شعار الموقع

التجديد الحضاري والحاجة إلى المنظور الاستخلافي وثقافة التعارف الحضاري

د. عبد العزيز برغوث 2007-09-20
عدد القراءات « 1637 »

[1]*

* مقدمة

إن مسألة التجديد الحضاري للأمة أمست من أكثر الأولويات إلحاحاً، ومن أخطر القضايا التي تستدعي اهتماماً خاصًّا ورعاية فائقة لما تحتله من موقع ودور حاسم في استنهاض الأمة وتوجيه طاقاتها نحو ميادين الفعالية الحضارية العالمية، والإنجازات التاريخية التي تكون في مستوى المرحلة وتتناسب ومتطلبات الواقع الحضاري المعولم واستحقاقاته. إن تجديد مجتمع ما أو ثقافة ما أو حضارة ما بحاجة إلى نظريات ومناهج علمية منظمة ومخططة. والحديث عن التجديد في الفكر الإسلامي سواء أكان تجديداً في الوعي أو المناهج أو المعرفة أو الفكر أو الشخصية أو الثقافة أو السياسة أو الاقتصاد أو الحضارة عموماً إنما هو في جوهره عمل تغييري منهجي استراتيجي. وهذا العمل التغييري يدخل في نطاق ما يسمى في العلوم الاجتماعية والإنسانية والسلوكية المعاصرة بـ«نظريات التغيير الاجتماعي ومناهجه». وقد تطورت هذه العلوم في دراسة وتعميق نظريات التغيير الاجتماعي ومناهجه بشكل كبير. وظهرت نظريات كثيرة تصب كلها في التعامل مع تغيير الفرد والمجتمع والثقافة والحضارة[2].

ومن هنا فهذا البحث يحاول تناول مسألة التجديد الحضاري في ضوء الإطار العام الذي يأخذ بعين الاعتبار هذه النظريات، وبعض خصائص المنهج والإطار المعرفي الإسلامي في تناوله لمسألة التجديد الحضاري مستحضراً وضع الأمة الإسلامية الحالي، وكذلك التحديات التي تواجه العالم كله في عصر العولمة والحضارة العالمية المتشكلة، وكذلك بعض التحولات الإيجابية في الوعي الإسلامي المعاصر وبشكل خاص في منظومة الحركة الإسلامية التي يقول عنها أحد الخبراء المتمرسين في دراستها: «والحركة الإسلامية المعاصرة اليوم يتشكل فيها تفكير جديد ومنهجية جديدة، هي أقرب إلى النسبية من الإطلاقية، وإلى الواقعية من المثالية، وإلى الوسطية من التطرف، وإلى البناء من الهدم، وإلى التفصيل من الإجمال»[3].

والبحث لا يعالج النظريات والمناهج والأدوات التحليلية المستعملة ضمن أنساق التحليل الاجتماعي المعروفة، ولكن سيحاول فقط تحديد بعض المداخل والموضوعات الأساسية التي ينبغي لخبرات التجديد الحضاري الإسلامي المعاصر التوجه إليها والاهتمام بها فهماً واستفادةً وتوظيفاً. ويرى البحث أن التجديد الحضاري[4] هو ذلك الفعل الجماعي المخطط الذي ينطلق من نظرية ومنهج ومشروع ووعي ومؤسسات تستوعب بعمق الوضع القائم للإنسان والمجتمع والأمة، وتحدد بدقة مكامن الخلل[5] فيها وترصد مدى انسجام وعيها وحركتها ونشاطها وسلوكها مع النموذج الحضاري التوحيدي، وتقوم بالتغيير اللازم في الأشخاص والأفكار والمؤسسات وذلك من أجل إحداث التوازن في حركة الأمة وتأهيلها لممارسة الشهود الحضاري[6] وفقاً لتوجيهات الوحي، وتفاعلاً مع معطيات الواقع الإنساني المعولم[7].

إن الكثير من مفكري الإسلام المعاصرين والباحثين[8] المهتمين بقضايا التجديد والتغيير الحضاري، يحاولون منذ مدة طويلة تجديد هذه الأمة الإسلامية التي أقعدتها قوى التخلف والضعف عن أداء رسالتها التاريخية الحضارية، وخذلتها الكثير من أيدي الاستضعاف والاستلاب عن استرجاع حيويتها الحضارية. وقد ظهر مفكرون[9] ينادون بتجديد هذه الأمة، كما أُنتجت أفكار ونظريات وأدبيات تجديدية[10] وتغييرية تسعى كلها إلى تفعيل قوى الأمة وتوجيهها نحو مسالك التجديد الحضاري المعاصر. فإذا كانت الكثير من النظريات والمناهج التي أُنتجت في العالم الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين تتعامل مع ظاهرة التجديد[11] بصورة عامة، وبشكل لا يُخضعها للمنهج العلمي، فإن التطورات التي أخذت حيزها في النصف الثاني من القرن العشرين أسهمت في تغيير النظر إلى قضايا التجديد الحضاري والتغيير الاجتماعي عند بعض المفكرين المسلمين الذين اتخذوا من موضوع الأمة وحضارتها[12] وتغييرها موضوعاً علميًّا للدراسة.

وعلى الرغم من وضوح الحاجز الفاصل والفارق الواضح بين طبائع العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية، وأنساقها الفلسفية والمعرفية وأدواتها المنهجية والتحليلية، وعدم تماهيها مع الواقع والثقافة الإسلامية المعاصرة، ومغايرتها الواضحة لطبائع الثقافة ونماذج الحضارة الإسلامية إلا أن عملية الاستفادة من بعض هذه المناهج والأدوات في التحليل قد يكون ضرره أقل من نفعه إن استطعنا تكييفها مع نسقنا الإسلامي المغاير، وهذا بالضبط الذي ينبغي أن تضطلع به مؤسسات التجديد وحركات الوعي الحضاري ذات العمق الاستخلافي والوعي السُنني[13]. والرؤية الحضارية المتكاملة.

إن هذا البحث يحاول أن يعرض بعض الأفكار ذات الصلة بموضوع التجديد الحضاري والإطار المنهجي المطلوب لدراسته بشكل موضوعي. وعلى الرغم من وجود دراسات[14] في هذا المجال إلا أن البحث يحاول أن يعيد تقديم تصور للمسألة يكون أكثر تكاملاً وشمولاً حتى يتمكن الباحثون من إعادة فهمه في ظل أوضاعنا وظروفنا القائمة. والبحث الحالي يحاول أن يعالج بعض القضايا المتعلقة بالإطار المنهجي العالمي المطلوب لتجاوز وضع التخلف وحالة العجز عن التفاعل مع العالم وأحداثه. وإن أقصى ما يصبو إليه البحث هو فتح نقاش متجدد في قضايا التجديد الحضاري ومشكلاته الكبرى[15]، منبهاً على بعض المسائل المعرفية والمنهجية الضرورية.

أولاً: الإطار المنهجي لدراسة مسألة التجديد الحضاري

1-  أهمية ترسيخ الوعي على ضرورة المعالجة المنهجية الإستراتيجية لمسألة التجديد الحضاري

لا شك في أن أهم وأخطر قضية على طريق دراسة مشكلات المجتمع المسلم وتحليل قضايا التجديد والتغيير في المجتمعات الإسلامية هي قضية «وحدة تحليل هذه المشكلات» بمعنى الوحدة الأساسية التي ينبغي أن ينطلق منها الباحثون لدراسة المشكلات. هل هي الفرد أو الأسرة أو القبيلة أو المجتمع أو الأمة أو الحضارة أو غيرها. فمن هذه النقطة تنطلق عملية بناء أنساق التحليل وأدواته ومناهجه ووسائله وتطبيقاته. إن أهم شيء ينبغي التفكير فيه اليوم هو صياغة الوحدة التحليلية الأساسية أو الإطار التحليلي[16] والمناسب لمعالجة قضايا التجديد الحضاري. وفي هذا السياق ينبغي التنبيه إلى أن «الحضارة»[17] نفسها بوصفها وحدة للتحليل في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية أصبحت في كثير من الأحيان غير قادرة على تقديم التفسيرات الموضوعية لبعض المشكلات، والظواهر العالمية ذات التأثير والحضور العالمي.

إن أول ما ينبغي تطويره على طريق التحليل الحضاري العالمي لمسألة التجديد[18] الحضاري للأمة هو أن نُشكّل الإطار أو المنظور الموضوعي المناسب لواقع العالم اليوم. وبعد أن نختار الإطار أو النسق أو المنظور التحليلي المناسب نعمل بعد ذلك على تطوير جملة الأدوات المنهجية والمعرفية والتطبيقية التي تساعد على دراسة مشكلات التجديد الحضاري وقضاياه. إن جهد حركات الوعي والتجديد الحضاري المعاصرة ينبغي أن ينصب حول تطوير هذا الإطار النظري الحضاري لدراسة مشكلات الحضارة ومعالجتها بشكل منهجي علمي. وينبغي المبادرة إلى القول إن أي منظور أو إطار معرفي ومنهجي لدراسة قضايا التجديد ينبغي أن يستوعب تحولات العالم القائمة، ويتفاعل مع التغيرات الخطيرة والمهمة التي تأخذ حيزها في الوعي والفكر والسلوك والشخصية والثقافة ومناهج العلم والبحث وتقنيات وتكنولوجيات ووسائل الأداء والإنجاز على مختلف المستويات. ويحاول هذا البحث أن ينبه إلى ضرورة الاهتمام بالإطار العالمي لتحليل مشكلات التجديد الحضاري. أي العمل على دراسة مشكلات التجديد وفق المنظور العالمي المتكامل للتحليل.

وعليه فإن الذي سيتصدى لمعالجة مشكلات الأمة والبشرية في ضوء العالمية والعولمة ينبغي أن يكون على وعي تام بالتحولات الضخمة في مناهج المعرفة والتفكير والاجتماع والإدارة والتنظيم، وأن يكون على دراية بطبائع الحياة والعيش في المجتمع المعولم عالميًّا وفي المراحل المقبلة للعولمات المركبة[19]. إن مفاهيم ما بعد الحداثة، ومجتمع المعرفة، واقتصاد المعرفة، ومجتمع المخاطر، ونظم التحليل العالمية. وإن الدراسات الخاصة بالهندسة الوراثية، والخرائط الجينية والاستنساخ البشري. وإن التطورات الضخمة في علوم الكون والفيزياء والبيولوجيا. وإن المشكلات الكونية الخاصة بالبيئة والفقر والصحة والأمراض والحروب والجرائم العالمية. وإن الإسهامات الكبرى لعلوم الاستراتيجية وغيرها من العلوم... إن كل هذه الأمور تشكل مادة ضرورية لبناء مناهج ومعارف جديدة تُعنى بدراسة الاجتماع البشري الإسلامي والإنساني في عصر العولمة والعالمية.

2-  ضرورة الوعي بطبيعة تشكيل الإنسانية في وضعها الحضاري العالمي[20]

تعيش الإنسانية اليوم وضعاً عالميًّا[21] حساساً ومعقداً ومحرجاً للغاية. والإنسان الذي يعاصر في هذه اللحظات التاريخية الكبرى تحولات ضخمة، ومعقدة، وسريعة في مجال المعرفة والمعلومات والوعي، وفي ميدان الوسائل والتقنية والتكنولوجية، وفي حقل التنظيم والإدارة والتخطيط، وفي ساحة القوة والسلطة والحكم، وفي عالم السلوك والثقافة والاجتماع والاقتصاد والسياسية والعلاقات الدولية والحضارة والتربية والتعليم... إن هذا الإنسان يشهد وضعاً حضاريًّا عالميًّا متميزاً عن مختلف الفترات التاريخية الكبرى التي مر بها الوعي البشري. إن الحضارة الإنسانية اليوم تسجل على محور التاريخ أعظم لحظات الترقي والنمو الحضاري في ميادين الحياة المختلفة من جهة، وتواجه أصعب المشكلات والمعضلات الشمولية في مختلف ميادين الحياة كذلك من جهة أخرى. والوعي الحضاري الإنساني يتفاعل اليوم في عصر العالمية بشكل مركب ومعقد. والثقافات الإنسانية الكبرى مثل: الثقافة الإسلامية، والثقافة الصينية، والثقافة الغربية، والثقافة الهندوسية، والثقافة الكونفوشيوسية والثقافة اليابانية، والثقافة الإفريقية والثقافة السلافية والثقافة المسيحية الأوروبية والأمريكية بمختلف تنوعاتها توضع اليوم في وضع التلاقي والتماس المباشر إما على خطوط المواجهة والصراع أو على خطوط التوافق والتشارك والتفاعل والتعارف أو على خطوط الرغبة في الانسحاب والتراجع والانعزال[22] والتهمش دون أن يكون قادراً على ذلك. يقول حامد الربيع واصفاً وضع العلاقات والارتباطات بين الحضارات والثقافات فيما مضى من التاريخ:

وواقع الحال أن العلاقة بين الحضارات عرفت أربعة نماذج عبر تاريخ البشرية: النموذج الأول هو الانعزال، فكل الحضارات القديمة (حضارات وادي الرافدين - الفرعونية - الفارسية - الرومانية) أغلقت على نفسها الأبواب ورفضت أي تعاون خارجي، الاستثناء الوحيد في هذا الصدد هو الحضارة اليونانية. النموذج الثاني هو علاقة التزاوج والإخصاب. الحضارة العربية الإسلامية في تعاملها مع الحضارات الأخرى نبعت من هذه العلاقة، فقد أقبل المجتمع العربي ابتداء من العصر الأموي على فلاسفة الفكر اليوناني وعلى معالم الخبرة الفارسية ينهل ويستقي من جزئياتها بما يسمح له ببناء إطار متكامل للحضارة، وهنا علينا أن نذكر أن المجتمع العربي لم يقبل أي ثقافة دون مراجعة، وإنما أخضع جميع الثقافات الآخرى لعملية إعادة صياغة كاملة وذلك لأن الثقافة العربية نابعة من إطار إيديولوجي وتتبلور حول نظام قيم صاغ مفاهيمها القرآن وأحالها إلى حقيقة حية من خلال ممارسة النظام السياسي والاجتماعي الذي أسسه الرسول الكريم. النموذج الثالث هو علاقة الاستمرارية بمعنى الاستقبال لا الإخصاب والتقليد من دون القدرة على البناء والتشييد، العلاقة بين الحضارة الغربية والحضارة الرومانية تطبيق لهذا النموذج وخصوصاً في المجالين النظامي والقانوني... والنموذج الرابع هو علاقة التسمم وهو ما تتعرض له الثقافات والحضارات غير الغربية وبدرجات متباينة ومختلفة من حضارة إلى أخرى وخصوصاً منذ القرن التاسع عشر وبشكل محدد من قبل الحضارة الغربية[23].

ولئن كان هذا التوصيف للعلاقة بين الحضارات مقبولاً وصالحاً لتفسير وضع العلاقة في بعض مراحل التاريخ الإنساني فإن الأمر اليوم يتطلب نموذجاً تفسيريًّا أخر يكون أكثر مناسبة لوضع الحضارات المعولم. ومن النماذج التفسيرية ما يشير إليه هادي المدرسي في قوله: صحيح أن العالم سيبقى منقسماً مهما تفاءلنا، ولكن الانقسام لن يكون بالضرورة بين إمبراطورية الخير وإمبراطورية الشر، ولكن سيبقى العالم منقسماً بين أربع معسكرات؛ معسكر الخير النسبي، ومعسكر الشر النسبي والمعسكر الثالث هو مزيج من الخير والشر، ومعسكر رابع لا هو بالخير ولا هو بالشر بل هو خامد لا دور له في أي شيء[24]. إن هذا التقسيم كذلك لا يوضح بالشكل الكافي حقيقة وطبيعة العلاقات بين الحضارات في عصر العولمة لأن الوضع الطبيعي للأشياء في عصر العولمة هو وضع الحركية الشاملة والتدافع الكلي بين مختلف القوى. فلا وجود فيها لا للساكن الخامد حتى ولو أراد البعض السكون والخمود والانعزال والتهمش والانسحاب فإن قوى التدافع المعولمة لا تسمح بذلك لوقت طويل. فوضع العولمة هو وضع الصيرورة والتغير سواء سلباً أو إيجاباً، ضعفاً أو قوةً، صعوداً أو نزولاً، استمراراً أو انقطاعاً. ولما كان الوضع هو وضع التدافع فإن من الأفضل أن نتبنى نموذجاً تفسيريًّا مؤسساً على فكرة التدافع والصيرورة. وفي ضوء هذا النموذج يمكن تصنيف أشكال التدافع الحضاري العالمي البشري في أربع أشكال. «شكل يُظهر لنا صراع البشر من أجل التداول التعاقبي بين النوازع الخيرة أو النوازع الشريرة في الكيان الإنساني أولاً، وشكل يبين لنا تدافع بين قوى حضارية ناهضة، تعمل من أجل الانفكاك من تبعات التخلف والتبعية والاستضعاف، وشكل يعكس تدافع قوى حضارية منافسة على المواكبة واقتسام النفوذ الحضاري مع المتنفذين، وشكل يُظهر تدافعاً مريراً بين قوى حضارية نافذة ومهيمنة، تعمل على المحافظة على ريادتها، وديمومة نفوذها. فالكل يحرك دفعه أو مدافعته نحول التداول الحضاري؛ إما سيراً نحوه، وإما محافظة على البقاء فيه»[25].

إن طبيعة وأوضاع الواقع الحضاري العالمي المعاصر وبفضل التطور المذهل في وسائل الاتصال والتقنية والتكنولوجيا والإدارة والتنظيم يضع كل الثقافات الإنسانية المعاصرة في موقع الحرج الحضاري والحساسية الحضارية؛ حيث الصراع أو التعايش أو الإقحام لكل من يريد الانعزال والانسحاب والخمود. والمنطق الحضاري المعاصر يضع الثقافات الإنسانية إما في موقع الصراع ومنطقه المدمر، أو في موقع التعايش ومنطقه التوفيقي، أو موقع الإقحام ومنطقه الرافض والراغب في الانكفاء والانسحاب دون جدوى. ومهما كان الأمر فإن المواقع الثلاثة هي مواقع حركة وفعل. فإذا كان منطق المصارع والمتعايش يعلنان صراحة عن وضعهما ونيتهما في الصراع أو التعايش؛ فإن منطق الإقحام والإرغام والرغبة في الانعزال -على الرغم من أنه قد يبدو منعزلاً أو مقاوماً- إلا أنه بالفعل وفي ظل منطق الحضارة العالمية المعاصرة سيصبح من أصحاب الشأن المعتبر في الأحداث العالمية. فالوضع العالمي وقوى الحضارة والثقافة العالمية المعاصرة لا تسمح للثقافات بأن تنعزل وتبقى بعيدة عن مواقع التماس والتلاقي الحضاري حتى ولو بدا لنا نحن المعاصرين أن هذه الثقافات منعزلة أو تعلن عزلتها وحيادها وخمودها. والواقع اليوم يفرض على الثقافات منطق الإقحام في معترك الوعي العالمي. فالثقافات المعاصرة إما أن تتجدد وتتفاعل وتكتسب مقومات وعوامل الحيوية والنمو والفاعلية الحضارية المنتجة؛ وبهذا التجدد تكون قادرة على مواجهة أوضاع وظروف التشكيل الحضاري العالمي المعاصر، وهذا النوع من التجدد يمكن تسميته بالتجدد الحضاري الحيوي المبدع. وإما أن تتوقف هذه الثقافات، وتحاول المحافظة أو التمسك بأوضاعها القائمة فتعيش مراحل التخلف عن الوعي، والمرحلة، وحركة الوعي العالمي المعاصر القوية، فتتعرض بالتالي لهزات وصدمات داخلية وخارجية؛ وفي هذه الحالة تكون نسبة نجاحها أو فشلها في مشاريع التحولات الحضارية المعاصرة غير واضحة، ولا خاضعة لأي معيار أو مقياس يبين قدرة هذه الثقافات، وإمكانات تفاعلها وتطورها. وبالتالي تكون هذه الثقافات في وضع يمكن تسميته بوضع فقدان إرادة المبادرة الحضارية اللازمة لأي تطور حضاري وتصبح أكثر تأثراً بتيار العولمة وتغيرات الواقع العالمي المعاصر.

إن الثقافات البشرية في كل هذه الأوضاع ستواجه تحديات كبيرة. ففي عصر العالمية والشمولية الذي تعيشه الثقافات الإنسانية المعاصرة سيُفرض على كل الثقافات الإنسانية مهما كان وضعها الحضاري -الصراع، التعايش، الإقحام- أن تتخذ موقفاً حضاريًّا معيناً مما يجري في هذا العالم من أحداث، ووقائع تجاوزت النطاق الفردي والاجتماعي والدولي والعالمي والكوني العام، وأصبحت القضايا تطرح بمنطق وجودي شامل متجاوز في بعض الأحيان حتى لآفاق التجربة الحضارية البشرية الأرضية المعاصرة. والوعي الحضاري الكوني البشري يحاول في بعض الأحيان تجاوز الوضع الأرضي، والانطلاق بالوعي إلى المجال الآفاقي الوجودي الواسع الذي ليس له حدود. فمنطق الواقع الحضاري العالمي المعاصر يضع شروطاً معقدة ومركبة للتفاعل الحضاري بين الثقافات التي تعيش في عصر العالمية. فنحن لو تأملنا معظم الثقافات الإنسانية المعاصرة إن لم نقل كل الثقافات البشرية الحالية، فإننا نجدها توضع في مأزق حضاري عالمي يفرض عليها أن تنظر وتفكر وتسهم في معالجة بعض المشكلات الإنسانية ذات الطابع العالمي. فسواء كنا مستضعفين حضاريًّا أو متسلطين حضاريًّا، فإن أوضاع العالم وتركيبه المعاصر يتطلب منا أن نقحم وعينا في وعي العالم، ونحاول تحديد موقعنا الفاعل أو الساكن المتأثر في خريطة الحيوية الحضارية المعاصرة.

3-  منطق الحضارة العالمية القائمة وضرورة التجديد الحضاري

إن المنطق الذي تسير به الحضارة العالمية[26] المعاصرة منطق حيوي متسارع، وهو في حيويته وتسارعه يفرض أوضاعاً معينة على من يريد أن يشارك في توجيه أو تعديل أو تطوير هذا الوضع الحضاري القائم. إن المنطق الذي تسير به الحضارة في وضعها العالمي المعاصر قد وضع أمام الثقافات الإنسانية المختلفة أسئلة كثيرة وضرورية لصياغة المسار الحضاري الذي ستتبعه الحضارة الإنسانية في مستقبلها القريب والبعيد. ومن بين الأسئلة الأساسية التي تطرح على كل ثقافة إنسانية معاصرة لعهد العالمية هو:

هل هناك ضرورة معقولة وواقعية تفرض فكرة التجديد الحضاري العالمي الشامل داخل الوعي الحضاري لمختلف الثقافات الإنسانية المعاصرة بحثاً عن سبيل للاستجابة لتحديات المنطق الحضاري العالمي الجديد؟

إن الإجابة عن مثل هذا السؤال تستدعي في المرحلة الأولى الرجوع إلى مختلف الثقافات، والاطلاع على أوضاعها ومحاولة معرفة مدى حاجاتها، ودرجة حاجاتها، ونوعية حاجاتها، وطبيعة حاجاتها إلى التجديد. ففي المبدأ العام نقر أن لكل ثقافة حق إصدار الحكم على نوعية ومبررات وأسباب ودوافع الدخول في مشروع تجديد حضاري لذاتها وقيمها. فدون معرفة معادلة كل ثقافة وواقعها لا يمكننا أن نصدر حكماً خاصاً بنوعية ومضمون ومشروع تجديدها الحضاري. من هنا يبقى حق الثقافات في تجديد ذاتها ووعيها وواقعها محفوظ ولو على المستوى النظري. وإذا كنا نقر بهذا الحق لكل ثقافة إنسانية من جهة، فإن هذا الحق أصبح تدريجيًّا رهين في كثير من الحالات بالواقع العالمي، وبالتشكيل الحضاري للبشرية، وببعض الشروط والظروف التي تفرضها القوى والتشكيلات الحضارية والثقافية الأخرى. وبعبارة أخرى فإن تقرير مصير التجديد في الثقافة أو الوعي الخاص بثقافة معينة لم يعد بالنسبة لكثير من الثقافات الإنسانية الحالية متصلاً فقط بذاتها وظروفها الداخلية، ولكن تتحكم فيه عوامل أكثر بكثير مما تستطيع أن تدركه بصورة كلية هذه الثقافات. وحتى أصحاب الثقافات الحضارية الكبرى والمتحكمة، والمالكة لشروط الفعل الحضاري الفاعل مثل: الثقافة الغربية أصبحت اليوم تخضع لبعض الشروط الخارجية التي تتراوح في قوتها وتأثيرها على حسب فاعلية وتماسك الثقافة. فبعض الثقافات تستطيع أن تتحمل وتقاوم أكثر من غيرها على حسب ظروفها وإمكاناتها وأوضاعها. وبحكم هذا المنطق الذي تؤثر فيه العوامل الذاتية للثقافة، وكذلك قوى ثقافية وحضارية خارجية، وبحكم زيادة تأثير العوامل الخارجية وخاصة مع العولمة الجديدة، ومع القيم الكونية والحضارية المعاصرة التي تنقل المفاهيم والمنتجات الحضارية من مجتمع إلى مجتمع متجاوزة الحدود الجغرافية والاجتماعية للثقافات المعاصرة. فبحكم هذا الواقع ينبغي لنا أن نفكر مليًّا في منظور جديد، وإطار تحليلي شامل ومستوعب لخصائص الواقع العالمي المعاصر لكي نتمكن من إحداث التجديد المطلوب في واقعنا الثقافي والحضاري بصورة صحيحة وفاعلة.

إن الملاحظ اليوم ومع التطورات الواقعة في الوعي، والوسائل، والمناهج، والتقنيات، والنظم هو أن تأثيرات وقوى بشرية وفكرية ووسائلية تسهم بفعالية في تحريك واقع الثقافات المختلفة. فتضافر جهود الأشخاص والأفكار والوسائل العالمية المعاصرة أصبحت تؤثر بصورة مباشرة وغير مباشرة، مخططة وغير مخططة، مقصودة وغير مقصودة في واقع الكثير من الثقافات. فالواقع العالمي أصبح واقعاً مؤثراً بصورة ما في كل ثقافة إنسانية تعيش في بدايات القرن الواحد والعشرين.

فنحن لو تأملنا جيداً الوضع الحضاري العالمي الراهن، فإننا سنجد أن معظم الثقافات الإنسانية المعاصرة تتغير وتتحول بصور ووتائر مختلفة منها المتسارع ومنها المتباطئ. فسواء حدث التغير والتحول عن وعي وإرادة وتخطيط أو عن طريق التوجه الحضاري العام الذي يسوق الثقافات البشرية، ويدفعها بقوة للتغير والتحول لكي تستجيب لأوضاع الحضارة والعالم المعاصر، فإن هناك تحولات ينبغي لكل ثقافة أن تكتشف قوتها، وحجمها، وتوجهها، ومدى تناسبها وواقع هذه الثقافة أو تلك. وبعبارة أخرى إن منطق التغير والتحول هو الظاهرة البارزة التي تسلط قوتها، وتأثيرها على الثقافات الإنسانية المعاصرة. فالمسألة اليوم هي ليست في أن نقول هل نجدد أو نغير أو لا نغير... ولكن الأولى بنا أن نركز على مسألة هل أننا نتغير أو نتجدد إيجابيًّا أو سلبيًّا؟ وهل أن هذا التغير والتحول يتناسب ويتوافق مع واقعنا وحاجتنا إلى التجديد؟ فالحديث ينبغي أن يصب في مضمون التغيير، ونوعيته، ومناهجه، وأدواته، وضوابطه. هذا لأن منطق التغير والتجدد في الواقع العالمي المعاصر أصبح مسألة شبه محتومة، ومطلوبة لكل الثقافات الإنسانية لكي تستجيب لمتطلبات العيش في واقع عالمي كوني شمولي غير مسبوق. فمنطق التحول، والتغير قد انطلق، وانفلت عياره مع التحولات الحضارية المعاصرة في الوعي والتكنولوجيا والمعرفة والمعلومات والإدارة والتنظيم والتربية. إنه ليس في مقدور أحد اليوم بعد أن وصلت الحضارة إلى هذا المنطق العالمي الشمولي أن يوقف عجلة المسار الحضاري، وأن يغير منطق التاريخ. صحيح أنه يمكن لبعض الحضارات والأمم القوية أن تؤثر، وتوجه بعض الأوضاع العالمية المعاصرة بحكم تحكمها في مصادر القوة والتوجيه، ولكن لا تستطيع هذه القوى والأمم أن توقف تماماً الثقافات الإنسانية عن مسار التحولات الحضارية التي تقوم اليوم في مختلف البلدان. والحضارة الإنسانية العالمية -بهذا المفهوم- بدأت تستقل شيئاً فشيئاً عن قبضة القوة الوحيدة التي تريد الهيمنة. فلم تعد القيم الحضارية العالمية التي تشكل أساس الحضارة الإنسانية الحالية تحت سلطة مجتمع أو قوة دولية معينة. بل على العكس أصبح بادياً للعيان أنه حتى القوى التي تسمى بالقوى العظمى أصبحت بحكم منطق الحضارة العالمي تخضع لبعض الشروط الخارجية التي تجعلها في بعض الأحيان غير قادرة على التحكم في بعض الأوضاع التي تسير وفقها وتائر الوعي والتغير والتجدد في بعض المجتمعات الإنسانية الأخرى. فإن حاولت قوة كأمريكا مثلاً أن تفرض منطقها في هذه المسألة من المسائل العالمية، فإن المجتمعات الإنسانية بحكم التركيب الحالي للواقع الحضاري قد تعيق استراتيجيتها وتوجهها وجهة أخرى. وهذا المنطق الانفلاتي من قبضة المسيطر الأوحد، والمُغيِّر المركزي يساهم في إضعاف مراكز التأثير الخاصة بالقوى العظمى التي تحاول الانفراد بالهيمنة الحضارية العالمية كأمريكا مثلاً. ولهذا فكلما استحكمت[27] قيم الحضارة العالمية[28] المستقلة والقائمة بذاتها بحكم التطورات التقنية والمعرفية والمنهجية والاتصالية، ضعفت سيطرة القوة الواحدة، واضطرت هذه القوى إلى الانصياع لأصوات أخرى وأراء مغايرة، ودُفعت بقوة الواقع إلى الحوار والتعايش والمشاركة. وبهذا يغيب شيئاً فشيئاً منطق المهمين الأوحد ليس لأن هذا المهمين يريد ذلك -بل على العكس فهو يريد ويحاول جاهداً أن يبقى هو القوة الوحيدة المحركة للحضارة والأحداث- ولكن لأن منطق التاريخ، ومنطق الواقع العالمي، وطبيعة الوعي الحضاري والتشكيل الحضاري العالمي المتشيئ اليوم يفرض على هذه القوى منطق التعايش والتفاعل مع الآخرين، والسماع لنداء البشرية الجديد. ومن ثم فالمطلوب هو إدراك أن «التمسك بالمركزية الحضارية والإصرار على أن تكون هذه المركزية في الغرب، مرفوضة في عالم اليوم، كما هي مرفوضة مركزية السلطة، المتمثلة في الديكتاتورية، ومركزية السوق المتمثلة في الاشتراكية، واحتكار الحقيقة مرفوض شأنه في ذلك شأن احتكار السلع. وهذا يعني أنه لا يجوز للغرب اليوم أن يرى في طريقة حياته النموذج الأمثل الذي يزن به الحضارات الأخرى، كما لا يجوز أن يعتبر كل طريقة تختلف عن طريقته خروجاً عن الشرعية الدولية تستحق العقاب والقتل. فمن مصلحة البشرية الإيمان بالتعددية الحضارية والتلاقي في القواسم المشتركة، وليس من مصلحتها أبداً فرض طريقةً واحدةً وشكلاً واحداً لأشكال الحياة على مختلف قطاعات البشر»[29].

إن ثقافة المسيطر الأوحد والقوة المركزية المهيمنة بدأت تضعف وستزيد في الضعف حتى تتناقص، وتصبح هي نفسها أسيرة لمنطق الحضارة العالمية الإنسانية الآتية. فالفكرة التي سكنت الوعي الغربي لقرون عديدة وتوحي له أنه هو الأصل والباقي هو الفرع، وأن وجود تنوع في الحضارات وتشارك معها في التعامل مع شؤون العالم أمر غريب وليس من الثقافة الغربية، وأن الإنسان الغربي وخاصة في أمريكا الجديدة هو المركز... إن كل هذا الوهم والفهم أصبح يتعرض يوميًّا لهزات عنيفة. وكما قال مايكل هوارد: «إن الافتراض الغربي الشائع عن أن تنوع الحضارات هو أمر غريب من الناحية التاريخية، وأنه يتآكل تآكلاً سريعاً، بسبب نمو حضارة عالمية مشتركة ذات وجهة غربية لغتها الإنكليزية، وتشكل قيمنا الأساسية... إنما هو ببساطة افتراض غير صحيح»[30].

ولهذ فكلما تطور الوعي والذكاء والاتصال، وكلما تطورت التكنولوجيا والمعرفة والمعلومات والإدارة والتنظيم والاقتصاد والسياسة، وكلما زاد وتكثف تعقيد المشكلات الإنسانية، وكلما أصبح تأثيرها كونيًّا ومباشراً، فإن سيطرة المراكز الحضارية الكبرى ستضعف، وتزيد مشاركة الثقافات الإنسانية المختلفة في صناعة القرار الحضاري الإنساني، وتتوسع فرص الإنسان المعاصر في التحكم في وضعه ووضع المسار الحضاري العام. وبحكم الوضع الذي نعيشه والمنطق الذي تسير على وفقه الحضارة العالمية المعاصرة، يمكننا أن نتوقع وعياً حضاريًّا جديداً تزيد فيه قدرة المجتمعات الإنسانية على التحكم في مصيرها. وبهذا المنطق سيصبح في غير مقدور أمة أو ثقافة من الثقافات البشرية المعاصرة، والتي تعرف بالقوة والمكنة أن تواجه ظروف الواقع العالمي منفردة. فمنطق المركز والقطب المنفرد والمتحكم الأوحد سيضعف ويقل تأثيره، وتضمحل هيمنته مع التطورات التي يفرضها المنطق الحضاري العالمي المعاصر على الثقافات والوعي. يقول صاموئيل هنتنغتون: «ومع انحسار قوة الغرب، تنحسر أيضاً جاذبية القيم والحضارة الغربية، ويواجه الحاجة إلى أن يتكيف مع تدهور قدرته على فرض قيمه على المجتمعات غير الغربية. وهكذا يصبح الكثير من أنحاء العالم حديثاً بقدر أكبر، وغربيًّا بدرجة أقل»[31].

4-  الفعل التجديدي الحضاري للثقافات الإنسانية وعمق التحول العالمي المطلوب

إن منطق الحضارة العالمية الإنسانية المعاصرة أصبح منطقاً محكوماً بعوامل وشروط ليس بمقدور مجتمع واحد أن يوفرها ويدلي فيها بالكلمة الفصل. يقول هنتنغتون: «لقد حان الوقت الذي يجب أن يتخلى فيه الغرب عن وهم العالمية، وأن يعزز قوة حضارته وتماسكها في عالم من الحضارات. إن ذلك التدخل بلا تمييز في منازعات الشعوب الأخرى لا يخدم مصالح الغرب[32] والمسؤولية الرئيسة لاحتواء المنازعات وحلها في الحقبة التي بدأت لتوها، يجب أن تتولاها الدول الأساسية في الحضارات السائدة في هذه المناطق... فلا تستطيع الولايات المتحدة أن تفرض على المنازعات المحلية حلولاً تدوم فترة طويلة، وتكون بعيدة عن حقائق القوة المحلية»[33]. إنه حقًّا تطور نوعي في التفكير الغربي -على نقائصه ونواياه الخطيرة- فالأمر الذي ينبغي أن نشير إليه هنا هو أن منطق الحضارة العالمية الإنسانية القادم منطق توازني لا يسمح بالسيطرة ولا يسمح بالهيمنة المنفردة. وكلما تقدمنا في الزمن والتطور باتجاه القرن المقبل وباتِّجاه المراحل اللاحقة للعولمة، احتاجت الحضارة العالمية إلى جهود الجميع، حتى تلك المجتمعات التي تعيش في الهامش الحضاري سيكون لها شأن في القرارات الكبرى. وسواء أكانت هذه المجتمعات متخلفة حضاريًّا أو متطورة أو منسحبة أو ضعيفة فالكل سيكون في وضع الانتباه.

والمنطق الحضاري العالمي الذي يحكمنا اليوم منطق سيفرض على المتحضرين والأقوياء أن يهتموا بالمتخلفين والمستضعفين لأن بقاء هذه الثقافات والمجتمعات على تخلفها وضعفها سيكون من العوامل الأساسية التي ستؤثر في مستقبل التطور الحضاري للمهيمنين. وبعبارة أخرى فإن هؤلاء المستضعفين ينبغي أن يُسمع لهم صوت في قرارات العالم والحضارة المعاصرة يوماً ما. وحتى لو فكرنا بمنطق المستعمر غير المبالي بغيره، فإن هذا المنطق سيعطل أكثر مسار المجتمعات المتحضرة، ويخلق لها مشكلات ذات طابع عالمي. فأمام هذا المنطق الحضاري العالمي الفاعل سيكون سؤال التجديد الحضاري والتغيير الاجتماعي من الضرورات الكبرى لتحقيق أقصى مستويات التفاعل والحيوية الحضارية. ومن هنا فإن سؤال التجديد الحضاري أصبح وسيصبح -وخاصة بالنسبة للأمة الإسلامية- هَمَّ ومشكلة كل مجتمع، وكل ثقافة تريد أن تصنع مصيرها وتؤثر في مصير العالم، وترشِّد مسار الحضارة الإنسانية. لأن التجديد يعني «الانشحاذ المُطَّرد للإرادة الحضارية للأمة، والتطوير المتواصل لقدراتها التسخيرية والإنجازية... وكذلك عملية محافظة على التوتر النفسي الإيجابي المتصاعد للأمة، وشحذ دائب لقدراتها الإبداعية، وتنمية متوازنة لإمكانها الحضاري، تمكيناً لها من تصفية «المديونية الحضارية» التي تعاني منها، ودخول معترك العالمية أو الكونية من أبوابه الواسعة، كقوة منافسة وتأطير وتوازن»[34].

ولكن مسألة التجديد الحضاري في ظل سيادة منطق الحضارة العالمية المعاصرة تجديد معقد ومركب، ويحتاج إلى ذكاء حضاري، وحكمة حضارية، وقدرة حضارية كبيرة. إن زمن التغيير الحضاري والتجديد الحضاري البسيط والمرتجل والعفوي قد نسفه منطق الحضارة العالمية المعاصرة نسفاً لا رجعة له إلى الأبد. وحتى لو لاحظنا الآن في بعض المجتمعات نزوع بعض المصارعين إلى المنطق التقليدي في معالجة المشكلات وتصفية النزعات، فإن ذلك الأمر يعد وضعاً مرضياً في المنطق الجديد، وسوف ينتهي هذا الوضع بتزايد التطورات الحضارية والتقدم في الوعي الحضاري العالمي لمختلف الثقافات.

وما دامت كل المجتمعات الإنسانية المعاصرة المتحضرة، والمتخلفة منها مطالبة بمراجعة وعيها، وتجديد ذاتها حتى تنسجم وتتناغم في سيرها مع متطلبات الوضع الحضاري العالمي الراهن ومستقبل الإنسانية العالمي على وجه الأرض، فإن المطلوب من كل مجتمع وثقافة هو أولاً أن تفهم طبيعة وحقيقة المنطق العالمي الحضاري المعاصر، وتدرك الديناميكيات الجديدة التي يسير وفقها العالم والتاريخ، ويستوعب كيف أصبحت الحضارة الإنسانية في منطقها ونظامها وآلياتها متجاوزة لكثير من التأثيرات، والتحكمات الثقافية التي تمارسها بعض القوى الحضارية المعاصرة التي تحاول مواصلة هيمنتها الحضارية كما كان الوضع قائماً مع منطق الاستعمار، ومنطق الهيمنة المركزية الغربية. فكل من يريد أن يجدد ذاته ومجتمعه حضاريًّا، ويغير أوضاعه بصورة إيجابية ينبغي أولاً أن يفهم هذا المنطق الجديد للحضارة. والحضارة[35] في هذا المنطق العالمي والواقع المعولم ارتقت إلى أعلى مستويات التأصل في الواقع البشري فلم يصبح في مقدور المجتمع الواحد التحكم في مسيرتها وآلياتها. فقيمها وثمراتها وآلياتها عمَّت مختلف أقطار العالم بشكل لا يجعلها في يد قوة مستفردة بها، متحكمة في كل مفاتيحها كما هو مشاهد اليوم. فالمستقبل يحمل كثيراً من التحولات التي ستغير خرائط الواقع وتركيباته. والحضارة اليوم تصبح شيئاً فشيئاً واقعاً إنسانيًّا قائماً في عمق الوعي البشري، وتترسخ بمفاهيمها ومضامينها وأدواتها ومناهجها وقوانينها في جذور الثقافة الإنسانية.

وهكذا فاقتلاع الحضارة ونفيها من واقع الإنسان العالمي لم يعد ممكناً إطلاقاً. فعندما وصل الوعي البشري إلى مستوى الذكاء الحضاري العالمي أصبحت الحضارة بمثابة الهواء الذي يتنفسه الإنسان، فالإنسان الذي ينقطع عنه الهواء يموت، وهكذا الإنسان الذي تؤخذ منه الحضارة، فإنه يموت ولا يصبح قادراً على فعل أي شيء. والحضارة اليوم أصبحت ركناً أساسيًّا من أركان الوجود البشري. فإذا كان من الممكن في الزمن الماضي ومع المجتمعات الحضارية القديمة الحديث عن فناء الحضارات وتلاشيها وانمحائها من خريطة الوعي، فإن منطق العالمية المعاصر قد جعل الحضارة جزءاً من تشكيل الثقافة العالمية المعاصرة وقسمة أساسية من قسمات التفاعل الإنساني في عصر العولمة. وبعبارة أخرى إن الحضارة هي غريزة إنسان العولمة. ولهذا على كل المجتمعات أن تعمل على عدم المس بغريزة هذا الإنسان، وتجتهد في تفعيل هذه الغريزة وتوجيهها لصالح المجموع البشري.

من هذا المدخل العام تبدو لنا ضرورة التفكير الجدي في قضية التجديد الحضاري، وأبعادها الأساسية في العصر العالمي. والأمة الإسلامية التي تُنعت اليوم بالتأزم، والتخلف[36]، والتفكك، والاستلاب، والضعف، والهوان، والانبهات الحضاري أمة بحاجة ماسة إلى الدخول في مشروع تجديد حضاري[37] شامل يعيد لها حيوتها، وخفتها الحضارية، وفاعليتها التاريخية والاجتماعية، وأصالتها الثقافية والنفسية. ومن هنا ينبغي لعلماء الأمة ورجالها المخلصين أن يفكروا مليًّا في موضوع التجديد الحضاري بوصفه عملاً علميًّا حضاريًّا منهجيًّا شاملاً، وفعلاً اجتماعيًّا تغييراً يتطلب أعلى مستويات الذكاء، والوعي، والفاعلية، والأصالة، والإتقان، ويخضع لمنهج حضاري واضح ومتوازن ومتناسب مع حجم الواقع المطلوب تغييره[38]، ومتوافق مع الخصائص المرحلية التي يتصف بها واقع الأمة وواقع الإنسانية. ولكي يتحقق هذا «يجب علينا أن نتبنى سياسات من شأنها توجيه التطور التاريخي طويل الأمد للعالم الإسلامي في اتجاهات بناءة، وفي الوقت نفسه علينا أن نتصدى للمشاكل المستعجلة التي تهدد بإثارة المزيد من سفك الدماء، وما لم ننجح في مواجهة هذه التحديات فإن مهد الحضارة قد يصبح قبراً لها»[39].

ثانيا: الأمة الإسلامية وأساسيات الفعل الحضاري التجديدي

1-  نوعية مشكلة الأمة وضرورة تشكيل المنظور الاستخلافي العالمي للتحليل

فكما هو معلوم أن الأمة الإسلامية تعيش في وضعها الراهن حالة تخلف[40] حضاري مركب[41] وخطير ليس بحكم افتقارها في مجال الوسائل، والأدوات، والتقنيات، والتكنولوجيات، والصناعات، ومختلف النظم الإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية... وغيرها، وليس كذلك بحكم افتقارها إلى الرصيد والإمكانات البشرية الذكية والمتخصصة والمؤهلة، وليس كذلك بحكم افتقارها إلى الأفكار والمعارف والعلوم المطلوبة للتقدم والتطور، وليس كذلك بحكم افتقارها إلى المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية والاجتماعية العامة، ولكن الأمة متخلفة على الرغم من امتلاكها لكل هذه الأمور. فهي متخلفة رغم امتلاكها للكم الهائل من الأشياء والوسائل، وهي متخلفة رغم امتلاكها للكم الهائل من الطاقات البشرية، وهي متخلفة رغم امتلكها لرصيد هائل من الأفكار سواء التقليدية أو الحديثة، وهي متخلفة رغم امتلاكها الدول الكثيرة والحكومات المتعددة. فمن الواضح أن هناك تناقضاً جوهريًّا في حالة الأمة. فمن غير المعقول أن تمتلك الأمة كل هذه الأشياء والأفكار والأشخاص والمؤسسات ونظم العلاقات الاجتماعية وتكون متخلفة حضاريًّا بدرجة مخيفة للغاية. هنا يواجهنا سؤال جوهري هو: لماذا تتخلف الأمة حضاريًّا على الرغم من امتلاكها لكل عناصر التحضر من الأشخاص والأفكار والأشياء والعلاقات الاجتماعية وغيرها؟

إن الأمة التي تمتلك كل هذه العناصر والعوامل المحضِّرة، ولكنها تبقى في وضع التخلف الحضاري المدقع[42]، كأمتنا الإسلامية؛ هي أمة تعاني من أزمة حضارية[43]، من مشكلة حضارية، من مأساة ثقافية[44] حضارية مركبة[45]. وتبدأ الأزمة الحضارية عندما تفقد الأفكار معناها في الفعل الحضاري، وعندما يتحول الأشخاص إلى مجرد أفراد لا يحسون بأي معنى للرسالية الاستخلافية، وعندما تصبح الأشياء مجرد عَرَض دنيوي، وتتحول العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع إلى صراع وتناحر على الأعراض الدنيوية الزائلة. إننا في هذه الحالة لا نتحدث عن أمة ولكن أشلاء، والأشلاء في الحقيقة لا تشكل كلًّا ولا تشكل حضارة ولا تشكل مجتمعاً، وإنما تتقطع في الأرض دون قرار ولا سكن يمدها بمقومات الفعل الحضاري.

في هذه الحالة لا ينبغي لنا أن نوجه أنظارنا حيث ما ساقتنا الأقدار، ودفعتنا الأهواء، ووجَّهتنا قوى الشرق والغرب، ولكن ينبغي أن نتوجه إلى البحث عن خرائط الوعي، وشفرات التجديد الحضاري وعلومه الدقيقة، ونبحث في أهم الموضوعات[46] التي تشكل عمق الإقلاع عن التخلف وامتلاك مقومات التحضر. يقول زكي الميلاد: «والفكر الإسلامي مع هذه المرحلة يريد أن يخرج من مآزقه ومشاغله التقليدية إلى المشكلات الحضارية الكبرى، وأن يواكب القضايا العالمية المعاصرة، وأن ينهض بالحياة الإسلامية نحو آفاق التنمية الشاملة»[47]. إن أول ما ينبغي أن تفكر فيه أمة هذه هي حالتها هو التجديد الحضاري. والتجديد الحضاري[48] هنا لا ينسحب فقط إلى إحداث بعض التعديلات والتحويرات الجزئية في فكرنا[49] أو ثقافتنا أو سلوكنا أو مظهرنا أو شكلنا. كما لا ينسحب فهمنا للتجديد الحضاري كذلك إلى الدخول في عمليات تحديث عالم أشيائنا ووسائلنا وصناعاتنا. إن كل هذه الأمور تأتي محصلةً للتجديد الحضاري وليست سبباً له. إن التجديد الحضاري هو من جهة الارتفاع برسالية الأمة إلى مقام الاستخلاف، والوصول بدلالات الاستخلاف إلى عمقها الحضاري -أي- بجعل الأمة تدرك من جديد عمقها الاستخلافي الذي يتجسد واقعيًّا في تشكيل حضارة الإسلام[50] من جديد. والتجديد من جهة أخرى هو الوصول بالاستخلاف إلى عمق الإنسان، وعمق فكره، وعمق منهجه، وعمق معارفه، وعمق سلوكاته، وعمق أفعاله، وعمق أداءاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والحضارية والتربوية والعلمية والتقنية والوسائلية والعمرانية. فعندما يشغل مفهوم الاستخلاف من جديد حيزه الحقيقي في وعي الإنسان وفعله، هنا فقط يتحول الإنسان إلى معامل فاعل في الفعل الحضاري المجدد للأمة. وفي هذه الحالة التي تتصل فيها مفاهيم الاستخلاف بوعي الإنسان وتشغل في وعيه موقعها الصحيح يكون الإنسان قد تأهل ليدخل في دورة حضارية جديدة يكون نتاجها بناء جديد للأشخاص، والأفكار، والأشياء، والعلاقات الاجتماعية، والثقافة المحضرة.

إن الحالة التي يرتقي فيها الإنسان إلى مقام الاستخلاف، وتتعمق معاني الاستخلاف في وعيه هي الحالة التي تحتاج إلى فعل تجديدي حضاري. والتجديد الحضاري للأمة فعل منهجي ينقل الإنسان من الوعي السابق للاستخلاف إلى الوعي الاستخلافي، كما يُجذر معاني الاستخلاف في عمق وعي الإنسان وفي عمق كيانه الثقافي بما في ذلك أبعاده النفسية والثقافية والاجتماعية والتاريخية. إن هذا الفهم للتجديد الحضاري يجعلنا نبحث عن أهم القضايا الكبرى[51] التي يمكن إدراجها ضمن هذا المفهوم وذلك بحثاً عن تحقيقه في الواقع البشري.

إن الأمة بحاجة اليوم إلى إطار حضاري[52] أو منظور حضاري عالمي يصلها من جديد بواقع الاستخلاف الذي هو الواقع الموضوعي الخصب الذي تتخلق فيه جرثومة إبداعية الأمة وفعاليتها الحضارية. إن الأمل معقود أن يُعمق الباحثون المسلمون مناهج التحليل وأطره المعرفية والمنهجية باتجاه الوصول إلى ما يمكن تسميته «بالمنظور الاستخلافي العالمي» الذي يهدف إلى نقل تجربة التجديد الحضاري وخبرتها وقيمها ومناهجها من خبرات وقيم ومناهج المنظور الحضاري إلى خبرات وقيم ومناهج المنظور الاستخلافي العالمي. إن هذا المنظور يعمل على دراسة مسائل التجديد الحضاري من خلال البحث في سنن الاستخلاف في ضوء المنظور العالمي الكوني الذي يشمل كل الحضارات وليس حضارة أو حضارات بعينها. فهو يدرس السنن المتحكمة في التغيير والتجديد من منظور كوني عالمي عام يشمل الحضارات الإنسانية كلها وهي تتفاعل في عصر العولمة والكونية الشاملة. فهذا المنظور العالمي الاستخلافي يُظهر لنا كيف «اقتضت المشيئة الإلهية أن تُحكم حركة الاستخلاف في الأرض بقوانين وسنن ثابتة، وضعت في متناول الإنسان، ومنح كل الشروط الموضوعية التي تعينه على تسخير هذه القوانين والسنن، في تحقيق خلافته في الأرض، والاستمتاع بفرصته الوجودية الثمينة فيها، واستثمارها في تهيئة شروط استمتاعه الأمثل والأكمل في بقية مراحل «دورته الوجودية» بعد ذلك... إن اكتشاف هذه القوانين والسنن الناظمة للصيرورة الاستخلافية في الأرض، شكّلت مركز اهتمام البشر على الدوام، عبر استثمار ما تيسر للإنسان من وعي بمنظومات سنن الآفاق والأنفس والهداية... والتأييد»[53]. إنه في هذه الحالة التي نتمكن فيها من بناء المنظور الاستخلافي العالمي لدراسة التجديد الحضاري سنرى إعجاز القرآن وتجلياته في عصر العالمية والشمولية، ونتأكد تماماً أن القرآن متجاوز بالوعي والمنهج للتجربة الحضارية المعاصرة بكل أجنحتها ومنجزاتها وآفاقها المقبلة. وأنه لأمل عظيم أن يتوجه أبناء الأمة من المفكرين والباحثين والمهتمين إلى الإسهام المنهجي في إكمال مسيرة بناء المنظور الاستخلافي، وبلورة مفاهيمه ومفرداته ومناهجه وأدواته التحليلية حتى يصبح أساساً ركيناً للبناء الحضاري وللتجديد الحضاري[54] الجديد للأمة. كما ينبغي كذلك العمل الجاد من أجل إدخال هذا المنظور في نظامنا التربوي والتعليمي والأسري والثقافي والسياسي والاقتصادي.

2-  من أساسيات الفعل التجديد الحضاري

إن التجديد الحضاري المعاصر للأمة ضرورة لا مناص منها، ولكن هذا التجديد ليس مجرد عمل أو تنظير أو توجيه بسيط أو عابر، ولكنه فعل حضاري منهجي متقن. وعندما ننظر إلى مسألة التجديد الحضاري ينبغي أن ننظر إليها في عمقها بوصفها فعلاً حضاريًّا منهجيًّا منظماً. والفعل الحضاري الذي نقصده هنا هو ذلك الفعل المركب والمنهجي والمستمر والمتكامل. وللبحث عن تعريف إجرائي للفعل الحضاري الذي هو عمق التجديد الحضاري يلزمنا أن ننظر إلى مفهوم الفعل الحضاري من زاويتين على الأقل:

- الفعل الحضاري بوصفه رؤية حضارية ومنهجاً فكريًّا[55] شاملاً ونظاماً تربويًّا اجتماعيًّا يبين للأمة مرجعيتها، وتراثها، ومبادئها، وأصالتها، وأولوياتها، وأهدافها، وغاياتها. فهنا يصبح الموضوع الأساس للفعل الحضاري هو تطوير «نظرية مرجعية منهجية تربوية للفعل التجديدي الحضاري» تتحدد بها الأهداف، والأطر المعرفية والمنهجية والمرجعية، وتتحدد بها الموضوعات والقضايا الكبرى والأساسية للتجديد الحضاري، وتتحدد بها الأهداف والمناهج والأدوات والوسائل والبرامج والمشاريع والإجراءات والتدابير اللازمة للانخراط في فعل حضاري تغييري تربوي شامل للأمة.

- الفعل الحضاري بوصفه قدرة وسلوكاً ووعياً فعليًّا تغييريًّا ذاتيًّا جماعيًّا لدى الأمة تقتدر به على التفكير والفهم والتطبيق لمضامين الإسلام في واقع الحياة بصورة منهجية منظمة. فهذا البعد للفعل الحضاري يأتي نتيجةً منطقيةً للبعد السابق بعد أن تمتلك الأمة نظرية الفعل الحضاري، وتطبقها في واقع الإنسان وواقع الأمة بصورة منهجية منظمة. فنتاج تلك النظرية يؤدي إلى تمليك الأمة القدرة على التحكم والتوجيه والإبداع في مختلف المجالات. وهنا يصبح موضوع الفعل الحضاري هو «مشروع[56] للعمل على بناء قدرة الإنسان وقدرة الأمة الشاملة». فإن قضية إصلاح الفكر والمنهج والشخصية والتربية والسلوك مهمة للغاية. وهنا ينبغي أن يُحوّل الفعل الحضاري إلى واقع ثقافي واجتماعي وحضاري[57] واقتصادي وسياسي ومعرفي وعلمي قائم بذاته تعيش فيه الأمة قيمها، ومفاهيمها، وتعاليمها، ونظراتها للكون والإنسان والحياة بصورة شاملة ومتكاملة. وهنا يصبح موضوع الفعل الحضاري هو «دراسة وتحليل قضايا الثقافة والحضارة والمجتمع المتجسد واقعيًّا». وهذا البعد للفعل الحضاري يأتي نتيجةً منطقيةً للبعد السابق، وذلك إذا ما تمت عملية بناء قدرات الإنسان والأمة بصورة منظمة، فإن ثمرة ذلك هو إيجاد الحضارة والثقافة والسياسة والاقتصاد والعمران والفن وغيرها. فهنا الفعل الحضاري يأتي نتاجاً وثمرةً لمشروع[58] تغيير وتجديد في الوعي الفكري والتربوي والمعرفي والمنهجي والثقافي للأمة. فبهذا المنطق يصبح الفعل الحضاري موضوعاً حيويًّا يدور حول قضايا:

* بناء الرؤية الحضارية والنظرية التجديدية والنظام التربوي الاجتماعي التغييري

* بناء القدرة والوعي والسلوك الفعّال لدى أفراد المجتمع.

* بناء الواقع الجديد والثقافة والحضارة والمجتمع والمعرفة والتقنيات والتكنولوجيات والإدارة والتنظيم.. فالفعل الحضاري يبدأ إذن برؤية حضارية ونظرية منهجية ونظام تربوي[59] اجتماعي تغييري[60] في التجديد الحضاري، ثم يصب جلّ اهتمام هذه الرؤية في بناء القدرة الحضارية، والوعي الحضاري، والسلوك الحضاري، والفاعلية الحضارية في الإنسان والأمة، ثم يتوجه إلى تشكيل واقع ثقافي حضاري اجتماعي عمراني ديني سياسي اقتصادي حيوي تبرز فيه مضامين الرؤية الحضارية وقيم النظام التربوي المتبنى. إن الدراسة الحالية التي نضعها بين يدي القارئ هي بحث في موضوع القضايا الكبرى التي ينبغي أن يدور حولها التجديد الحضاري[61] للأمة في عصر العالمية.

رابعاً: مركزية التعارف الحضاري[62] في مشروع التجديد الحضاري

1-  الحوار الحضاري بوصفه نتاج تربية وثقافة وفعل حضاري

لا شك أن الإنسانية اليوم وهي تعيش في واقع يتوجه نحو الكونية والعالمية الشاملة، ستنتهي إلى وضع عالمي معولم تتحدد فيه مواقع الأمم والشعوب، كما تتحدد فيه قواعد وأنساق الاتصال والتدافع والتلاقي بينها. وعلى الرغم مما نلاحظه من تدافع أحياناً وصراع في أحيان أخرى، فإن الأمر الذي لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان هو أن الطريق الطبيعي السليم والفعّال للتعامل مع قضايا الدول والأمم والشعوب والثقافات والحضارات هو طريق الحوار والتفاعل، وتبادل الأفكار والآراء ووجهات النظر من أجل إيجاد الحلول السلمية المناسبة للصراعات والمشكلات الداخلية والخارجية. ومن هنا فإن موضوع الحوار الحضاري من أهم وأنسب المداخل في مسألة العمل من أجل تحقيق التفاعل والتعايش الإيجابي في مسيرة المجتمعات والثقافات المختلفة والمتنوعة.

ومن المؤكد أن هناك ضرورات تفرض مسألة الحوار «المخلص» بين الحضارات بل تجعلها من أقدس الضرورات والمهام التي تُناط اليوم بالمجتمعات الإنسانية عامة والمجتمعات الإسلامية خاصة. وعلى حد قول الترابي: «وهذا هو العهد الذي ينبغي فيه على المسلمين أن يدركوا ضرورة الحوار والتبليغ الرسالي، وأن يعملوا على مكانتهم ويستقرئوا الواقع في أنفسهم وفي الجانب الآخر»[63]. ولكن هنا ينبغي أن يكون واضحاً أن هذا الحوار لكي يكون مثمراً لابد أولاً أن يمارس بين المسلمين أنفسهم قبل أن يمارسوه مع غيرهم. ومن ثم ينبغي أن نعيد النظر في مفهوم الحوار بين الحضارات[64] ونحدد بالصورة الكافية مقصودنا منه، ونعين الشروط اللازمة لنجاحه. فهل نقصد بالحوار مجرد نقاش يثور بين شخصين أو مجموعتين أو ديانتين أو فلسفتين أو أكثر، أو هو مجرد اتصال والتقاء بين هذين الطرفين أو أكثر. وهل الحوار هو مجموعة جلسات بين أصحاب توجهات معينة أو تبادل لأطراف الحديث في موضوعات بسيطة أو معقدة؟ وما هو الإطار المنهاجي والمعرفي الذي ينبغي أن يضبط مفردات الحوار ومنظوماته وممارساته ونشاطاته وأنساقه ونماذجه؟

إنه من المفترض أن ندرك الحوار الحضاري -وخاصة في حالة التصور الإسلامي القائم على قيم ومبادئ الحضارة الإسلامية- بأنه أساساً موضوع للممارسة التربوية والثقافية والحضارية والدعوية -أي- بوصفه قيمة حضارية كونية وجودية ذات أبعاد تربوية ونفسية واجتماعية وثقافية محلية وعالمية ورسالية. «ونحن نعلم أن الذي يحمل أمانة تبليغ رسالة الخالق لا يريد من ذلك أن يحفظ أمنه ويدفع من الآخرين شرهم، بل ينظر إلى غاية سعيه الجهادي، ذلك أن فلاحه وغاية اجتهاده هو تبليغ إسلام أمرهم إلى الله. فالصلة أساساً ينبغي أن تكون المبادرة بالحوار حتى لو كان الآخر مستكبراً معتدياً»[65]. ومن هنا ولكي تنفك أمامنا الإشكاليات الكبرى المتصلة بعملية الحوار الحضاري بوصفها اتجاهاً حضاريًّا، ونزوعاً إنسانيًّا، وشاكلة ثقافية، ونمطاً اجتماعيًّا، وإطاراً سلوكيًّا وقيمة تربوية ينبغي لنا أولاً أن نحرر القول في مسألة التأطير المنهاجي والمعرفي للمنظومة الناظمة لعملية الحوار. وبعبارة أخرى ينبغي لنا أن نكتشف الأسس المنهاجية والمعرفية الضرورية لتنظيم عملية الحوار بوصفه منظومة حضارية متكاملة لا تتم إلا بتوافر كل شروطها، وبحدوث التركيب المنهاجي اللازم لها. وعليه ينبغي أن نعرف أننا عندما نتحدث عن مسألة حوار الحضارات في المجتمع العربي والإسلامي لا ينبغي أن نتحدث عنها بوصفها حاجة سياسية أو إيديولوجية أو إعلامية استهلاكية[66] عابرة المقصود منها تجاوز بعض العقبات والصعوبات والمشكلات الآنية، ولكن ينبغي أن تكون مسألة الحوار نابعة من طبيعة نمط الحياة العربي الإسلامي، وبالتالي فالحوار قضية تربوية وثقافية وحضارية تهدف إلى بناء نفسية الإنسان المحاور والأسرة المحاورة والمجتمع المحاور والثقافة المحاورة والسياسة المحاورة مع الذات ومع الآخر ومع العالم بكل توجهاته وقيمه.

2-  مفهوم التعارف الحضاري القرآني إطاراً حيويًّا للحوار الحضاري

ومن هنا ينبغي كذلك النظر إلى الحوار الحضاري[67] بوصفه أداء لرسالة، ولغاية إيصال رسالة، وتحقيق مسؤولية حضارية مهمة للمجتمعات العربية والإسلامية وللمجتمع الإنساني في الوقت الراهن وفي المستقبل. «ذلك أن بناء مستقبل الأمة على أسس حضارية يُلزمنا تأسيس منهجية استراتيجية فاعلة وبعيدة المدى في خلق علاقات صحيحة وصحية بين الأديان والثقافات والحضارات»[68]. والحوار الحضاري مسألة مرتبطة بالتوجه الحضاري العام للإسلام الذي يدعو من جهة إلى قيمة «التعارف الحضاري» بين الأمم والشعوب والحضارات والثقافات كما تشير إليه الآية القرآنية الآتية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ}[69]. ويؤكد من جهة أخرى على قيمة وضرورة الدعوة الحضارية إلى القيم الإنسانية الكبرى التي تجمع وتوحد وتدعو إلى كل ما فيه مصالح الناس من السلام والأمن والحرية والعدالة والمساواة والتكريم وغيرها. يقول الأستاذ التويجري: «ومفهوم التعارف في الإسلام ذو سعة يمكن أن يشمل كل المعاني التي تدل على التعاون والتساكن والتعايش ويمكن أيضاً أن يستوعب التعارف قيم الحوار والجدل بالتي هي أحسن والاحترام المتبادل»[70]. ويضيف الأستاذ حسان حتحوت موضِّحاً طبيعة الإسلام ورؤيته إلى الآخر قوله: «ليس ثمة أبلغ وأوفى بالقصد من الآية الكريمة {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} في الدلالة على عمق مبدأ التعايش في مفهوم الإسلام، ذلك أن المسافة المشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب مساحة واسعة، وإذا كان الإسلام قد جعل في قلوب المسلمين متسعاً للتعايش مع بني الإنسان كافة، ففيه من باب أولى متسع للتعايش بين المؤمنين، وإن كان هذا التعايش لا يعني أننا متفقون في كل شيء»[71].

وبحكم عالمية الخطاب الحضاري الإسلامي، وشموليه مفهوم التعارف الحضاري فإن مسألة الحوار[72] تشكل أحد أكثر الوسائل فاعلية لتحقيق التعارف الحضاري، والوصول بوعي الإنسان إلى لحظات الإبداع الحضاري الجماعي الذي يُسهم فيه أبناء الإنسانية المخلصين من كل ثقافة ودين وجنس عملاً من أجل نفي الخبث الحضاري واستنبات بذور التفاعل الحضاري بوصفه مدخلاً للتعارف والتفاهم والتعاون ومواجهة تحديات الحياة في عصر العالمية والعولمة. إن الاستثمار في مسألة التعارف الحضاري كما يطرحها القرآن الكريم يعد من المداخل الأساسية لتشكيل خطاب تجديدي حضاري يدفع بأمتنا وحضارتنا إلى آفاق العالمية الإسلامية[73] الكونية التاريخية العامة المؤسسة على القيم والخير العام للبشرية. وعلى هذا الأساس فإن منظور التعارف الحضاري القرآني يؤكد أنه من المفترض أن تتحول مسألة الحوار والحوار الحضاري إلى قضية سلوكية تربوية وإلى اتجاه حضاري عام يوجه البناء الثقافي والتشكيل النفسي لهذا الإنسان ويحدد رسالته بالنسبة لذاته ورسالته بالنسبة للآخرين. ذلك لأن الإسلام: «يهدف أولاً وقبل كل شيء إلى الوحدة الإنسانية العامة، والزمالة العالمية الشاملة، بأن يكون الناس جميعاً إخوة متوادين متحابين متساوين متكافئين حتى يستطيعوا أن يحققوا الرسالة العظمى التي خلقهم الله من أجلها»[74].

3-  الأمة من ثقافة ألَّا-حوار[75] (الانكفاء) إلى ثقافة الحوار أو التعارف الحضاري الرسالي

وعندما يفقد المجتمع العربي والمسلم ثقافة الحوار، ونفسية الحوار، ومنطق الحوار وتربية الحوار -كما هو الحال في كثير من الأماكن اليوم- فإنه يفقد بذلك إشعاعه الحضاري الداخلي والخارجي، ولا يصبح جوهر التعارف القرآني الحضاري ذا تأثير في حياته وعلاقاته. ويصاب بداء الانكفاء الحضاري على الذات والانعزال عن مجرى الفعل الحضاري الحاسم، كما هو وضعه الحالي؛ بحيث يفقد في بعض الأحيان حتى الشعور بوجود دور أو رسالة له أمام تحديات الواقع العالمي، وبالتالي يسكن وينعزل ويتهاون عن واجباته الحضارية الكبرى.

ومن هنا يتطلب الأمر النظر إلى الحوار الحضاري ليس بوصفه مجرد عملية تبادل للمعلومات والأفكار والآراء، وليس مجرد نقاش وتناقل للمعاني، وليس مجرد وسيلة للتفاهم الإنساني ولمعالجة المشكلات الإنسانية، ولكن بالإضافة إلى ذلك أن ينظر إلى الحوار الحضاري على أنه مدخل حيوي للتعارف الحضاري، الذي يشكل بدوره نقطة الانطلاق الكبرى في تجديد الذات وتجديد الوعي، وبالتالي الدخول في فعل حضاري يقود إلى التجديد الحضاري يكون مرتكزاً لأداء رسالة إزاء الذات والآخرين معاً، يكون محوراً للتربية الحضارية لشخصية الإنسان المتحاور. ومن هنا فبالنسبة للأمة العربية والإسلامية لا يمكن أن تكون هناك رسالة حضارية باتجاه العودة إلى الريادة والسيادة الحضارية قبل أن تتحقق كل شروط الحوار في ذواتنا وواقعنا وثقافتنا ومعارفنا ونظمنا التربوية والأسرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية، ولكن في ضوء الإطار التعارفي[76] الحضاري القرآني الذي يؤسس لإنسانية تتفاعل على أساس التقوى والصلاح والنفع العام للبشرية.

وبعبارة مبسطة إذا كان الحوار قيمة حضارية، وشاكلة ثقافية، ومرتكز اجتماعي، ونمط حياتي داخل وعي الأمة، فإن صلة الإنسان بذاته وبغيره ستكون متفاعلة وحيوية وذات ثمار حضارية بمقدار ما نربطها بمنظمة التعارف الحضاري القرآني وقيمه الإنسانية الكبرى. أما إذا كان الحوار مجرد عمل عرضي وإجراء مغيب عن الحياة العامة والخاصة وعن العلاقات المحلية والإقليمية والدولية والعالمية، فإن تحقيق الفاعلية الحوارية مع الذات ومع الآخرين يفقد المردودية والإنتاجية اللازمة للتفاعل الحضاري. ولهذا فنحن بحاجة إلى وعي وثقافة تعارفية حضارية تعزز نشاطات الحوار، وتعين على التأسيس لنسق معرفي حواري جديد ينبني على قيم التعارف التي تدعو إلى التعاون والتشارك والتبادل والاحترام. يقول الرئيس خاتمي: «فإذا ما أريد للحوار أن يكون بداية فصل جديد ونموذج معرفي غالب في العالم لا بد لنا أن نسمو بدعوتنا من مرحلة التحمل السلبي إلى مرحلة التعاون المشترك. قليلون هم المسلمون المطلعون على القرآن الكريم الذين يسمعون كلمة التعاون ولا يتذكرون دعوة القرآن المجيد للجميع بالتعاون على الخير {تَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} إن كل أفراد البشرية يجب أن يتمكنوا من حقهم أن يتعاونوا ويتعاضدوا في تحديد ملامح حركة سير العالم في بداية الألفية الثالثة للميلاد، لا يجوز تهميش أي شعب أو أي أمة أيًّا كانت التبريرات الفلسفية والسياسية والاقتصادية. فالآخرون لا يكفي أن نتحملهم فحسب بل يجب العمل معهم أيضاً. إن هذه الدعوة وإن كانت حتى الأمس القريب، بل وحتى بداية القرن العشرين، أشبه ما تكون بشعار أصالة الإنسان، لكنها اليوم باتت أساساً ضروريًّا لا بد منه من أجل استمرار الحياة البشرية»[77].

فإذا ما نظرنا إلى الحوار بهذه النظرة التعارفية الحضارية القرآنية، فإننا نكون قد جعلنا من الحوار قضية حضارية مصيرية يتحدد بها مصير الأمة كله في حاضرها ومستقبلها، وفي صلتها مع ذاتها ومع العالم المحيط بها. ويتحدد به مسار التجديد الحضاري القادم وعمقه وغاياته وآفاقه. والحوار بوصفه معياراً لفعالية الأمة أولاً يُنشئ أمامنا حالة منهجية حساسة ودقيقة، وهي أن الحوار ينبغي أن يطرح في إطار مشروع تثقيف حضاري شامل تتحدد به قسمات وآفاق الواقع الحضاري المتوازن الذي تنشده الأمة العربية والإسلامية. ومن هذا المنطلق فإنه من الخطأ المنهجي الفادح الحديث عن الحوار بوصفه وسيلة لإحداث بعض التوازنات السياسية أو التغييرات الاقتصادية الجزئية أو الحسابات الإيديولوجية أو المذهبية الضيقة -على أهميتها- أو معالجة بعض الأزمات الحزبية أو الديماغوجية. فالحوار ينبغي أن يطرح في سياق منظومة مفهومية متماسكة ومتكاملة تهدف إلى إعادة صياغة الوعي الحضاري والتربوي والثقافي لأبناء الأمة العربية والإسلامية بالكيفية التي يتشكل بها: إنسان الحوار، وأسرة الحوار، وثقافة الحوار، ودعوة الحوار، وتربية الحوار، وحضارة الحوار، وأمة الحوار بوصفه بديلاً جذريًّا لإنسان وثقافة وتربية وحضارة وأمة الانكفاء والانعزال عن مجرى الأحداث الحضارية العالمية الخطيرة.

4-  التعارف الحضاري: ضرورة المراجعة النفسية والاجتماعية والثقافية الشاملة

إننا بمقدار ما ندرك قضية الحوار -المؤسس على منظومة التعارف الحضاري القرآني- بوصفها قضية متجاوزة تماماً لكل الشكليات، والإيحاءات والاسقاطات الإيديولوجية والسياسية والثقافية والحضارية التي تهتم كثيراً بتحويل قضية الحوار إلى مجرد وسيلة تهدينية أو تسكينية تعالج بها المشكلات الجزئية، بمقدار ما نستعيد القيمة التربوية والحضارية الصحيحة والفعَّالة للحوار. ومن هنا وفي ظل وضع الأمة الخطير لا يجوز لنا بتاتاً أن نتصور الحوار بصورته السلبية، ولا يجوز لنا أن نوظفه توظيفاً غير سليم بل علينا أن نعود بالحوار إلى أصوله الكبرى[78] في الحضارة والثقافة العربية والإسلامية، وإلى تطبيقاته التاريخية والحضارية النموذجية وإلى ثمراته التربوية والتاريخية والحضارية والثقافية التي أظهر المغزى الحضاري للتعارف القرآني؛ حيث عاشت أمم وثقافات وحضارات في تفاعل وعطاء حضاري منقطع النظير.

وهناك قضية منهجية مهمة ينبغي الانتباه لها عند صياغة مشاريع بناء ثقافة الحوار الحضاري[79] المؤسَّس على منظور التعارف الحضاري القرآني وهي معرفة حالة المجتمع ومرحلته التاريخية، ووضعه الحضاري في اللحظة التي ينخرط فيها في الحوار مع ذاته ومع الحضارات الأخرى. والحوار الحضاري بين الحضارات والأمم قد يتم ويكون فيه المجتمع المحاور إما في وضع التخلف الحضاري أو ما قبل التحضر، وقد يكون في وضع التطور الحضاري، أو قد يكون في وضع ما بعد التحضر، أو التأزم الحضاري[80]. فما لم ندرك موقعنا من دورة الحوار، وما لم نحدد بدقة وضعنا النفسي والاجتماعي والثقافي والسياسي في لحظة الحوار، فإننا لا نستطيع أن نصل بالحوار وعمليته المنهجية المركبة إلى ثمراتها المرجوة.

إن المحاور[81] الذي يكون مجتمعه مجتمعاً متخلفاً من الناحية الحضارية، ومختلاً من الناحية الثقافية، وجامداً من الناحية العقلية الاجتهادية، وتابعاً من الناحية التقنية والتكنولوجية والعلمية والصناعية، ومستهلكاً من الناحية الاقتصادية يختلف تماماً عن ذلك المحاور المتقدم حضاريًّا، والمتوازن ثقافيًّا، والحيوي فكريًّا وعقليًّا، والمبدع تقنيًّا وتكنولوجيًّا وعلميًّا وصناعيًّا والمنتج اقتصاديًّا. والمحاور الذي يسير مجتمعه في طريق النمو والتطور يختلف بطبيعة الحال عن المحاور المتطور والمتحضر والمتقدم. وهذا النوع من التحديد المنهجي يقودنا إلى الحديث عن الحوار بوصفه نتاجاً ثقافيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا وعلميًّا. وهنا ينبغي تركيز الكلام عن: ثقافة التعارف والحوار، ونفسية الحوار، وسوسيولوجية الحوار، وحضارية الحوار، وعلمية الحوار، ومنهجية الحوار. وبهذا التحديد نتجاوز المعنى الدارج للحوار بوصفه مجرد كلام أو لقاء أو تبادل للأفكار بأي شكل كان إلى الحديث عن الحوار في جوانبه الثقافية والسيكولوجية والسوسيولوجية والمعرفية والمنهجية والأداتية.

والحوار[82] عادة ما يكون تابعاً ومتأثراً بالواقع والظروف التي يمر بها المجتمع ونوعية الثقافة السائدة، ودرجة التحضر أو التخلف، ونفسية الناس ودوافعهم للحوار، ومن هنا كان لزاماً علينا ألَّا نعزل مسألة الحوار عن الواقع الاجتماعي والحضاري والثقافي والنفسي القائم. فنحن كثيراً ما نصف خصومنا بأنهم لا يرغبون في الحوار، وكثيراً ما نُرجع سبب غياب الحوار في الميدان السياسي والفكري والثقافي إلى المشاكل الشخصية، والأغراض الذاتية أو إلى حرب المواقع والتحزبات التي تقع داخل البناء الاجتماعي في مراحل تاريخية معينة. ولكن القليل منا من يحاول أن يتجاوز هذا الطرح السطحي لمسألة خطيرة، ومفصلية في البناء الحضاري المعاصر للأمة العربية والإسلامية. والأسباب الجوهرية التي تقبع وراء غياب ثقافة الحوار أو عدم فعالية الحوار أو تحريف الحوار عن مساراته أو استخدام الحوار في غير مضمونه ولغير أهدافه تعود بالدرجة الأولى إلى التشكيلات الثقافية والنفسية والاجتماعية للإنسان والمجتمع، وإلى القيم الحضارية والفكرية والعقلية السائدة في فترة تاريخية[83] معينة وفي واقع اجتماعي معين. ومن هنا فمسألة الحوار ينبغي أن تطرح أولاً على بساط البحث الخاص بعلوم الإنسان والاجتماع والعمران الإنساني. لكي نستكشف العوامل الدفينة في النفسية العربية والإسلامية وفي النفسية الإنسانية، وفي الثقافة العربية والإسلامية[84] وفي الثقافة الإنسانية، وفي السوسيولوجية العربية والإسلامية وفي السوسيولوجية الإنسانية، وفي العقلية والذهنية العربية والإسلامية، وفي الذهنية الإنسانية. فهذه هي العوامل الخطيرة التي ينبغي أن نقوم بتحليلها لكي نتعرف على مواطن الضعف في البناء النفسي والثقافي والاجتماعي والعقلي والحضاري الذي يُعيق تخريج الإنسان والمجتمع المتعارف والمتحاور بنفسية منفتحة، وذهنية وقَّادة وعقلية منهجية. فمشكلات الحوار عادة ما ترجع في أساسها إلى التكوين الديني للإنسان، والتكوين النفسي، والتكوين الثقافي، والتكوين الاجتماعي، والتكوين العقلي والذهني والمنهجي للإنسان، والتكوين الحضاري العام. وبالتالي فإن أي حديث عن الحوار بوصفه عملية منهجية جماعية مركبة يقتضي منا النظر في النفسية والثقافة والسوسيولوجية والعقلية والذهنية السائدة في المجتمع، ونقوم بإجراء أي تعديل باتجاه بناء الشخصية المتحاورة[85] والثقافة المتحاورة والاجتماع المتحاور والعقلية المتحاورة قبل أن نرغم الناس على الحوار، ونكرر الكلام، ونضيِّع الجهد والوقت والإمكانات في نقاشات، وجدالات، وحوارات تفتقر إلى أهم أسس الحوار المثمر والمنتج.

الخاتمة

من خلال هذا العرض المقتضب لمسألة التجديد الحضاري بين ضرورتي المنظور الاستخلافي العالمي وثقافة التعارف الحضاري نخلص إلى أن الأمة ما زالت بحاجة إلى جهد منهجي معرفي تربوي تثقيفي توجيهي على كل المستويات من أجل توفير المناخ والجو الذي تنمو فيه الثقافة التجديدية، وتترسخ فيه لغة العلم والمنهج، وتتحكم فيه سُنن الله وقوانينه، ويُحكم فيها العقل المنضبط بالوحي وتوجيهاته. إنه واضح تماماً من معطيات الواقع وظروف الأمة وتحولات العالم الحديث، وتأثيرات العالمية والعولمة أن عملية التجديد الحضاري ستستوعب من الأمة عشرات السنين، وتتطلب جهود الجميع من الساسة والعلماء والأغنياء وكل أبناء الأمة المخلصين. إن عملية التجديد الحضاري للأمة قد انطلقت منذ مدة طويلة، ولكن هذه العملية لها مراحل وشروط ومقومات ومناهج ووسائل وأهداف مرحلية واستراتيجية، وتحكمها قوانين وسُنن وطبائع. فلو سألنا اليوم مؤسسات التجديد الحضاري، ونخب الوعي في الأمة عن المرحلة التي تقف فيها عملية التجديد في هذه اللحظة من تطورنا، ولو سألنا عن المشاريع والاستراتيجيات التي نسير وفقها لتحقيق أهداف التجديد، ولو سألنا عن مناهج التجديد، وعن البرامج والحلول المعدة لمواجهة متطلبات كل مرحلة من مراحل التجديد، ولو سألنا عن كل ما يتعلق بمسألة التجديد الحضاري، فإنَّا ومن دون شك سنجد فقراً مدقعاً في الإجابات، وسوف نتعرف عن كثب على النقص الفضيع في عمق مناهجنا التجديدية، وعن الذهول الكبير عن السُّنن التي تحكم التجدد في كل مراحله وقسماته، وعن الكثير من الأنشطة التي تقوم في مختلف بلاد الإسلام والعالم باسم التجديد ولكن يمكن تسمية الكثير منها «أنشطة وفعاليات ما ضد التجديد السُّنني للأمة». إن أكبر مظهر من مظاهر التخبط والتراوح والاضطراب في وعينا التجديدي، وفي فعلنا التجديد الحضاري أمور كثيرة حاول هذا البحث أن يشير إلى أمرين هما:

1- غياب المنظور الاستخلافي العالمي.

2- وغياب ثقافة التعارف الحضاري في كثير من جهودنا ونشاطاتنا.

وعلى هذا الأساس فإن المطلوب الآني والأساسي هو أن تعمل مؤسسات التجديد والفكر في الأمة على تغطية النقص الفظيع في المنظور الاستخلافي للتجديد الحضاري؛ إذ المطلوب هو صياغة نظرية إسلامية استخلافية في التجديد الحضاري تحدد لنا الأهداف والمناهج والوسائل والأساليب والمشاريع والبرامج والخطط، وطرق الإدارة والتوجيه، ومهارات التنفيذ والأداء والمراجعة والتقويم... وتحدد لنا الأسباب والأعراض، وتحدد لنا كيف تؤثر العوامل التربوية والثقافية والسياسية والاجتماعية والحضارية والعسكرية والاقتصادية والفنية والأدبية في التجديد، وتحدد لنا كيف تؤثر العوامل الداخلية والعوامل الخارجية... إننا بحاجة إلى نظرية حضارية متكاملة في التجديد الحضاري يتحدد فيها كل ما له صلة بالتجديد فهماً وتنفيذاً ومراجعة واستمرار... إن الوصول إلى هذا الوعي والعمق سيقود فعاليات التجديد إلى أهدافها بصورة منهجية مطردة ويومها سوف تتعلم الأمة من جديد فن التجديد الحضاري، وتقوده بكل جدارة. ولكن ومن أجل تحقيق هذا الوعي يتطلب الأمر التمكن من دراسة القرآن والسنة دراسة منهجية متكاملة، وكذلك توظيف معطيات ومناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية والسلوكية بشكل أصيل وفعّال لبناء ما يمكن نعته بالقدرات اللازمة لإنتاج الوعي والمعرفة التي تقود إلى التجديد.

ومما خلصت إليه الدراسة هي تأكيد أهمية تشكيل ثقافة التعارف الحضاري القادر على تأهيل الأمة لممارسة واجباتها في التجديد الحضاري الذي يقود إلى الشهود الحضاري بوصفه مشروعاً تؤدي من خلاله الأمة رسالتها في العبادة والإعمار والإنقاذ والتعارف. ومن أجل بناء ثقافة التعارف الحضاري المنشود بوصفه مدخلاً للتجديد الحضاري ينبغي الاهتمام بالمسائل الآتية:

أولاً: مراعاة وضع الإنسان والمجتمع من قيم الواقع المتحضر أو المتخلف.

ثانياً: النظر إلى الحوار بوصفه عملية منهجية جماعية مركبة.

ثالثاً: عملية الحوار بوصفها دورة إنجازية مركبة تنطلق من قضايا وتصل إلى نتائج وتحقق ثمرات وتراجع أخطاءها وهكذا دواليك.

رابعاً: عملية الحوار في صلتها مع علوم الإنسان والاجتماع والعمران الإنساني.

خامساً: فهم الأبعاد المعرفية والحضارية والدينية للحوار أو التعارف.

سادساً: تطوير مشروع تربوي تثقيفي عملي تطبيقي من أجل تشكيل ثقافة الحوار في ضوء منظور التعارف الحضاري القرآني المشبع بالقيم والأخلاق الإنسانية الحضارية.

 



[1]* دكتوراه في الدراسات الحضارية والفكر الإسلامي، يعمل أستاذاً بقسم الدراسات العامة، كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية، الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا. 

[2] من أجل فهم أعمق لهذه النظريات يمكن الرجوع إلى هذه المراجع الغربية: Anthony Giddens with the assistance of Karen Birdsall, Sociology, Fourth Edition (Cambridge: Ploity Press, 2001); Piotr Sztompka, The Sociology of Social Change (Oxford UK & Cambridge USA, 1994); Robert H. Lauer, Perspectives on Social Change, Fourth Edition (USA: Allyn and Bacon, 1991).

[3] زكي الميلاد، الفكر الإسلامي: قراءات ومراجعات (لندن وبيروت: مؤسسة الإنتشار العربي، 1999م، ط1)، ص 142.

[4] من الأهمية وضع موضوع التجديد الحضاري على بساط البحث العلمي بوصفه علماً ينبغي العمل الدؤوب من أجل تشكيله. انظر في هذا السياق ملاحظات: عمر عبيد حسنة، في النهوض الحضاري: بصائر وبشائر (بيروت: المكتب الإسلامي، 1996م، ط1)، ص 39 وما بعدها.  

[5] انظر: قضايا إشكالية في الفكر الإسلامي المعاصر: مستخلصات أفكار ندوات ومحاضرات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، تحرير وإشراف: نصر محمد عارف (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1997م، ط1).

[6] عمر عبيد حسنة، حتى يتحقق الشهود الحضاري (بيروت: المكتب الإسلامي، 1991م، ط1)، ص 183 وما بعدها.

[7] عبد العزيز برغوث، الرؤية الكونية الإسلامية والتجديد: دراسة من منظور حضاري (كوالالمبور: مركز بحوث الجامعة الإسلامية العالمية، 2005م، ط1)، 148.

[8] انظر: شاكر النابلسي، الفكر العربي في القرن العشرين: 1950 - 2000م، 3 أجزاء (الأردن: المؤسسة لعربية للدراسات والنشر، 2001م، ط1).

[9] ومن هؤلاء جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده ورشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد بن عبد الوهاب والسنوسي وعبد الحميد بن باديس وولي الله الدهلوي ومحمد إقبال وأبو الأعلى المودودي، وسعيد النورسي وسيد قطب وحسن البنا وغيرهم كثير...

[10] راجع على سبيل المثال الجهود التي تتضمن دراسات وتحليلات لمختلف الأدبيات التي ترجع إلى هذا الموضوع مثل: أحمد محمد جاد عبد الرزاق، فلسفة المشروع الحضاري بين الإحياء الإسلامي والتحديث الغربي، سلسلة الرسائل الجامعية، ج1وج2 (هيرندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1995م، ط1)؛ علي المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة (بيروت: الأهلية للنشر، 1983م)؛ قيس خزعل العزاوي، الفكر الإسلامي المعاصر (بيروت: دار الرازي، 1992م)؛ طه جابر العلواني، الأزمة الفكرية المعاصرة: تشخيص ومقترحات علاج (واشنطن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1993م)؛ زكي الميلاد، الفكر الإسلامي، مرجع سابق؛ زكي الميلاد، الفكر الإسلامي: تطوراته ومسارته الفكرية ( بيروت: دار الهادي، 2001م، ط1)؛ محسن عبد الحميد، تجديد الفكر الإسلامي (فرجينيا: منشورت المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1999م). وانظر كذلك هذه الندوات: اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، 22 - 25/ 2/ 1985م، البحرين، كتاب صادر عن مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1987م؛ الندوة الثانية لمستجدات الفكر الإسلامي والمستقبل، الكويت، الأمانة العامة للأوقاف، 1993م؛ ندوة قضايا المستقبل الإسلامي، تنظيم: مركز دراسات المستقبل الإسلامي والمعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية، 2 ماي، 1990م؛ ندوة الحركة الإسلامية في ظل التحولات الدولية وأزمة الخليج، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 10/ 7/ 1991م.

[11] ومن أمثلة ذلك: جمال الدين الأفغاني، الأعمال الكاملة: دراسة وتحقيق: محمد عمارة (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات، 1979م)؛ رفاعة رافع الطهطاوي، الأعمال الكاملة، جمع وتقديم: محمد عمارة (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1973 - 1981م)؛ أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث (القاهرة: مكتبة النهضة، د.ت)؛ مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة: عبد الصبور شاهين (دمشق: دار الفكر، 1986م)؛ محمد حسين فضل الله، المشروع الحضاري الإسلامي (بيروت: مؤسسة التعارف، 1991م).

[12] يمكننا اعتبار لحظة مالك بن نبي من أهم اللحظات المهمة في الاتجاه نحو خط التحليل المنهجي وإخضاع ظاهرة التجديد للدراسة العلمية المنهجية التي توظف معطيات العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة في التعاطي مع الظاهرة. فهو يُعد من القلائل في وقته الذين فهموا نظريات التغيير ضمن نسق العلوم الإنسانية الغربية الحديثة ووظفوها لتحليل قضايا الأمة ومشكلاتها تحت تسمية «مشكلات الحضارة». وحتى لو عاب عليه بعض النقاد توظيفه لهذه النظريات، واستخدامه لمصطلحات تلك العلوم في دراسة قضايا الأمة تحت مسمى أنه أخذ مصطلحات ومفاهيم من نسق معرفي وثقافي مغاير ليوظفها في إطار ونسق معرفي وثقافي مختلف في الكثير من الأشياء، فإن الحقيقة الماثلة أمامنا اليوم هي أن الأستاذ ابن نبي تمكن من وضع يده على الجرح الغائر في نفسية الإنسان المسلم وثقافته وحضارته وفكره ووعيه. لقد أظهر حيوية متميزة في مقاربة  مشكلات الأمة مستفيداً من الخبرة والمعرفة الغربية الحديثة دون أن يتنازل عن منظوره الحضاري الإسلامي. يذكر الأستاذ الدكتور إبراهيم محمد زين أنه «وعلى الرغم من توظيفه لكثير من مصطلحات علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم الطبيعية، والفلسفة، وفلسفة التاريخ، وهي علوم أغلبها تطور في الغرب، فإنه استطاع تطويعها، وتوظيفها ضمن سياق آخر، جعل منها لبنة أصيلة في بنائه الفكري، ومنظوره الحضاري [...] فقد كان يرى الأشياء بتلك البصيرة الحضارية التوحيدية». إبراهيم زين، «أبعاد رؤية مالك بن نبي الحضارية»، الشاهد الدولي، المجلد الأول، العدد: 3، نوفمبر 1997م، ص 7 وما بعدها.

[13] محمد أحمد كنعان، أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، سلسلة كتاب الأمة، العدد 25، الطبعة الأولى، قطر،  وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1411هـ، ص 28.

[14] انظر على سبيل المثال لا الحصر: محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة: عباس محمود (القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1968م، ط2)؛ أبو الأعلى المودودي، موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه وواقع المسلمين وسبيل النهوض بهم، ترجمة: محمد كاظم سباق (بيروت: دار الفكر، 1968م، ط3)؛ أبو الحسن الندوي، رجال الفكر والدعوة في الإسلام (الكويت: دار القلم، 1973م)؛ مالك بن نبي، ميلاد مجتمع: شبكة العلاقات الاجتماعية (دمشق: دار الفكر، 1977م)؛ محمد الفاضل بن عاشور، روح الحضارة الإسلامية، ضبطها وقدم لها عمر عبيد حسنة (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1992م، ط1)؛ أمين الخولي، المجددون في الإسلام (القاهرة: مكتبة الآداب، 1962م)؛ سليمان الخطيب، فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي: دراسة إسلامية في ضوء الواقع المعاصر (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1993م، ط1)؛ فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981م، ط2)؛ جودت سعيد، حتى يغيروا ما بأنفسهم، الطبعة الثالثة (دمشق: دار الفكر ، 1977م)؛ محمد محمود سفر، دراسة في البناء الحضاري: محنة المسلم مع حضارة عصره، كتاب الأمة، رقم: 21 (قطر: وزارة الأوقاف، 1409هـ، ط1)؛ يوسف القرضاوي، أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة (القاهرة: مكتبة وهبة، 1991م، ط2)؛ جمال سلطان، تجديد الفكر الإسلامي (الرياض: دار الوطن، 1412هـ، ط1)؛ سيد دسوقي حسن، مقدمات في البعث الحضاري (الكويت: دار القلم، 1987م، ط1)؛ سيد دسوقي حسن، دراسة قرآنية في فقه التجديد الحضاري، سلسلة: في التنوير الإسلامي، رقم: 4 (القاهرة: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 1998م)؛ حسن الترابي، الدين والتجديد (تونس: دار الراية، بدون تاريخ)؛ الطيب برغوث، الفعالية الحضارية والثقافة السننية، منشورات مركز التفاهم الحضاري والتربية (كوالالمبور: أسليتا سيندريان برحاد، 2002م، ط1)؛ الطيب برغوث، مدخل إلى سنن الصيرورة الاستخلافية: دراسة في سنن التغيير الاجتماعي، منشورات: مركز التفاهم الحضاري والتربية (كوالالمبور: أسليتا سيندريان برحاد، 2002م، ط1)؛ الطيب برغوث، التجديد الحضاري وقانون الواقعية، منشورات مركز التفاهم الحضاري والتربية (كوالالمبور: اسليتا سيندريان برحاد، 2000م).

[15] انظر: ماجد الغرباوي، إشكاليات التجديد، سلسلة قضايا إسلامية معاصرة (بيروت: دار الهادي، 2001م، ط1)، ص 15 وما بعدها، ص 25 وما بعدها. 

[16] انظر: مناهج التجديد، سلسلة آفاق التجديد، تحرير وحوار: عبد الجبار الرفاعي (بيروت: دار الفكر المعاصر، ودمشق: دار الفكر، 2000م، ط1)، ص 57 وما بعدها، ص 107 وما بعدها، ص 183 وما بعدها.

[17] لقد كان أرنولد تويمبي من كبار المفكرين الغربيين الذين اختاروا مفهوم الحضارة بوصفه وحدة التحليل في دراسته الضخمة عن التاريخ وفلسفته.

[18] لفهم الآراء المختلفة حول مفهوم التجديد يمكن الرجوع إلى: بسطامي محمد سعيد، مفهوم تجديد الدين (الكويت: دار الدعوة، 1984م، ط1)، ص ص 13 - 30؛ عدنان محمد أمامة، التجديد في الفكر الإسلامي (المملكة العربية السعودية: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، 1414هـ)، ص ص 16 - 44؛ عبد الرحمن الحاج إبراهيم، «التجديد: من النص إلى الخطاب، بحث في تاريخية المفهوم، مجلة التجديد، مجلة فكرية نصف سنوية محكمة، السنة الثالثة، العدد السادس، أغسطس 1999م، الجامعة الإسلامية العالمية، ماليزيا، ص 112-125.

[19] انظر: أدريان بيري، الخمسمائة عام القادمة، ترجمة: عثمان أحمد عبد الرحيم، مراجعة: محمد عطا المنان، الإمارات العربية المتحدة: (إصدارات المجمع الثقافي، 2000م).

[20] عبد العزيز برغوث، المنهج النبوي والتغيير الحضاري، كتاب الأمة، رقم: 43، الطبعة الأولى، (قطر: وزارة الأوقاف، والشؤون الإسلامية،  1995)، 65 وما بعدها.

[21] عبد العزيز برغوث، مقومات التجديد الحضاري عند بديع الزمان النورسي، منشورات مركز الفكر الحضاري والتربية، الطبعة الأولى، (كوالالمبور: منشورات يونيفجن، 1999)، 19 وما بعدها.

[22] يقول هنتنغتون: «إننا لا نعيش في عالم من البلدان التي تتسم بـ(عزلة الدول)، ولا صلات بينها، بل إن عالمنا هو عالم التجمعات المتداخلة من الدول التي تجمع بينها، بدرجات متباينة، التاريخ والثقافة والدين واللغة والموقع والمؤسسات. وعلى المستوى الأعرض، فإن هذه التجمعات هي حضارات. وإنكار وجودها إنكار للحقائق الأساسية للوجود الإنساني» هنتنغتون، «إن لم تكن حضارة، فماذا تكون؟»، الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها (بيروت: مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، 2000م، ط1)، ص 80. والغريب أن هذا التصريح الجيد يختفي تماماً في الكثير من خلاصات السيد هنتنغتون وخاصة في مقاله الشهير عن صدام الحضارات.

[23] حامد الربيع، الثقافة العربية بين الغزو الصهيوني وإرادة التكامل القومي (القاهرة: دار الموقف العربي، 1983م)، ص 23. 

[24] هادي المدرسي، لئلا يكون صدام حضارات: الطريق الثالث بين الإسلام والغرب (لبنان: دار الجديد، 1996م، ط1)، ص 72.

[25] الطيب برغوث، مرجع سابق، ص ص 44 - 45.

[26] عبد العزيز برغوث، مقومات التجديد الحضاري في عصر العولمة: دراسة في فكر الأستاذ النورسي (كوالالمبور: آسليتا سيندرين برهاد، 2003م، ط3)، ص 22 وما بعدها.

[27] هادي المدرسي، مرجع سابق، ص ص 125 - 126.

[28] ينبغي أن يكون واضحاً أن المقصود بالحضارة العالمية هنا ليس وجود حضارة واحدة مركزية أو ذوبان كل الحضارات البشرية في حضارة واحدة وإنما المقصود وصول الوعي البشري إلى نوع من الوجود العالمي والتأثير العالمي بحيث يُشكل ميثاقا عالميًّا للتعايش والتفاهم والتدافع بين الحضارات الموجودة دون استثناء. فالحضارة العالمية تفترض بمنطقها اختفاء فكرة الحضارة المركزية أو المركز الحضاري المهيمن والمستقطب للآخرين بالقوة وبغيرها. ولكن هذه العملية قد تأخذ عقوداً من الزمان حتى تتجسد بالمعنى المشار إليه هنا، حيث تظهر قوى منافسة تحدث التوازن. 

[29] المدرسي، مرجع سابق، ص ص 125 - 126.

[30] مايكل هوارد، «أميريكا والعالم»، نقلاً عن: صاموئيل هنتنغتون، «الغرب فريد وليس عالميًّا»، الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها (بيروت: مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، 2000م، ط1)، ص 168.

[31] صاموئيل هنتنغتون، «الغرب فريد وليس عالميًّا»، ص 166.

[32] على الرغم من انحياز هنتنغتون إلى المصلحة الأمريكية وفكرة المركزية الأمريكية بالشكل الجديد الذي تهيمن فيه أمريكا في إطار التنوع والمصالح المشتركة، إلا أن النص والشهادة التي يدلي بها هنا شهادة مهمة.

[33] صاموئيل هنتنغتون، مرجع سابق، ص 170.

[34] الطيب برغوث، مرجع سابق، ص ص 55 - 56.

[35] عبد العزيز برغوث، مشروع الفكر الحضاري: ضرورة تجديد الإنسان والفكر والتربية والثقافة، (كوالالمبور: الشروق، 2003م، ط1)، ص 4 وما بعدها.

[36] عمر عبيد حسنة، الشاكلة الثقافية: مساهمة في إعادة البناء (بيروت: المكتب الإسلامي، 1993م، ط1)، ص 98 وما بعدها.

[37] انظر: نحو مشروع حضاري لنهضة العالم الإسلامي: أبحاث ووقائع المؤتمر العام الحادي عشر للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 22 - 25/ 7/ 1999م، إشراف وتقديم: محمود حمدي زقزوق (القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 2000م).

[38] عبد الكريم بكار، نحو فهم أعمق للواقع الإسلامي (جدة: دار البشري، 1999م، ط1)، ص 13 وما بعدها.

[39] المدرسي، مرجع سابق، ص 81.

[40]  تُطرح قضية التخلف الحضاري هنا بمعناها السُّنني الوجودي العام. أي بوصفها سنة كونية اجتماعية تصيب المجتمعات الإنسانية عموماً. يقول الأستاذ الطيب برغوث: «لقد شكّلت قضية الضعف والتخلف هَمًّا مركزيًّا للأنسان، وهاجساً مرعباً لا يفارقه، فهو مسكون بالخوف والاستضعاف، حتى وهو في حالة قوة وتمكين... وفي القرآن تحليلات نفسية واجتماعية عميقة لظاهرة الضعف والتخلف، ولآثارهما الحضارية الخطيرة، تجاوزت مرحلة الوصف الدقيق للظاهرة ولتداعياتها المختلفة إلى مراحل التفسير وتقديم البدائل التربوية الشاملة والعميقة كما نلحظ مثلاً في قوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ...}(المعارج: 19-23). انظر: الطيب برغوث، مدخل إلى سنن الصيرورة الاستخلافية: دراسة في سنن التغيير الاجتماعي، منشورات مركز التعارف الحضاري والتربية (كوالالمبور: آسليتا سيندرين برهاد، 2002م، ط1)، ص 15. 

[41] عمر عبيد حسنة، تأملات في الواقع الإسلامي (بيروت: المكتب الإسلامي، د.ت. ط 1)، ص 15.

[42] جمال الدين عطية، الواقع والمثال في الفكر الإسلامي المعاصر (بيروت: دار الهادي، 2001م، ط1)، ص 23 وما بعدها.

[43] سيد دسوقي حسن، دراسة قرآنية، مرجع سابق، ص 39 وما بعدها.

[44] انظر: رضوان السيد، المسألة الثقافية في العالم العربي والإسلامي، سلسلة حوارات لقرن جديد، إعدد: عبد الواحد العلواني (بيروت: دار الفكر المعاصر، ودمشق: دار الفكر، 1998م)، ص 13-49.

[45] حيدر عبد الكريم القدير، المسلمون والبديل الحضاري (فيرجينيا، هيرندن، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1992م، ط2)، ص 13 وما بعدها.

[46] انظر: مشكلات في طريق النهوض/ مجموعة أبحاث شارك فيها كبار العلماء، إشراف: محمد عدنان سال، شوقي أبو خليل، نزار أباظة (دمشق وبيروت: دار الفكر ودار الفكر المعاصر، 2002م، ط1).

[47] زكي الميلاد، الفكر الإسلامي: تطوراته ومسارته الفكرية، مرجع سابق، ص 62.

[48] جمال الدين عطية، مرجع سابق، ص 133 وما بعدها.

[49] سيد دسوقي حسن ومحمود محمد سفر، ثغرة في الطريق المسدود: دراسة في البعث الحضاري (دار آفاق الغد، 1981م، ط1)، ص 17 وما بعدها.

[50] يوسف القرضاوي، الإسلام: حضارة الغد (بيروت: المكتب الإسلامي، 1998م، ط3)، ص 111.

[51] راجع: طه جابر العلواني، إصلاح الفكر الإسلامي: مدخل إلى نظم خطاب الفكر الإسلامي المعاصر (فيرجينيا: الدار العالمية للكتاب الإسلامي والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1995م، ط3)، ص 21 وما بعدها.

[52] أحمد القديري، نحو مشروع حضاري للإسلام، كتاب دعوة الحق، رابطة العالم الإسلامي، العدد: 171، 1417هـ، ص 155 وما بعدها. 

[53] الطيب برغوث، سنن الصيرورة الاستخلافية، مرجع سابق، ص 18.

[54] يقول زكي الميلاد: «المشتغلون في حقل الحركة الإسلامية والمفكرون فيها يدركون في هذه الفترة أكثر من أي فترة مضت ضرورة تجديد الحركة الإسلامية والفكر الحركي الإسلامي بعد أن تغيرت الظروف وتطورت الأوضاع... يضاف إلى ذلك أن جيلاً جديداً من الكفاءات الشابة دخل على ساحة الحركة الإسلامية وأخذ يتصدى لفعاليات حيوية، كما أن جيلاً جديداً من الحركات الإسلامية ظهر إلى الوجود على خلفية تجاوز إشكاليات ومحن الحركات الإسلامية التقليدية أو القديمة. والقناعات اليوم تتأكد بضرورة تجديد الفكر الحركي الإسلامي». زكي الميلاد، الفكر الإسلامي: تطوراته ومسارته الفكرية، ص 70.

[55] ماجد عرسان الكيلاني، إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها، سلسلة كتاب الأمة، رقم 30 (قطر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1412هـ، ط1)، ص 111 وما بعدها.

[56] راجع: أحمد القديدي، «نحو مشروع حضاري للإسلام»، دعوة الحق: كتاب شهري يصدر عن رابطة العالم الإسلامي، العدد: 171 (الرياض: الشركة السعودية للتوزيع، السنة 15، د.ط)، ص 149 وما بعدها.

[57] محمد سعيد رمضان البوطي، منهج الحضارة الإسلامية في القرآن (دمشق: دار الفكر، 1998م، ط2)، ص 19 وما بعدها.

[58] راجع: محمد حسين فضل الله، المشروع الحضاري الإسلامي (بيروت: مؤسسة التعارف، 1991م). 

[59] عمر عبيد حسنة، على طريق الشهود: ملامح وآفاق (بيروت: المكتب الإسلامي، 2001م، ط1)، ص 27 وما بعدها.

[60] انظر: عدنان علي رضا النحوي، حتى نغيّر ما بأنفسنا (الرياض: دار البحوث للنشر والتوزيع، 2002م، ط1)، ص 181 وما بعدها.

[61] راجع: عمر عبيد حسنة، مراجعات في الفكر والدعوة والحركة (هيرندن: الدار العالمية للكتاب والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1994م ط2)، ص 4 وما بعدها.

[62] الحديث هنا على موضوع التعارف الحضاري الاستخلافي أعمق بكثير من مسألة الحوار الحضاري؛ وقد تكون هذه الأخيرة وسيلة من وسائل التعارف الحضاري. فالتعارف الحضاري إطار معرفي ومنهاجي وحضاري واستخلافي لبناء العلاقات الإنسانية وفهم الآخر في ضوء منظومة مفردات الوحي الإلهي. وعلى هذا الأساس يعتبر موضوع التعارف الحضاري مفصلي لمن يريد أن يجدد في عصر العالمية والعولمة، ولهذا السبب أدرجناه ضمن نطاق هذا البحث.

[63] حسن الترابي، «أطروحات الحركات الإسلامية في مجال الحوار مع الغرب»، الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها (بيروت: مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، 2000م، ط1)، ص 128.

[64] عبد العزيز التويجري، الإسلام والتعايش بين الأديان في أفق القرن الحادي والعشرين (الرباط: مطبعة المعارف الجديدة، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، 1998م)، ص 12 وما بعدها.

[65] الترابي، مرجع سابق، ص 131.

[66] انظر: اندراوس بشته وعادل تيودور خوري، عالم واحد للجميع، أعمال المؤتمر المسيحي الإسلامي الدولي الثاني، 13 آيار (لبنان: المكتبة البولسية، 1997م).

[67] انظر: ماجد الغرباوي، إشكاليات التجديد، مرجع سابق، ص 43 وما بعدها.

[68] الترابي، مرجع سابق، ص 129.

[69] الحجرات: 13.

[70] التويجري، الإسلام والتعايش، ص 17.

[71] حسان حتحوت، رسالة إلى العقل العربي المسلم (القاهرة: دار الحياة، 1998م، ط1)، ص 153.

[72] انظر: الترابي، مرجع سابق، ص 133 وما بعدها.

[73] يقول الرافعي: «فعالمية الإسلام تجعل الثقافة والحضارة الإسلاميتين منفتحتين على حضارات الأمم ومتجاوبتين مع ثقافات الشعوب مؤثرتين ومتأثرتين». مصطفى الرافعي، الإسلام دين المدنية القادمة (لبنان: الشركة العالمية للكتاب، 1990م)، ص 14.

[74] المرجع نفسه، ص 106.

[75] يقول زكي الميلاد واصفاً مرحلة ولحظة من لحظات تطور الوعي والفكر الإسلامي: «ومن الضعف الذي أصاب الخطابات الإسلامية، والذي تأثرت منه بمزيد من الانكفاء والانطواء على الذات، والانغلاق على الثقافات الأخرى إلا بمقدار محدود، وانصرفت نحو الانشغال بالدراسات الإسلامية التقليدية المعزولة عن تفاعل الناس معها وعن حاجات المجتمع، وتحت هذه الظروف لم يكن باستطاعة الخطابات الإسلامية أن تكوِّن رؤية معرفية حضارية...» زكي الميلاد وتركي علي الربيعو، الإسلام والغرب: الحاضر والمستقبل، سلسلة حوارات لقرن جديد (بيروت: دار الفكر المعاصر، 1998م، ط1)، ص 33.

[76] سيد دسوقي حسن، دراسة قرآنية، مرجع سابق، ص 23 وما بعدها.

[77] السيد محمد خاتمي، «حوار الحضارات»، الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها (بيروت: مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، 2000م، ط1)، ص 241 وما بعدها.

[78] محمد سليم العوا، «حوار الحضارات: شروطه ونطاقه»، الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها، (بيروت: مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، 2000م، ط1)، ص 256.

[79] العوا،  مرجع سابق، 241 وما بعدها. 

[80] لمالك بن نبي نظرات ثاقبة في مسألة أوضاع المجتمع المختلفة وتغير الثقافة والنفسية في كل وضع من الأوضاع أو مرحلة من مراحل تطور المجتمع، انظر على سبيل المثال: مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة: عبد الصبور شاهين وعمر كامل مسقاوي (دمشق: دار الفكر، 1979م)، ص 47 وما بعدها؛ ومالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة: عبد الصبور شاهين (دمشق: دار الفكر، 1988م)، 37 وما بعدها.  

[81] راجع: محمد حسين فضل الله، الحوار في القرآن: قواعده، أساليبه، معطياته (بيروت: دار الملاك، 1996م، ط5)، ص 68 وما بعدها.

[82] راجع: ابراهيم أحمد الوقفي، الحوار لغة القرآن الكريم والسنة (القاهرة: دار الفكر العربي، 1983م، ط 1)، ص 80 وما بعدها.

[83] Norman Daniel, Islam and the West: The Making of an Image, One World (Oxford: 1993), p. 35.

[84] راجع: خصائص الثقافة العربية والإسلامية في ظل حوار الثقافات، سلسلة: محاضرات حوار الحضارات، إعداد وتقديم: نادية محمود مصطفى، مراجعة وتحرير: أسامة أحمد مجاهد (القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، 2006م، ط1)، ص ص 5 - 191. 

[85] العوا، مرجع سابق، ص 245.