شعار الموقع

فن ومنهج الكتابة عند العلامة الفضلي

عبد الغني أحمد العرفات 2007-06-05
عدد القراءات « 795 »

*

تميز العلامة الشيخ عبد الهادي الفضلي من بين أقرانه العلماء بأسلوب فريد ورائع في الكتابة. كان -ولا يزال- مثار إعجاب الكتاب والقراء على حد سواء. وقد سمعنا الكثير من تلامذته ورفقائه يحدثون بهذا.

أتذكر هنا أن أحد تلامذته حدثنا عن دراسته عنده أيام كان في النجف الأشرف يقول: كان أحد أساتذتنا -وهو زميل للعلامة الفضلي- يقول عن نفسه: إن ما عند الشيخ الفضلي من العلم عندي لكن (هذا راح يجنني بأسلوبه في الكتابة). وهو يقصد أن مستواي العلمي متقارب مع العلامة الفضلي ولكن أسلوبه وكتابته من الروعة بحيث كاد يصيبني بالجنون!!!

ويقول أحد الفضلاء عن كتابته عند ذكره لتمكن العلامة من سرعة الكتابة إنه (شارود) وهي لهجة عراقية محلية.

ويعود في تقديري هذا إلى جملة من المميزات في شخصية هذا العملاق ككاتب، أوجزها في عدة عناصر، ثم نتحدث عن معالم أسلوبه ومنهجه في الكتابة.

مميزاته الشخصية

1-  اهتمامه بعلوم اللغة العربية

حيث أولاها الكثير من الاهتمام، دارساً ومدرسًا، وباحثًا ومحققًا، وأديبًا وناقداً، لأنها لغة الرسالة السماوية الخاتمة. وبإلقاء نظرة سريعة على مؤلفاته يتضح مدى هذا الاهتمام.

وهذا الاهتمام لم يحدوه إلى التشدق والإسفاف -شأن الكثيرين من مدعي الحفاظ على اللغة والجامدين على قوالبها التراثية- بل تعامل معها كلغة حية متطورة مطواع. ولا نفتقر للتمثيل على ذلك، ولكن نذكر لذلك مثالاً واحداً تردد على لسانه: وهو تجويزه المضارع من وجد ليصبح يتواجد بمعنى الحضور، وقد منع ذلك بعض دعاة الحفاظ على اللغة لأن يتواجد -كما هو في اللغة قديماً- بمعنى: يحزن... وتعليل التجويز عنده هو كثرة الاستعمال الآن، فإذا قيل: يتواجد في الفصل مثلاً، فهم السامع منه: الحضور والحصول، وهذا دليل حيوية اللغة.

وضمن هذا الاهتمام اهتمامه بالبلاغة، وهي الوسيلة المثلى في إيصال المعنى، وفي هذا الصدد سمعناه يقول: قرأت شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد خمس مرات. وللقارئ أن يتصور الفائدة البلاغية التي ستعود على قارئ نهج البلاغة وشرحه بهذه الكثرة، وقد ذكر لنا في أحد اللقاءات أنه استفاد في تأليفه لكتاب (تاريخ التشريع الإسلامي) كثيرًا من قراءاته لشرح النهج، وكذلك في تأليفه لكتاب (الأمثال في نهج البلاغة).

2-  الثقافة الموسوعية

حيث جمع بين العلوم الحوزوية المتعارفة، والعلوم الإنسانية دراسة واطلاعاً وقراءة، أفاد من علوم عصره بقسط وافر، وتلاقحت في ذهنيته الوقّادة ثقافات متعددة، قلما اجتمعت لأقرانه، أضاءت بعضها بعضًا.

3-  الرسالية

وأقصد بها انطلاق العلامة الفضلي في أعماله الكتابية من موقع المسؤولية الدينية، التي تستوجب على الداعية تخيّر أفضل الطرق وأحسنها في إيصال رسالته، وتصحيح أدواته البيانية، لتصل الرسالة كما أرادها الباري بلا زيادة ولا نقصان.

وهذه الرسالية دعته لأن يخاطب الناس على قدر عقولهم،

ولأن يخاطب الشباب بلغتهم،

ولأن يناقش المثقفين بأدواتهم،

ولأن يشبع حاجة طلبة العلوم الحوزوية في تبيان دروسهم.

ولا شك أن في اطلاع العلامة على خطورة ودور الأدب في ترويج العقائد والأفكار، حداه لجعل وضوح الفكرة والأسلوب مسؤولية ورؤية لضرورة الأدب الإسلامي([1]).

ومن الجدير ذكره هنا ما ذكره من قرضه الشعر وعرضه على المرجع الديني السيد عبد الهادي الشيرازي، حيث كان السيد الشيرازي يشجع على ذلك ويقول بأن ذلك يساعد في فهم الروايات والأحاديث، بينما لم يكن الآخرون يشجعون ذلك.

معالم فن ومنهج كتابته

نستطيع أن نسبر هذه المعالم من خلال جولة في كتابات العلامة الفضلي، والتي ستوضح لنا أن ثمة أسلوباً متميزاً، تستطيع أن تضع إصبعك عليه، لو دُسّ بين مئات الأوراق.

ونحن هنا سنذكر شيئاً مما يتعلق بفن ومنهج الكتابة، ونترك البقية للقارئ ليستوضحها بنفسه.

معالم الفن

1-  وضوح العبارة

وهو آتٍ من وضوح اللفظة، التي يختارها العلامة بعناية، ولو جربت ووضعت مكان هذه اللفظة لفظة أخرى مرادفة لوجدت أن المعنى قد تغير، وانحرفت به هذه اللفظة إلى مقصود آخر في أكثر الأحيان.

ولا أظنني مبالغاً في هذا، لأن هذا يأتي بدوره من وضوح المعنى والفكرة لديه بحيث توخى لها اللفظة المناسبة.

2-  إرجاع الألفاظ المختلفة إلى مؤداها الواحد

وذلك أن من كانت المعاني بين يديه تفنن في التعبير عنها، بخلاف من كانت المعاني ملتصقة لديه بلفظ معين، فهو لا يستطيع التعبير عنها إلا بهذا اللفظ، بل ربما يفهم من بعضهم عدم وضوح المعنى لديه بصورة كاملة، وليتخلص من ذلك فإنه يلقي الكلام على عواهنه.

تراه -حفظه الله- يتتبع المعاني فيجد أنها مرت عبر تاريخها بقوالب لفظية مختلفة، أو لونتها العلوم بصبغ متباينة، ولكن المعنى هو المعنى. وكمثال على هذا ما عبر به الأصوليون عن الإطلاق بأنه مستفاد من (قرينة الحكمة)، متابعين بذلك سلطان العلماء الأصفهاني (ت 1064هـ) بينما ذهب المشهور إلى أنه مستفاد من الوضع([2]). والمعنى هو المعنى ولكن التعبير عنه بقرينة الحكمة مصطلح لسلطان العلماء هو أول من استخدمه، فتلون الإطلاق بصبغة أصولية يعبر عنها بمقدمة الحكمة أو قرينة الحكمة. ولنذكر هنا ما يتعلق بهذه النقطة مما سجله في كتابه دروس في أصول فقه الإمامية حول تعريف المطلق لنرى كيف يعالج العلامة الفكرة ببراعة المطَّلع على أساليب الفلاسفة والأصوليين واللغويين: «عرف الشيخ مغنية في أصوله المطلق بـ(ما دل على الماهية بلا قيد). والمقيد بخلاف المطلق؛ ولذا عرفوه في مقابل التعريف المشهور للمطلق بأنه (ما دل لا على شائع في جنسه).

وكل هذه التعريفات وأمثالها مما ذكر في المقام تتحرك داخل إطار الفكر الفلسفي بما حوَّل -كما سنرى- هذا الموضوع اللغوي الأصولي إلى موضوع فلسفي يدور في فلك الماهية وما يرتبط بها من شؤون، مع أن مفهوم الإطلاق والتقييد من أبرز وأوضح المفاهيم العرفية.

ولعل هذا الإلغاز الفلسفي الذي مُنيا به جاءهما من وضوحهما وضوحاً حجب بينهما وبين أن يعرَّفا التعريف العلمي بعيداً عن الفلسفة ومعطياتها.

فالإطلاق هو الإطلاق، والتقييد هو التقييد كما يفهمهما الناس والأصوليون ليس لهم اصطلاح خاص فيهما، وإنما استوردوهما من العرف واللغة، وبما للإطلاق من معنى الشيوع والشمول...».

3-  عدم الاستطراد إلا في موضع الحاجة

في سياق التفهيم تراه يتوقف هنيأة ليوضح فكرة أو مصطلحاً لا كمن يقطف وروداً استهوته في طريقه إلى هدفه، بل هو كمن يُعبِّد طريق السالكين أو كمن يضيء طريقهم باستطراداته، ومن هنا فإن استطراده منزه عن اللهوية. ولعل بعض استطراداته تأتي من أن ما يقوله مفيد جداً للطالب إن لم يكن هنا ففي موضع آخر، وليرجع على سبيل المثال إلى كتابه (أصول الحديث) لاستيضاح ذلك أكثر.

4-  تعريف المصطلح واستخدام المرادف الأجنبي

وربما عاب بعض من لا خبرة له بفن الكتابة على العلامة الفضلي استخدام هذا المرادف خصوصاً في كتب الدرس الحوزوي، ولكن إذا عرف السبب بطل العجب كما يقال. وقد وجدنا بعضهم يستخدم المرادف الفارسي، كما لدى السيد الطباطبائي في كتابه بداية الحكمة حينما بحث عن مفهوم الوجود حيث يقول: «وللموجود معنى بسيط يعبر عنه بالفارسية بـ(هست)...» ([3]). ومن المؤكد أن كون السيد الطباطبائي يتقن اللغة الفارسية، وألَّف كتابه في بلد الفارسية، ولطلاب يتكلمون الفارسية أو على الأقل يألفونها هو الذي عزاه إلى ذكر المرادف الفارسي لتوضيح فكرته.

واستخدام العلامة الفضلي للمرادف يأتي في مجال تعريفه لبعض المصطلحات العلمية وخصوصًا الحديثة منها وعلى الأخص المترجمة منها، وهو أحد أهم ما استفاده الشيخ من الأساليب والمناهج الأكاديمية الحديثة.

فلدى دراسته لمصطلح معين لتعريفه وتوضيح معناه يتميز أسلوب الشيخ في بحثه عن هذه الدلالة لجذور وتطور المفردة في اللغة العربية من خلال معاجم اللغة ثم مناقشة شواهد المفردة في القرآن والحديث والأدب العربي وتحليل ومناقشة التعريفات السابقة ثم الوصول إلى النتيجة بتعريف وافٍ ودقيق.

واستخدام المرادف الأجنبي في تعريف المصطلح له فائدتان أساسيتان، الأولى إذا كان المصطلح عربي الأصل وهي المساعدة في تقريب المعنى، والثانية إذا كان المصطلح مترجمًا عن لغة أجنبية وهي معرفة المعنى في لغته الأصلية ومدى تطابق الترجمة مع المعنى وكيف تطورت دلالته في لغته الأصلية ثم بعد ترجمته إلى اللغة العربية.

وقد أشار الشيخ في أحاديثه معنا أكثر من مرّة أن دراسة التطور اللغوي للمفردة مصدر مهم في معرفة دلالتها، وأنه للأسف لا يوجد لدينا في اللغة العربية مثل هذا المعجم كما في اللغات العالمية الأخرى مما يأخذ وقتًا وجهدًا كبيرين من الباحث.

5-  استنتاج القارئ

يلجئك كثير من الكتاب إلى إلقاء كتابه جانبًا بسبب عنفه في الإقناع يأخذ بيدك وأحيانًا يأخذ بعنقك، وهذا يعود إما إلى عدم القدرة على التدليل وإما إلى عدم وجود الدليل، وإما إلى الاستعجال في وضع النتائج وهذا الأخير خطأ في فن الكتابة ربما ضيَّع على الكاتب فرصة إقناع القارئ.

ولذا نجد أن إعطاء هامش من حرية التفكير والموازنة والمقارنة أثناء سير القارئ مع الكاتب في الكتاب وترك القارئ يستنتج بنفسه النتيجة هي من أهم معالم الكتابة عند العلامة الفضلي.

تجده في كثير من الأحيان يعبر بلفظة: (ربما) أو (لعل) أو ( قد يكون) وهذا يريح القارئ كثيرًا لأنه يشعر بأنه مشارك مع الكاتب في اقتطاف النتائج.

6-  مراعاة طبقة القراء

تفتقد كثير من الكتب للعنصر التربوي الذي يعني في أحد جوانبه مراعاة الطبقة التي وضع من أجلها الكتاب فإذا كان الكتاب للمتخصصين وجب أن تكون طريقة كتابته مختلفة عما لو كُتب لغيرهم.

يكتب بعضهم كتابًا وهو بعنوان كونه لغير المتخصصين فتجده وكأنه كتبه للدفاع عن فكرة في ذلك التخصص، فيكون الكتاب محدود القراء.

وربما كتب بعضهم كتابًا لمبتدئين في تخصص ما فتراه وقد شط به قلمه وراح يناقش المتخصصين من أمثاله.

ومن يقرأ مبادئ أصول الفقه للعلامة الفضلي وهو الموضوع للمبتدئين يجده مختلفًا تمامًا عن كتابه الآخر: دروس في أصول فقه الإمامية وهو الموضوع تمهيدًا للبحث الخارج، من حيث المادة والعرض.

وهكذا في كتابه: الوسيط في قواعد فهم النصوص الشرعية الذي قال فيه: «توخيت فيه أن يكون أكثر وضوحًا في التعبير وأكثر بيانًا في الدلالة، ليكون في متناول يد المثقف العام أيضًا»([4]).

وربما كان هذا العنصر التربوي ما حداه إلى اعتماد ما يوصل المعنى بأيسر السبل مما يسمح به البحث حتى لو كان خلاف المشهور الأخذ به كاعتماده المعاجم الحديثة، كالوسيط.

منهج الكتابة

1-   وضع القارئ أمام خطة سير البحث

يقحمك كثير من الكتاب في بحوثهم من غير أن تعرف إلى أين سيأخذونك، وإلى ماذا يرمون من بحوثهم، فقد تقرأ وتخرج بفائدة ولكن ليست الفائدة التي ربما كانت مقصودة للمؤلف وذلك بسبب عدم وضع الخطة أمام القارئ.

لنقرأ مثالاً على ذلك مما كتبه العلامة في مقدمة كتابه الوسيط: «... مهدت لدراسة هذه القواعد ببحث موضوع (الاجتهاد)، لأنه عملية الاستنباط التي تمثل تعامل الفقيه مع النصوص الشرعية.

وصنفت دراسة القواعد إلى أربعة أبواب:... الأول لتعريف القاعدة وتعريف النص... الثاني لبيان مجال دراسة النص... الثالث بحثت قواعد تعيين مراد المشرع الإسلامي من النص إذا كان مشتركاً أو مشتقاً أو تردد بين الحقيقة والمجاز... الرابع درست علاقات النصوص، وهي المتمثلة بما أطلقت عليه (ظاهرة التخالف) و(مشكلة التعارض).

وإخال أن هذا التبويب أقرب إلى طبيعة قواعد فهم النصوص الشرعية من حيث إنه أدق في التسلسل وأسلم في الترابط العضوي بينها».

2-  سوق المقدمات الممهدة

كما رأينا في النص السابق فإن سوق المقدمات الممهدة صفة مميزة لبحوث ودراسات العلامة، تتضح بمراجعة سريعة لكتبه ومؤلفاته([5])، بينما نجد أن اقتحام الموضوعات والبحوث من دون سابقة إنذار سمة كثير من الباحثين.

ومن هذه المقدمات على سبيل المثال: المقدمة التاريخية، والتي تفيد في تعريف العلم، ومعرفة واقعه.

ويدخل ضمن هذا تتبع المصطلحات تاريخياً، وتفكيكها وإرجاعها إلى أصولها اللغوية.

3-  توخي التسلسل والترابط العضوي بين الأفكار

تأتي بحوث بعض الباحثين مشوهة من حيث الترابط العضوي، حيث يبدأ بما يفترض تأخيره، ويؤخر ما يفترض تقديمه.

لننظر على سبيل المثال ما كتبه حول المبدأ الأول في الفكر اليوناني قبل سقراط «تمشياً مع منهجة البحث التي توخيتها لأعرض الموضوع متسلسلاً يحافظ على وحدته وترابط أجزائه، أراني ملزماً بعرض تمهيدي أوضح فيه ما تعنيه فكرة (المبدأ الأول) في الفلسفة، لأنتقل بعد ذلك إلى تحديد تاريخ الفترة موضوعة البحث، ثم إلى تبيان طابعها العام أو جوها الثقافي في نوعيته، أكان فكراً أم فلسفة بمعناها الخاص وحسبما يفهم من محتوى كلمة (فلسفة)، وأتحول بعده إلى عرض الاتجاه الفلسفي لتلكم الفترة، ومن ثم أدخل الموضوع، عارضاً الفكرة وفق تسلسلها التاريخي»([6]).

وهكذا نراه في كل كتاباته، يحمل همّ القارئ أولاً، وقد تركنا مجموعة كبيرة من هذه المعالم للقارئ ليستمتع بلذة الاكتشاف، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 



([1]) نحو أدب إسلامي: 21.

([2]) الوسيط في قواعد فهم النصوص الشرعية: 222.

([3]) الفصل السادس: 21.

([4]) المقدمة: 8.

([5]) يراجع على سبيل المثال كتاب مشكلة الفقر.

([6]) مجلة النجف التابعة لكلية الفقه.