شعار الموقع

الفقيه ومتغيرات البيئة الاجتماعية

الشيخ حسن الصفار 2007-09-20
عدد القراءات « 747 »

 

[1]

تختلف أوضاع المجتمعات الإسلامية باختلاف البلدان التي يعيشون فيها، والبيئات التي ينتمون إليها، حيث تتفاوت طبيعة الأنظمة والظروف السياسية، بين وضع سياسي مستقر، ووضع قلق مضطرب، وبين نظام يتيح فرصة المشاركة السياسية وحرية الحركة والتعبير، وآخر تنعدم في ظله تلك الفرص، وقد يكون النظام ملتزماً بمبادئ الإسلام وشريعته، أو يكون علمانيًّا محارباً للدين، أو محايداً تجاهه.

كما تتفاوت الظروف والأوضاع الاجتماعية: من حيث التجانس أو التنوع القومي والديني، ومن حيث التوازن والاستقرار في العلاقة بين الأطراف المتنوعة في الوطن الواحد.

وهناك اختلاف على مستوى الثقافات والعادات والأعراف السائدة في كل مجتمع. كما أن لطبيعة الظروف الحياتية والاقتصادية المختلفة انعكاسات على أنماط التفكير والسلوك في المجتمعات، بين مجتمع حضري وآخر بدوي، ومجتمع زراعي وآخر صناعي، ومجتمع يعيش الرخاء والوفرة المادية، وآخر يعاني من الأزمات والصعوبات الاقتصادية.

هذا الاختلاف في أوضاع وظروف المجتمعات، يُنتج اختلافاً في ألوان التحديات والإشكاليات التي تواجهها، وحين تتطلب هذه التحديات والإشكاليات معالجات شرعية، وتوجيهاً دينيًّا، فإن الفقهاء هم الجهة التي يُرجع إليها، ويُلجأ لها لأخذ أحكام الدين، وآراء الشرع، في النوازل والحوادث الواقعة.

وبما أن بعض المجتمعات قد تخلو من وجود فقهاء في أوساطها، يعايشون معها التحديات التي تواجهها، ويدركون بالمباشرة انعكاسات الظروف والأوضاع على الأبعاد المختلفة من حياتها، فإنها حينئذ إما أن تعيش الحاجة والفراغ في مجال التوفر على معالجات وحلول شرعية لقضاياها ومشاكلها، وإما أن تلجأ إلى الاستفادة من آراء وطروحات الفقهاء من خارج محيطها وبيئتها.

وهنا قد تثار إشكالية تتعلق بمدى قدرة الفقيه من خارج البيئة الاجتماعية، على التشخيص الدقيق للموضوعات التي تتطلب الرأي الشرعي، وفيها ما يتعلق بالشأن السياسي، وما يرتبط بالواقع الاجتماعي، وما يلامس الأمر الاقتصادي، أو يدخل في نطاق المسألة الثقافية.

* المرجعية والضوابط الشرعية

لا بد من التأكيد هنا أن للمرجعية الدينية شروطاً ومواصفات ليس من بينها الاعتبارات المادية والاجتماعية، فمن يرجع إليه في أخذ الحكم الشرعي، يجب أن يكون فقيهاً، أي مجتهداً قادراً على استنباط الحكم الشرعي من مصادره المقررة، وأن يكون عادلاً نزيهاً لا يخالف في سلوكه وممارساته شيئاً من أوامر الدين. وقد تشترط فيه الأعلمية بأن يكون الأعلم من غيره، كما هو الرأي المشهور لفقهاء الشيعة المعاصرين.

أما الاعتبارات المادية: كالنسب، أو القومية، أو الجنسية بأن يكون من رعايا هذه الدولة أو تلك، فليس لها اعتبار في اختيار المرجع، إذا ما فقدت الشروط الأساسية المطلوبة.

وبحمد الله تعالى فقد بقيت المرجعية الدينية بعيدة عن تأثير هذه الاعتبارات غالباً، فقد يكون المرجع الديني عربيًّا أو فارسيًّا أو تركيًّا، وعراقيًّا أو إيرانيًّا أو باكستانيًّا أو غير ذلك، وقد يكون هاشميًّا في نسبه، أو ينتمي إلى نسب آخر.. وبقي مقياس الاختيار غالباً هو الكفاءة العلمية ومستوى العدالة والالتزام الديني.

والحديث عن أهمية وجود الفقيه ضمن البيئة المحلية الاجتماعية، لا يعني تجاوز تلك الضوابط الشرعية لصفات المرجع الديني، وإنما هي عنصر إضافي إلى جانب تلك المواصفات.

كما أنه لا تلازم بين وجود الفقيه المحلي وبين المرجعية والتقليد، فقد يكون المرجع خارج البلاد، وضمن الحوزات العلمية المركزية، كالنجف الأشرف وقم، لتوفره على صفة الأعلمية، ويكون وجود الفقيه في المجتمع وإن لم يكن مقلَّداً، عاملاً مسانداً ومساعداً للمرجعية، تعتمد عليه في تشخيص الموضوعات، وتقويم الظروف، وتقديم المعالجات، وتناط به مهمة القضاء والقيام بالأمور الحسبية الأخرى. وهذا ما حصل في الماضي ويحصل بالفعل في عدد من البلدان والمجتمعات.

ومن أواخر الأمثلة والشواهد دور السيد موسى الصدر (1928 - 1978م)، والشيخ محمد مهدي شمس الدين (1350 - 1421هـ) في لبنان فقد كانا فقيهين، قام كل منهما بدور قيادي في الساحة اللبنانية، وقدما معالجات نافعة لمشكلات المجتمع هناك، وكانا على تواصل وتنسيق مع المرجعية الدينية.

وفي القطيف يمكن الإشارة إلى دور الفقيه الشيخ علي الجشي (1296 - 1376هـ)، الذي تولى القضاء وكان محل ثقة المرجعية واعتمادها.

والفقيه الشيخ محمد الهاجري (1344 - 1425هـ)، يشكِّل نموذجاً لهذه الحالة على الساحة الأحسائية. وهناك نماذج مماثلة في ساحات أخرى.

* الحكم الشرعي هل يتأثر بالبيئة؟

قد يؤثر اختلاف الأوضاع والبيئات الاجتماعية في استنباط الحكم الشرعي من قبل الفقيه، أو في كيفية تطبيقه، ويتضح ذلك من خلال الموارد التالية:

1- تغيّر العناوين والموضوعات من زمن لآخر ومن بيئة إلى أخرى، ومن أمثلته المتداولة بين الفقهاء صدق المثلي والقيمي، حيث كانت الألبسة والأواني تعد من القيميات في الماضي لأن صناعتها يدويًّا كانت تسبب اختلافاً في مواصفاتها مما يؤثر في قيمتها، لكنها الآن تعد من المثليات، حيث تنتجها الآلات والمصانع فهي متماثلة متشابهة.

والقيمي في الاصطلاح الفقهي: ما لا يوجد له مثل في السوق، أو يوجد لكن مع التفاوت المعتدّ به في القيمة. أما المثلي فهو ما يوجد مثله في السوق دون تفاوت يعتدّ به.

وهناك بعض المسائل الشرعية التي ترتبط بهذا التغيّر في صدق القيمي والمثلي، كضمان ردّ المغصوب إذا تلف بمثله إن كان مثليًّا، وبقيمته إن كان قيميًّا. وكإقراض المثلي والقيمي وما يثبت عوضاً له في الذمة.

ومن أمثلة تغيّر العناوين: صدق المكيل والموزون على شيء، حيث إن الحكم الشرعي بيع المكيل بالكيل، والموزون بالوزن، لا بالعدّ، ولكن هذا يختلف حسب اختلاف البيئات والمجتمعات، ويلحق بكلٍّ حكمه. فقد يُباع البيض مثلاً في بعض المناطق بالوزن، وفي أخرى بالعد. فلو باعه بالعد في المناطق الأولى، أو بالوزن في المناطق الأخرى لم يكن البيع صحيحاً. وكذلك لو باع البيضة ببيضتين والجوزة بجوزتين في الأماكن التي يباع فيها بالعد لا يكون من الربا، في حين يكون رباً في المناطق التي يباع فيها بالوزن عند اختلاف وزنها.

وكذلك فإن المصاديق الخارجية لبعض العناوين التي ترتبط بها أحكام شرعية قد تختلف باختلاف البيئات، فيختلف الحكم تبعاً لذلك، فالاستطاعة والفقر والغنى، ومقدار النفقة، والمعاشرة بالمعروف للزوجة، مصاديقها وحدودها متفاوتة من مجتمع لآخر.

2- اختلاف المقاصد والملاكات، فالأحكام الشرعية لها استهدافات ومناطات تابعة للمصالح والمفاسد، وحين يكون المناط والمقصد واضحاً أمام الفقيه، فإنه يأخذه في الاعتبار حين تختلف الظروف والبيئات، فيتغير الملاك، ويتغير الحكم تبعاً لذلك.

فمثلاً: كان بيع الدم محرماً في الماضي لعدم وجود منفعة مباحة له، لكن بيع الدم لم يعد الآن حراماً لوجود الحاجة إليه لإسعاف المرضى.

وكان التصرف في جسد الميت بقطع شيء منه حراماً، لأنه كان يحصل في الماضي بقصد التمثيل والانتقام، لكنه الآن أصبح ضروريًّا في بعض الحالات لزرع الأعضاء وإنقاذ حياة المشرفين على الموت، فلا يعتبر حراماً لهذه الغاية.

3- تطور أساليب الحياة بما يؤثر في كيفية تطبيق الأحكام الشرعية، فإذا كانت الغنائم الحربية سابقاً في حدود السيف والرمح والفرس وما شابه، فإنها من نصيب المقاتلين بعد تخميسها، لكن الغنائم الحربية اليوم أصبحت في مستوى الدبابات والمدرَّعات والقذائف والصواريخ، فكيف يطبق الحكم الشرعي بتوزيعها على المقاتلين الآن؟

وكذلك الحال في حكم امتلاك الإنسان للمعدن الذي يكتشفه في أرضه، كيف يمكن الآن تطبيقه في مجال آبار النفط، فهل تكون هذه الثروة الهائلة ملكاً للأشخاص الذين تكتشف في أراضيهم؟

4- مراعاة المصلحة العامة وتقدير الحاجات والضرورات: ففي الفقه الإسلامي أكثر من عنوان يتيح للفقيه المتصدي، أن يفتي بأولوية حكم شرعي على آخر عند التزاحم، وأن يفتي بتجاوز بعض الأحكام بمقتضى العناوين الثانوية كالضرورة والاضطرار، والضرر والضرار، والعسر والحرج، والأهم فالأهم، والذرائع للواجبات والمحرمات، والمصالح العامة للأمة. وهي عناوين تعطي المجال للفقيه لمعالجة التزاحم بين الأحكام والأزمات الاجتماعية.

إن هذه الموارد وأمثالها تؤكد وجود مساحة من التشريع تتأثر باختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئات، وعلى الفقيه مراعاة ذلك في استنباطه للأحكام الشرعية، ولعل من أهم مبررات وجود الفقيه وإيجاب الشارع المقدس طلب الفقاهة على أبناء الأمة على نحو الوجوب الكفائي، هو تصدي الفقهاء لهذه المهمة، بتجديد البحث والنظر في الأحكام الشرعية التي يمكن تأثرها باختلاف البيئات وتطور الحياة.

نصوص وشواهد

جاء في نهج البلاغة أنه سئل الإمام علي (عليه السلام) عن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود»، فقال (عليه السلام): «إنما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك والدين قُلٌّ، فأما الآن وقد اتَّسع نطاقه، وضرب بجِرانه، فامرؤ وما اختار»[2].

قال الشيخ محمد جواد مغنية في شرحه لهذه الكلمة:

كان النبي قد أمر الشيوخ من أصحابه أن يستروا الشيب عن العدو بالخضاب، ليظهروا أمامه في هيئة الأقوياء. فقال الإمام علي (عليه السلام): ذاك حيث كان الإسلام ضعيفاً بقلة أتباعه، أما اليوم وقد ظهر على الدين كله، فلم يبق لهذا الحكم من موضوع، فمن شاء فليترك الخضاب، ومن شاء فليخضب.

وتسأل: ألا يتنافى هذا مع الحديث المشهور عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة»؟

الجواب: إن الأحكام الشرعية على نوعين:

الأول منهما: يرتبط بطبيعة الإنسان وفطرته من حيث هو إنسان، وهذا النوع من الأحكام لا يتغير ولا يتبدل تماماً كنظام الكون والأفلاك في حركتها الدائبة، وهذا النوع هو المقصود بالحديث المشهور.

والنوع الثاني: يرتبط بالحياة الاجتماعية، وهذا تتغير أحكامه تبعاً لتغير المجتمع من حال إلى حال، حيث يتغير موضوع الحكم وسببه الموجب[3].

وفي هذا السياق ما ورد في الوسائل عن محمد بن مسلم، وزرارة، أنهما سألا الإمام محمد الباقر (عليه السلام) عن أكل لحوم الحمر الأهلية؟

فقال (عليه السلام): نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أكلها يوم خيبر، وإنما نهى عن أكلها في ذلك الوقت، لأنها كانت حمولة الناس، وإنما الحرام ما حرّم الله في القرآن[4].

وفي نص آخر: «إنما نهى عنها من أجل ظهورها مخافة أن يفنوها، وليست الحمير بحرام»[5].

وقد أشار إلى هذه الحقيقة المحقق الأردبيلي (توفي 993هـ) حيث قال:

«ولا يمكن القول بكلية شيء بل تختلف الأحكام باعتبار الخصوصيات والأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص، وهو ظاهر، وباستخراج هذه الاختلافات والانطباق على الجزئيات المأخوذة من الشرع الشريف امتياز أهل العلم والفقهاء»[6].

وتحدَّث الإمام الخميني عن هذا الموضوع في كلمة اشتهرت عنه حيث قال: «إني على اعتقاد بالفقه الدارج بين فقهائنا، وبالاجتهاد على النهج الجواهري، وهذا أمر لا بد منه، لكن لا يعني ذلك أن الفقه الإسلامي لا يواكب حاجات العصر، بل إن لعنصري الزمان والمكان تأثيراً في الاجتهاد، فقد يكون لواقعة حكم لكنها تتخذ حكماً آخر على ضوء الأصول الحاكمة على المجتمع وسياسته واقتصاده»[7].

وللفقيه المعاصر الشيخ جعفر السبحاني رسالة موجزة قيِّمة تحت عنوان «تأثير الزمان والمكان على استنباط الأحكام الشرعية والحكومية»[8]، استفدنا منها في بحثنا هذا.

* المرجعية الدينية والانتماء الوطني

هناك تعقيدات سياسية واجتماعية تُدرك بالمعايشة والاحتكاك المباشر، وتترك آثارها وانعكاساتها على نفس الإنسان وتفكيره، أكثر من مجرد العلم بها، والاطلاع عليها. فالفقيه بمعايشته الفعلية للمجتمع، يكون أكثر إدراكاً وشعوراً بضروراته وحاجاته، وأفضل تقويماً وتشخيصاً لتفاصيل واقعه وأوضاعه السياسية والاجتماعية. وقديماً قيل: يرى الحاضر ما لا يرى الغائب.

بل إن الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي (911 - 965هـ) قد ذكر من جملة أحكام المفتي وآدابه، أنه: «لا يجوز أن يفتي بما يتعلق بألفاظ الأيمان والأقارير والوصايا، ونحوها إلا من كان من أهل بلد اللافظ، أو خبيراً بمرادهم في العادة»[9].

كما أن الاعتبارات السياسية، تجعل قدرة الفقيه المواطن على إبداء الرأي، واتخاذ الموقف، تجاه أوضاع بلاده، أكبر من قدرة الفقيه المنتمي إلى وطن آخر، وأكثر مقبولية. وإن كانت الاعتبارات الشرعية هي الأصل في الأمور الدينية.

ولوجود الفقيه في المجتمع منافع وآثار إيجابية أخرى، حيث يستطيع رفع مستوى الحركة العلمية الدينية في البلاد، عن طريق التدريس في مختلف مراحله، وتربية الطلاب في المستويات المتقدمة، كالبحث الخارج، حسب اصطلاح الحوزات العلمية.

وكذلك فإن الناس أكثر استجابة وانقياداً للفقيه المجتهد، مما يعزِّز الحالة الدينية، ويكرِّس وحدة المجتمع وتماسكه.

من هنا يمكن القول بأن وجود المجتهد الفقيه مطلوب في كل بيئة اجتماعية، وغير بعيد ما استنتجه الشيخ محمد مهدي شمس الدين (رحمه الله) من وجوب وجود الفقيه على نحو الوجوب الكفائي في كل مجتمع، على ضوء الآية الكريمة: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[10].

قال: «فقد دلَّت على وجوب التفقُّه لأجل تبليغ أحكام الشريعة. ودلَّت على أن هذا الوجوب ثابت على الأمة بنحو الكفاية يجب أن تقوم به طائفة من كل فرقة، فهو واجب على الأمة الإسلامية مع ملاحظة انقسامها إلى فرق، وينبسط هذا الوجوب على فرق الأمة بنحو الكفاية على كل فرقة، ويتحقق الامتثال بقيام طائفة من كل فرقة بالنفر والتفقُّه.

وهل يعتبر وحدة الانتماء القومي بين الفرقة والنافرين؟ مما ذكرنا لا يبعد استفادة عدم كفاية وجود مجتهدين في شعب من الشعوب الإسلامية لسقوط وجوب التفقه عن سائر الشعوب الإسلامية، بل يجب على كل شعب (فرقة) مسلم أن يكون منه نافرون متفقهون (مجتهدون)، لأن الأمر في الآية الكريمة وارد وبنحو العموم الاستغراقي {.. كُلِّ فِرْقَةٍ..} فلا يتحقق الامتثال بنفر طائفة من فرقة واحدة أو أكثر إذا لم ينفر فرق من جميع الطوائف.

وعلى تقدير البناء على هذا، فهل يعتبر أيضاً أن يكون النافرون من نفس (شعب/ قبيلة) المكلفين، فلا يتحقق امتثال بني تميم مثلاً إذا كان النافرون من طي، ولا يتحقق امتثال العراقيين إذا كان النافرون مصريين مثلاً، فلا يكفي انتماء الجميع للعربية أو الفارسية أو التركية، بل لا بد من أن يكون النافرون (الطائفة) من سنخ الانتماء الخاص (للفرقة) ولا يكفي مجرد اشتراكهم في الانتماء العام (العربية أو الفارسية أو التركية)؟.. أو يكفي مجرد الانتماء العام إلى عنوان القوم (الفرقة).

مقتضى قوله تعالى {مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ} هو اعتبار الانتماء الخاص، وعدم كفاية الانتماء العام، إذ إن بني تميم -مثلاً- (فرقة) فلو نفر جماعة من طي فإنه لا يصدق عليهم عرفاً أنهم منهم، والمصريون -مثلاً- فرقة فلو نفر جماعة من العراقيين لا يصدق عليهم عرفاً أنهم منهم، وهكذا، والمسألة بحاجة إلى مزيد من التأمل»[11].

* الفقهاء والمراجع في المنطقة

حفل تاريخ منطقة الأحساء والقطيف بوجود عدد كبير من مراجع الدين والفقهاء المجتهدين في مختلف القرون، فكانت المرجعية الدينية محليّة يتصدى لها فقهاء من أبناء المنطقة.

وآخر مرجع ديني كان مقلداً في الأحساء هو الشيخ حبيب بن صالح بن قرين الذي توفي بتاريخ 21 محرم 1363هـ. وقبله كانت مرجعية السيد ناصر بن السيد هاشم السلمان توفي سنة 1358هـ، كما أن آخر مرجع ديني كان يقلد في القطيف هو السيد ماجد بن السيد هاشم العوامي الذي توفي بتاريخ 7 ربيع الثاني 1367هـ، وقبله كانت مرجعية الشيخ علي - أبوالحسن - الخنيزي توفي سنة 1363هـ.

بل امتدت مرجعية بعض فقهاء المنطقة إلى المناطق الأخرى كالعراق وإيران والكويت والبحرين.

فالشيخ أحمد بن زين الدين الاحسائي (1166-1241هـ) قلّده بعض العراقيين وكثير من الإيرانيين وعلى رأسهم ملك إيران آنذاك فتح علي شاه وأسرته ووزراؤه وكبار رجال دولته. وقد سجّل الدكتور ميرزا مهدي خان في تاريخه: أن ربع الشعب الإيراني كانوا من مقلديه والتابعين له[12].

والشيخ محمد بن علي آل عبدالجبار القطيفي (توفي بعد 1250هـ) كان يقلده كثير من أهالي العراق وأهل القطيف والأحساء وقد ارتضاه علماء النجف للمحاكمة بينهم وبين السيد كاظم الرشتي أيام النزاع بينهم، وارتضاه السيد المذكور وناهيك بذلك فضلاً[13].

أما الفقهاء المجتهدون الذين لم يتصدوا للمرجعية فهم كثيرون في تاريخ المنطقة.

* تساؤلات ومعالجات

تدور في بعض الأوساط السياسية والإعلامية تساؤلات حول ارتباط الشيعة في المملكة العربية السعودية بالمرجعيات الدينية في الخارج كالعراق وإيران، وخاصة مع تسليط الأضواء على الشيعة بعد سقوط النظام العراقي. وفي داخل المجتمع الشيعي في المملكة يتنامى شعور بضرورة وجود فقهاء يتصدون لإدارة الحالة الدينية في المجتمع، ويعزّزون ثقة الناس في أنفسهم وفي ولائهم الديني والوطني.

ومن المناسب أن تطرح مثل هذه التساؤلات بصراحة ووضوح وأن تناقش بشفافية وموضوعية، فمثلاً تحاول بعض الجهات أن تطرح موضوع ارتباط الشيعة في المملكة، بمرجعيات دينية خارجها، وكأنه مظهر خلل في الولاء الوطني للشيعة، وهذا الطرح ناشئ من ضعف المعرفة بواقع الارتباط بالمرجعية الدينية، وقد يأتي هذا الطرح في سياق الصراع الطائفي وإرادة التشويه لصورة المواطنين الشيعة.

إن المرجعية الدينية عند الشيعة لا تتدخل في الخصوصيات السياسية للمجتمعات الشيعية في أوطانهم المختلفة، إنما يرجعون إليها في قضاياهم الدينية ومسائلهم الشرعية، أما الشأن السياسي والاجتماعي فتتصدى له القيادات المحلية من علماء ووجهاء، وسيرة المراجع تثبت أنهم في مستوى كبير من النضج والحرص على مصالح البلاد الإسلامية، لذلك يوجِّهون أتباعهم إلى الاندماج في أوطانهم، والتفاعل مع محيطهم، والحفاظ على الوحدة الإسلامية والوطنية.

وقد يتصدى المرجع لدور سياسي في وطنه كإيران أو العراق حسب ما تفرضه الظروف، أو تقتضيه المصلحة هناك. أما تبني المواقف السياسية حول الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى فهذا ما لم يعهد من سيرة مراجع الشيعة، وتاريخهم واضح جلي.

والارتباط بمرجعيات دينية خارج الوطن ليس ظاهرة خاصة بالشيعة، فأهل السنة في بلاد عديدة يرتبطون في شؤونهم الدينية بالجامع الأزهر في مصر، وهناك في بلدان إسلامية من يأخذ بآراء المفتي وكبار العلماء في المملكة العربية السعودية، فهل يعتبر ذلك خللاً في ولاء هؤلاء لأوطانهم؟

كما أن المجتمعات المسيحية في دول العالم تقدِّس البابا الذي يمثِّل الزعامة الدينية للمسيحيين وترتبط به كنائسهم ومؤسساتهم الدينية، ولا أحد يعتبر ذلك خللاً في الولاء الوطني!!

* المرجعية المحلية والضوابط الشرعية

تلتزم المجتمعات الشيعية بالضوابط والشروط الشرعية في اختيار المرجع الديني، ولا تقبل الإخلال بتلك الضوابط لمراعاة الاعتبارات السياسية والمادية. فالمرجع يتم اختياره بإرادة شعبية، بعيداً عن القرارات والمواقف الحكومية، وبشكل عفوي، بناءً على شهادات ذوي الخبرة من العلماء في الحوزات العلمية ومختلف المجتمعات الشيعية.

والتفاف شيعة العراق العرب الاقحاح، بمشاعرهم القومية والوطنية المرهفة حول مرجعية السيد السيستاني، وهو من أصل إيراني، يقدِّم أروع شاهد على عمق الالتزام بالضوابط الشرعية في اختيار المرجعية الدينية.

كما أن مواقف المرجع السيستاني في غمرة الاضطرابات وتعقيدات الواقع العراقي الناتج عن الاحتلال الأمريكي، يكشف عن استقلالية المرجعية الدينية، ونضج آرائها، وصدق إخلاصها لمصلحة الدين والأمة، بعيداً عن أي تأثيرات سياسية خارجية أو داخلية.

بالطبع فإن وجود مرجعية دينية من أبناء الوطن تتوفر على المواصفات الشرعية المطلوبة يشكّل خياراً أفضل، وهذا ما كان قائماً في الكثير من المجتمعات الشيعية في إيران والعراق ولبنان والبحرين والأحساء والقطيف.

لكن ضعف الحالة العلمية في بعض هذه المناطق هو الذي حرمها من هذه النعمة في الأزمنة الأخيرة.

وكان للظروف السياسية التي مرت بها هذه المناطق دور أساس في خلق هذا الواقع، ولو تبنت الحكومات في هذه المناطق سياسة تشجيع الحالة العلمية للمجتمعات الشيعية فيها، ورفع القيود والعوائق عن طريقها لأمكن توافر عدد من الفقهاء والمجتهدين المحليين، وبالتالي بروز مرجعيات محلية كما كان ذلك في الماضي.

كما تتحمل المجتمعات الشيعية ذاتها قسطاً كبيراً من المسؤولية، لأن عليها أن تدعم وجود الحوزات العلمية في بلادها، وأن تشجع الراغبين في طلب العلم من أبنائها، وتوفر لهم إمكانات الابتعاث لمواصلة الدراسات العليا في الحوزات العلمية المركزية.

والمؤسف أن طلاب العلوم الدينية في مجتمعاتنا لا يوجد من يدعمهم أو يتبناهم، بل يعتمد كل منهم على إمكاناته الذاتية، ومساعدة أسرته، وعلى المكافأة المحدودة التي يقدمها المراجع للطلاب في الحوزات الدينية.

وغالباً ما يضطر أكثرهم للعودة إلى الوطن دون مواصلة الدراسات العليا، بسبب ضغط الظروف الاقتصادية ومتطلبات الحياة العائلية.

ومع إدراكنا لهذه الصعوبات التي تواجه طلاب العلوم الدينية، إلا أننا نأمل أن يشحذوا هممهم، وأن يتحدوا العوائق والعراقيل، فرضا الرب، وخدمة الدين، ومجد العلم يستحق التضحيات، وتهون أمامه الشدائد، وقد روي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قوله: «لو علم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بخوض اللجج وسفك المهج».

فلماذا يتحمل طالب العلم الإيراني أو الأفغاني أو غيرهما سنين الغربة الطويلة في النجف الأشرف مثلاً، والانقطاع عن أهله ووطنه، ويتحمل أخطار الأوضاع القائمة هناك، وصعوبات الحياة، حتى يصل إلى مقام الاجتهاد والمرجعية، في حين يكتفي أكثر طلابنا بالوصول إلى مستوى محدود من العلم، ثم يسارعون للرجوع إلى بلدانهم؟

* توطين الاهتمامات الفقهية

حاجة المجتمعات لوجود فقهاء مجتهدين من أبنائها، ليس من أجل أن يجترُّوا ويعيدوا بحث الموضوعات الأصولية والفقهية التي أُشبعت بحثاً، وإن كان بحثها مهماً لجهة تنمية القدرة العلمية والاجتهادية، وهي موضوعات لا يمكن تجاوزها أو التقليل من شأنها، لكن روادها كثيرون، والاستفادة من باحثيها في مجالها لا يستلزم خصوصية محلية.

إنما الحاجة الأهم للفقهاء المحليين، تكمن في تميزهم المفترض، بإدراك مشاكل مجتمعاتهم وخصوصياتها، وتقديم المعالجات العلمية المناسبة لها.

فالوضع السياسي في كل مجتمع، والقضايا الاجتماعية القائمة فيه، والتحديات الثقافية، والعلاقة بينه وبين أطراف محيطه، كل هذه الأبعاد تحتاج إلى بحث ومعالجة في تميزاتها وخصوصياتها، على هدى الشريعة الإسلامية.

وظاهرة العزوف عن معالجة القضايا المحلية عبر البحث العلمي الفقهي تكشف عن ضعف شعور بالمسؤولية الاجتماعية الوطنية، أو تهيُّب من ارتياد بحوث غير مألوفة، أو خوف من إبداء الرأي والنظر.

ولا بد أن نشيد هنا ببعض النماذج من الفقهاء الذين تميزوا ببحث مشكلات مجتمعاتهم، وقدَّموا لها مشاريع وطروحات بتأصيل علمي فقهي، كالإمام السيد موسى الصدر، والشيخ محمد مهدي شمس الدين في لبنان، اللذين استطاعا إنقاذ مجتمعهم من حالة الانكفاء والحرمان والتهميش، وساعدا على ترتيب أوضاعه الداخلية، وتحسين علاقاته مع أطراف محيطه، وتحقيق مشاركته وإسهامه على المستوى الوطني العام.

وخطاباتهما وكتاباتهما التي أسست لهذه الحالة ورعت نموها وتطورها منشورة معروفة، وخاصة البحوث القيمة التي أنجزها الشيخ شمس الدين مثل (الاجتماع السياسي في الإسلام)، و(نظام الحكم والإدارة في الإسلام)، و(العلمانية)، و(فقه العنف المسلح في الإسلام)، و(ومسائل حرجة في فقه المرأة)، و(ضرورات الأنظمة وخيارات الشعوب)، و(الحوار الإسلامي المسيحي)، و(الإسلام والغرب)، و(في الاجتماع المدني الإسلامي)، و(مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني). وحين أصابه المرض العضال وأحس بقرب الرحيل عن الدنيا سجل وصاياه لأبناء مجتمعه عبر جهاز تسجيل، وكتبت ونشرت بعد وفاته تحت عنوان (الوصايا). وهي كتابات علمية تأصيلية تعالج قضايا مثارة في الساحة بشكل عام ولها انعكاساتها على مستوى الساحة اللبنانية. إضافة إلى آرائه التي طرحها من خلال المحاضرات والمقابلات الإعلامية، فيما يخص الشأن السياسي والاجتماعي في لبنان، برؤية إسلامية وتأصيل فقهي.

ونموذج آخر يتمثل في المرجع الشهيد السيد محمد صادق الصدر (1362-1419هـ)، الذي استطاع إحياء الحالة الدينية في العراق في ظل طغيان نظام صدام، وقدم معالجات شرعية للكثير من القضايا المعاشة في الوسط العراقي، وقد تضمنت موسوعته (ما وراء الفقه) بعض تلك البحوث، ونشر بعضها الآخر، وأكثرها لا يزال بحثاً شفهيَّا مسجلاً.

ومن أبحاثه بحث عن الأحكام والأعراف العشائرية السائدة بين قبائل العراق، وبحث عن فئة (الغجر) التي تعيش في العراق. وبحوث أخرى مشابهة.

إن الساحة اللبنانية ساحة مفتوحة تتوافر فيها حرية البحث والتعبير عن الرأي، لكن لها معادلاتها وتعقيداتها الشائكة، كما أن الساحة العراقية في ظل نظام صدام تمثل أسوأ وضع قمعي، ووجود نماذج شقت طريقها وتصدت لمعالجة الهموم والمشاكل المحلية في الساحتين دليل على إمكانية مثل هذا التوجه ضمن ظروف أي بلد ومجتمع.

إنني أهيب بالكفاءات العلمية من أبناء مجتمعاتنا للتوجه بقدراتهم البحثية لمعالجة قضايا مجتمعاتهم، وليسهموا في مسيرة البناء والتنمية لأوطانهم، فالفقيه الشيعي في بلده مواطن مسلم، عليه أن يتحمل مسؤوليته تجاه وطنه ومجتمعه ودينه، وألَّا يسجن نفسه ضمن القبيلة المذهبية المنكفئة عن التفاعل مع تطورات العصر وقضايا الوطن.

 



[1]  عضو الهيئة الاستشارية للمجلة.

[2] الشريف الرضي: نهج البلاغة، قصار الحكم 17.

[3] مغنية: محمد جواد، في ظلال نهج البلاغة، ج4 ص226، الطبعة الأولى 1973م، دار العلم للملايين، بيروت.

[4] الحر العاملي: محمد بنالحسن، تفصيل وسائل الشيعة، حديث رقم 30120.

[5] المصدر السابق، حديث رقم 30125.

[6] الأردبيلي: أحمد بن محمد، مجمع الفوائد والبرهان، ج3 ص436.

[7] الخميني: السيد روح الله الموسوي، صحيفة النور، ج21 ص98.

[8] السبحاني: الشيخ جعفر، البلوغ، الطبعة الأولى 1418هـ، مؤسسة الإمام الصادق، قم.

[9] الشهيد الثاني: زين الدين بن علي العاملي، منية المريد في آداب المفيد والمستفيد، ص 92، الطبعة الأولى 1409هـ، مكتب الإعلام الإسلامي، قم.

[10] سورة التوبة 122.

[11] شمس الدين: محمد مهدي، الاجتهاد والتقليد، ص91-92، الطبعة الأولى 1998م، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، بيروت.

[12] الشخص: السيد هاشم، أعلام هجر، ج1 ص173، الطبعة الثانية 1416هـ، مؤسسة أم القرى، قم.

[13] البلادي البحراني: الشيخ علي، أنوار البدرين، ص317 ، الطبعة الثانية 1407هـ، مكتبة المرعشي النجفي، قم.