شعار الموقع

جذور العنف في السياسة العربية

إدريس هاني 2007-09-20
عدد القراءات « 923 »

 

* مدخل

تقتضي المنهجية العلمية الحديث عن ظاهرة العنف وجذوره في السياسة العربية على أساس جملة الشروط الذاتية والموضوعية، التي تجعل العنف خاضعاً لسلطة العلل الأربعة بالمعنى المنطقي التقليدي للعبارة؛ أي لا بد من وجود علة وصورة وأداة وغاية للفعل العنفي حيثما تجلّى هذا العنف. غير أننا ننبه ابتداءً إلى أن الحديث عن جذور العنف في السياسة العربية، لا يراد منه هاهنا إبراز الظاهرة العنفية العربية كما لو كانت استثناءً في المشهد الدولي أو استثناءً لجوهر الكائن العربي حيث بات يقدم نمطيًّا بكونه ذلك الكائن العنفي بامتياز. إن الحديث عن الخصوصيات الذاتية في قبال الأنماط الكونية الموضوعية لا ينبغي أن يفهم منه سوى الحديث عن عوارض ذاتية وليست جواهر ذاتية بمدلولها الفلسفي، يجعل العنف ذاتيًّا للذات العربية، حتى يمكن القول حينئذ: إن الذاتي لا يعلل، أو كما مثل لها ابن سينا ذات مرة بمثال المشمشية للمشمش. إن الحديث عن الذاتي والموضوعي هنا، إجرائي محض. إذ من شأن الموضوعي أن يحدث استجابات سلبية في الذات العربية تجعلها مع طول الأمد تعبر عن نفسها وبصورة تبدو ذاتية صرفة، بشروط الموضوعي نفسه. نقول باختصار شديد: إن مفهوم الذاتي في هذه المقاربة ليس سوى العوارض الذاتية التي تتمثلها الذات بنوع من الرسوخ، من فرط الحضور المكثف للإكراهات الموضوعية. بهذا المعنى ليس الإنسان العربي استثناء في الكون سوى أن يكون كغيره متفاعلاً بشكل إيجابي أو سلبي مع جملة الشروط التاريخية السوسيو-ثقافية والدولية، التي ترسّخ أو تؤبّد أو تساهم أو تعوق أو غيرها من أنواع التأثيرات السلبية والإيجابية التي تنتج ما يسمى في نهاية المطاف بالخصوصية العربية.

ويضاف إلى ذلك ضرورة تحديد مفهوم الخصوصي وعلاقته بالكوني في أي مقاربة من هذا القبيل حتى لا يقع الباحث في محذور استثناء الذات الجماعية ومنحها قواماً جوهرانيًّا قلَّما يستحضر تفاعل الذات مع متغير العوارض الداخلية والخارجية. فنقول باختصار شديد: إن الخصوصي ليس سوى نتيجة حتمية للكيفية التي يتم بها تفاعل الذاتي مع الكوني؛ أي هي صورة لتشخص الكوني في خبرة جماعية خاصة. حيث لا وجود للكوني سوى في صقع الأذهان. فما أن يتشخص الكوني حتى يجد نفسه في صورة من صور الخصوصي نفسه. إن الخصوصي هو نفسه الكوني مشخصاً في تجربة جماعية ما، وليس مقابلاً للخصوصي على نحو الثنائية الضدية. وهذا الجدل القائم بين الكوني والخصوصي، يتيحه فعل التكيّف بممكناته الافتراضية.

على أساس الملاحظتين المذكورتين يمكننا الحديث عن جذور العنف في السياسة العربية، من منظور العارض لا الجوهر.. ومن منظور ديناميكي يجعل العنف بالنتيجة ظاهرة حتمية لجملة الشروط الموضوعية وليس معطى جوهريًّا للذات يكاد يصورها المحلل الخارجي على أن العنف ذاتي لها. وهذا ما يستدعي كافة المقاربات التاريخية والاجتماعية والثقافية... للعنف.

* تاريخية العنف في السياسة العربية

إن مجرد الحديث عن تاريخية العنف في السياسة العربية يكفي دليلاً على أنه عارض على مجمل الذات العربية وليس ذاتيًّا لها. وهذا التركيز على تاريخية العنف وعرضيته على الذات العربية ليس تبريراً لإبراء ذمة الذات العربية من النزوع العنفي في اجتماعها السياسي، بل إنها ضرورة تحليلية تبحث في جذور العنف، وتبرز مداخله على الذات. فإذا كان الذاتي لا يعلل فإن العرضي على عكسه قابل للتعليل. وهذا ما يجعل التحليل ممكناً. فالاجتماع العربي يشارك في خطوطه الكبرى كل الاجتماع الإنساني في تاريخيته المتعاقبة والمتعددة المسارات. فالمجتمعات البشرية بما فيها المجتمعات الغربية، عبرت عن حصتها التاريخية من العنف ولا تزال تعبر عنه بكيفيات مختلفة، وإن ظل الجوهر العنفي حاضراً بشكل من التعويضية أو لنقل التصريف الناعم لكثير من مصاديق الفعل العنفي في السياسة الداخلية والخارجية لهذه الدول على السواء. إذا كان العنف عارضاً على الاجتماع العربي، فلا شك أن له تاريخ. فما هي تاريخية العنف في السياسة العربية؟

لقد رافق الفعل العنفي الممارسة السياسية العربية عبر أطوار تشكل الاجتماع السياسي العربي مروراً ببروز الدولة الوطنية وانتهاء بتشكل إيديولوجيات الدولة البديلة؛ أي الدولة الثورية. وقد ظل العنف يعبر عن نفسه بمستويات متعددة خلال كل أطوار وأنماط الاجتماع السياسي العربي. بل ظل العنف إن بصورته العارية أو الناعمة، هو الثابت ضمن جملة المتغيرات في السياسة العربية. فكان النموذج الإرشادي للسياسة العربية هو فعل القمع المستدام، وبناء أحلام ومجد السلط على حساب الحريات العامة وحقوق المواطنة.. كما وبناء موجبات المواطنة على حساب استحقاقاتها المشروعة. ومع أن مفهوم الراعي والرعية أدى دوره في أنماط الاجتماع العربي التقليدي، ونشأت في سياقه آداب سلطانية أسست لما هو أمثل من كل إمكانات النمط الاستبدادي التقليدي؛ أي مفهوم المستبد العادل الذي يسخر استبداده في حماية الحقوق، وجعل الرعية متساوية في الحقوق والواجبات، عبر تمثل وظيفة ظل الإله في الأرض، وتمثل صفاته في العدل والرحمة. حيث بات كل شيء داخلاً في الآداب وأخلاقيات الملك وليس لازماً في حقه؛ حتى الوفاء بالعهد ظل من الآداب المنصوح بها للملوك وليس قاعدة ملزمة ولا حتى عقداً بين الراعي والرعية. فالآداب السلطانية كما يقدمها صاحبها هي وفاء ومحبة للأمير وليست قائمة مشروعة لمطالب مطروحة بإلحاح وبموجب التعاقد الملزم.. بل هي حماية لسلطان الحاكم وليس حماية لسلطان الدولة. حيث قاسوا عمر هذه الأخيرة بعمر الحاكم. فالدول تدور مدار الحاكم وجوداً وعدماً. لكن الشكل التاريخي للسلطة العربية، حاد في معظمه حتى عن هذا القدر الذي تتيحه فكرة المستبد العادل، وازداد الوضع سوءاً مع ظهور الدولة الوطنية الحديثة بشروطها ونمطيتها التي قطعت مفهوميًّا على الأقل، مع نمط دولة الرعايا ومفهوم المستبد العادل. لم تتحقق القطيعة العملية مع النمط التقليدي للسلطة العربية، وكان هذا كفيلاً بأن يعرضها في صورة النمط الأعنف للسياسات في العصر الحديث. لقد تماهى مصير الدول في العقل السياسي العربي مع مصير شخص الحاكم. وهذا معناه أن زوال الدول هو بزوال شخصية الحاكم. ومع استحكام العصبية بالدولة العربية أصبح لزاماً أن يقال وفق المنظور الخلدوني للدول: «أن الهرم إذا نزل بالدول لا يرتفع»[1]. لا بل إن وظيفة الحاكم في الآداب السلطانية بلغت حدًّا من الشطط، جعل من ممكناتها بل ومن علامات عزتها، الاستئثار بالماء والهواء فضلاً عن الرأي. ونظيره ما ذكره الجاحظ: «وأولى الأمور بأخلاق الملك، إن أمكنه التفرد بالماء والهواء، ألا يشرك فيهما أحداً، فإن البهاء والعز والأبهة في التفرد»[2]. وهذا غاية التعبير عن الموقف السلبي من الشراكة السياسية التي ظلت هي النقيض الطبيعي للنسق السياسي العربي، حتى أنهم في منتهى انفتاحهم على التراث الفلسفي اليوناني، انفتحوا على كل الأفكار الفلسفية بمختلف مشاربها أفلاطونية ومشائية، إلا مفهوم الديمقراطية ظل جزءاً لا يتجزأ من اللامفكر فيه في الفكر العربي الوسيط، وهي حالة فارقة في النموذج العربي، وفق الملاحظة التي أكد عليها علي عبد الرازق في (الإسلام وأصول الحكم). لولا أن ظل بعض الاستثناء قائماً، كما في (الضروري في السياسة) لابن رشد أو (مقامة السياسة والإشارة إلى أدب الوزارة) للسان الدين بن الخطيب[3]وما شابه.

ولم تزل الدولة العربية تواصل تقدمها وتحرز مكتسبات جديدة حتى داهمها نموذج الدولة الثورية التي وقفت من الديموقراطية موقفاً سلبيًّا، واستحضرت نمط المستبد العادل، الذي يقود الأمة بالوكالة وبقهر الحديد والنار إلى مرافئ التقدم والتنمية. إن فشل الدولة العربية في نمطها التقليدي أو الثوروي في بناء سياساتها خارج منطق العنف العاري، جعل من العنف حالة تكاد تكون بنيوية في طبيعة تشكل واستمرار الدولة العربية. وقد ساهمت الهزائم والإخفاقات المتوالية في تكريس هذا النمط المتحكم المفرز لأنواع العنف السياسي والمؤسس لخطاب العنف السياسي. ما يعني أن وجود الاحتلال للأراضي العربية لعب هو الآخر دوراً سلبيًّا على صعيد تطور النسق السياسي العربي خارج النموذج الإرشادي العنفي. وهو ما سنتطرق إليه بعد قليل. سيظل العنف ظاهرة بارزة في السياسات العربية نتيجة هشاشة الدولة العربية ونتيجة الثقوب التي تحيط بأسوار الكيان العربي. حيث ما لم تنجح في إكمال مشوار الإصلاحات المستوحاة من أولويات الإكراهات الداخلية والموجبات الموضوعية، وليس الإيحاءات الاستعجالية المرتبطة بالمصالح الاستراتيجية الخارجية، فإن العنف سيظل عارضاً على السياسة العربية، وربما عبر عن نفسه بصورة أكثر قسوة وعراء، مع كل فشل أو إخفاق واندحار عربي. لقد شكلت السياسات العربية الخاطئة الإطار الموضوعي لبروز أشكال أخرى من العنف؛ ذلك العنف البيني الداخلي، الذي بات يتهدد السلم المجتمعي العربي. مع ذلك، وفي الوقت الذي جربت الدول العربية كل أشكال التفكير الإيديولوجي للدولة المستبدة، إلا أنها لم تجرب النموذج القائم على دولة الحق والقانون؛ حيث لا زالت تهاب هذا الشكل من التجريب؛ وهو المحك الوحيد الذي لا يزال يتيحه الإمكان؛ فإلى أي حدٍّ يا ترى استجابت الإرادة السياسية العربية لهذا الرهان؛ تلك هي المشكلة!

* الجذور النفسية والاجتماعية للعنف في السياسة العربية

لم ينفك العامل التاريخي لتشكل الدولة العربية ونمط السلطة في الاجتماع السياسي العربي عن جملة الشروط النفسية والاجتماعية للعنف. ولا مجال للحديث عن عنف في السياسة العربية غير متصل بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالتكوين النفسي والاجتماعي والثقافي للمجال العربي. فثمة جدل بين التكوين الدولاني ـetatique  ـ والتكوين الاجتماعي، يجعل الفعل العنفي حتمية لهذا الجدل ضمن ما يمكن أن نسميه بتبادل أو تكامل الوظيفة العنفية للاجتماع العربي. إن شخص الحاكم في الدولة العربية يستلهم ثقافة العنف من المحيط السوسيو-ثقافي للعنف العربي نفسه. كما أنه في ممارسته السياسية يضمن رسوخ واستمرارية البنية العنفية في هذا المحيط. وفي زحمة هذا التبادل أو التكامل الوظيفي للفعل العنفي، يصبح سؤال الإصلاح أكثر تعقيداً. ويصبح الحديث عن إشكاليات مغشوشة من قبيل، من أين نبدأ في استئصال بذرة العنف؛ هل نبدأ من الاجتماع العربي، ومن الجذور الاجتماعية والنفسية والثقافية للعنف السياسي أم أننا نبدأ من إصلاح السياسات بوصفه مدخلاً ضروريًّا للحد من ظاهرة العنف في المحيط الاجتماعي. وأمام هذا النوع من الدور المنطقي ترتسم مفارقة الإصلاح في العالم العربي. فهل هو قدر الكائن العربي ألَّا ينضبط في دولة حديثة تقوم على الحق والقانون، أم أن الأمر يستدعي تحليلاً أعمق لهذه الظاهرة المركبة؟!

بعض التحليلات التي تكرس نمط العنف السياسي في الاجتماع العربي، تتشبث بالاستثناء العربي. وبكون الخصوصية العربية آبية لهذا النوع من الإصلاحات السياسية التي من شأنها أن تربك استقرار هذه الكيانات. فالكائن العربي وفق هذا المنظور أصبح غير قادر ولا قابل للشراكة والتشريك السياسيَّين. ومثل هذا التحليل نجده عند بعض المحللين خارج المجال العربي، نظير الخبير الأمريكي، صمويل هنتنغتون الذي أكد من خلال أطروحته في الصدام بين الحضارات، أن الغرب فريد وغير قابل للاستنساخ. وهو يعني هنا -ليس خصوص الثقافة الغربية، بل- التأكيد على أن مفهوم الديموقراطية وما يستتبعها من مفاهيم ومكتسبات الدولة الحديثة، حيث باتت على الأقل في عموماتها من المفاهيم الكونية خاصية من خصائص المجال الغربي[4].

يتحدث هشام شرابي بدوره عن النظام الأبوي في السوسيولوجيا العربية، بوصفه النظام الذي يؤبد نزعة استبداد السياسة العربية. وهو النظام الذي يضمن نشوءه واستمراريته من خلال النظام التربوي والعائلي. وقد بدا لشرابي أن مشكلة المجال العربي ومصدر تأخره هو استبداد هذه النزعة الأبوية بمجاله. بل لا مخرج إلا بالتخلص من النظام الأبوي العربي: «ولن يكون تغيير أو تحرير دون إزاحة الأب رمزاً وسلطة، وتحرير المرأة قولاً وفعلاً»[5]. إلا أن شرابي لم ير انسداداً لهذه المشكلة العربية، بل فتح لها إمكانات؛ لعل واحدة منها هو الموقف الإيجابي مما أسماه بالظاهرة الإسلامية الأصولية، حيث رغم ما يبدو من سلبياتها في نظر شرابي، من شأنها أن ترجّ صرح النظام الأبوي العربي رجًّا؛ «ذلك أنه تبعاً لمدى قدرة الأصولية على تفكيك بنى المجتمع الأبوي المستحدث، فإنها قد تساهم في تحقيق إمكانية الحداثة..»[6].

ولقد جاءت معالجة رجل الاجتماع العراقي علي الوردي للمجتمع العراقي بناءً على هذه الحقيقة التي عبّرنا عنها بتبادل الوظيفة العنفية في الاجتماع، حيث إن الاستبداد والعنف لا يتنزل من خارج الاجتماع، بل هو يتولد في قاع التشكل النفسي والاجتماعي للجماعة، حيث الاستبداد في نهاية المطاف والعنف السياسي ليس سوى تجلٍّ لما يختمر في صلب المجتمع. يلازم العنف والعنف المضاد الكائن العربي منذ نشأته وعبر كل مطارحه، داخل الأسرة وفي المدرسة وفي الشارع وفي الإدارة..إن العنف هو غذاؤه الوحيد الذي لا تحده المنفعة الحدية والذي يتمتع به إلى حد الشبع. بل إنه الهواء الذي يكاد يتنفسه بلا انقطاع في كل آن. فالشخصية العربية ركبت تركيباً نفسيًّا واجتماعيًّا وثقافية بحيث يصبح العنف ضرورة تكاد تكون حاجة أنطلوجية، تتردد ببن الفعل العنفي والانفعال العنفي؛ أي بقدر ما تفعل الذات العربية عنفاً فهي قابلة بالعنف في الوقت نفسه. يولد الإنسان العربي وقبله يوجد العنف ومعه وبعده. وفي دوامة العنف يصبح من المؤكد أن تنهض الدولة العربية نفسها بدور تحسيسي وتربوي ينسجم مع آفاق وتطلعات الاجتماع الحديث. وقد ينضاف إلى الجانب التربوي وشيوع ظاهرة العنف في الأسرة والإدارة والشارع، هذا القهر الذي يمارس على الإنسان العربي داخليًّا وخارجيًّا، والتهميش الذي يسلبه مقومات الإحساس بكرامته ويوفر له مناخاً مناسباً لنشوء قيم التسامح والعيش المشترك. فالقهر والتهميش والفساد السياسي والإداري هما عوامل مضافة إلى طبيعة الثقافة والتركيب النفسي والاجتماعي العربي في استمرارية العنف.

* الجذور الفكرية والدينية والإيديولوجية للعنف في السياسة العربية

لا يحضر العنف في المجال العربي مجرداً من أي مبرر ديني أو إيديولوجي. بل إن البنية العنفية من شأنها أن تفرز خطاباً للعنف يغذي ويتغذى على هذه الظاهرة. وبينما كان من المفترض أن تقوم الدولة بوسائلها التربوية على توجيه العنف إلى فضاء المشاركة الإيجابية في البناء[7]، حولته إلى قاعدة سلبية تدميرية، أربكت المجتمع العربي وحولته إلى قطيع من المواطنين من درجات متفاوتة. حيث الإيديولوجيات السياسية العربية تقوم على ضرب من التقسيم للاجتماع العربي بزرع التناقض بين مكوناته بحسب الولاء. إن الاجتماع في ظل الإيديولوجيا السياسية المستبدة هو مجتمع مخاصم لبعضه بعضاً ومنقسم على نفسه وصراعي مهما بدت وحدته المغشوشة، التي لعلها واحدة من مظاهر القابلية للاستعمار كما أكد على ذلك مالك بن نبي. لقد أظهر النموذج العراقي ما يمكن أن يرسخه الاستبداد أو يجلبه للمجتمع، ليس فقط على صعيد جلب الاحتلال، بل على صعيد الشرخ الاجتماعي الذي هو النتيجة الحتمية لسياسات التفرقة والتقسيم لمكوناته بحسب الأجندة السرية للاستبداد.

ليس الدين في ذاته مصدراً للعنف، أيًّا كان هذا الدين ما دام هو في مقاصده العليا رافداً للسلام والتسامح وإحياء العمران. والدليل على ذلك هو تعدد التعبيرات التي تنطلق من الدين الواحد، للتعبير به عن وجهتان على طرفي نقيض؛ إما عنف وإرهاب أو تسامح وسلام. وهنا يتعين الحديث عن اختلاف في التعبيرات الدينية تجد قاعدتها في اختيارات إيديولوجية أو مصالح اجتماعية أو جذور ثقافية للحامل الفردي أو الجماعي على السواء، فضلاً عن وجود الاستثناء الشاذ عن القاعدة في كل دين وفي كل جيل. ومن هنا حتى لو تحدثنا عن جذور اجتماعية وشروط موضوعية خارجية للإرهاب، فإن شطراً منه ظل ثاوياً في مجالنا السوسيو-ثقافي، ويستقي مقوماته من المخزون الرمزي الاحتياطي للعنف. ليس الدين أو الإيديولوجيا هي من يأتي بالعنف للإنسان، بل إن الإنسان يختزن من العنف ما هو في نفس الأمر ضروري لاستمرار الحياة، حيث العنف الإيجابي الذي يترجم في فعل البناء والعمران، غير العنف السلبي الذي يخرج عن موضوعه المقصود، لصالح العنف المؤسِّس والمؤسَّس على اللامعنى. إن الإنسان تحت طائلة ظروف شتى ينسج مع دينه وإيديولوجياه علاقة خاصة قائمة على تسويغ الفعل العنفي. فالإيديولوجيا هنا تخفف من وطأة تأنيب الضمير، وتمنح مسوغاً يجعل الإرهابي لا يحس بالاطمئنان تجاه جريمته فحسب، بل يصبح الإجرام واجباً مقدساً يمارسه بحماسة؛ في مفارقة صناعة الموت الجميل كما يحلم به الإرهابي الذي تمنحه الإيديولوجيا وعلاقته غير السوية مع التعاليم الدينية، من الإغراء ما يستسهل به قتل النفس المحترمة. إن الإيديولوجيا في هذه الحالة تقوم بدور المخدر، لموت عنيف، أراد له طالبه أن يزداد عنفاً ليزداد قداسة. والجذر الحقيقي لهذا النمط من العنف الذي هو بالنتيجة تجلٍّ آخر للعنف الثاوي في صلب التكوين العربي، يطلب في الشروط الاجتماعية والنفسية، وليس في الدين أو الإيديولوجيا التي ليس لها إلا أن تلعب دور رصاصة الرحمة التي تريح القاتل والمقتول.. العنفي والمعنف..في مجال مسكون بالعنف بوصفه ظاهرة اجتماعية راسخة وبوصفه ظاهرة في المجتمع بارزة. إن التعبير إيديولوجيًّا عن العنف، يؤكد على نزعة الطفالة التي تجعل الإنسان العربي ينسج مع إيديولوجياه علاقة غير سوية، تسوغ له كافة نزوعاته الطفالية. وما غلبة الإيديولوجيا على حاكم النظر المعرفي في المجال العربي سوى مصداقاً وحيداً للحالة اللاسوية والمضطربة للذات العربية. فالإيديولوجيا نفسها تصبح متنفساً أو مطية تسويغ العنف المرضي في المجال العربي[8]. وقد تكون واحدة من أهم مظاهر الوعي الشقي ما يمكن أن تقدم عليه الإيديولوجيا الانقلابية التي تحاول أن ترغم التاريخ على القبول بخيارها. حيث يصبح العمل الثوري مسوغاً للخروج من حال القداسة إلى فساد الضمير أحياناً[9].

* الشرط الدولي للعنف في السياسة العربية

تزامن تشكّل الدولة الحديثة مع ورود الاستعمار بوصفه أيضاً أكبر ظاهرة عنفية في التاريخ الحديث. أنتج الاستعمار واقعاً جديداً بفعل سياسة إعادة تشكيل المجال الكولونيالي ثقافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا. أصبح واضحاً أن الكيان العربي كثيراً منه أو قليلاً منه لا يزال مستجيباً لهذا الواقع، الذي حال دونه وتحقيق سيادته الكاملة. لقد اجتاح النمط الكولونيالي كل قطاعات الدولة العربية الحديثة. فهي ليست مجعولة للتعبير عن مصالحها المطلقة إلا بالقدر الذي تغدو فيه جزءاً من نظام استعماري غربي لا يزال يفرض واقع التدخل متى اصطكت مصالحه مع الكيان العربي. ليست الدولة العربية هي المسؤول الوحيد عن هشاشتها، وإن كانت المسؤولية تظل في ذمتها بالجملة. ذلك لأن الظرف الدولي هو نفسه يدفع باتجاه هشاشة الدولة العربية، وبالتالي باتجاه تشكلها العنفي السياسي، ما دامت الهشاشة لا تتكرس في الدول إلا على أساس العنف كما أن العنف تستدعيه هشاشة الدول أيضا. لقد نتج عن وجود المحتل الأجنبي في المنطقة العربية بدءاً بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وانتهاء بالاحتلال الأمريكي للعراق، موجة عنف عارمة، ساهم الاحتلال بشكل مباشر وغير مباشر في إذكائها. قد تكون الأرضية مناسبة لنشوب صراعات وحروب أهلية داخلية متوافرة في المجال العربي. غير أن الاستعمار يستطيع أن يعزف على وتر هذا الواقع التعددي الطبيعي[10]، بإذكاء العنف ونشر الفتن العرقية والطائفية، بناء على استراتيجيا الفوضى البناءة، التي هي المقدمة الأولى على طريق بناء الشرق الأوسط الكبير. وليس ذلك في نهاية الأمر سوى إعادة تشكيل المجال العربي على قاعدة كولونيالية جديدة، قوامها مزيد من التفتيت ومزيد من السيطرة. إن علاقة الاستعمار بالعنف علاقة عضوية. ويظل المجال العربي هو أكثر المجالات تعرضاً للغزو والاستعمار، ويظل التهديد قائماً ما دام هناك النفط مورداً استراتيجيًّا. حيث وجود إسرائيل في حد ذاته هو عامل استمرار للمعادلة الصعبة في المنطقة؛ أن يظل العالم العربي تحت سقف نمو محدد، وسيادة منقوصة، في ظل تفوق إسرائيلي مطلوب وبه فقط يتقوم مشروع الشرق الأوسط الكبير. إن العوامل الخارجية للعنف في السياسة العربية ستظل مستمرة ما لم يدرك العالم العربي خطورة لحظته التاريخية وتتشكل إرادته السياسية على أساس المناورة الضرورية، للخروج من طوق تحكم وأهداف الاستراتيجيات الكبرى، بمزيد من الانفراج ومنح التحرر والكرامة لشعوبه؛ حيث إن شعباً عربيًّا حرًّا مهما بلغ ثقل الرهاب من حرية الإنسان العربي وفوضاه المفترضة، هو وحده القادر على رفع مستوى وعيه وصلابة اختياراته السياسية وحماية أوطانه، والأهم من ذلك كله القدرة على إحباط المؤامرات الفعلية أو المحتملة.. ومع الحرية ينتفي موضوع العنف والعنف المضاد.. تلك هي الجذور الكبرى للعنف في السياسة العربية، والذي هو مسؤولية مشتركة يتحملها الجميع بقدر ما أنها لا تسقط عن ذمة الجميع. غير أن سؤالاً أساسيًّا يظل مطروحاً بإلحاح: من هو الفرفر الشجاع القادر اليوم في مجالنا العربي على أن يعلق الجرس؟

 

 



[1] ابن خلدون المقدمة ص 98 دار الفكر دون تاريخ.

[2] عز الدين العلام ؛ الآداب السلطانية، ص123 ؛ سلسلة عالم المعرفة ، عدد 324  فبراير 2006.

[3] حاولت الباحثة وداد القاضي أن تقدم مقارنة بين مواطن التشابه والاختلاف بين نص لسان الدين ابن الخطيب المذكور ونص لأفلاطون موسوم بـ: «العهود اليونانية».. لمزيد من التفصيل، انظر: عز الدين العلام؛ المصدر نفسه ص 15.

[4] لمزيد من الاطلاع، انظر صامويل هنتنغتون:  إدريس هاني، المفارقة والمعانقة: رؤية نقدية لمسارات العولمة وحوار الحضارات، الفصل الثالث: نهاية الحوار من أجل غرب منغلق، ص168 -190، ط1 - المركز الثقافي العربي 2001 - بيروت.

[5] د. هشام شرابي؛ النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي ص 17 ت: محمود شريح. مركز دراسات الوحدة العربية ط 2 - بيروت.

[6] المصدر نفسه ص30.

[7] يعتقد بعضٌ خطأً بأن الحل الوحيد لنزع العدوانية من الكائن البشري، يتم عبر استئصالها. والحق أن العدوانية هي خاصية الإنسان وحده من بين كل الكائنات التي تشاركه الحياة على هذا الكوكب. وليس انتزاعها إلا انتزاعاً للحضارة نفسها. وقد أكد الحكماء بمن فيهم المسلمون، ضرورة بقاء القوة الغضبية التي بها فقط تتم جملة من الأعمال الخيرة وهي التي تقف وراء الهمة والإحساس بالعزة والتفاني والتضحية وما شابه. إنما الحديث يجري عن إمكان التسامي بالعدوانية، وتوجيهها لجهة البناء لا التدمير. وكما يقول فاوستو أنطونيني: «إن قمع العدوانية يسبب ازدياداً في العدوانية». عنف الانسان؟ أو العدوانية الجماعية، ت: نخلة فريفر، معهد الإنماء العربي ط 1989 - بيروت.

[8] لمزيد من الاطلاع  انظر د. علي زيعور: انجراحات السلوك والفكر في الذات العربية، المركز الثقافي العربي ط 1 ـ 1992، بيروت.

[9] لمزيد من الاطلاع على معالجة نديم البيطار لمفهوم الإيديولوجيا الانقلابية ، انظر: إدريس هاني: خرائط إيديولوجية ممزقة، ص 63 - 71  الانتشار العربي ، ط 1 - 2006 - بيروت.

[10] يتحدث بيار جورج عن جيو-ستراتيجيا الأقلية، بالتساؤل التالي: «ماذا لو أصبحت النزعات الإثنية معياراً للنظام الدولي المقبل؟».. ثم يقول: «وهي علاقة تظهر تنوع وتكاثر قابليات التفكك المتأتية عن كل شكل من أشكال النمو والاستبداد». انظر مدارات غربية، العدد 6 أيار/ مايو 2005، ص78. أقول: إن هذا التساؤل لم يغب عن المنظور الاستراتيجي للدولة العظمى؛ حتى أن أطروحة الصدام بين الحضارات لصامويل هنتنغتون هو تعبير عن وجود هذه المعيارية والحث على أخذها بعين الاعتبار ، حيث النموذج الحضاراتي ليس بعيداً كل البعد عن النموذج العرقي الذي هو الوعاء الأساسي لهذه النزعة الثقافوية. وإلا فإن هنتنغتون يتحدث بهذه النزعة العرقية التغالبية داخل الولايات المتحدة نفسها ، حيث أشار إلى تهديد العزو الثقافي الميكسيكي وغيره ، الذي سيجرف الهوية الحقيقية للولايات المتحدة؛ أي الهوية الانغلوساكسونية. إنما يتعين الحديث عن أن وجود التعددية ليس داعياً ولا مؤسِّساً للقابلية للتقسيم ، فلا شيء تطور في الموضوع سوى أن التحرش الدولي بهذه الدول الضعيفة يوحي بتصاعد قابليات التقسيم؛ إذ لو صح ذلك لكان أولى بتفكك الأقطار الغربية برمتها، لوجود هذه القابليات أيضاً. نقول: إن القابلية تنشأ من تواطأ عاملين: التحرش الخارجي والاستبداد الداخلي. وفي كلتا الحالتين هناك العنف السياسي!