شعار الموقع

قراءة في محاولات التجديد في المناهج الحوزوية بين الشهيد الصدر والدكتور الفضلي

الشيخ محمد عمير 2007-06-05
عدد القراءات « 799 »

*

* المدخل

لن يسير المدخل ضمن المناخ التقليدي الذي يراد فيه أن يؤكد على أهمية التجديد في مناهج الدراسة الحوزوية، لأنها مسألة نستطيع أن نؤكد على وضوح أهميتها في الذهنية العلمية الحوزوية.

فكل كيان علمي خاضع في كيانه لعملية نقدية دائمة تلهمه أهمية ملاحقة إفرازات المرحلة ومتطلباتها، لتسهم في تقديم الحلول والبحوث العلمية التي تلبي حاجياته الفكرية، خاصة أن (الحوزة العلمية) تشغل وظيفة تقديم المعارف الدينية وتغذية الأمة بأهدافها وروحها، كما تشغل وظيفة الحماية لتلك المعارف الدينية، لأنها -أي المعارف- هي السبيل الوحيد لنجاة الأمة وتطورها، إذ هي وليدة التفكير العلمي الدائم في النص الديني، بل هي الإرث الطبيعي لكل ما يشمله الفكر الإسلامي من نصوص وروحية معطاءة ومقاصد.

ومن هنا، ندرك أهمية البحوث العلمية الدينية التي يبثها العلماء في المناخ الحوزوي، وندرك القداسة التي تحيطها تبعاً للمصادر المقدسة التي تفهم وتستنبط منها (القرآن الكريم، السنة الصحيحة)، وتُصدَّر، يقول تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}([1]).

لكن المثير للاهتمام أن هذه القداسة التي تحوم حول المعارف الدينية لم يمنعها من التطور، وتقديم الجديد الدائم، بما يتناسب ومتطلبات المرحلة التي تعيشها الحوزة العلمية، واكتشاف النظريات الفقهية والأصولية والقرآنية الجديدة، مما يعني أن هناك ممارسة اجتهادية دائمة، تعيش حالة الحراك والتطور و(التجديد) بهدف تعزيز حقيقة: أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان، وأن الشريعة الإسلامية هي الشريعة الخاتمة، والدين الكوني النهائي، الذي لن يقبل الله غيره.

والسر في ذلك التطور المحاذي للهالة القدسية، هو بقاء باب (الاجتهاد) و(الفقاهة) مفتوحاً، دون غلق أو وصاية.

دون غلق؛ لأن غيبة الإمام المعصوم الثاني عشر (عجل الله فرجه) فتحت الباب أمام الفقهاء ليقدموا ما يتناسب مع حاجيات العصر «فأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا»، بعد أن اتضحت الطريقة الاجتهادية وأمضاها المقنن الإسلامي وذلك «في نهايات القرن الثاني وبدايات القرن الثالث الهجريين حيث أخذ الفكر الإسلامي المستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يتحول على أيدي المفكرين المسلمين من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأعلام الصحابة (رضي الله عنهم)، ورجالات التابعين إلى علوم مقننة، لها أصولها وقواعدها وتفريعاتها المتعددة والمختلفة»([2]).

ودون وصاية؛ أي دون رقابة أبوية، كما هو الحال في التراث العلمي المسيحي، بل كل ما هنالك رقابة علمية ناشئة من ضرورة توافر الشروط العلمية الاجتهادية في كل بحث يريد أن ينتمي للمعارف الدينية.

وما التجديد في (المناهج) الدراسية الحوزوية إلا مقدمة طبيعية لذلك التطور الحاصل في الأساليب والمناهج الاجتهادية، لأنها المادة المقدمة لتغذية الطالب بطريقة التفكير العلمية في تخصصات: الفقه، الأصول، التفسير، العقائد، الأخلاق.. إلخ، وهي التخصصات التي تتبنى تعليمها الحوزة العلمية.

* إشكالية التجديد

إذن لا داعي، للوقوف كثيراً للبرهنة على ضرورة التطوير في تلك المناهج، وبث الروح التربوية والمادة العلمية الممنهجة فيها.

لكن المشكلة هي مشكلة (المصطلح) الذي يقلق الفكرة بدل أن يدل عليها، كما هي وظيفة كل المصطلحات، ويبهم الحقيقة بدل أن يكشف عنها! إنه مصطلح (التجديد) الذي تحول من معناه البسيط (=التطوير)، إلى معنى مركب معقد يساوق (الثورة على القديم) و (الانقلاب العسكري ضده)!

ولعلي أرى الباحثين يقفون الموقف نفسه من قضية (المصطلح) في أكثر مصطلحات الحداثة، وما وراءها، حين يبحثون عن معنى واضح لمصطلح: الحداثة، الديموقراطية، المجتمع المدني، البنيوية.. وغيرها، ولعل ذلك ناتج من التراكم الثقافي الذي يحوط المصطلح، وتطوره العلمي في مناخات فكرية متعددة، كالسياسة والأدب والفن والفلسفة وما شابه ذلك، مما سبب لبساً وضبابية في فهم المصطلح.

التجديد في الفكر الإسلامي

مصطلح (التجديد) في الفكر الإسلامي نموذج على عمق الإشكالية الناشئة من تعدد المعاني المتصورة في أذهان العلماء، وبسبب ما يحظى به الفكر الإسلامي من قداسة في نفوس المسلمين.

ومع بيان معانيه وتحديد المراد منه، تنحسر تلك الإشكالية، ويبدو أن التجديد هو الممارسة التي تتناسب مع قداسة ذلك الفكر، فقد يراد من التجديد:

1- تغيير وتبديل أو تطوير الدين الإسلامي الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه ناقص لا يتناسب مع كل زمان ومكان.

2- التمسك بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من تشريعات ونصوص، لكن نستفيد من روافد الفكر الإنساني لتأسيس تشريعات جديدة تطور الوضع الإسلامي العالمي في الوقت الراهن والمستقبل.

3- الالتزام بالتشريعات الإسلامية التي جاء بها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومحاولة التجديد في الممارسة الفقهية الاجتهادية عبر آليات البحث العلمي المعتمد.

ولا شك أن (تجديد) الفكر الإسلامي بالمعنيين الأولين، يثيران الرفض لهما من قبل جميع المسلمين، إذ إن «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة»، ولا مجال لزيادة أو نقصان في مصادر التشريع الإسلامية الأصيلة (القرآن، السنة الصحيحة)، وإنها -في عقيدتنا- قادرة على استيفاء كل متطلبات الحياة إلى يوم القيامة، بعد أن وصلت إلينا بسلامة عن طريق المعصومين (عليهم السلام).

ووجود هذين الاحتمالين في معنى (التجديد) ربما هو ما ساهم في خلق جو رفض مبدئي لهذا المصطلح، إما لأجل ما يستبطنه من المعنيين الخاطئين الأولين، أو لاعتقاده بأن التجديد سيفضي للوصول لتلك النتيجة الخاطئة، بالرغم أن الكثير من العلماء المسلمين الذي عنوا بمسألة التجديد لا يريدون هذين المعنيين بالتأكيد.

لذلك، فالمعنى الثالث هو المراد والذي يعنيه المصطلح «تجديد الممارسة الفقهية الاجتهادية ضمن الضوابط العلمية».

ولا إشكال يعتري هذا المعنى، لأن التجديد في الممارسة الفقهية، قد يعني «أحد أمرين ربما يكون لهما ثالث ورابع:

أ - إعادة النظر في النصوص الدينية للخروج منها بجديد لم يكن سبقنا إليه آخرون، أو سبقونا إليه وغادروه.

ب- إعادة النظر في الواقع لتطبيق نص قديم عليه، وهذا نوع من التجديد من دون شك، بل ربما يكون هو المقصود من مفردة التجديد عند بعضهم»([3]).

ولا أحد ينكر من الفقهاء -ولو عملياً- هذا المعنى من التجديد في الفكر الإسلامي، خاصة في مجال الاجتهاد الفقهي، لأن «الآراء الفقهية نتائج اجتهادات الفقهاء في فهم النصوص الشرعية، ذلك أن المسلمين في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يأخذون معنى النصوص الشرعية التي تفيد الحكم من تفسير وشرح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لها، وما كانت تلكم الشروح والإفادات لتدوّن من قبل الصحابة. وبَعُدَ العهد وانتهى آخر جيل من الصحابة، وبعد آخر جيل من أصحاب أهل البيت (عليهم السلام) انتقل أمر التشريع إلى الفقهاء فذهبوا يستقرئون النصوص الشرعية ويستنطقونها، وكان فهمها من قبلهم يختلف باختلاف مستوى ذهنية الفقيه ومستوى خلفياته الثقافية». حتى وصل الأمر للفقهاء المعاصرين، مما جعل عملية التجديد والتطوير أمراً طبيعيًّا في حلقات البحث العلمي.

«ولأضرب لهذا مثالاً: ائتمان الأموال في البنوك، والتعامل بالأوراق من شيكات وبطاقات وما يشاكلهما، إنه أمر تفرضه الضرورة، ويدخل ضمن التجديد، لا سيما أنه لم يرد فيه نص شرعي خاص لا في الكتاب ولا في السنة.

مثال آخر: التأمين، بنوك الدم، بنوك الأعضاء، كل هذه تدخل ضمن التجديد.

النظم الاقتصادية التي تحكم العالم اليوم، وكذلك النظم السياسية، فالمسلم -قَرُبَ منها أو بَعُدَ عنها- لابدّ أن يتعامل معها بشكل مباشر أو غير مباشر.

وعلى الفقه الإسلامي أن يدرسها وأن يقول كلمته فيها، هذا -أيضًا- يدخل ضمن التجديد.

أن تكون لدى المسلمين نظرية سياسية وأخرى اقتصادية مدونة وفق منهج البحث وأصول الكتابة المعاصرين هي من الفكر التجديدي.

من هنا انطلق الواعون والغيارى من علماء المسلمين يجددون، فرأينا الكثير من أعمال التجديد في الفكر على مستوى الأفراد، وعلى مستوى المؤسسات»([4]).

التجديد في مناهج الدراسة الحوزوية

وهنا إشكالية أخرى لم تنشأ هذه المرة ممَّا يستبطنه المصطلح، وإن لم يخلُ من أثر، لكن بسبب (قدسية) تلك المناهج النابعة من قدسية مؤلفيها، وقدسية العلماء الذين أكدوا على التمسك بها في فترة زمنية مديدة.

وهذه القدسية ما زالت تمد طلاب الحوزة بروحية مميزة، تبعثهم على الإبداع تارة، وعلى التقليدية تارة أخرى، لكنها لم تصمد أمام إرادة التطوير والتحسين لتكون المناهج أكثر كفاءة للأداء العلمي في تنمية الطالب وإعداده للمراحل العليا (التفقه والاجتهاد)، خاصة في جو يتفق فيه الكثيرون على مشكلة (التعبد) بمناهج قديمة لا تفي بالغرض العلمي المعاصر، يقول السيد علي الخامنئي (حفظه الله) في حديثه عن الإشكاليات التي تواجهها الحوزة العلمية: «الكتب الدراسية تشكل مشكلة أخرى من مشاكل الحوزة العلمية في قم وبقية الحوزات وعندما نطرح هذه المعضلة يقولون: إن العالم الفلاني درس في هذه كصاحب الكفاية وأكثرهم ثورية يقول الإمام (قدس سره) درس هذه الكتب وبسببها صار إماماً، فأسألكم إذن هل إن الإمام وصل إلى تلك الدرجة بسبب تلك الكتب وهذه الدروس؟ الإمام كان جوهراً فريداً من نوعه، وهذه العظمة التي وجدناها في الإمام لم تكن قطعاً ناتجةً عن دراسة هذه الكتب؟ ولو سلّمنا بذلك فإنه قد مضى على دراسته سبعون سنة؟ لماذا لا تؤلف كتب دراسية جديدة؟ ما هو الإشكال في ذلك؟ فلتشكَّل هيئات تأليفية لإعداد كتب علمية جديدة أم أنه لا بد أن تدرس المطوّل والمعالم والقوانين... وشرح اللمعة إلى الأبد؟ إنني أقول لكم: أصلحوا هذا، جددوا، فهل من المعقول أن هذه المجموعات البشرية الهائلة مع ما تملك من استعدادات وكفاءات ليس لديها القدرة على تجديد الكتب الدراسية؟! هذا الأمر لا بد من إنجازه، من يقوم بهذه الأعمال كلها؟

إنها وظيفة إدارة الحوزة، نعم لقد قام أفراد مخلصون ومصلحون ولديهم إحساس بالمسؤولية وألَّفوا كتباً تضمنت مطالب ونظريات جديدة؟ ولكن كان عملاً فردياً والعمل الفردي لا يؤدي النتيجة المطلوبة، العمل يجب أن يكون جماعياً وهذا يجب فرضه على الحوزة»([5]).

وهذه الوظيفة تحتاج عوامل عدة لتكتمل، وشروط أساسية لتنمو بشكل صحيح، لتصمد أمام محاولات العبث والاغتيال، لأن «قيمة الحركة التجديدية هي في قدرتها على الانطلاق في ظرف معين وتحريك عناصر هذا الظرف باتجاه المستقبل في خطوات متسقة مع حركة الزّمن، بحيث لا تتأخر عنه ولا تتخلف مهما كانت الحركة متسارعة حتّى تحقق أغراضها. وهذا هو الفارق بين حركة التجديد وبين غيرها من المحاولات الّتي تولد وتموت قبل أن تحقق غرضها وقبل أن تركز هويتها في الذاكرة الاجتماعية»([6]).

وشروط نجاح التجديد في المناهج الحوزوية مرتبط بعوامل ثلاثة، متى ما عملت الشروط فيها، وكانت متحققة، استطعنا أن نقول بأن مشروع التجديد ناجح بلا أدنى شك.

الأول: المُجدِّد (فاعل التجديد).

الثاني: دواعي التجديد.

الثالث: المجَدَّد (المادة المنفعلة بالتجديد).

وأهم الشروط التي ينبغي للمجدد أن يحويها لتنجح عمليته التجديدية شرطان:

الأول: أخلاقية التجديد.

الثاني: علمية التجديد.

وسوف تتعرف على حقيقة الشرطين وأهميتهما في قراءة المحاولتين القادمتين:

الصدر والفضلي

ولنركز على مادتي: علم الفقه، علم أصول الفقه، وما لحقهما من تطوير وتجديد، ضمن أروع محاولتين للتجديد قام بهما:

1- المفكر الإسلامي الكبير المرجع الديني السيد الشهيد محمد باقر الصدر (رحمه الله).

2- الفقيه الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي (حفظه الله).

لنتعرف على هاتين المحاولتين، وما طرحاه من منهج لتجديد المناهج لنخلص بخاتمة مفيدة.

1-  مشروع الصدر التجديدي

في سياق الجهد الإبداعي الخاص الذي قدمته شخصية الصدر الفذة، التي وضعت لمساتها الجديدة على كل حقل معرفي فتح بابه، نجد مساهمته في تجديد المناهج الحوزوية، بعد أن نضجت في ذهنه الممارسات التجديدية السابقة له (رحمه الله).

يقول في حديثه عن دور الشيخ الطوسي (رحمه الله) في تجديد علم أصول الفقه: «إنّ التطور الّذي أنجزه الشّيخ (الطوسي) في الفكر الفقهي كان له بذوره الّتي وضعها قبله أستاذاه السيد المرتضى والشّيخ المفيد وقبلهما ابن أبي عقيل وابن الجنيد... وكان لتلك البذور أهميتها من الناحية العلمية حتّى نقل عن أبي جعفر بن معد الموسوي وهو متأخر عن الشّيخ الطوسي أنه وقف على كتاب ابن الجنيد الفقهي واسمه (التهذيب) فذكر أنه لم ير لأحد من الطائفة كتاباً أجود منه ولا أبلغ ولا أحسن عبارة ولا أرق معنى منه، وقد استوفى فيه الفروع والأصول وذكر الخلاف في المسائل واستدل بطريقة الإمامية وطريق مخالفيهم. فهذه الشّهادة تدل على قيمة البذور الّتي نمت حتّى آتت أكلها على يد الطوسي»([7]). ويقول في دوره في تجديد علم أصول الفقه: «ما مضى المجدد محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) حتّى قفز بالبحوث الأصولية وبحوث التطبيق الفقهي قفزة كبيرة وخلّف تراثاً ضخماً في الأصول يتمثل في كتاب العدة وتراثاً ضخماً في التطبيق الفقهي يتمثل في كتاب المبسوط. ولكن هذا التراث الضّخم توقف عن النمو بعد وفاة الشّيخ المجدد طيلة قرن كامل في المجالين الأصولي والفقهي على السواء»([8]).

ويتحدث عن الجو الذي كان يسود الحوزة آنذاك: «الحوزة العلمية الّتي خلّفها الشّيخ الطوسي سرى فيها روح التقليد لأنها كانت حوزة فتية، فلم تستطع أن تتفاعل بسرعة مع تجديدات الشّيخ العظيمة، وكان لا بد لها أن تنتظر مدة من الزّمن حتّى تستوعب تلك الأفكار وترتفع إلى مستوى التفاعل معها والتأثير فيها، فروح التقليد فيها كانت مؤقتة بطبيعتها»([9]).

لا بد أن هذا الرجل الذي يدقق في مسيرة تاريخ التجديد في الدراسة الحوزوية كان يشغله همٌّ، يخطط ويمهد لعرضه والتضحية لأجله.

يقول الشهيد: «وقد كنا منذ زمن نجد أكثر من سبب يدعو إلى التفكير في استبدال هذه الكتب بكتب أخرى في مجال التدريس، لها مناهج الكتب الدراسية بحق وأساليبها في التعبير وشرائطها»([10]).

جهده التجديدي في منهج الأصول

قام (رحمه الله) بتأليف حلقات ثلاث: الحلقة الأولى، الثانية، الثالثة، وهي عبارة عن (دروس في علم الأصول).

التعريف بها:

الحلقة الأولى: تغطي حاجة الطالب في مرحلة المقدمات.

الحلقة الثانية: تغطي حاجة الطالب في مرحلة السطح (1).

الحلقة الثالثة: تغطي حاجة الطالب في مرحلة السطح العالي (2).

خصائصها:

«مصممة بروح واحدة وعلى أسس مشتركة»([11]).

منهجها([12]):

1- إعداد الطالب لمرحلة البحث الخارج، عن طريق التدرج في المراحل الثلاث، وعرض أحدث ما وصل إليه علم الأصول من أفكار، وتدريب الطالب فنياً.

2- تشترك في المنهجية والتبويب، وتختلف في مستوى العرض كمًّا وكيفاً، ومتدرجة.

3- التركيز على المسائل ذات البعد العلمي الفني، لتدريب الطالب على البحث الخارج، فليس من الضروري عرض كل المطالب وكل الأدلة.

4- تجاوزت التحديد والتبويب الموروث للمسائل الأصولية، وقدمت مطالب جديدة بعناوين جديدة مناسبة.

5- التدرج من البسيط إلى المعقد في عرض المسائل والإشكالات المنثورة في الأبواب.

6- التعدد في الحلقات وتثليثها مهم جداً، لتخليص الطالب من المفاجآت العلمية المخلة.

7- كل حلقة استوفت المباحث الأصولية، لكنها قد لا تذكر بعض البحوث، إذا اكتمل عرضها في الحلقة السابقة لها.

8- كانت الحلقة الأولى أقرب للتعبير الحديث، والثانية والثالثة أقرب إلى العلمية والدقة.

9- وضوح العبارة في الحلقات الثلاث لا يعني عدم الحاجة للرجوع للأستاذ المختص بالمادة.

10- قبول برهان على فكرة علمية في حلقة لا يعني القبول بها، فقد تناقش في الحلقة التي تليها.

عوامل نجاح تجربة الصدر

اشتمل (عليه الرحمة) على الخاصيتين سابقتي الذكر، وإليك ملامحهما:

1- أخلاقية التجديد: فكان في غاية الأخلاقية التجديدية، التي يمارسها الشهيد في كتاباته الإبداعية، بحيث يجد أعداؤه أنفسهم بين روح طيبة لا تهدف للعداء العلمي.

تقرأ له (رحمه الله) في الكتب الأصولية الأربعة قبل تجديدها، وهي: المعالم والقوانين والرسائل والكفاية: «وقد أدت هذه الكتب الأربعة -مشكورة- دوراً جليلاً في هذا المضمار، وتخرج من حلقاتها الدراسية خلال نصف قرن الآلاف من الطلبة الذين وجدوا فيها سلمهم إلى أبحاث الخارج، ولا يسعنا في هذا المجال إلا أن نستشعر -بعمق- بما لأصحاب هذه الكتب الأبرار (قدس الله أسرارهم الزكية) من فضل عظيم على الحوزة ومسيرتها العلمية»([13]).

2- علمية التجديد: وأريد بذلك الكفاءة العلمية التي يحويها الصدر، وقد أدرجها الفقيه الدكتور الفضلي في:

1- اجتهاده المتميز: وأعني بذلك أنّ الإمام الصدر كان فقيهاً مجتهداً على مستوى النظرية والتطبيق.

2- موسوعيته الثقافية: فقد لاحظت -عن قرب- حياته الثقافية فرأيته قارئاً مدمن القراءة، قرأ الكثير من الكتب القديمة والكثير من الكتب الجديدة وتابع الدوريات التي صدرت والتي تصدر، منوعاً في قراءته لمختلف حقول المعرفة التي ترتبط، مباشراً وغير مباشر، بتخصصه كفقيه مجتهد.

3- نظرته للحياة: ونتيجة ما وفق إليه من ثروة ثقافية منحته الموسوعية التي أشرت إليها توسعت نظرته للحياة المعاصرة لتشملها بكل أبعادها وشؤونها.

ومن هنا كان الفقيه بمستوى التطبيق.

4- فهمه لواقع الفقه الإسلامي: بما له من شمولية لتنظيم كل شؤون حياة الإنسان فردياً واجتماعياً.

ذلك الفهم الذي استمده من مقارنة التشريع الإسلامي بالتشريعات القانونية الحديثة التي غطت كل الجوانب الاجتماعية للإنسان، اجتماعية بمعناها الخاص واقتصادية وسياسية وإدارية وعسكرية وإلخ.

5- متابعته لإفرازات الصراع الفكري العالمي: ذلك الصراع المتمثل اقتصادياً بالخلافات الفكرية بين الاشتراكية والرأسمالية والتي تركت آثارها وانعكاساتها على الساحة العالمية تأزما نفسيًّا، وتطلعاً لاقتصاد آخر ينقذ إنسان العصر من ضغوط هذا الصراع ونتائجه المريرة في أخطارها»([14]).

وهكذا فإن الشهيد الصدر وضع لمساته في تجديد المنهج الحوزوي في علم الأصول، وما زال المنهج متوهجاً في قلوب طلاب العلوم الدينية.

2-  منهج الشيخ الفضلي في التجديد:

الشيخ الدكتور الفضلي، هو الوحيد -فيمن قرأت- الذي عرض منهجاً متكاملاً، للدرس الحوزوي من بدايات المرحلة الأولى إلى بحث الخارج.

«يعتبر العلامة الفضلي من بين رواد مدرسة التجديد المعاصرة في الحوزة العلمية الشيعية، متخصصاً في مشروع تجديد مقررات دروس الحوزة العلمية.

كما يمكننا اعتباره رائده الأول، حيث أخذ على عاتقه جزءاً كبيراً من هذه المسؤولية، ونلخص مساهماته في هذا المشروع بما يلي:

1- أضاف مؤلفات دراسية في معظم العلوم التي تدرس في الحوزة الشيعية، قام بإعادة صياغة مادتها أسلوباً ومنهجاً. أمثال كتبه: التربية الدينية، تلخيص البلاغة، تلخيص العروض، خلاصة علم الكلام، خلاصة المنطق، مبادئ أصول الفقه، مختصر الصرف، مختصر النحو، مذكرة المنطق، مبادئ علم الفقه، وكتابيه الاستدلاليين (دروس في فقه الإمامية) و (دروس في أصول الفقه).

2- قام كذلك بإدخال علوم جديدة لم تكن موجودة في المؤسسة التعليمية، بتأليفه كتباً دراسية في هذه العلوم، أمثال كتبه (تاريخ التشريع الإسلامي) و (أصول الحديث) و (أصول الرجال) و(أصول البحث) و (تحقيق التراث)»([15]).

تصور الشيخ الفضلي للمراحل الدرسية:

«أقترح أن نطور البرنامج الدراسي الحوزوي إلى التالي:

تقسيم المراحل الدراسية في الحوزة العلمية إلى ثلاث مراحل، هي:

المرحلة الأولى: يدرس فيها الطالب العلوم المساعدة للتخصص بالفقه، وهي:

1- مبادئ علم الاجتماع.

2- مبادئ علم النفس.

3- مبادئ علم القانون.

4- مبادئ علم الاقتصاد.

5- مبادئ علم الكلام.

6- مبادئ الفلسفة.

7- مبادئ علم التربية.

8- إحدى اللغات الحية.

المرحلة الثانية: يدرس فيها الطالب ما يعرف بالمقدمات، وهي:

1- علم الصرف.

2- علم النحو.

3- علم التجويد.

4- علم البلاغة.

5- علم المنطق.

6- مناهج البحث.

7- مبادئ أصول الفقه.

8- مبادئ الفقه.

المرحلة الثالثة: يدرس فيها الطالب علوم التخصص بالفقه، وهي:

1- علم أصول الفقه.

2- القواعد الفقهية.

3- علم الدراية.

4- علم الرجال.

5- الفقه الاستدلالي»([16]).

ما هو المنهج؟

«أما المنهج المقترح :

1- أن نعتمد أصول البحث في دراساتنا الإسلامية.

2- أن نعيد النظر في جميع ما كان من فكرنا الإسلامي مرتبطًا بواقع من ظروف وغيرها قد تغيّر وتبدّل إلى واقع آخر يختلف كليًّا أو جزئيًّا عن الواقع السابق، وذلك لكي نكون بهذا مع متطلبات الحياة المعاصرة.

3- أن نعيد النظر في لغة فكرنا الإسلامي ونغيّر فيها إلى ما يلتقي ولغتنا المعاصرة ألفاظًا وأساليب.

4- أن نحاول الاستفادة من تجارب الآخرين في طريقتي الدرس والعرض.

5- أن يكون هدفنا خدمة قضايا الفكر والعقيدة، وألَّا نتهيّب ذوي المواقف السلبية من التجديد من أولئك الذين هم ليسوا بمستوى فهم الحياة المعاصرة ومتطلباتها، وليسوا بمستوى فهم الإسلام كنظام حياة، أو أنهم ضالعون في خدمة أعداء الإسلام وتحت ستار المحافظة على الإسلام»([17]).

ويقول في حوار آخر: «ومن هنا أرانا بحاجة إلى إعادة النظر في كل ذلك، لنكون ونحن في أصالتنا في الوقت نفسه مع المعاصرة وهذا يتطلب منا وعلى نحو الاختصار:

1- أن نستفيد من النظريات والدراسات اللغوية الحديثة، وخصوصاً فيما يرتبط منها بفهم النص.

2- أن نستفيد للتطوير في مجال علوم البلاغة من جديد علم الأسلوب لاسيما في فهم الجمل والتراكيب.

3- أن ننأى عن المنهج الفلسفي في دراسة علم أصول الفقه، وأن نضع له منهجاً علميًّا خاصًّا.

4- أن ننظر إلى الفقه في تعاطينا وتعاملنا معه على أنه نظام حياة الإنسان المسلم ننطلق فيه من محاولة فهم حياة الناس بكل شؤونها وتفصيلاتها فردية واجتماعية ومن مسايرتنا لمختلف تطورات حياة الإنسان في جميع أنماط سلوكه الفكرية والعملية فمثلاً إذا أردنا أو طلب منا أن نلتمس الأحكام الشرعية للمصارف التجارية التي يتعامل معها الناس»([18]).

صور مشوهة للتجديد

ويضع يده على بعض الممارسات التي تدَّعي التجديد، وهي لا تزيد على كونها تلخيصات، أو إعادة صياغة للمادة المطروحة، دون المساس بالمنهجية والتبويب العلمي: «أضف أن التأليف في المقررات الدراسية في المؤسسات العلمية العالية والعليا أخذ ينحو الآن إلى الاهتمام بالأمور الآتية:

1- تنظيم المادة العلمية في الكتاب تنظيماً عضويًّا يساعد الدارس على فهم المادة فهماً لا عسر فيه.

2- تبسيط وتوضيح العبارة وبأسلوب جميل مشوق يشد الدارس إلى الموضوع شدًّا يعينه على فهم المطلب فهماً ميسراً.

وأيضاً مما يؤسف له أن أرى الآن بعض مؤلفي الكتب الحوزوية المؤلفة حديثاً من يحاول إدخالها عالم الدرس الحوزوي مع افتقادها لما ألمحت إليه من خلوها من العنصر التربوي الذي يساعد على تكوين الذهنية العلمية عند الدارس»([19]).

الفضلي بين الأخلاقية والعلمية

إن من يقترب من آثار سماحة الدكتور يلمس القيمة العلمية التي تعيش في داخله، ويدرك طريقة تفكيره المتوازنة، ضمن المنهج العلمي الموضوعي.

كما أن المتفحص فيها، والمجالس له (حفظه الله) يتعرف على القيمة الأخلاقية التي يتوافر عليها، فشخصه المبارك هادئ متوازن، في فكره وخطابه وكتابه، بل في كل سلوكياته، مما يجعل نظرته للقديم وما يحمل من مناهج دراسية تحت إطار الموضوعية وحفظ ما أنجزته من تخريج للفقهاء والعلماء، لكنه لا ينسى أن يطرح مشروعه التجديدي بكل قوة.

وترجع قوته العلمية -في تقديري- إلى مجموعة عوامل منها:

1- مسيرته العلمية، التي كانت نتاج جهده العلمي وتخرجه على أيدي العلماء المعروفين في المستوى العلمي، وتشهد له آثاره العلمية المطبوعة.

2- تنوعه المعرفي، ويبرز هذا في مقالاته وبحوثه الثقافية المتنوعة، في السياسة والاجتماع والفكر الإسلامي العام.

3- وضوح المنهج، إذ هو يسير في كل كتاباته ودراساته، ضمن المنهج العلمي في البحث والتحقيق، وترى ذلك واضحاً حين يمنع من إسقاط منهج علمي فلسفي على منهج علم الفقه مثلاً.

4- جرأته العلمية، وملامحها واضحة حين تجالسه لتناقشه فيما كتبه الأعلام (ره)، لكن كل ذلك محاط بأدب جم، وهدوء كبير.

5- خبرته التأليفية، فقد مارس الكتابة مبكراً، ليخلف كتباً إسلامية وعلمية مهمة للمكتبة الإسلامية والفقهية، وقد ذكرنا سالفاً مجموعة من كتبه في مجال التجديد العلمي في الحوزة.

 

 



([1]) سورة التوبة: 122.

([2]) مقال: دور الإمام الصدر في التطوير الفقهي وتحديد المشكلة الاقتصادية، الشيخ الدكتور الفضلي. مجلة الفكر الجديد، العددان 13 - 14 السنة الرابعة ـ حزيران 1996م /صفر 1416هـ.

([3]) مقال: وقفة مع مفهوم التجديد، محمد حسن زراقط. انظر موقع: WWW.NOSOS.NET   مقالات معاصرة.

([4]) حوار: التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، مع د. الفضلي، مجلة الكلمة، العدد 4، السنة الأولى، صيف 1994، 1415هـ.

([5]) بيان السيد علي الخامنئي، 12 شعبان 1424هـ.

([6]) التجديد والزمن، رؤية الشهيد الصدر لمؤثرات التجديد، حسين الشامي. انظر:http://www.darislam.com/home/sadr/data/m11.htm

([7]) المعالم الجديدة للأصول، الشهيد الصدر: 62-63.

([8]) المصدر نفسه .

([9]) المصدر نفسه: 70.

([10]) دروس في علم الأصول، مقدمة الحلقة الأولى ، الشهيد الصدر: 10.

([11]) دروس في علم الأصول، مقدمة الحلقة الأولى ، الشهيد الصدر: 21.

([12]) تلخيص ما ذكره الشهيد في مقدمة الحلقة الأولى: 21-30

([13]) دروس في علم الأصول، مقدمة الحلقة الأولى، الشهيد الصدر: 10.

([14]) مقال: دور الإمام الصدر في التطوير الفقهي وتحديد المشكلة الاقتصادية، الشيخ الفضلي، انظر: http://www.alfadhli.org/

([15]) . انظر موقع الشيخ: http://www.alfadhli.org/final/madrasa2.html

([16]) انظر موقع سماحة الشيخ: http://www.alfadhli.org

([17]) حوار: التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، مع د. الفضلي، مجلة الكلمة، العدد 4، السنة الأولى، صيف 1994، 1415هـ.

([18]) حوار مع جريدة الوسط، بتاريخ 2-5-2003، انظر موقع الدكتور الفضلي:http://www.alfadhli.org/

([19]) حوار مع جريدة الوسط، بتاريخ 2-5-2003، انظر موقع الدكتور الفضلي:

http://www.alfadhli.org/