية البحث، ومنه توزعت مسائل الدين ومعارفه إلى أصول وفروع، وفي ذلك يقول العلامة الفضلي: «وهذا التقسيم للدين إلى أصول وفروع مأخوذ من تقسيمهم الدين إلى: معرفة وطاعة. ويعنون بالمعرفة: العقيدة، وبالطاعة: العمل. ولأن العمل، بطبيعته، يقوم على (المعرفة) سُمّيت مفاهيم وأحكام المعرفة بأصول الدين، ومفاهيم وأحكام الطاعة بفروع الدين»([11]).
والقسم الأول هو ما عالجه علماء الإسلام ضمن ما يسمى بعلم الكلام، أو العقيدة، أو أصول الدين... حيث شكلت هذه الأصول موضوع البحث فيه([12]).
* المطلب الثاني: كلام في المنهج
من نافلة القول الإشارة إلى أن الفرق بين الأصول والفروع لا يقف عند حدود الترتيب في الأهمية والطبيعة، حيث تتقدم الأصول على الفروع، بل يتعداه إلى منهج البحث، الذي قد يختلف من مدرسة إلى مدرسة، حسب طبيعة تلقي هذه المدرسة أو تلك للدين، ومن ثم فإن: «منهج البحث في علم الكلام، أو الطريقة التي يعتمدها الباحث في دراسة مسائله وقضاياه، أفكاره ونظرياته، يختلف باختلاف وجهات نظر علمائه ومدارسه التي تعرف بالفرق الكلامية في المنهج الذي ينبغي أن يتبع في دراسة وبحث الفكر الديني»([13]).
وتبعاً لاختلاف الناس اختلفت المناهج وتباينت، ويعرِّف باحثنا بالسائد منها في أوساط المدارس الكلامية الإسلامية، فيذكر أنها خمسة([14]):
1 - المنهج النقلي.
2 - المنهج العقلي.
3 - المنهج التكاملي.
4 - المنهج الوجداني.
5 - المنهج العرفاني.
ولكل واحد من هذه المناهج خصائصه التي تميزه. وقد اختار العلامة الفضلي في دراسته لـ(أصول الدين) ثالثها أعني (المنهج التكاملي)، وهو السائد عموماً في وسط الباحثين والدارسين من أتباع المذهب الإمامي، وفي ذلك يقول: «سأنتهج وسع الطاقة المنهج التكاملي فيما أبديه من ملاحظات، وفيما أقوم به من معالجات ومناقشات»([15]).
مشيراً إلى سماته وخصائصه، التي تشكّل معالمه وأدوات البحث فيه، وهي فيما يذكره:
1 - الجمع بين العقل والنقل لأنه لا تعارض بينهما في الحقيقة والواقع.
2 - الأخذ بظاهر النص إن كان مجرداً من القرائن الصارفة، ولم يتعارض والضرورة العقلية، وإلا ففي ضوء ما يقترن به من قرائن نقلية أو عقلية، لفظية أو معنوية.
3 - آيات القرآن يفسر بعضها بعضاً ويقرن بعضها البعض.
4 - السنة القطعية تقرن القرآن وتفسره.
5 - الأثر المنقول لا يعارض القرآن حتى ولو كان صحيحاً وفق قواعد علمَي الرجال والحديث. فإذا لم يمكن تأويله، تُسقطه المعارضة من الاعتبار.
6 - جواز التأويل عند وجود ما يقتضيه.
7 - الحمل على المجاز مع وجود القرينة الداعية لذلك.
8 - تفسير المتشابه بالمحكم أو تأويله في ضوء المعقولات المرعية([16]).
ولا يخفى ضرورة تحديد المنهج أولاً، وتبيان أصالته ثانياً، لأن الخلاف الذي وقع بين المسلمين في قراءة الدين وتفسيره يقوم على أساس اختلافهم المنهجي، ولذلك لا نتوقع أن ترتفع جميع الإشكالات بينهم لأن كثيراً منها خلاف تطبيقي، تنعكس فيه خلافاتهم الأشد تجذّراً.
كما لا يخفى أن تحديد المنهج وإعلان الالتزام به ليس بالضرورة يتطابق والممارسة العملية، وسيأتي بعض الشواهد التي ساقها على ذلك.
العقل / النقل
عانى المسلمون ماضياً وحاضراً من مشكلة التوفيق بين أحكام العقل ومؤديات النقل، حتى انبرى بعض المتكلمين للتدوين فيها فسطرت المؤلفات والكتب([17]). فهل هما في صدام أم على وئام ؟
في خصوص هذه الملاحظة تقدم أن المنهج التكاملي لا يرى صداماً بل وئاماً تاماً، وعليه جرى باحثنا عمليًّا بعد أن أكد على الالتقاء التام، فيقول: «لا تعارض بينهما في الحقيقة»([18]). وهو في ذلك يؤكد على ما تاه في ركام الخلاف والاختلاف بين المسلمين من حقيقة أشبه ما تكون بالبديهية في الفكر الإسلامي، أعني التآزر بين مقولتي: العقل / النقل.
هذا التآزر الذي أضاعه تعصب بعض الفرقاء الإسلاميين ممن أتيحت لهم فرصة الهيمنة السياسية عبر العصور على مراكز العلم وحواضره في عالمنا الإسلامي، فنبتت ظاهرة إلغاء العقل وإقصائه لدى فريق، ليتولد أمامه رد فعل عنيف سعى ولا يزال إلى تهميش النقل عن معترك الحياة بذريعة استحضار العقل والعقلانية.
وما نجده لدى باحثنا، فيما سقناه من تعريف بالمنهج وخصائصه، أنه يؤكد على ضرورة المحافظة على هذا التآزر والتآخي والتصالح على المستويين النظري والتطبيقي.
ومن المفيد أيضاً أن نشير إلى أن التطبيق الصارم لهذا المنهج قد يؤدي بنا إلى الانتفاض على بعضٍ ما يُعد من المسلّمات لدى فريق إسلامي آخر([19])، دون أن يُفسد ذلك للود قضية([20]).
* المطلب الثالث: الإمامة أصل من أصول الدين
وتطبيقاً للمنهج آنف الذكر نشير إلى أن المدارس الكلامية الإسلامية اختلفت في مسألة (الإمامة) من حيث كونها أصلاً من أصول الدين أم لا؟
فتبنى فريقٌ الرأيَ الأولَ وفقاً لمنهج البحث الذي اختاره، وتبنى آخرون الرأيَ الثانيَ وفقاً لمناهج أخرى أدت به إلى ذلك.
ويذهب باحثنا العلامة الشيخ عبد الهادي الفضلي، وفقاً لما هو سائد لدى الإمامية، إلى أنها أصل، حيث يقرر ذلك ضمن سرده لأصول الدين بأنها أربعة:
«1- الألوهية 2- النبوة 3- الإمامة 4- المعاد»([21]). ويؤكد ذلك بأقوال بعض مشاهير العلماء من الشيعة.
إلا أننا نجده يحصرها في موضع آخر([22]) في ثلاثة، هي: (التوحيد، والنبوة، والمعاد)، لتكون (الإمامة) أصلاً من أصول المذهب.
ولا نستبعد أن يكون الثاني تفسيراً للأول، إذا تبيّن لنا الآثار المترتبة على من أنكر أصلاً من أصول الدين، حيث يحكم بكفره، والشيعة الإمامية لا يرون كفر المسلمين ممن خالفهم في القول بالإمامة بالنحو الذي يقولون به، بل يحكمون بإسلامهم([23]).
أجل، القول بالإمامة أصل من أصول الإيمان، و«يظهر أثر التدين بالإمامة في منازل القرب والكرامة يوم القيامة فالمسلمون بأجمعهم سواء، وبعضهم لبعض أكفاء، وأما في الآخرة فلا شك أن المسلمين تتفاوت درجاتهم ومنازلهم حسب نياتهم وأعمالهم»([24]).
* المطلب الرابع: مسائل الإمامة
المسألة الأولى: تعريف الإمامة وضرورتها
الإمام هو: الذي يقتدي ويأتمّ به الناس([25]).
وهذا التعريف ليس بعيداً عمَّا تقرره اللغة من معنى (أمّ، يؤم، ائتمام...) حيث يكون ثمة هدف وغاية يتحرك نحوها الإنسان.
ولكي نتبين ضرورة الإمامة نذكر عدداً من المقدمات لتنتهي بنا إلى النتيجة:
1- لا يخفى أن الله سبحانه خلق الإنسان لغاية سجلها في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، الذي يعني أن غير المتعبد لله، أي غير الخاضع له، سيكون سائراً في غير الوجهة التي حددها الله له.
2- الدين يعني الاستسلام التام لله بالجوارح والجوانح قال تعالى: {إِنَّ الدِّيْنَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208]، وهذا يعني: شموليةَ المعارف الدينية مستوعبة الخالق والكون والإنسان والحياة، وشموليةَ القانون / الشريعة لجميع جوانب الحياة([26]).
3- تتوزع معارف الدين على الغيب والشهود قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ المُلْكُ، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73]، وقال تعالى:{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 83] كما تتنوع آيات القرآن على تنزيل وتأويل، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
ولا يدعي جمهور المسلمين أن لهم إحاطةً بجميع ذلك.
4- على المسلم أن يطبق سلوكه في السر والعلن، وفي الجانب الشخصي والعام... على وفق ما تقرره له القوانين الإلهية، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]. وهذا يتم على نحوين:
(1) التعليم من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره الموحى إليه والخبير بجميع جوانب الشريعة ومعارف الدين {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
(2) السلوك العملي من خلال معايشتهم لمن هو قدوة لهم {وَلَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21].
5 - حاجة المسلمين للمعارف الدينية لا تقف عند جيل من الناس ولا في زمن من الأزمان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].
ونخلص من هذه المقدمات إلى أن ثمةَ ترابطاً وثيقاً بين الدين وبين (الإمام) الذي يتمثل في شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في زمانه، وفي الإمام، مورد البحث، في حال غيابه عن الناس.
وهذا التحليل لضرورة الإمامة قد لا نجده بهذا الترتيب فيما دوّنه الشيخ الفضلي، إلا أننا نتصيده من مجموع ما كتب في مشكلة البحث، ونتعرّف عليه من المصادر التي يحيل إليها سماحته في العديد من بحوثه اطمئنانًا بمؤلفيها وقناعةً بمضمونها إجمالاً.
ولكننا نجد فيما كتبه ما يصلح أن يكون دليلاً على أهمية الإمامة وضرورتها، وضمناً التعريف بها، وذلك ضمن حديثه عن النبوة، التي تعد الإمامةُ امتداداً لها، وما يصلح دليلاً على النبوة يصلح أن يكون دليلاً على الإمامة مع حفظ الفوارق.
ونورد ذلك ضمن عدد من المقدمات أشير إليها في كتاب خلاصة علم الكلام، تصرفنا بصياغتها ليكون أيسر للفهم العام:
المقدمة الأولى: النفس البشرية تختزن نوازع الخير ونزاع الشرّ.
المقدمة الثانية: الإنسان كائن اجتماعي، بمعنى أنه لا يعيش وحده.
المقدمة الثالثة: تنوع الرغبات الاجتماعية وتعددها.
المقدمة الرابعة: سلامة العلاقة الاجتماعية تتطلب تغليب نوازع الخير على نوازع الشر.
المقدمة الخامسة: تغليب نوازع الخير على نوازع الشر يتوقف على وجود نظام قانوني يحقق العدل.
المقدمة السادسة: لا يكفي في النظام أن يكون كاملاً، بل يجب أن يراعى فيه الجانب التطبيقي والتربوي، فهو بحاجة إلى قيّم.
المقدمة السابعة: الإنسان، وحده، عاجز عن وضع هذا النظام، بسبب قصوره ونقصه، وفاقد الشيء لا يعطيه.
المقدمة الثامنة: لا كامل إلا الله تعالى، فهو -تعالى- القادر وحده على وضع مثل هذا النظام.
المقدمة التاسعة: لأن الله كامل فهو لطيف، ولطفه بعباده يفرض أن يقوم بوضع النظام (البعد النظري / القانون)، وتوفير أسباب تطبيقه (البعد التطبيقي التربوي / القيّم).
النتيجة: وجوب بعثة الأنبياء، وتعيين الأوصياء([27]).
المسألة الثانية: الإمامة دين أم سياسة
تختلف الرؤية الإمامية لـ(الإمامة) عن رؤية سائر المذاهب الإسلامية، وتلتقي الرؤية الإسماعيلية معها في بعض الجوانب، ولذلك اختلفت المعالجة بين الفرقاء.
فالشيعة الإمامية يرون فيها امتداداً للنبوة([28])، على المستويين الروحي والسياسي([29]) بغير وحي طبعاً([30]). ولذلك يختلف الإمامية عن أهل السنة في الصلاحيات التي أعطيت لـ(الإمام) عند الشيعة حيث تتمثل في حفظ الشريعة وتبيان الأحكام على ما هي عليه دون تصرف ولا تبديل بقصد أو بغير قصد، فيما هي لا تتجاوز المنصب السياسي عند السنة. وشتان بين التفسيرين، وتبعاً لذلك بين الصفات اللازم توافرها في الإمام عند هؤلاء عنها عند أولئك. وسيتضح القول بشكل أجلى عند التعرض لعصمة الإمام في مسألة مستقلة. ولعل إدراج الإمامية للمسألة ضمن (أصول الدين) وإدراج السنة لها ضمن (فروع الدين) يُجلّي طبيعة الفرق بين أسلوب المعالجة عند الفريقين، وكذلك سينعكس هذا الاختلاف على آليات البحث وأدواته.
المسألة الثالثة: الإمامة والنصب الإلهي
تختلف مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وتبعاً لهم الإمامية عن المدارس الإسلامية الأخرى في قراءة الدين، حيث تلتزم مدرسة أهل البيت صرامة متناهية في التعبد بما يدخل ضمن نطاق الأحكام الشرعية على مستوى المفاهيم والمعارف، وعلى مستوى الأحكام والقوانين العملية في العبادات والمعاملات. وبنوا ذلك على أساس أن القرآن {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، وعلى أساس أنه (تبيان) لكل شيء([31])، فلن نعدم معالجةً لأي مشكلة ومعضلة حتى أرش الخدش، كما روي على لسان الإمام الصادق (عليه السلام)، وقد عقد الشيخ الكليني في ج 1 من أصول الكافي باباً عنونه بـ(باب الرد إلى الكتاب والسنة، وأنه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلا وقد جاء فيه كتاب وسنة) أورد فيه العديد من الروايات، منها بسنده عن سليمان ابن هارون قال: «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلا وله حد كحد الدار، فما كان من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدار فهو من الدار حتى أرش الخدش فما سواه، والجلدة ونصف الجلدة» الحديث (3).
وانطلاقاً من ذلك، وباعتبار أن (الإمامة) منصب ديني بحت، بل هي أعلى منصب بعد النبوة، سيكون حكمها حكم سائر المسائل الدينية التي لا مجال فيها للاجتهاد وضعاً ولا رفعاً فـ«حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»([32])، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]. بل لا يعقل أن تُهمَل، كما سيتبين لدى سردنا لأدلة إمامة أهل البيت (عليهم السلام). والشاهد القرآني على النصب الإلهي للإمام قول الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، وسنوضحه فيما يأتي.
انطلاقاً من كل ذلك أصر الشيعة على لزوم نصب الإمام من قِبَل الله تعالى، لاعتبارين أساسيين:
الأول: أن الإمامة حكم شرعي، كما تقدم، والأحكام الشرعية، التي هي ألطاف إلهية ألزم نفسه بها تجاه الناس {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، من المهمات الإلهية التي لا يتصدى لها إلا الله سبحانه([33]).
الثاني: عدم قدرة الناس، مهما كانت مستوياتهم العلمية، على تحديد الشخص الصالح والكفء لمقام الإمامة، وكما أن الناس عاجزون عن تسمية الأنبياء كذلك هم عاجزون عن تسمية الإمام([34]).
ونحن حينما نتحدث عن (الإمامة) باعتبارها حكماً شرعيًّا، فلن تكون مسألة تاريخيةً لا ينبغي الوقوف عندها والإصرار على تبني موقف واضح منها، لما يمكن أن يترتب على ذلك من مضاعفات سلبية. بل سيكون حالها حال أي حكم شرعي مارست الأمة تعطيله لهذا السبب أو ذاك، وسيكون للموقف منها قبولاً أو رفضاً نتائج جد خطيرة على مستوى الفكر والسلوك معاً.
المسألة الرابعة: الإمامة والشورى
يُراد بالشورى: «المفاوضة في الكلام بمراجعة البعض إلى البعض لاستخراج الرأي»([35]). وهي -بهذا المعنى من القيم الإسلامية الأصيلة، التي ندب إليها المشرِّع الإسلامي، الساعي دائماً نحو دفع الإنسان باتجاه التكامل وتحقيق مصالحه. ولأن التشاور يعدّ من الطرق الأساسية لتبادل الخبرات، فإن المنطق الإسلامي المبني على أساس تحقيق المصالح ودرء المفاسد، سيكون إلى جانب الشورى، حتى بالنسبة للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159].
وإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مطالباً بالشورى فإن من عداه سيكونون مطالبين من باب الأولوية.
وقد طُرِحت قضية الشورى، في مسألة الإمامة، من زاويتين:
الأولى: أنها طريق لتسمية الإمام.
الثانية: أنها أسلوب في إدارة شؤون الأمة.
وعلى كثرة تداولها على المستوى النظري إلا أنها -كما يرى العلامة الفضلي- لم تُمارَس تطبيقيًّا([36]).
أما الزاوية الأولى فقد تبين في المسألتين السابقتين أن (الإمامة) تدخل ضمن أحكام الدين، وبالتالي فلا مجال لأن يتدخل فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فضلاً عن عامة الناس، قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ، قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا، أَوْ بَدِّلْهُ! قُلْ: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ. إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [ يونس: 15].
كما سيتبين، لاحقاً، أن الله عز اسمه ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيّنا الموقفَ الشرعيَّ الواضحَ بالنسبة لـ(الإمامة)، وذاك يدحض أي دعوى، قوليةً كانت أو فعليةً، تفيد أن ثمة فراغاً دعت الحاجة إلى ملئه باجتهاد من الأمة، ولو بواسطة الشورى التي لم تتحقق في السقيفة حينما اجتمع (بعض الصحابة) دون إجماع حقيقي ولا تشاور تام فهذه «الشورى لم تتحقق تاريخيًّا فلم يكن في السقيفة اجتماع شامل، أو على الأقل وافٍ، لمن له حق المشورة وإبداء الرأي ممن يُعرفون بأهل الحل والعقد. ولم يدر بين من حضروا مشاورة ومفاوضة ومداولة في ترشيح من يستحقها من المسلمين»([37]).
وأما الزاوية الثانية فلا يستطيع أحدٌ أن يدعي أن الشورى كانت أسلوب حكم معتمد بنحو مطلق وشامل في جميع العصور، بل ولا في أي عصر([38]).
فما هو السر -إذن- في هذا الإصرار على مبدأ الشورى؟
يجيب العلامة الفضلي بقوله: «استمرت تغذية هذا المبدأ سياسيًّا... لئلا يكون من علي وآل علي شيء يعترضه أو يعارضه»([39]).
ويقرأ فيما جاء على لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) من الاحتجاج بالشورى كمبدأٍ، أنه لا يتجاوز (الإلزام) في مقام المخاصمة والجدال، حيث «أراد إلزام معاوية بما ألزم المسلمون به أنفسهم آنذاك»([40]).
المسألة الخامسة: عصمة الإمام
تعدّ مسألة (العصمة) من المسائل الشائكة والعويصة، إذ تصر مدرسة الإمامية على اتصاف الأئمة بها، وتعتبرها من المسلَّمات، فيما يتندر عليهم، بسبب القول بها، مخالفوهم. هذا مع اتفاق المسلمين جميعاً عليها كمبدأ ديني، حيث ذهب الجميع إلى ضرورة اتصاف الأنبياء (عليهم السلام) بها، على اختلاف في التفاصيل بينهم([41]).
والسائد في المذهب الإمامي -وهو مذهب العلامة الفضلي- أن للعصمة ثلاثة مجالات:
الأول: العصمة من المعاصي، صغيرها وكبيرها، منذ الولادة حتى آخر العمر.
الثاني: العصمة من الخطأ.
الثالث: العصمة من السهو والنسيان.
والأول عصمة سلوكية يقتضيها عاملان:
1- صيانة الدين من أن يقع في التلاعب والتشويه المقصود.
2- بعث الاطمئنان في نفوس المدعوين إلى الدين والمؤمنين به في شخص المعصوم، لتتهيأ الأرضية لامتثال أوامره واجتناب نواهيه...
والثاني والثالث عصمة فكرية يقتضيها:
1- الحرص على صون الدين وسلامته من التشويه غير المقصود، تحقيقاً للطف الرباني بالعباد.
2- توفير أسباب الاطمئنان لدى المدعوين بخلوّ الدين من أي شائبة ليست من جوهر الدين، دعا إلى الوقوع فيها ما يقع عموم الناس فيه من حيث لا يشعرون، حيث يجهلون ويخطئون وينسون([42]).
وقد التزموا بها في الإمام انطلاقاً من تفسيرهم لـ(الإمامة) التي تتجاوز المنصب السياسي لتشمل حفظ الدين والشريعة([43])، بالمستوى الذي لا يحتمل أي خطأ مهما صغر، وهذا يتوقف على أن افتراض العصمة، بمستوياتها الثلاثة، حيث نضمن حينئذ الفاعلية الحقيقية للدور الوظيفي المنوط بـ(الإمام)، كما هو الحال في النبي، بفارق أن النبي يوحى له دون الإمام الذي هو عالم بمعطيات القرآن الكريم والسنة الشريفة ومؤدياتهما كما جاءت من عند الله تعالى([44]).
فقد قال الشيخ أبو جعفر الطوسي (رحمه الله): «الإمام لا يكون عالماً بشيء من الأحكام إلا من جهة الرسول وأخذ ذلك من جهته»([45])، وهو ما أبانه الأئمة (عليهم السلام) فيما روي عنهم في المجامع الحديثية، من قبيل ما رواه جابر قال:
قلت لأبي جعفر (عليه السلام): «إذا حدثتني بحديث ما سنده لي؟
فقال: حدثني أبي عن جده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبريل عن الله عز وجلّ.
وكل ما أحدثك بهذا الإسناد»([46]).
أدلة العصمة
(1) قاعدة اللطف
يعرّف اللطفُ بأنه: ما يقرِّب العبدَ إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية([47]).
وأما كيف يكون الإمام مصداقاً لـ(اللطف) فيتمثل في: أننا نفترض في الإنسان الحاجة إلى إمامٍ يتولى دور القيادة الاجتماعية والسياسية والثقافية والتربوية، بحيث يشكل دوره صمام الأمان على جميع تلك الأصعدة ليقوم الناس بالقسط وتستقر في أوساطهم العدالة وينتفي بتطبيق القانون الظلم وفروعه وتثمر شجرة الحق وتنمو أغصانها، ويتوافر بذلك أهم عوامل الصلاح في النفس الإنسانية([48]).
ويتبنى العلامة الفضلي قياساً منطقيًّا لإثبات العصمة يبتني على مقدم وتالٍ باطل يستلزم بطلان المقدم، ومفاده:
المقدم: أن الملزِم والموجِب لنصب الإمام من الله تعالى هو احتمال وقوع الخطأ من المكلفين، وهو ما تعلقت الإرادة الإلهية بنفيه لطفاً بالعباد.
التالي: إذا افترضنا احتمال وقوع الإمام في الخطأ فإن الواجب أن يُعيَّن له إمامٌ يجنبه الخطأ، ليتحقق الغرض من نصبه. فإن افترضنا أن هذا الإمام المعيّن هو الإمام فهو المطلوب، وإلا للزم تعيين إمام له، وهكذا، لنقع فيما يرفضه المنطق والعقل وهو التسلسل.
وإذا كان التالي باطلاً فالمقدم مثله، فتجب العصمة في الإمام، وهو المطلوب([49]).
(2) القرآن
يُستدل على العصمة بآيات القرآن الكريم، ويمكن أن يورد -شاهداً على ذلك- آيتان:
الآية الأولى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}([50]).
«وتقرير الاستدلال بالآية الكريمة:
1- أن الآية صريحة في أن الإمامة لا تكون لأحد إلا بجعل من الله تعالى، أي بتعيين منه.
2- أن الإمامة عهد الله، أي مسؤوليةٌ إلهيةٌ مهمةٌ فلا تُناط إلا بمن لديه أهليةُ القيامِ بها، وهي أن يكون غيرَ ظالمٍ لنفسه أو لغيره، وهذا لا يتحقق إلا إذا كان الإمامُ معصوماً، لأن العصمة مَلَكةُ ثابتةٌ ودائمةٌ، وبعكسها العدالةُ فإنها قابلةٌ للحدوث والتجدد [كما هي قابلة للزوال]، ففي حالة زوالها تزول معها الإمامة، لأن المشروط عدم عند عدم شرطه»([51]).
الآية الثانية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}([52]).
«بتقريب أن المراد من الرجس الذنوب، ذلك أن الرجس: القذر حسًّا أو معنى، ويطلق على ما يستقبح في الشرع والفِطَر السليمة.
والمراد بـ(أهل البيت): علي وفاطمة والحسن والحسين، لحديث الكساء المروي عن أم سلمة (رضي الله عنها): قالت: نزلت هذه الآية في بيتي {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وفي البيت سبعة: جبريل وميكائيل وعلي وفاطمة والحسن والحسين (رضي الله عنهم) وأنا على باب البيت. قلت: ألست من أهل البيت؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إنك إلى خير، إنك من أزواج النبي. ولحديث المباهلة المروي في صحيح مسلم : 121 / 7 لما نزلت هذه الآية {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ...} دعا رسول الله عليًّا وفاطمةَ وحسناً وحسيناً، فقال: اللهم هؤلاء أهلي.
وبوحدة الملاك تعم الآية بمؤداها سائر الأئمة التسعة»([53]).
ولئلا يطول بنا المقام سنحيل شطراً من الاستدلال على العصمة إلى حين استعراضنا للأدلة الناصّة على شخوص الأئمة، لأنها تثبت وتشخص الإمامَ أولاً، وتحدد شروطَهُ ثانياً، وتبيِّن صلاحياتِهِ ثالثاً.
ونلحظ هنا كيف أن العلامة الفضلي التزم بصرامة ما رسمه لنفسه من منهج وصفه بـ(التكاملي) و(التقاء العقل بالنقل).
المسألة السادسة: الأدلة على الأئمة
أولاً: الأدلة من القرآن
لا يختلف المسلمون في حجية القرآن الكريم([54])، هذا ما يؤكده العلامة الفضلي، وينقل في ذلك تعبيراً لأستاذه الشيخ محمد رضا المظفر في كتابه (أصول الفقه)([55]) ونصّه: «إن القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لنبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والموجود بأيدي الناس بين الدفتين هو الكتاب المنزل إلى الرسول بالحق، لا ريب فيه هدى ورحمة {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ}([56]). فهو -إذاً- الحجة القاطعة بيننا وبينه تعالى، التي لا شك ولا ريب فيها، وهو المصدر الأول لأحكام الشريعة الإسلامية بما تضمنته آياته من بيان ما شرعه الله للبشر. وأما ما سواه من سنة أو إجماع أو عقل فإليه ينتهي ومن منبعه يستقي»([57]).
والآيات التي سيقت لإثبات إمامة أهل البيت (عليهم السلام) عديدة، يتم الاستدلال بها عبر مرحلتين:
المرحلة الأولى: استكشاف معنى الآية. وإثبات أن المراد منها الإمامة الإلهية.
المرحلة الثانية: إثبات أن المراد بها خصوص أهل البيت (عليهم السلام).
وبالجمع بين الأمرين يثبت أن (الإمامة الإلهية) لا تصح لغير أهل البيت (عليهم السلام).
أما الآيات فمنها:
1- قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33].
وتقريب الاستدلال بها على إثبات إمامتهم (عليهم السلام) أن يقال:
(1) إن الآية تنفي عن أهل البيت (عليهم السلام) الرجس، وهو كل قذر وعيب، بإرادة إلهية لا تقبل التخلف، وذلك يعني عصمتهم.
(2) إن عصمة أهل البيت (عليهم السلام) تعني عدم جواز مخالفتهم ومعارضتهم، فيما يأمرون وينهون.
(3) لا يجب طاعة أحد بنحو مطلق إلا الإمام.
والنتيجة: أنهم أئمة واجبو الطاعة، إذ لا نريد من (الإمام) إلا ذلك.
وأما أن المراد بأهل البيت (عليهم السلام) علي فاطمة وذريتهما المعصومون فلِما تضافر بل تواتر بمناسبة نزول الآية.
يقول العلامة الفضلي حول هذه الآية الشريفة: «... المراد من الرجس الذنوب، ذلك أن الرجس: القذر حسًّا أو معنى، ويطلق على ما يستقبح في الشرع والفطر السليمة. والمراد بـ(أهل البيت): علي وفاطمة والحسن والحسين:
- لحديث الكساء المروي عن أم سلمة (رضي الله عنها): قالت: نزلت هذه الآية في بيتي {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وفي البيت سبعة: جبريل وميكائيل وعلي وفاطمة والحسن والحسين (رضي الله عنهم) وأنا على باب البيت. قلت: ألست من أهل البيت؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إنك إلى خير، إنك من أزواج النبي.
- ولحديث المباهلة المروي في صحيح مسلم 7 / 121: لما نزلت هذه الآية {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ...} دعا رسول الله عليًّا وفاطمةَ وحسناً وحسيناً، فقال: اللهم هؤلاء أهلي.
وبوحدة الملاك تعم الآية بمؤداها سائر الأئمة التسعة»([58]).
2- قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55].
وتقريب الاستدلال بها أن يقال:
(1) إن الآية نزلت بمناسبة تصدق علي بن أبي طالب (عليه السلام) بخاتمه في الصلاة، بشهادة علماء أسباب النزول والمفسرين.
(2) إنها تثبت للمتصدق، فالولاية على المؤمنين لله أولاً ولرسوله ثانياً ولهذا المتصدق ثالثاً.
(3) إن الولاية هنا يراد بها الولاية الخاصة بمعنى وجوب الطاعة، وهو معنى الإمامة، لأن الولاية الثابتة للمؤمن على المؤمن ليست مرادة قطعاً في الآية الشريفة.
والنتيجة أن (عليًّا) هو الإمام من بين سائر الصحابة، وهو المطلوب.
3- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].
وتقريب الاستدلال بها أن يقال:
1- إن الآية الشريفة أمرت بطاعة أولي الأمر إلى جانب الأمر بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
2- إنها أطلقت الأمر في وجوب طاعة ولاة الأمر كما أطلق في وجوب طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
3- لا يعقل أن يكون الأمر بالطاعة مطلقاً إلا أن يكون المأمور بطاعته معصوماً، وإلا شمل إيجاب طاعته على الإطلاق إيجابَ طاعته في أمره بالمعصية على حد أمره بالمعصية، وهو باطل غير معقول.
4- لا معنى للقول بعصمة ولاة الأمر إلا أن يقال بـ(الإمامة الإلهية) التي ذهبت إليها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
ثانياً: الأدلة من السنة
(1) حديث الثقلين
وهو من أهم الأحاديث التي عني بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واهتم بها اهتماماً كبيراً. وذلك لما يتضمنه هذا الحديث من معنى حيوي على مستوى الدين والأمة([59]).
«ويتجلى هذا الاهتمام في أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كرر مضمونه في مواطن عدة، منها: بعد انصرافه من الطائف، وفي مسجد الخيف، وفي حجة الوداع بعرفة، وفي غدير خم عندما عَهِد للإمام علي بالخلافة، ومن على منبره في مسجده الشريف بالمدينة، وفي حجرته المباركة قبل وفاته»([60]). ويستند العلامة الفضلي في إثبات هذا الأمر إلى نص هام جاء في الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي([61]).
وكان لابد من التأكد من صدوره وإثباته على مسلك من لا يقر بالإمامة الإلهية خصوصاً. لهذا أورد العلامة الفضلي، في سياق استدلاله بالحديث على الإمامة، العديد من الشواهد على ذلك، وأحال في ذلك إلى إحقاق الحق وملحقاته الذي جاء فيه أن الحديث ذكر في مائة وستين مؤلفاً من جملتها معظم كتب الصحاح وجوامع الحديث ومصنفات الرجال والتاريخ المعروفة([62]).
نص الحديث:
ورد الحديث بألفاظ متفاوتة، دون إخلال بالمعنى، فمن ذلك ما رواه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين بإسناده عن زيد بن أرقم (رضي الله عنه)، قال: لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن، فقال: كأني دعيت فأجبت، وإني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله وعترتي أهل بيتي. فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض.
ثم قال: إن الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي (عليه السلام) فقال: من كنت وليه فهذا وليه، اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه([63]).
صحة الحديث:
ويؤكد العلامة الفضلي على صحة الحديث مورِداً شواهد على ذلك من أئمة الحديث في الوسط السني خصوصاً؛ كالترمذي([64]) وابن حنبل([65]) والحاكم النيسابوري([66]) والطبراني والطحاوي والذهبي([67])، ومن المعاصرين الشيخ ناصر الدين الألباني([68]).
مفاد الحديث:
يقف العلامة الفضلي عند الحديث ليستخرج منه عدداً من الفوائد والنتائج، تصب جميعها في تأكيد صلاحيته للاستناد إليه في إثبات إمامة أهل البيت (عليهم السلام)، وتتمثل في التالي:
1- اقتران العترة الطاهرة بالقرآن الكريم، بمعنى فهمهم له وعلمهم به.
2- إن التمسك بالكتاب والعترة معاً يعصم من الضلالة، بمعنى أن الالتزام بهدي القرآن وبهدي السنة المأخوذة عن طريق أهل البيت تعطي الإنسان المناعة من أن يقع في الضلالة.
3- حرمة التقدم عليهم، وحرمة الابتعاد عنهم، لأن ذلك يوقع في التهلكة والهلاك.
وفحوى هذا: حصر الإمامة فيهم وقصرها عليهم.
4- عدم افتراق العترة عن الكتاب، بمعنى ارتباطهم به علماً وعملاً، واستمرار سنتهم -لأنها سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)- عديلة القرآن إلى يوم القيامة...
5- أعلمية أهل البيت، وليس هناك ما هو أحوط للدين وأعذر في الموقف يوم الحساب من اتباع الأعلم {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35]([69]).
(2) حديث السفينة
ومن الأحاديث التي استند إليها العلامة الفضلي للاستدلال على إمامة أهل البيت (عليهم السلام) ما أطلق عليه (حديث السفينة).
نص الحديث:
روى الحاكم في المستدرك بإسناده عن حنش الكناني، قال: سمعتُ أبا ذر (رضي الله عنه)، وهو آخذٌ بباب الكعبة: «من عرفني فأنا من عرفني، ومن أنكرني فأنا أبو ذر، سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق»([70])، ورواه باختلاف يسير الطبراني في المعجم الكبير والمعجم الصغير وابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة([71]).
وأشار العلامة الفضلي إلى أن عدد المصادر التي ذكرته -كما في إحقاق الحق- واحدٌ وسبعون مصدراً([72]).
مفاد الحديث:
والحديث في دلالته على إمامة أهل البيت ولزوم التمسك بهم واتباع سنتهم لا يفتقر إلى توضيح. هكذا يعلق العلامة الفضلي([73]). وقد أورد استشهاداً للمرجع الديني الراحل السيد المرعشي في كتاب إحقاق الحق ناقلاً إياه عن علامة سني: «قال العلامة المعاصر السيد أبو بكر بن شهاب الدين العلوي الحسيني الحضرمي الشافعي في كتابه (رشفة الصادي) (ص 80 ط مصر): قال العلماء، وجه تمثيله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم بسفينة نوح (عليه السلام)، أن النجاة من هول الطوفان ثابتةٌ لمن ركب تلك السفينة، وأن من تمسك من الأمة بأهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذ بهديهم كما حث عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأحاديث السابقة، نجا من ظلمات المخالفات، واعتصم بأقوى سبب إلى رب البريات، ومن تخلف عن ذلك، وأخذ غير مأخذهم، ولم يعرف حقهم، غرق في بحار الطغيان واستوجب الحلول في النيران، إذ من المعلوم مما سبق وما يأتي أن بغضَهم منذِرٌ بحلولها موجِب لدخولها»([74]).
(3) حديث الأمان
ومن الأحاديث النبوية التي استدل بها العلامة الفضلي على الإمامة ما يعرف بـ(حديث الأمان).
نص الحديث:
روى الحاكم في المستدرك([75]) بإسناده عن ابن عباس (رضي الله عنه)، قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس»، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»([76]). ورواه الحاكم أيضاً بتفاوت في اللفظ عن جابر في ج 2 ص 448.
ونقل عن إحقاق الحق أن المصادر التي ذكرته تبلغ ستة وعشرين مصدراً([77]) وأتمها في ملحقات إحقاق الحق إلى سبعة وثلاثين مصدراً([78]).
مفاد الحديث:
وأما ما يستفاد من الحديث فيمكن ذكره ضمن ما يلي([79]):
أولاً: لا يتصور أن يكون أحد أماناً لأحد لولا قربه من الله.
ثانياً: هذا القرب بلغ حدًّا جُعل معه صمام أمان للرشاد والهداية على مستوى العصمة، لأن غير المعصوم ليس مأموناً على نفسه فكيف يكون مأموناً على غيره؟!
ثالثاً: أنهم باقون ما بقي الناس على وجه الأرض.
(4) حديث الاثني عشر، والأئمة من قريش
ومن الأحاديث التي استند إليها العلامة الفضلي في إثبات الإمامة لأهل البيت (عليهم السلام) ما سماه بحديث الاثني عشرية.
نص الحديث:
روى أحمد بن حنبل في المسند([80]): «عن الشعبي، عن مسروق، قال: كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود، وهو يُقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله بن مسعود: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك. ثم قال: نعم؛ ولقد سألنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل»([81]).
وروى مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة، قال: دخلتُ مع أبي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة. قال: ثم تكلم بكلام خفي عليّ. قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: قال كلهم من قريش.
وقد رواه بتسعة طرق([82]).
كما رواه باختلاف يسير البخاري في صحيحه([83]).
فإذن لسنا أمام مشكلة سندية لإثبات هذا المضمون، فلننتقل إلى التعرف على:
مفاد الحديث:
وفيه يستعير باحثنا وهو بصدد تبيّن مفاد الحديث مقالةً لأستاذه العلامة المحقق السيد محمد تقي الحكيم:
>الذي يستفاد من هذه الروايات:
1- أن عدد الأمراء أو الخلفاء لا يتجاوز الاثني عشر، وكلهم من قريش.
2- وأن هؤلاء الأمراء معيّنون بالنص، كما هو مقتضى تشبيههم بنقباء بني إسرائيل لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} [المائدة: 12].
3- أن هذه الروايات افترضت لهم البقاء ما بقي الدين الإسلامي، أو حتى تقوم الساعة، كما هو مقتضى رواية مسلم السابقة، وأصرح من ذلك روايته الأخرى في نفس الباب: لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان. وإذا صحت هذه الاستفادة فهي لا تلتئم إلا مع مبنى الإمامية في عدد الأئمة وبقائهم وكونهم من المنصوص عليهم من قبله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي منسجمة جدًّا مع حديث الثقلين وبقائهما حتى يرِدا عليه الحوض»([84]).
(5) حديث الغدير
ومن الأحاديث التي استند إليها باحثنا الفضلي لإثبات الإمامة لأهل (عليهم السلام) ما اشتهر بـ(حديث الغدير).
نص الحديث
أخرج الإمام أحمد بن حنبل من حديث البراء بن عازب (في ص 281 من الجزء الرابع من مسنده) من طريقين: «قال: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة، وكسح لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت شجرتين، فصلى الظهر، وأخذ بيد علي، فقال: ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من ولاه، وعادِ من عاداه. قال: فلقيه عمر بعد ذلك، فقال له: هنيئاً يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة»([85]).
سند الحديث
لا يعاني حديث الغدير من مشكلة في السند، بل نجده في (غير كتاب من الكتب المعتبرة)، كما أنه (روي بغير طريق من الطرق المختلفة صحاحاً وحساناً وسواها)، بل (نص على تواتره غير واحد من الأعلام، من أحدثهم السيد الطباطبائي([86]) قال: وأما حديث الغدير -أعني قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من كنت مولاه فعلي مولاه»- فهو حديث متواتر منقول من طرق الشيعة وأهل السنة بما يزيد على مئة طريق([87]).
ويمكن للباحث الكريم أن يراجع موسوعة الغدير التي ألفها البحاثة المحقق الشيخ عبد الحسين الأميني، والتي طُبِع منها أحد عشر جزءًا، خصصها لمعالجة هذه الواقعة من جميع جوانبها، فجزاه الله خير الجزاء عن الإسلام وأهله.
مفاد الحديث
تعددت أساليب وطرق علماء الإمامية في الاستدلال بهذا الحديث على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولنورد إيجازاً، يناسب حجم المقالة لما أورده علامتنا الفضلي في الاستدلال بالحديث الشريف مع تغيير منا في الصياغة، بما لا يخل بالمقصود:
أن يقال إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ الإقرار من الأمة، بمن حضر منهم، أن طاعته مفروضةٌ عليهم بقوله: «ألست أولى بكم من أنفسكم»، فلما أجابوه بالاعتراف بقولهم: «بلى»، رفع بيد أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ليسحب وجوب طاعته على أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «من كنت مولاه فهذا مولاه» -وفي روايات أخر «فعلي مولاه»- ليلحقه بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى قائلاً: «اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله».
فقد أثبت (صلى الله عليه وآله وسلم) لـ(علي) ما هو ثابت له من أولوية في التصرف، ووجوب الطاعة وحرمة المخالفة... وذاك ما نعنيه من (الإمامة).
شبهةٌ وعلاج:
قد يثار في وجه الحديث شبهات أمام تفسير (مولى) بما يفيد (الأولى)، بلحاظ أن (مولى) في اللغة العربية تحمل معاني عدةً، فما الموجب لحملها على (أولى) دون (المعتق) و(الحليف) و (الجار) و (الصهر) و (ابن العم)... بالخصوص، وما القرينة على ذلك؟
يجيب بالقول: «إن بعض تلك المعاني غير مقصود قطعاً، ومعلومٌ بالدليل أنه لم يرده، من قبيل: (ولاية الدين) والنصرة فيه والمحبة. لأن ذلك واضح لكل مسلم حيث يجب عليه موالاة المؤمنين فبذلك نطق القرآن؟ ثم: كيف يجوز أن يجمع ذلك الجمع العظيم في مثل تلك الحال ويخطب على المنبر المعمول من الرحال ليعلم الناس من دينهم ما يعلمونه ضرورة.
وبعضها الآخر من المعاني محتمل، بل مرادٌ بنحو الوجوب واللزوم، وهو (الأولى بتدبير الأمة وأمرهم ونهيهم).
لأنا إذا أبطلنا جميع الأقسام، وعلمنا أنه يستحيل أن يخلو كلامه من معنى أو فائدة، ولم يبق إلا هذا القسم فيجب أن يريده. وقد بيَّنا أن كل من كان بهذه الصفة فهو الإمام المفترض الطاعة»([88]).
* خاتمة: المرجعية الفكرية لأهل البيت (عليهم السلام)
من الضروري التأكيد على أن الحديث عن (الإمامة) ليس حديثاً في التاريخ، بقدر ما هو حديث عن الإنسان، الذي سيكون الحديث عنه متعالياً عن الزمان.
وإذا تقرر أن الإنسان والدين متلازمان، لا يمكن التفكيك بينهما، فلابد من تثبيت الدين أولاً، ولا بد إلى ذلك من تفسيره بشكل صحيح ثانياً، وهو ما يتوقف على التثبت من آليات التفسير والشرح. ومن آليات الشرح والاستنطاق ما ثبت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الأمين على الوحي، والذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، سواء كانت تلك الآليات نصوصاً، أو مناهج وأساليب، أو شخوصاً، يرجع إليها وإليهم.
وقد ثبت مما تقدم أن أهل البيت (عليهم السلام) هم الذين يجب على المسلم متابعتهم على مستوى متابعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنهم حفظة الدين ومصابيح الهدى وسفن النجاة، وبالتالي هم أمان لأهل الأرض، وبذلك فقط ينجو الإنسان بحسن تفاعله مع الدين.
وهذا يعني أن لأهل البيت مرجعيةً فكريةً إذا أشكلت الأمور وتعددت المذاهب والرؤى.
لذلك ننتهي إلى أن الحديث عن إمامة أهل البيت (عليهم السلام) ليس حديثاً في التاريخ بقدر ما هو حديث عن المستقبل، الذي وعد الله عباده الصالحين بأنهم أهله، وأنه لهم {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
[1]) الفضلي، عبدالهادي، في انتظار الإمام ص 159، وص 168. وانظر مبحث (الحديث الموضوع) من كتاب أصول الحديث للعلامة عبدالهادي الفضلي ص 132 - 174. وانظر الفضلي، د. عبد الهادي، مذهب الإمامية بقلم الشيخ عبد الهادي الفضلي ص 89، المطبوع ضمن خمس دراسات تعريفية بـ(المذاهب الإسلامية الخمسة تأريخ وتوثيق) صدر عن مركز الغدير للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1419 هـ - 1998 م.
[2] ( الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم، الملل والنحل، المقدمة الرابعة ج1 ص 23، طبعة دار المعارف ببيروت، دون تاريخ.
[3] ) العاملي، السيد جعفر مرتضى، مأساة الزهراء (عليها السلام) ج 1، ص 133 - 134، طبعة دار السيرة العام 1997 م، نقلاً عن: محاضرات في التاريخ الإسلامي للخضري بك : ج 1 ص 167.
[4] ) سورة النحل : الآية 89.
[5] ) سورة فصلت : الآية 42.
[6] ( سورة التوبة : الآية 128. وقد أفاض العلامة الفضلي في مناقشة بعض الباحثين السلفيين ممن بذل جهداً لا يستهان به في رفض حديث الثقلين ورد صحته لأنه سيكون دليلاً على ما يدعيه الشيعة من إمامة أئمتهم، وفي ذلك تخطئة للصحابة!! واعتباره ذلك لا يخرج عن كونه حملات تهريجية مسعورة ومأجورة. انظر الفضلي، د عبد الهادي، مذهب الإمامية ص 86 - 94. ولولا طول النص، وبناء هذه المقالة على الإيجاز والاختصار، لنقلناه بكامله لاشتماله على فوائد علمية ومنهجية جمّة، نأمل من القارئ ألَّا يغفل عن مراجعته.
([17]) انظر فصل المقال لما بين الحكمة والشريعة من الاتصال للفيلسوف ابن رشد، ودرء التعارض بين العقل والنقل لابن تيمية، كنموذج لمنهجين مختلفين في معالجة الإشكالية.
([30]) الفضلي، الدكتور عبد الهادي، خلاصة علم الكلام، الطبعة الثانية 1414هـ - 1993م، ص286. دروس في أصول فقه الإمامية للعلامة الفضلي ج 1، ص 189.
([31]) قال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [سورة النحل : الآية 89].
([42]) انظر: الفضلي، الدكتور عبد الهادي، خلاصة علم الكلام، الطبعة الثانية 1414هـ - 1993م، ص 262-263.
([45]) الفضلي، د. عبد الهادي، مذهب الإمامية ص 56، نقلاً عن تاريخ الإمامية وأسلافهم ص 138، نقلاً عن تلخيص الشافي ج1 ص 253.
([48]) انظر: الفضلي، الدكتور عبد الهادي، خلاصة علم الكلام، الطبعة الثانية 1414هـ - 1993م، ص 290-291.
([55]) المظفر، الشيخ محمد رضا، أصول الفقه، ج 1 ص 54، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة.
([61]) ونص ما قاله ابن حجر كالتالي : «ثم اعلم أن لحديث التمسك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيًّا، ومرّ له طرقٌ مبسوطةٌ في حادي عشر الشُّبَه. وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة، وفي أخرى أنه قاله بالمدينة في مرضه، وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنه قال ذلك بغدير خم، وفي أخرى أنه قال ذلك لما قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف -كما مرّ-. ولا تنافي إذ لا مانع من أنه كرر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة» الصواعق المحرقة ص 148، كما في الفضلي، الدكتور عبد الهادي، مذهب الإمامية ص 79.
([62]) الفضلي، د. عبد الهادي، مذهب الإمامية ص 80، ودروس في فقه الإمامية ص 157-163 ط1 1415هـ - 1995، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر.