شعار الموقع

أثر الفكر الأوروبي على الفكر الإسلامي في القرن التاسع عشر

عارف عادل مرشد 2007-09-20
عدد القراءات « 3239 »

 

(دراسة تحليلية)

[1]

* المقدمة

سوف نرى في هذه الدراسة أن هناك نزعة تغريبية واضحة في الفكر الإسلامي في المشرق العربي في القرن التاسع عشر، بحيث تعمل هذه الدراسة على معرفة كيف جاءت هذه النزعة؟ وكيف استطاع الفكر الإسلامي أن يتعامل مع هذا الفكر الغربي؟

إن الفكر الإسلامي في المشرق العربي في القرن التاسع عشر، كان قد تأثر بالفكر الغربي بجميع أبعاده. فهو ليس نتيجة طبيعية لامتداد فكري إسلامي انحسر منذ وفاة ابن خلدون في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، وأصبح يقف عاجزاً عن مجاراة النهضة الفكرية الأوروبية التي ابتدأت منذ أواخر القرن السابق الذكر. وبالتالي ذلك الموقف العاجز أدى إلى صدمة حضارية بذلك الفكر الغربي ومجتمعه أولاً، ومحاولة استعياب ذلك الفكر الغربي عن طريق توافقه مع الإسلام ثانياً، دون أن يكون هناك انبعاث فكري حقيقي كما حدث في الغرب.

ففي القرن التاسع عشر كان في المشرق العربي ثلاث اتجاهات أساسية إيديولوجيه، هي: الاتجاه العلماني القومي، ثم الاتجاه الليبرالي المتأورب، ثم الاتجاه الإصلاحي الديني -وهو الاتجاه الذي يهمنا في هذه الدراسة- وجميع هذه الاتجاهات كانت تسعى إلى محاكاة الواقع الأوروبي الغربي المنطلق من فكر القرن السابع عشر والثامن عشر، فتأثرت تلك الاتجاهات بذلك الفكر.

* أولاً: تأثر الفكر الإسلامي بالنهضة الأوربية

عرف المسلمون عهوداً زاهرة في الكثير من نواحي الحياة خلال القرون السبعة التي أعقبت ظهور الإسلام، فكانت حواضرهم من أهم المراكز الفكرية الناشطة يومئذٍ لتغيير البنية الإيديولوجية للعالم القديم ووضع مفاهيم جديدة لأخلاقيات المجتمع البشري وعقائده في الله والإنسان والعالم. وقد ساهموا خلال هذه الفترة بأعمال جليلة في مسيرة التقدم الإنساني، وكان لبعضها أثر في تكوين العقل الحديث واتجاهاته. ولكن منذ أواخر القرن الثاني عشر تقريباً، بدأ هذا العطاء الحضاري الرائع يتلاشى، نتيجة عوامل داخلية وخارجية عاتية استنزفت قوى المسلمين العسكرية والاقتصادية والبشرية، وجعلتهم فريسة لأطماع الغزاة من الشرق والغرب.

وقد عُرف هذا العصر “بعصر الانحطاط” وقد استمر من بداية القرن الثالث عشر تقريباً حتى نهاية القرن الثامن عشر. فخلال تلك الفترة كان الفكر العربي والإسلامي يمر بمرحلة تراجع واستسلام لأحداث القدر في وقت كانت شعوب الطرف الغربي من العالم تتهيأ لوضع مفاهيم جديدة عن الإنسان والكون والحياة، مستمدة من العلم التجريبي والاستقراء المنعتق من سيطرة الخرافات والتقاليد المقيدة لكل تطور خلاق في عالمي المادة والروح.

كما اتسمت مراكز العلم والثقافة في الأصقاع العربية والإسلامية خلال هذه الفترة باجترار بقايا معارف المسلمين وعلومهم الدينية والدنيوية، كالحديث والتفسير والفقه والأدب والمنطق والحساب وبعض من أفكار العالم القديم وثقافته.

“ولم يبق من العلوم التي عني بها العرب الأوائل إلا مبادئ حسابية بسيطة يستعان بها في تقسيم المواريث، أو قبس من علم فلك قديم يُستدل به على أوقات الصلاة”.

فاستأثر رجال الدين بالإشراف على هذه المراكز باعتبارهم “مستودعاً” للعلم والمعرفة في زمانهم، وبهذه الصفة استطاعوا أن يلعبوا دوراً هاماً في شؤون الدولة والشعب، وأن يشكلوا بالتالي طبقة اجتماعية متميزة تحارب كل تجديد أو تطور في مجالات الدين والفكر والحياة خوفاً على مكانتها في السلطة والمجتمع.

ومنذ أوائل القرن الثامن عشر بدأ هذا النفوذ الواسع يواجه تحديات قاسية ومباشرة من جانب مشايخ الطرق الصوفية الذين استقطبوا فريقاً كبيراً من الناس في شتى المدن والأرياف، وصاروا مقصداً للتبرك والتقديس والدعاء. وقد رافق هذا كله انحلال عسكري واجتماعي وسياسي واقتصادي في الدولة العثمانية والولايات العربية التابعة لها، إذ كثر تمرد الولاة على السلطة المركزية، وانعدم الأمن والنظام، وانتشر الظلم والفساد في كل مكان، واشتد الصراع بين الحكام لكسب الأموال وبسط السلطان[2] وأصيب الاقتصاد بالتردي والجمود في كل ناحية من نواحيه، خاصة بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح الذي ربط أوروبا بالهند والشرق الأقصى مباشرة مما أضعف دور العرب كوسطاء لتجارة الشرق المربحة مع الغرب[3].

مع إطلالة القرن التاسع عشر حدث الكثير من التطورات والأحداث في شتى أنحاء العالم. ففي البلاد العربية ازداد نفوذ الوهابيين في الجزيرة العربية وجوارها، وتم الاتصال بين العرب والحضارة الغربية الحديثة عن طريق الغزو النابليوني لمصر، وانتشرت البعثات التبشيرية في لبنان، وبرز محمد علي بقوة على مسرح السياسة في مصر والشرق الأوسط، واشتد الصراع بين الدول الأوروبية للاستيلاء على المناطق العربية وغيرها من الأقطار وراء البحار نتيجة الثورة الصناعية التي قامت في بعض تلك الدول، وتزايد الضعف والانحلال في أوصال الإمبراطورية العثمانية سياسياً ومالياً وعسكرياً.

وظهرت الاتجاهات الوطنية في الولايات البلقانية والعربية، ونشطت الحركة الصهيونية لإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، وشقت قناة السويس، وبدأت حركة الاستشراق، وانتشرت الطباعة، وصدرت الصحف والمجلات السياسية والعلمية والأدبية والتاريخية، وشيدت المدارس والجامعات خاصة في لبنان، وأنشئت الأحزاب السياسية الوطنية، واشتدت النزعة الاستقلالية العربية عن الدولة العثمانية، ودعا المفكرون العرب إلى الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وتحرير المرأة، وقام المصلحون الدينيون بدور فعال في توعية الناس سياسياً ودينياً واجتماعياً[4].

جاء احتكاك المسلمين بالثقافة الغربية في القرن التاسع عشر، عن طريق حملة نابليون بونابرت على مصر عام (1798م) حيث شاهد المصريون وبخاصة المثقفون منهم، مدى التقدم الغربي وعمق التخلف العربي - الإسلامي أولاً، وعن طريق البعثات والإرساليات التبشيرية التي شرعت الأبواب في وجهها ابتداء من القرن التاسع عشر ثانياً، والبعثات العلمية التي أوفدها محمد علي باشا ثالثاً، فكان أن عاد أعضاء البعثات إلى مصر (نموذجهم هنا رفاعة الطهطاوي) وقد تشبعوا بأفكار الثورة الفرنسية التي كانت حتى ذلك الوقت لا تزال ماثلة في الأذهان[5].

وقد عُدت حملة نابليون -السابق ذكرها- على مصر وبلاد الشام من أبرز الأحداث التاريخية الخطيرة في حياة التاريخ العربي الحديث، وفاتحة بارزة للقرن التاسع عشر[6].

أبحر نابليون في (19/ مارس 1798م) متجهاً إلى مصر، فنزلت جنوده شواطئ غرب الإسكندرية في 2/ يوليو/ 1798م) ثم زحفوا على المدينة فاحتلوها، وأسرع إلى القاهرة في موقعة فاصلة قرب الأهرام في (21) من الشهر نفسه فتقهقرت جيوش المماليك أمامه، وعندها أعلن على الملأ منشوره الذي كان الغرض منه توطيد أقدامه في مصر[7].

أراد نابليون ألَّا يدخل مصر غازياً وفاتحاً على طريقة الحروب الكلاسيكية، فلجأ من أجل تحقيق أهدافه التوسعية والاستعمارية إلى أسلوب المودة والمساعدة والمداهنة.

فمن جهة المودة أظهر في أكثر من مناسبة أنه لم يأت مصر، إلا لإنقاذها من الجهلة المماليك، وتعريفها بالحضارة الحديثة، ومن جهة المداهنة، اصطنع الإسلام وادعى أنه يقوم بأحكامه الدنيوية والأخروية، ويحترم السلطان العثماني[8].

فكان ادعاء الحملة الفرنسية أنها أتت إلى مصر، بوحي من مبادئ الثورة الفرنسية التي أوصت بمساندة الشعوب المقهورة، والتضامن معها، وذلك من أجل إنقاذ مصر من مظالم المماليك. لكن الوقائع المادية، والحقائق التاريخية، أثبتت خطأ هذه المزاعم، وأكدت عبر مختلف التقارير والوثائق، كذب هذه الحجج الواهية، وأنها حملة استعمارية، كسائر الحملات والغزوات العسكرية التي عرفتها المنطقة العربية في القرون الوسطى[9].

فتودد نابليون السياسي والديني لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما تعكرت الأجواء وساءت علاقاته مع المصريين، وانكشفت أراجيفه الواهية، وبخاصة بعد “ثورة القاهرة” التي دعا إليها الأئمة والمؤذنون، وإقدام نابليون على التنكيل بالثائرين، بالتقتيل ومصادرة الممتلكات[10].

لم يأت نابليون إلى الشرق العربي ليوقظ النيام فيه، وإنما غرضه من هذه الحملة الاستيلاء على مصر لمكانتها في الشرق العربي، ولأهميتها الحربية والاقتصادية، فهي سوق واسعة تلتقي فيها تجارات ثلاث قارات أوروبا وآسيا وأفريقيا، وهي نقطة ارتكاز مهمة يمكن منها غزو النفوذ البريطاني في الهند حتى استطاع أن يصل البحرين: الأبيض والأحمر بقناة.

فحملة نابليون على مصر ما هي إلا إجابة لرغبة السياسة الفرنسية التي تريد أن تجعل من البحر الأبيض المتوسط بحيرة فرنسية تتحكم في سواحلها، وتقضي على الأسطول البريطاني بل على نفوذ بريطانيا في الشرق الأدنى.

وكان طموح نابليون مرتكزاً على إقامة دولة شرقية قوية في مصر منها يغزو الهند، درة التاج البريطاني آنذاك. يضاف إلى هذا ما كان يدور في ذهن رجال الدين الفرنسييين من رد الصاع بالصاع، فقد كانت مصر كنانة العقيدة الإسلامية، ردت الصليبيين، وحفظت التوحيد من كيد الكائدين. كل ذلك وغيره هيأ هذه الحملة الجبارة المجهزة بوسائل الغزو والقتال المصحوبة بالعلماء والمختبرات والأدوات ووسائل الطبع والنشر[11].

فنستطيع القول: إن السبب الأساس للحملة الفرنسية على مصر يعود إلى المنافسة القوية بين فرنسا وإنكلترا على الفتح والاستعمار، حيث تأكد نابليون، أن احتلال مصر، هو ميدان الحرب الذي يقهر فيه إنكلترا ويستعيض به ما فقدته فرنسا في أمريكا في بداية القرن الثامن عشر من مناطق، ككندا ولويزيانا، ويقضي على قوة إنكلترا، التي أصبحت سيدة العالم، يوم أخضعت البحار لمشيئتها، وستصبح ضحيته، كما قال أحد المعلقين في مجلس العموم، في اليوم الذي تفقد ملكيته[12]. مثل معاصريه، كان لنابليون رؤى مزدوجة عن الشرق، فهو المجتمع المتأخر والمتعثر على طريق التقدم، وهو من جهة أخرى الساحة الحقيقية التي يمكن للرجل العظيم الفاتح والمشرع أن يحقق فيه مآثر عظيمة، لكن هذه الازدواجية إنما تمثل جوهر الموقف الغربي من الشرق والإسلام، لأن هذا التأخر هو الذي يسمح وييسر محاولات القضاء على عبء الحضارة التي تعترض سبيل تقدم القوة الأوروبية.

وهكذا جاء بونابرت إلى مصر مُحملاً بهذه الازدواجية[13]. وإن فشلت حملة نابليون العسكرية، فإن البعثة العلمية المصاحبة للحملة نجحت في تحريك الحس الوطني والشعور القومي.

ويتمثل ذلك في الإلحاح المستمر على زرع الثقة في العنصر الوطني المصري، كي تضرب نقطة الضعف التي تجعل هذا العنصر يُسلِّم زمامه للأتراك والمماليك. فقبل الحملة الفرنسية كانت هبات الشعب وثوراته تقف دائماً عند حدود الإطار العثماني والمملوكي ولا تتعداها، كانت تناضل ضد المظالم لا من أجل الاستقلال. أما الحملة الفرنسية فإنها قد لمست بعنف، وهزت من الأعماق أوتار الحس الوطني والمشاعر القومية لدى المصريين والعرب، وحرضتهم على أن ينفضوا عن كاهلهم هذا الرداء العثماني - المملوكي الذي “قُبرت فيه شخصيتهم عدة قرون”. ولقد كان الناس في مصر يفكرون تفكيراً إسلامياً يعرف “الملة” ولا يعرف “الوطن” ولا “القومية” فألقى الفرنسيون بذور الوطنية والقومية في تربة مصر[14].

فبغض النظر عما أتت به الحملة الفرنسية على مصر من نفع أو ضرر، فالبلاد المصرية -بل والعربية أيضاً- استطاعت أن تتعرف إلى نمط حياة جديدة، أو نظام سياسي جديد، في ظل الحملة الفرنسية، التي على الرغم من سياستها الاستعمارية، ظلت معلماً إيجابياً في يقظة مصر.

ألم تتمكن خطب نابليون التي تحدثت عن عظمة مصر أن تدغدغ عقول المثقفين من أهل مصر، وتبعث في روح أبنائها العزة الوطنية والقومية؟ ألم يكن تأسيس الديوان -مجلس الوزراء- خطوة هامة في حياة المصريين؟[15]

تحدث الشيخ عبد الرحمن الجبرتي -مؤرخ في ذلك العصر- طويلاً عن التحسينات المعرفية والمنجزات العصرية التي شهدتها مصر، إبان الحملة الفرنسية، كالمعهد العلمي ومختبراته ومكتشفاته، وكرجال الاختصاص الذين عملوا على تحبيب المصريين بالعلوم، وتنوير بصائرهم وتعريفهم على الحياة الجديدة. مما حدا ببعض الكتاب أن يطلق على تاريخ الحملة في مصر: نهاية القرون المظلمة، وبداية العصر الحديث. خصوصاً أن المؤثرات الأجنبية السابقة على الحملة، كانت غير فعالة. فإذا هاجر أحد مثلاً إلى أوروبا بدافع تجاري أو علمي، لم يكن لاغترابه أثر في حياة مصر العقلية أو السياسية، وإذا قامت جالية أجنبية في مصر، كان همها استغلال الأهلين وتحقيق أقصى درجات الربح المادي، لا تنوير المصريين وتثقيفهم. لذلك بقيت فرص الاقتباس الفكري والاجتماعي شبه معدومة[16].

فقد نجحت الحملة الفرنسية في أن تلعب دور “الماس الكهربائي” الذي لامس عقول الشرقيين، وخاصة المصريين والعرب المشارقة، إلى الحد الذي “ينبه ويوقظ” دون أن “يصعق ويميت”[17].

تسربت مبادئ الثورة الفرنسية إلى الديار العثمانية في أوائل القرن الماضي إثر الحملة الفرنسية على مصر، وما تبعها من اتصال مباشر بالثقافة الغربية وإنكارها الإصلاحية الليبرالية، التي ظهرت بشائرها في فترة والي مصر محمد علي، الذي قوى الترابط الثقافي والعمراني بين البلدين[18].

فولدت الحملة الفرنسية اتجاهاً في المجتمع المصري يرمي نحو التغريب (Wester - nization) بعد أن تزعزعت الأفكار والمفاهيم، فكان للحملة تأثير بالغ في بناء مفاهيم جديدة في المجتمع المصري[19]. فالتغريب (Westernization) منذ الحملة الفرنسية في العالم الإسلامي اتخذ في بدايته صورة تعاون بين المسلمين والغرب، والانتفاع بعلم أوروبا، ولكنه خلال قرن من الزمان، تحول إلى غزو فكري، يشكك المسلم في كل شيء وفقاً لقيم الحضارة الغربية الوافدة. فأخذ الفرد المسلم بالشك في أصول الإسلام وقيمه الأساسية[20].

صحيح أن “النهضة العربية” وليدة الحملة الفرنسية على مصر وما تبعها من اتصال الشرق العربي بالغرب الأوروبي، وتعرَّف المصريين إلى حياة جديدة، وثقافة جديدة. إلا أنه يجب ألَّا ننسى، أن تلك البواعث للنهضة في جزء منها هي ثمرة الإرهاصات والتحركات الداخلية، التي عرفتها مصر وعرفها الشرق العربي قبل هذه الحملة. أي إن كانت الحملة الفرنسية سبباً مباشراً لليقظة، فإن الفترات السابقة هي بمثابة الإرهاصات.

فبعد زوال حكم السلاطين العثمانيين الأقوياء، وتسلُّم السلطان من قبل رجال ضعفاء، عُرفوا بتغليب المنفعة الخاصة على المنفعة العامة، شهدت المناطق العربية، تمردات، وانفجارات من ظلم ولاة الأتراك وحكامهم الذين ورثوا نفوذ الإمبراطورية العثمانية على الشعوب.

وكادت تلك التمردات السياسية العربية أن تُؤدي ثمارها، لولا غياب وسائل التغيير الأساسية وبخاصة الأداة التنفيذية. فقد شهدت البلاد المصرية في القرن الثامن عشر تحركاً فلاحياً، تمثل بشكل سياسي في “الحركة الهمامية” التي ثارت في الريف المصري في القرن الثامن عشر ضد الإقطاع. وكانت تلك الحركة قبل حملة نابليون بعقود. فهذه النهضة هي نتيجة لمختلف التفاعلات والمؤثرات الخارجية من جهة، والتحولات الداخلية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي حدثت في مصر وبعض أقطار المشرق العربي من جهة أخرى[21].

وقد اختمرت أفكار الوطنية والقومية في مصر في أوائل القرن التاسع عشر، لا لأن هذه الأفكار قد أُلقيت في تربتها وحدها، ولا لأنها قد لامست عقول أبنائها دون غيرهم، وإنما وقف خلف ذلك عاملان:

أولهما: أن التطور الحضاري -على ضعفه- كان بمصر أقوى وأنضج من غيرها من بلدان الشرق العربي.

وثانيهما: أن مصر قد أتيحت لها، في ظل حكم محمد علي، أن تضع العديد من الآمال والأحلام التي راودت العقول، عند الاحتكاك بالفرنسيين، موضع التطبيق أو على الأقل أن تفتح المجال والطريق لهذا التطبيق[22].

يضاف إلى الحملة الفرنسية، التي مضى وقت حتى أصبح أثرها واضحاً كدور الإرساليات التبشيرية وأثرها في جبل لبنان وفي سوريا التي افتتحت المدارس والمطابع ونشرت العلم في هذه الربوع. ففي القرن التاسع عشر كان لهذه المؤسسات دور كبير، وهذا الدور يُضاف إلى دور الحملة الفرنسية تحت عنوان الاصطدام بالآخر، فالذين تعلموا في مدارس تلك الإرساليات أحسوا بالبون الشاسع بينهم وبين معلِّميهم فتنبهت عقولهم إلى ما هم فيه من وضع سيء ورديء[23].

وربما تعرَّف اللبنانيون إلى أخبار الثورة الفرنسية عن طريق التجارة والعلاقة المتبادلة بين مصر ولبنان، ومن المسافرين اللبنانيين الذين كانوا في مصر زمن الحملة الفرنسية، فتأثروا بما أشاعته الحملة من مفاهيم إصلاحية ومبادئ ديموقراطية، فدخلت مبادئ الثورة الفرنسية بلدة (أنطلياس) على ساحل لبنان نحو عام (1820)[24].

وكانت مبادئ تلك الثورة (حرية، إخاء، مساواة) نواة فكرة المدرسة المسيحية العلمانية في لبنان في القرن التاسع عشر، تلك المدرسة التي يعتبر، فارس الشدياق -الذي أعلن إسلامه وسمى نفسه أحمد- (1804 - 1887) وناصيف اليازجي (1800 - 1871) وإبراهيم اليازجي (1847 - 1906) وأديب إسحاق (1856 - 1885) وفرنسيس مراش (1836 - 1873) هم الأدباء الرواد لها[25].

فمبادئ الثورة الفرنسية أضحت في لبنان كما هو الحال في مصر “بغية المرتجى، وملاذ المضطهد الملهوف، وكعبة الملتجى”.

فها هو أديب إسحاق على سبيل المثال الذي ينتسب إلى مدرستين: مدرسة الفكر الإصلاحي الإسلامي -الجدير بالذكر أنه نصراني- ومدرسة البورجوازية الفرنسية، يصدر جريدة في باريس بعنوان “مصر القاهرة” ويذيلها بشعارات الثورة الفرنسية. وقال عنها: “تلك ثورة الفرنسيين برزت إلى عالم العقل عام 1789 وصدمت قوة الاستبداد فضعضعتها، ورفعت عن العيون نقابها، وعن النفوس حجابها، فأنست في جانبها روح الحرية، وخلعت جلابيب الرق والعبودية”.

ويضيف في مكان آخر، هذه الثورة: “ترى الموت في الحرية حياة والحياة في الرق موتاً... رسخت في عالم الوجود قدماً وكثر الملأ من حولها، وأدهشت الدنيا”[26].

عندما رحل الفرنسيون عن مصر تفتحت الآفاق عن نشوء نهضة فكرية فيها. وقد أسهم والي مصر حينذاك محمد علي باشا[27] بأسهم وافرة في هذه النهضة[28] التي اتجهت إلى ناحيتين اثنتين: نشر المعرفة وتوفير القوة. فأرسل البعوث إلى أوروبا لتحقيقها، واتخذ من الأزهر معيناً لتكوين هذه البعوث، وأنشأ المدارس العالية فكانت موطناً للمختصين الوافدين من الغرب والمتعلمين من أبناء مصر. وأخذ يوالي البعوث فكانت البعثة الأولى أربعين طالباً موزعين على مختلف موضوعات العلوم والفنون.

وكانت تلك البعثات نواة النهضة الحديثة في مصر وعاملاً قوياً في يقظة الشرق العربي. فلم يجد ولاة الأمر في مصر بداً من الشروع في نقل آثار الغرب إلى اللغتين العربية والتركية في مصر[29]. فكانت تجربة محمد علي هي أولى محاولات النهضة الشاملة في التاريخ العربي الحديث، بفضل الدولة المركزية القوية التي أقامها على أنقاض النظام المملوكي شبه الإقطاعي، تلك الدولة التي فرضت سيطرتها على جميع مراكز القرار في المجالين السياسي والاقتصادي[30].

أعجب محمد علي بالإدارة الفرنسية المنظمة وسعى فور تسلمه سلطة القيادة عام (1805م) إلى جعل مصر دولة حديثة، تماثل دول أوروبا المتمدنة، قوة وعمراناً، فاستعاض عن اللغة الإيطالية لغة المشرق آنذاك باللغة الفرنسية، التي حملت معها أفكار الثورة الفرنسية[31].

في سنة (1826م) بدأ محمد علي بتوجيه من الفرنسيين في إنشاء المدارس النظامية بادئاً بمدرسة أركان الحرب في أبي زعبل. وكان قد شرع في إرسال البعثات في العام نفسه. وأرسل مع هذه البعثات أئمة للصلاة، كان منهم رفاعة رافع الطهطاوي (1801م - 1873م)[32] ذلك الشاب الأزهري الذي كان أنبغهم جميعاً، فقد تفتح ذكاؤه وذهنه على الثقافة الفرنسية بخاصة وحضارة الغرب بعامة. فأتقن الفرنسية ونبغ في النقل منها إلى العربية، وهو وتلاميذه نقلوا إلى العربية عشرات الكتب من العلوم الأوروبية في كل علم وفن، وأنشأ مدرسة الألسن سنة (1836م).

وألَّف هذا الأزهري كتاباً يسمى “مباهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية” يتحدث فيه عن الحضارة الغربية حديث الفاهم العارف وهو يمتدح الحرية والديموقراطية ويُعجب بالبرلمان والصحافة وحريتها، وتعجبه عناية الناس بشؤون المدن ومدى نظافتها وجمال تنسيق شوارعها وأشجارها، وهذا الشيخ الأزهري يمتدح التمثيل والمسارح والأوبرات. قرأ كتب مفكري عصر الأنوار، وتحمس لمونتسيكيو وقال إنه: “ابن خلدون الغرب”.

كما أنه في كتابه الآخر “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” يرى أن أهل باريس أكثر حضارة من غيرهم، لأنهم يعرفون معنى العلم والنظام والفن والجمال، ويدعو إلى خروج المرأة إلى ميدان العمل، فهو لا ينكر سفور المرأة الفرنسية مع الحشمة والوقار واحترام الأسرة.

وفي واقع الأمر، أكمل الطهطاوي ما كان يحلم به شيخه حسن العطار[33] شيخ الأزهر في أيامه[34].

ونقل إلى العربية القانون المدني الفرنسي، ونقل الدستور الفرنسي، والنشيد القومي الفرنسي وتغنى به[35].

فكانت حركة الترجمة في المشرق العربي في أوائل القرن التاسع من اللغات الحية إلى العربية والتركية قوية اشترك في تقويتها أبناء البلاد والمستشرقون الذين كانوا يفدون إلى البلاد اختياراً، والذين كانوا ينتدبون للتدريس في المعاهد العلمية.

وإذا كانت الترجمة عاملاً قوياً في إيقاف الرقود، فإن علينا ألَّا ننسى فضل المطابع، فقد سهَّلت المطبعة مهمة المترجم والمؤلف والدارس، وقد دعم محمد علي نهضته العلمية بالطباعة والنشر، فاشترى مطبعة الفرنسيين الذين جلوا عن مصر وجعلها نواة لمطبعة بولاق الشهيرة -أنشئت مطبعة بولاق عام (1821م)-[36].

من السمات البارزة للفكر السياسي الذي قدمه الطهطاوي، وشارك في وضعه موضع التطبيق، نظرية (الفصل بين السلطات) في الدولة، والتمييز بين السلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية. وهذا التمييز لم يُحسم الحسم النهائي والتام إلا في الفكر السياسي الحديث. فقديماً كان الخليفة يشرع، ويجلس للقضاء، وينفذ الأحكام.

فقد تحدث الطهطاوي عن وجود قوتين في المجتمع:

القوة المحكومة: أي الشعب أو الرعية، وعنده أن هذه القوة لا بد أن تكون “محرزة لكمال الحرية، متمتعة بالمنافع العمومية فيما يحتاج إليه الإنسان في معاشه ووجود كسبه وتحصيل سعادته”.

والقوة الحاكمة: وهي التي “تسمى، أيضاً، بالحكومة وبالملكية” وهي تشمل مصدر الحكم “المركزي” وما يتفرع عنه. وهذه القوة تنقسم إلى السلطات الثلاث، وبتعبير الطهطاوي فإن هذا الأمر المركزي “تنبعث منه ثلاثة أشعة قوية تسمى أركان الحكومة وقواها:

فالقوة الأولى: قوة تقنين القوانين وتنظيمها.

والثانية: قوة القضاء وفصل الحكم.

والثالثة: قوة التنفيذ للأحكام بعد حكم القضاء بها”.

وعند الطهطاوي إن هذه القوى الثلاث، لابد أن تكون مقيدة بالدستور، كما هي طبيعة النظام الديموقراطي الحديث[37]. وعند الاطلاع على كتاب “مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية” الذي أصدره الطهطاوي عام (1796م)، نجد أنه قد حدث تغير جذري في نظرته للنظام السياسي الأمثل.

فهو قد تحوَّل على حد تعبير لويس عوض من “الليبرالية إلى الراديكالية”. فقد كان رفاعة يرى في كتابه الأول “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” -أصدره عام (1834م)- أن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطات، متأثراً في ذلك بالفقه الثوري الذي تركه روسو، ولكنه في كتابه “مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية” أصبح يرى أن رئيس الدولة هو صاحب السيادة ومصدر السلطات. وجوهر السيادة فيه غير قابل للتجزئة ولكنه قابل للتفويض.

وذلك التحول في الرأي السياسي للطهطاوي قد أدت إليه جملة عوامل ربما كان أحدها ما نزل بالطهطاوي من عنت شديد بين حكم محمد علي وإسماعيل (1863 - 1879) على أيدي الولاة “الرجعيين”، وربما يعود ذلك إلى أن رفاعة قد توفي وعند ألفي فدان فأصبح هو أحد أبناء الطبقة الحاكمة، وقطباً من أقطاب الأرستقراطية المصرية التي تكونت في القرن التاسع عشر، بفضل محمد علي وأبنائه، وحلت تدريجياً محل الأرستقراطية التركية والأرستقراطية المملوكية[38].

فيعد رفاعة الطهطاوي أول كاتب مصري، حاول إيقاظ الوعي الوطني وتنبيه الأذهان إلى المضامين الفكرية والإنسانية التي توفر حياة الاستقرار والطمأنينة[39].

يعتقد محمد عمارة أن تأثر الطهطاوي بالحضارة الغربية لم يدفع به إلى المناداة بالأخذ بحذافير تلك الحضارة في جميع جوانبها المادية والروحية، فالطهطاوي بقراءته لأعمال فلاسفة التنوير الغربي العلماني، قد ميَّز بين: الفلسفة الوضعية التي أثمرتها فلسفة التنوير بوقوفها في سبيل المعرفة عند العقل والتجريب رافضة الوحي والشرع، وبين علوم التمدن المدني الطبيعية، فقبل الثانية بوصفها إرثاً إنسانيًّا مشتركاً، ورفض الأولى، داعياً إلى ضرورة الاعتمادي على الشرع مع العقل والتجريب. أي أن الطهطاوي بالرغم من تأثره الكبير بالحضارة الغربية، فإنه لم يكن داعية إلى تنوير غربي علماني[40]. إلا أنه عند التعمق في الأثر الذي خلفه الطهطاوي وراءه يتضح لنا مدى خطأ وعدم مصداقية هذا الاعتقاد.

ونستطيع أن نثبت ذلك بالقول: إنه، مهما يكن من حسن قصد الطهطاوي ومن يمثله من رجال هذه المرحلة الأولى لاتصال الإسلام بالحضارة الغربية، ومهما يكن من وضوح صبغتها الإسلامية، فالشيء الذي لا شك فيه أن تفكيره الإسلامي قد طرأت عليه عناصر جديدة أحدثت في قيمه وموازينه تطوراً خطيراً، يبدو فيما كتبه عن النزعة العقلية المتحررة، التي سادت فرنسا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في مظهريها القانوني والاجتماعي. وهذا التطور الفكري كما هو واضح لم يحدث تحت تأثير ظروف إسلامية، كقراءة ابن تيمية مثلاً، أو التأثر بالمعتزلة أو بأصحاب النزعات العقلية في الإسلام. ولكنه حدث تحت تأثير الإقامة في باريس، والانغماس في ترجمة الثقافات الغربية التي تؤمن بالمحسوس والملموس والمدرك المعقول، وتكفر بما وراء ذلك من الغيب وتستخف به[41].

فتأثر أعضاء البعثات بما شاهدوه في المجتمع الأوروبي واضح فيما كتبوه أثناء إقامتهم في أوروبا أو بعد عودتهم منها. ونستطيع أن نلمس ذلك على سبيل المثال في عضوين من الجيل الأول لهؤلاء المبعوثين، أحدهما مصري أقام في باريس خمس سنوات وهو رفاعة الطهطاوي (1826م - 1831م)، والآخر تونسي أقام في باريس أربع سنوات (1852م - 1856م) وهو خير الدين التونسي -وما يهمنا في هذا المقام هو المبعوث الأول- فنستطيع أن نجد فيما كتبه كل منهما آراء مشتركة، هي صدى لتفكير القرن الثامن عشر في أوروبا، وهي فرنسا بوجه خاص، وهي آراء تظهر للمرة الأولى في المجتمع الإسلامي، ربما ردّداها عن حسن قصد دون أن يبصرا أغوارها البعيدة أو يتعمقا حقائقها.

ولكنهما على كل حال قد وضعا البذور التي تعهدها من جاء بعدهما بالسقي والرعاية حتى نمت وضربت جذورها في الأرض. وربما عُرضت بعض هذه الآراء عرضاً سريعاً عاجلاً قد يبدو ضئيل الخطر.

ولكن أهمية الطهطاوي وخير الدين ترجع إلى أنهما قد جلبا هذه البذور الغربية وألقياها في التربة الإسلامية.

والتجاوب بين الطهطاوي وخير الدين واضح من إشارة كل منهما بصاحبه، فالطهطاوي ينوه بخير الدين في كتابه (مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية) وخير الدين ينوه بالطهطاوي في كتابه (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) فخير الدين التونسي يشارك رفاعة الطهطاوي في الإعجاب بالحرية التي قامت عليها الحضارة الغربية، ويشاركه أيضاً في عدم التنبه إلى الأصول التي تقوم عليها. ولكنه كان أعمق من الطهطاوي فهماً في حضور حدودها وآفاقها وما يمكن أن يترتب عليها من آثار[42].

فمع إدراك الطهطاوي أن مجتمع الثورة الفرنسية مجتمع إدارة وليس مجتمع طاعة، فهو بني على الإرادة الحرة التي لا تقيدها طاعة لشريعة إلهية، وقوانينه كلها تصدر عن العقل الحر الذي لا يعترف بما وراء الحياة من نعيم أو جحيم ولا يؤمن بما وراء الظاهر من حكمة غائبة يرشد إليها الوحي، أو غاية بصيرة يهدي إليها الدين، مع إدراك الطهطاوي لذلك كله، فإنه لم يستطع أن يدرك الأغوار البعيدة والجوانب المتعددة لكلمة الحرية، ولم يستطع أن يدرك أن نقل هذه الآراء إلى المجتمع الإسلامي يمكن أن تنتهي به إلى النتيجة نفسها. نبذ الدين، وتسفيه رجاله، والخروج على حدوده.

لم يدرك ذلك ولم يلاحظ إلا الجانب البراق الذي يأخذ نظر المحروم من الحرية، حين تمارس في مختلف صورها وألوانها وفي أوسع حدودها.

فكان كالجائع المحروم الذي بهرته مائدة حافلة بألوان الأطعمة، فيها ما يلائمه وما لا يلائمه، ولكنه لم ينظر إليها إلا بعين حرمانه، ولم يرها إلا صورة من النعيم الذي يتوق إليه ويشتهيه[43].

لقد فُتن الطهطاوي بما شاهده في المجتمع الفرنسي من الأمن والرخاء وشعور الفرد بكيانه واعتزازه بذاته، حين قارنه بما خلَّفه وراءه من قهر الرجال وامتهان إنسانيتهم وسوقهم إلى ما يراد لهم لا ما يريدون.

فانطلق في إعجابه الشديد بالمجتمع الجديد، ينادي بأن الحرية هي أساس السعادة والرخاء في المجتمعات الإنسانية، ونقطة الانطلاق في نهضتها. فهو في (تخليص الإبريز) يشيد بتقديس الفرنسيين للحرية، فيقول:

“ولقد كادت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية. وهي من الأدلة الواضحة على وصول العدل عندهم إلى درجة عالية، وتقدمهم في الآداب الحضرية. وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا “العدل والإنصاف”. وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو التساوي في الأحكام والقوانين، بحيث لا يجوز الحكم على إنسان. بل القوانين هي المحكَّمة المعتبرة. فهذه البلاد حَرِيَّة بقول الشاعر: “وقد ملأ العدل أقطارها وفيها توالى الصفا والوفا” -نقلاً عن الطهطاوي، تخليص الإبريز، ص 148-[44] ومما سبق نستنتج، أن الطهطاوي بإعجابه بالقوانين العقلية وبالشرائع الوصفية، قد عهد من حيث يدري، أو من حيث لا يدري، لقبول التشريع الوضعي الذي يستند إلى العقل -على قصوره، وعلى مخالطة الشهوات له- ووافق في ذلك خير الدين التونسي، وإن كان الأخير قد دعا إلى الاقتباس من الغرب عن فقه وبصيرة، تختلف عن السذاجة التي تبدو في كتابات الطهطاوي، وهي سذاجة تذكرنا بسذاجة عبد الرحمن الجبرتي في وصف غرائب ما شاهده عند علماء الحملة الفرنسية.

ففي الوقت الذي كان خير الدين أكثر اهتماماً بالنواحي الاقتصادية والسياسية، يتكلم فيها كلام خبير مدقق، نجد أن الطهطاوي معجب بالمسرح الفرنسي، وفي شؤون المرأة الفرنسية، ومدافع عن مراقصة الرجال للنساء باعتبار الرقص نوع من التأمل[45]. فمن الواضح في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) أن الطهطاوي اختلط بالفرنسيين بشكل كبير، فلم يقف وصفه لبيوتهم وطبيعة نسائهم فقط، بل وصف أيضاً حفلاتهم الخاصة والعامة ورقصاتهم، و “على الرغم من تمدينهم وتحررهم، فإنه لم يرهم منحلين خلقياً، بل رأى فيهم العفة والشرف”[46].

وقد أصاب (أندريه ميكال) -André Mique- في تقديمه التحرير التالي لرفاعة الطهطاوي: “محرك سياسة هامة للترجمة، وصحافي معمم للغرب الحديث”[47].

والملفت للنظر في حركة الطهطاوي الإصلاحية، وعملياً لدى سائر الإصلاحيين في العالم الإسلامي، هو أسبقية الممارسة على النظر، وما هو تعاليمي على ما هو عقيدي. وبكلمة واحدة هو هَمَّ الفعل على حساب عمق الفكر[48].

لقد تجلت أطروحة التنوير[49] العربي في بداياتها الأولى ضمن إحساس بالغ بالحذر والتوجس من الوقوع في دائرة صراع الأضداد، كما حدث مع الجيل اللاحق[50] لرفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي أبرز التنويريين العرب الذين حاولوا إيجاد صيغة من الانسجام بين مبادئ الإسلام وأفكار التنوير -الأمر الذي سيظهر واضحاً فيما بعد عند الأفغاني وعبده كما سنرى- وذلك بالتركيز على مسألة التقدم والعدالة التي كانت الهاجس الأعظم لديهما[51].

ولكن في حقيقة الأمر، إن التجليات الثقافية الأولى الناجمة عن صدمة الالتقاء بأوروبا قد تمثلت بالإصغاء إلى الآخر والانتباه إليه تعبيراً عن المطالبة بالإصلاح والتغيير. فكان أوائل المفكرين في العصر الذي سبق الإمبريالية، أي عصر محمد علي في مصر، وأحمد بك في تونس، شديدي التأثر إزاء مهمات عصر التنوير، باستثناء نقطة أساسية هي بالتحديد وضع الدين موضع نقاش، فقد استحوذت عليهم فكرة التمدن، عن طريق غرس التقدم في مجالي الحضارة والسلطة[52].

لقد أحدث الاحتكام إلى الغرب صدمة، فاكتشف العالم الإسلامي ضعفه فجأة، عام (1800م) ورأى نفسه أمام غرب قوي عسكرياً، رفيع التمدن، لا يمكن تماهيه مع العدو المسيحي الهرم، خاصة وأن المسيحية ليست الأساس في نهوض الغرب الجديد وفي تنظيمه.

وهكذا تيقن المسلمون أن الأوروبيين قد تجاوزوهم قوة، ويتقنوا أيضاً أنهم أصبحوا على هامش الغرب، على الصعيد الاقتصادي، والحاضرة المادية، وتنظيم المدينة، وكل المجالات التي يشير إليها مفهوم التمدن[53].

فعندما كان الفكر والمجتمع الأوروبي، في القرن الثامن عشر، يقومان بعملية تغيير هائلة، وانقطاع من ألف عام من الحضور المسيحي، واضعين ركائز الفكر الجديد التي ستحكم المجتمع والتاريخ، كان العالم الإسلامي بعيداً عن التعرف على ما يمكنه من مقاربة الغليان الثقافي والفكري[54].

فتصاعد المد النهضوي في أوروبا كان يقابله هبوط تدريجي في نهضة الشرق العربي في مختلف الميادين والحقول[55].

وفي نهاية هذا الفصل، نستطيع القول: إن النهضة التي تعتمد على حركة النائم وانتباهه الحسي من رقاده هي نهضة هشة، بل هي “انحطاط مقنع ببهارج النهوض، فالنهضة التي نفهمها ليست شيئاً بعيداً عما عناه المعجم العربي، حين شرح معانيها المادية الحسية والمجازية، حيث قال: “النهوض: البراح من الموضع والقيام منه... وانتهض القوم وتناهضوا: نهضوا للقتال... وناهضته أي: قاومته. وأنهضت الريحُ السحاب: ساقته وحملته. والنهضة: الطاقة والقوة” -نقلاً عن لسان العرب، مج 27، ص 245- ففي هذا المعنى للنهضة هناك انتقال من حال إلى حال، لا أن تكون النهضة ردة فعل أو تأثر واقتباس.

فردات الفعل لا يمكن الوثوق بها كثيراً، كما أن التأثر والاقتداء أمر جائز، شرط أن يقوم ذلك على وعي حقيقي لثورات الشعوب ونهضاتها، وتفهم لأسبابها وظروفها، فيؤخذ بالمبادئ والمنطلقات ويُعمل بما يتلاءم وطبيعة أمتنا وأجيالنا في جدلية أخذ وعطاء وتأريث وتحديث.

أما أن تكون النضهة زياً يُقلد تقليداً، أو مشروعاً يصدر بقرار سياسي أو عسكري، فإن ذلك يذهب بذهاب المقرر، ونتوهم أننا في عصر حضاري راقٍ، وليس لنا من الحضارة إلا الاستهلاك المادي والتأنق المظهري[56].

إن ما حدث هو مواجهة لموجة جديدة قادمة هذه المرة من أوروبا الغربية بثوب عصري. غير أن هذه النظرة الاستمرارية يجب ألَّا تحجب عنا تميز الظروف الجديدة وخصوصيتها. فهذه الموجة لا تأتي باختيار، وبقرار من الخليفة باستقدام الكتب الإغريقية وإنشاء دور لترجمتها، وإنما تجتاح ببوارج حربية، وبضغوط سياسية واقتصادية لا تُرد، وبفكر نقدي عقلاني خالص أثَّر في الأصول القديمة بنشره الكتب والجامعات، شاء الخليفة أم أبى، بل إن هذه الموجة الجديدة أطاحت بالخليفة وبالخلافة في نهاية الأمر، فلم يستطع عبد الحميد الثاني أن يتوافق معها كما فعل المأمون من قبل[57].

* ثانياً: محاولة استيعاب الفكر الإسلامي للحضارة الأوروبية

سوف نرى في هذا الفصل أن الفكر الإسلامي قد عمل جاهداً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على أن يستوعب الصدمة الغربية له، التي وقعت في النصف الأول من القرن السابق الذكر، وذلك بمحاولة عمل معادلة توفيقية بين الإسلام والغرب اتضح بواسطتها مدى تغلب التغريب على بنية الفكر الإسلامي آنذاك.

عند الحديث عن الفكر الإسلامي في المشرق العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإنه لابد من أن نقف على شخصين كان لهما نصيب الأسد في الإسهام بذلك الفكر في تلك الفترة. وهما السيد جمال الدين الأفغاني (1254هـ - 1314هـ/ 1839م - 1897م)[58] والشيخ محمد عبده (1266هـ - 1323هـ/ 1849م - 1905م)[59].

كانت وسيلة السيد جمال الدين لخلق الوعي عند أفراد الأمة الإسلامية في العالم العربي، وتحرير الفكر العربي من قيود الاستبداد، هي “الثورة السياسية”. وكان إيمانه بالثورة السياسية نابعاً من اعتقاده بأنها أسرع الطرق وأكثرها أثراً في تحرير الشعوب. ولذلك رأى جواز خلع وقتل أمراء المسلمين الذين يشجعون النفوذ الأوروبي.

أما الشيخ محمد عبده، فإن وسيلته في الإصلاح كانت تختلف عن وسيلة أستاذه. فوسيلة محمد عبده كانت اجتماعية -دينية أكثر منها سياسية- دينية على عكس ما هو الحال عند الأفغاني.

فدور محمد عبده الإصلاحي يختلف عن دور جمال الدين الأفغاني الذي كان يغلب عليه العمل السياسي[60].

فانصب نشاط محمد عبده في الإصلاح على ثلاثة محاور:

1- الإصلاح الديني، وتحرير الفكر من قيد التقليد.

2- الإصلاح اللغوي، بجعل الحاضر اللغوي والأدبي امتداد للعصر الذهبي وتخطي عصور الركاكة والعجمة التي غرق فيها الأدب العربي في الكليات والزخارف.

3- الإصلاح السياسي، قبل أن يهجر السياسة ويتفرغ للهدفين الأولين[61].

بعد أن تتابع إخفاق السلفية في رد التحدي الخارجي، جاءت حركة الإصلاح التوفيقي (جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده) لتمثل الأسلوب الآخر في التقليد الإسلامي لمجابهة التحدي، فقد اتضح أن التحدي في جوهره حضاري وليس بعسكري أو سياسي، والتوفيقية[62] هي الاستجابة الإسلامية “المثمرة” في المواجهات الحضارية.

ومن الملاحظ أن التوفيقية كشأنها تاريخياً، ظهرت في البيئات الأكثر احتكاكاً بالحضارة والأكثر انفتاحاً على المؤثرات الخارجية. كما أنها قبلت بالتعايش مع الحكم الأوروبي ومؤثراته الحتمية وبعض تشريعه -بخلاف السلفية- جاهدة قدر الإمكان لصياغة تلك المؤثرات إسلامياً، وإلباسها بالمصطلح الإسلامي (الديموقراطية = الشورى، المنفعة العامة = المصلحة الشرعية، الرأي العام = الإجماع الفقهي، الضريبة = الزكاة).

وهكذا بدأت مرحلة جديدة من التوفيقية هدفها هذه المرة خلق صيغة متوازنة بين قديم الإسلام والحضارة الأوروبية الجديدة، ليس بوضع الطرفين على جانب واحد من الأهمية صراحة، إذ لا يمكن وضع نظام إلهي بموازاة نظام بشري حسب معايير الإيمان الإسلامي، ولكن عن طريق التنظير (التبريري) القائم على مبدأ إرجاع القيم والمنجزات الأوروبية إلى جذور أو قرائن إسلامية، بغض النظر عن المستندات التاريخية لهذا الإرجاع أو الفروق القائمة بين طبيعة النظام الإسلامي والنظم الأوروبية[63].

فلم يكن هناك حركة عربية تحديثية خالصة في مطلع النهضة الحديثة في المشرق العربي تعمل على الاستيعاب الكلي والجوهري للحضارة الغربية بإحلال النظرة العقلية العلمية محل النظرة الدينية وقصر الدين على جانبه الروحي الفردي الخالص.

وما برز ضمن هذا الاتجاه يمثل نماذج وفئات محدودة من خارج البيئات السلفية والتوفيقية. ولعل مرد ذلك، عدم نشوء تيار علماني مستقل في تاريخ الإسلام أو عدم سماح الإطار الجامع المانع للإسلام بظهور مثل ذلك التيار.

ومن هنا نلاحظ أن قسطاً من المهمة الانتقادية للأسس والأصول في الإسلام، قد تصدت للقيام به (العلمانية - المسيحية) التي كانت أقرب إرهاص في فكر النهضة عن منحى الثورة العقلانية التحديثية الجذرية والشاملة. غير أن إشكاليتها تلخصت منذ البداية في غربتها العقيدية عن الإسلام أصلاً[64].

وهكذا نجد، أن حركة الإصلاح الديني التي ظهرت على يد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت هي جواب المثقفين المسلمين على صدمة الحضارة[65].

فكان الحافز الأساس للإصلاح الذي قاده الأفغاني وعبده ومحمد رشيد رضا فيما بعد - صدر العدد الأول من المنار عام (1898م) في القاهرة وقد تولى تحريرها الشيخ محمد رشيد رضا - نابعاً من التحدي الذي طرحته الحضارة الغربية على المجتمع الإسلامي منذ أيام محمد علي، وكيفية الاستجابة لهذا التحدي لحماية هذا المجتمع[66].

ولنناقش مدى تأثير صدمة الحضارة الغربية في فكر الأفغاني أولاً ومن بعده تلميذه محمد عبده.

1-  السيد جمال الدين الأفغاني (1839م 1897 – م )

لم يستطع الأفغاني تجاهل الهزة العنيفة التي أحدثتها الحضارة الغربية في أسس المجتمع الإسلامي. فبالرغم من مناداته بالرجوع إلى عقيدة أهل السلف، إلا أنه آمن، استناداً إلى مشاهداته الحية عندما كان في أوروبا، أن قوة تلك الحضارة تكمن في تبني العلم الحديث والتكنولوجيا.

ولهذا السبب كان يصرح دائماً أمام طلابه، بأن الإسلام لم يقف يوماً في وجه العلم والثقافة، بل يتفق في جوهره مع العقل العلمي. ويستطيع أن يخلص المجتمع الحديث من معظم أمراضه الأخلاقية والاجتماعية التي تفتك به وتدفعه نحو الفوضى والهلاك. ومن هنا يعتقد الكثير من الكتاب أن دمج الأفغاني “المادية الأوروبية بالروحانية الإسلامية من أعظم إسهاماته في الفكر الإسلامي الحديث، لأنه فتح الطريق أمام المفكرين المسلمين الذين كانوا يسعون إلى ردم الهوة بين مؤيدي الفكر الغربي وحضارته من ناحية، ومؤيدي الفكر الإسلامي ومبادئه من ناحية أخرى[67].

كان الأفغاني يعلم أن انتصارات أوروبا إنما تحققت بفضل المعرفة وتطبيقها الصحيح، وأن ضعف الدول الإسلامية راجع إلى الجهل. كما كان يعلم أيضاً أن على الشرق أن يتعلم فنون أوروبا المفيدة.

إلا أن السؤال الملح في نظره كان: “كيف يمكن تعلمها؟” وعنه أجاب “يمكن تحصيل تلك الفنون بمجرد التقليد، إذ إن وراءها نظرة فكرية شاملة لا بل نظاماً للخلقية الاجتماعية. فالبلدان الإسلامية ضعيفة، لأن المجتمع الإسلامي فاسد”.

وهنا نلمس شيئاً جديداً في تفكير الأفغاني. فلم يعد الإسلام كدين ما عناه الآن، بل بالأحرى الإسلام كمدنية. فهو يعتبر أن الغاية من أعمال الإنسان خلق مدنية إنسانية مزدهرة في جميع النواحي، بالإضافة إلى خدمة الله.

تستطيع أن نرى مما سبق أن فكرة المدنية “الإنسانية” -وليست الإسلامية- قد دخلت العالم الإسلامي على يد الأفغاني، وكانت بالحقيقة فكرة المدنية من بذور الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر.

وكان “غيزو” أول من عبر عنها تعبيراً كلاسيكياً في محاضراته عن “تاريخ المدنية في أوروبا” وكان الأفغاني قد قرأ كتاب “غيزو” السابق الذكر وتأثر به. وعندما تُرجم هذا الأثر إلى العربية في (1877م) أوحى الأفغاني إلى محمد عبده بأن يكتب مقالاً للترحيب بالترجمة وليشرح نظرية الكتاب.

إن ما بدا للأفغاني مهماً في هذا الكتاب، وأمثاله إنما كانت فكرة المدنية الأوروبية، التي رأى فيها أهم الأحداث التاريخية ومحك الحكم على الأحداث الأخرى. وهو رأى في كلمة المدنية معنى التقدم الذي كان ينشده، وبالتخصيص، معنى التقدم المتجه نحو هدفين: التطوير الاجتماعي، أي زيادة القوة الاجتماعية والرفاهية الاجتماعية، والتطوير الفردي، أي تطوير مواهب الإنسان ومشاعره وأفكاره.

وكان غيزو يعتقد أن هذين النوعين من التطور في متناول الإنسان. إذا حكم العالم بطاقاته العقلية، وفي هذه الحالة يسخر الناس ميولهم وأفعالهم للعقل من جهة، ويقبل أعضاء المجتمع عامة الأفكار والمبادئ الخلقية الناجمة عن العقل من جهة أخرى.

هكذا كان غيزو يصف أوروبا. غير أن هذا الوصف بدا للأفغاني منطقياً أيضاً على المدنية الإسلامية. فهو يرى بما أنه كان للأمة الإسلامية في أوج مجدها الخصائص الضرورية للمدنية المزدهرة من إيمان بالعقل، وتطور اجتماعي، والانتصارات العسكرية في صدر الإسلام، فإنه من الممكن تحقيق ذلك الآن أيضاً، ولكن في هذا الوقت -كما يرى الأفغاني- “بقطف ثمار العقل، أي علوم أوروبا الحديثة، وبإعادة بناء وحدة الأمة”. وهي في هذه الحالة سوف تكون أمة متقدمة كما يريدها الأفغاني، حتى أنه دعا الفرس، والأفغان، إلى الاتحاد في هذه الأمة بالرغم من كون الفرس شيعة والأفغان سنة[68].

وللحق والتاريخ فإن الأفغاني لم يكن مصلحاً دينياً فحسب، بل كان كذلك فيلسوفاً ينظر في الدين وفي غير الدين، تعلم إلى جانب علوم اللغة والشريعة، العلوم العقلية، من منطق وحكمة. وباستناده إلى التراث العقلاني في الفلسفة العربية الإسلامية وانفتاحه على أفكار التنوير الأوروبي، أنتج الأفغاني فكراً ذا طبيعة فلسفية ووضع نصب عينيه تحطيم السد الذي كان قد أقيم بين الإسلام والفلسفة، مؤكداً أن الإسلام هو دين العقل والنظر والمناقشة، وأن الإيمان الحقيقي هو الإيمان المستند إلى الدليل والبرهان العقليين[69].

سعى الأفغاني إلى إيجاد معادلة توحد بين الإسلام والعلم والفلسفة، ودعا إلى إحياء الإسلام على أساس عقلاني وإعادة النظر في أفكار الدين من زاوية العقل وروح العصر.

وفي المناظرة التي جرت بينه وبين الفيلسوف الفرنسي “إرنست رينان” (1923م - 1892م) في باريس سنة (1883م) حول علاقة الإسلام بالعلم[70] اعترف الأفغاني، بأن شعلة البحث العلمي قد انطفأت، في وقت من الأوقات في العالم الإسلامي، معتبراً أن ما وقع للمسلمين بهذا الخصوص قد وقع مثله في الأديان الأخرى، لكنه رفض الفكرة القائلة بأن الإسلام يتعارض من حيث الجوهر مع العلم، وقد ترك الأفغاني تأثيراً كبيراً على محاوره الفرنسي، الذي كتب بعد اللقاء الذي جمعهما:

“والشيخ جمال الدين خير دليل يمكن أن تسوقه على تلك النظرية العظيمة التي أعلناها، وهي النظرية القائلة بأن قيمة الأديان بقيمة الأجناس التي تعتنقها، وقد خُيِّل إليَّ من حرية فكره ونبالته وصراحته، وأنا أتحدث إليه، أني أرى وجهاً لوجه أحد من عرفتهم من القدماء، وإنني أشهد ابن سينا، وابن رشد أو أحداً من أولئك الملحدين العظام -كما جاء في النص- الذي ظلوا يعملون خمسة قرون على تحرير الإنسانية من الأسار”[71].

إن الأفغاني في رده على رينان، كان يخاطب العقل الأوروبي القائم على المحسوس أو المادي الروحي. وقد أوقعه ذلك الرد في مصيدة العقل الأوروبي نفسه. فهو في ذلك الرد نجده يؤمن إلى حد كبير بطريقة تفكير العقل الأوروبي.

فالرد كان موجهاً إلى جمهور أوروبي ومعتقداً أنه سيؤثر فيه. وهذا الرد كان تعبيراً أصدق عما يجول في خاطر الأفغاني من كتابه “الرد على الدهريين”. لأن الأفغاني كان قد اتخذ طرق للتفكير في أوروبا مختلفة عما كانت عليه طرق تفكيره وهو في الشرق. فالرد كان موجهاً على وجه الدقة، إلى جمهور غربي من الصفوة “Elite” وهو في الحقيقة يمثل معتقدات الأفغاني التي تم انتقاده عليها من قبل المسلمين المتشددين “Orthodox” وهو بتأثره بالفكر الغربي كان قد هاجم الدين الإسلامي بعبارات حادة، فقد كانت نظرة الأفغاني للدين في باريس تمر بمرحلة تطورية “Evolutionary” نحو الارتقاء العقلاني الأوروبي[72]. وحتى نرى مدى تأثير (التغريب) الكبير في الفكر الإسلامي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإنه لابد من الاطلاع على الباب الواسع الذي فتحه الأفغاني للاجتهاد في الإسلام.

فهو ينادي بضرورة الأخد بالفكرة الدينية القائمة على فتح باب الاجتهاد التي أطلقها محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر، ويتعمد هذا على الجمع بين الأصول الثابتة في الدين ومن ثم العقل. ولكن لم يلبث الأفغاني أن عمل على تمجيد العقل في أفكاره ومناظراته -نحن نعتقد أن العقل يتوافق مع ما يأتي به القرآن لأن الأخير كلام الله والأول صنيعة الله، فهل من المعقول ألَّا يعرف الصانع ما يحتاجه الشي المصنوع، أما القول بأن القرآن يتوافق مع ما يأتي به العقل، فذلك أمر فيه نظر، لأن العقل نسبي مهما اتسع أفقه، وليس من المنطقي أن يكون النسبي أوسع من المطلق أي القرآن، الذي لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه حتى يصبح من الواجب أن يتوافق القرآن مع العقل والعكس هو الصحيح، وهذا الأمر الذي حاد فيه الأفغاني عن صوابه وأوضح مدى تأثره بالنزعة الغربية-.

فهو لم يقف عند حد قوله: “فالحكم للعقل والعلم حتى ولو كانت حقائق العلم وأحكام العقل لا ترضي العامة الذين يساندون رجال الدين وتجار الديانات”[73]، وإنما كان يتخذ هذا الموقف الثابت حتى عندما يحصل تناقض أو اختلاف بين الحقائق العلمية وظاهر الآيات في النصوص القرآنية، وهذا الموقف برز واضحاً في لجوئه إلى التأويل.

والتأويل في نظره، يرتكز على مخالفة النصوص القرآنية، وخصوصاً النص العام، أو ما يُسمى بالنص الكلي لحقائق العلم، ولكن إذا تصادم النص القرآني مع حقيقة ثابتة من حقائق العلم، ففي هذه الحالة يرى الأفغاني أن نؤوِّل النص عن ظاهره من أجل اتفاقه مع العلم، أي أن نلوي عنق النص القرآني حتى يتوافق مع العلم الذي هو في حقيقته قادم من الغرب سواء أكان علماً إنسانيًّا أم طبيعيًّا، ذلك العلم الذي انبهر به الأفغاني وتلميذه محمد عبده.

إذ يقول: “والقرآن يجب أن يُجلّ عن مخالفته للعلم الحقيقي خصوصاً في الكليات، فإذا لم نر في القرآن ما يوافق صريح العلم، والكليات، اكتفينا بما جاء فيه من الإشارة، ورجعنا إلى التأويل”[74].

وقد جرَّه تأويله إلى حد الاعتقاد، أن الربا -وهو محرم عند علماء المسلمين- جائزاً إذا كان معقولاً، والمعقولية في نظره، ألَّا يثقل كاهل المدين، ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال، ويصير أضعافاً مضاعفة!

ومن هنا رأى مصطفى فوزي، أن الأفغاني، في تأويله ذلك قد خرج عن المعاني الصريحة لنصوص القرآن، بل بلغ الأمر، بيوسف النبهاني، إلى حد القول، أن الأفغاني كان من المفتونين بدعوى الاجتهاد المطلق، وأن الغاية لديه ليس هو الاجتهاد بذاته، وإنما هدفه هو “الخروج على الدين”. ولا يقل الأمر سواء عند مصطفى صبري عندما رأى أن الأفغاني جاء ليضر الدين، ولينشئ مذهباً جديداً في الإسلام، ويشبهه بثورة لوثر كالفن على الكنيسة بهدم القديم، وإحلال دين جديد.

حتى أن أحد علماء السنة، قد سأل الأفغاني، قائلاً: “ما عقيدتك؟ -ونتلمس ما بين السطور في هذا السؤال، أنه من الممكن أن يكون ذلك العالم يشكك في صحة إسلام الأفغاني- فأجابه الأفغاني: إني لم أر في أئمة المذاهب شخصاً أعظم مني حتى اسلك طريقته”.

ونعتقد أن ما واجهه الأفغاني من انتقادات حادة لفكره يعود في مجمله إلى محاولاته في أن يقحم الفكر الغربي وما انبثق عنه من أنظمة اجتماعية واقتصادية وسياسية تتناسب مع ذلك الفكر في الفكر الإسلامي المنطلق من أسس مختلفة عن الفكر الغربي.

أبرز تلك الأسس أنها من رب العالمين، أي من القرآن الكريم في المقام الأول، فهو لم يستطع أن يتخلى عن افتتانه بالفكر الغربي، كما أنه لم يستطع أن يهجر الفكر الإسلامي، فأتت محاولته لدمج الفكرين بحجة أن الإسلام يستوعب ذلك، فأدخل في الإسلام ما لا يقبله الإسلام[75].

لقد علق الإسلام في ذهن الأفغاني بأنه يعني “السعي” أي أن موقف المسلم الحقيقي ليس الرضوخ السلبي لما قد يحدث باعتباره آتياً مباشرة من الله، بل هو السعي المسؤول لتحقيق إرادة الله -وهذا أمر نتفق عليه مع الأفغاني- لأن الإنسان مسؤول أمام الله عن كل أعماله، ومسؤول عن خير المجتمع، وأخطاؤه صادرة عنه وبوسعه تجنبها، فكان الأفغاني وتلاميذه من بعده يرددون هذه الآية: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.

لكن المشكلة في نظرة الأفغاني تلك إلى الإسلام أنها تنطوي على متضمنات بعيدة الأثر. فهي تعني أنه يجب استعمال العقل استعمالاً تاماً في تفسير القرآن، فهو يقول: “فإذا بدا لنا أن القرآن يناقض ما هو معروف الآن، فعلينا أن نفسره رمزياً”![76]

فعمل الأفغاني جل جهده حتى يثبت أن جوهر الإسلام إنما هو جوهر العقلانية الأوروبية الحديثة ذاتها. على أن مثل هذا الإثبات كان أمراً محفوفاً بالمخاطر لدرجة أن بعض معاصري الأفغاني قد اتهموه بأنه كان مستعداً للتضحية بحقيقة الإسلام في سبيل رفاهية المسلمين الوهمية.

بل لقد وجد بين معارفه من شك في إيمانه بحقيقة الإسلام وفي قيامه بواجباته الشرعية، كما وجد فيما بعد بعض من أبدى مثل هذه الشكوك بحق تلميذه محمد عبده. ومما لا شك فيه أن الذي أوقع الأفغاني وعبده في مثل هذه الاتهامات، أنهما كانا ينظران إلى الإسلام نظرة الفلاسفة لا نظرة “اللاهوتيين” السنيين.

وبتعبير آخر لقد قبل الأفغاني بالتوحيد النهائي بين الفلسفة والنبوة، إيماناً منه بأن ما يتلقاه النبي بالوحي إنما هو عين ما يستطيع الفيلسوف بلوغه بالعقل، مع فارق واحد، هو أن هناك طريقتين مختلفتين للتعبير عن الحقيقة: طريقة المفاهيم الواضحة للخاصة، وطريقة الرموز الدينية العامة.

وليس من شك في أن بين هذه النظرة إلى الإسلام وبين التفكير الحر في أوروبا القرن التاسع عشر هوة “ربما لم يكن من المستحيل -في ظن الأفغاني- إقامة جسر فوقها-[77].

فتأثير الفكر الغربي في طريقة تفكير الأفغاني في الدين قد دفعت بعض الكتاب إلى رميه بتهمة الإلحاد[78]. فوصفه الشيخ أبو الهدى الصيادي[79] بأنه “مارق من الدين، كما مرق السهم من الرمية”[80].

كما نجد تلميذه سليم عنحوري ادعى أن الأفغاني برز في علم الأديان حتى أفضى به إلى الإلحاد والقول بقدم العالم، وأن القول بوجود محرك أول وَهْمٌ نشأ عن ترقي الإنسان في تعظيم المعبود.

والجدير بالذكر، أن النص العربي لرد الأفغاني مفقود إلى الآن، والمتوفر هو الفرنسي كما نشرته الصحيفة الفرنسية، ومع أن الرد قد تُرجم إلى الألمانية ونشر في سويسرا، عقب نشره في باريس، عام (1883م)، فقد ظل نصه الفرنسي حبيس أرشيف الصحيفة الفرنسية حتى عام 1942، أما ترجمته الإنكليزية فلم تظهر إلا في الولايات المتحدة الأمريكية عام (1968م)[81].

إن الأفغاني أول من روج فكرة “اشتراكية الإسلام” وقارن بينها وبين اشتراكية الغرب[82]. فهو يرى أن الاشتراكية في الغرب محض ضرر بعد أن كان المنتظر منها كل نفع. وأن “الاشتراكية الغربية” ما أحدثها، وأوجدها إلا حاسة الانتقام من جور الحكام، وعوامل الحسد في العمال من أرباب الثراء الذين إنما أثروا من رواء كدهم وعملهم[83]، أما “الاشتراكية الإسلامية” -في نظر الأفغاني- فهي ملتحمة مع الدين الإسلامي ملتصقة في خلق أهله منذ كانوا أهل بداوة وجاهلية. و “أول من عمل بالاشتراكية بعد التدين بالإسلام هم أكابر الخلفاء من الصحابة، وأعظم المحرضين على العمل بالاشتراكية كذلك من أكابر الصحابة أيضاً”.

كما أشار القرآن الكريم إلى الاشتراكية بأدلة كثيرة منها: “إن المسلم أول ما يقرأ من فاتحة الكتاب {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيعلم أن للخلق رباً واحداً وهو مع سائر الخلق من المربوبين على السواء”.

“ثم جاء بموضع آخر من الكتاب منذراً لمن يكنزون الذهب والفضة بالعذاب ثم حبذ وأثنى على الذين يؤثرون على أنفسهم بالعطاء والإسعاف، والإطعام ولو كان بهم خصاصة، وهكذا نرى قانون الاشتراكية المصقول في آيات القرآن تترى”.

“إن الإخاء الذي عقده المصطفى (صلى الله عليه وسلم) بين المهاجرين والأنصار هو أشرف عمل تجلى به قبول الاشتراكية قولاً وعملاً”.

كما عمل “بالاشتراكية الإسلامية” أكبر خلفاء المسلمين كأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وعمل بها الصحابي الجليل (أبي ذر الغفاري). و “كل اشتراكية تخالف في دورها وأساسها اشتراكية الإسلام، فلا تكون بنتيجتها إلا ملحمة كبرى، وسيل الدماء ولا سيل العدم من الأبرياء، ومن تخريب لبناء لا يُشاد عليه شيء ينتفع به أحد من الخلق... أكرر القول إن اشتراكية الإسلام هي عين الحق، والحق أحق أن يُتبع”[84].

وهكذا نستطيع أن نرى مدى (التغريب) الذي كان يعيش في فكر الأفغاني. فجمال الدين الأفغاني، رغب في إقناع المسلمين بأن الإسلام قد جاء بأحسن مما جاءت به المذاهب الأوروبية الحديثة.

فهو قد أعطى الاشتراكية أكثر مما تستحق حينما قال: “إنها خلق البداوة” وحينما قال: “إنها ملتحمة مع الإسلام ملتصقة في خلق أهله”، ورفع من شأنها حيث ما كان له أن يفعل عندما قال: “إن أول من عمل بالاشتراكية بعد التدين بالإسلام هم أكابر الخلفاء من الصحابة وأكابر الصحابة عموماً”.

ونحن لا نسلم بما قال به جمال الدين من أن الخلفاء الراشدين أو كبار الصحابة وهم يتصرفون بما يملي عليهم دينهم قد كانو يطبقون الاشتراكية، إنما هم كانوا يطبقون الإسلام.

والآيات الكريمة التي استشهد بها جمال الدين لم تسعفه أبداً ليستدل بها على الأخذ بمبدأ الاشتراكية المعروف آنذاك. فآية: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تلد على مساواة الناس في العبودية لله أكثر مما تدل على أنهم شركاء أو اشتراكيون في رب واحد. وآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ} توجب على المسلمين الزكاة، وتحثهم على التصدق على الفقراء لرفع الحاجة عنهم، وليست اشتراكية بالمعنى المعروف عن الاشتراكية لدى الأوروبيين وغيرهم.

وكذلك تصور الأفغاني للمؤاخاة التي عقدها الرسول (صلى الله عليه وسلم) بين المهاجرين والأنصار على أنها اشتراكية بهذا المعنى تصور مجازي فقط، لأن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار كانت نمطاً فريداً في إيجاب الإسلام على المسلمين تلك المواساة الفذة في نبلها وشموخها لإخوانهم الذين هجروا ما يملكون من أجل هذا الدين، فنحن نظلم هذه المؤاخاة أيما ظلم حينما نسميها اشتراكية.

إن الأفغاني قد استجاب لتلك الرغبة التي تولدت في نفوس المسلمين في ذلك العصر، بعد اتصالهم بأوروبا وانبهار كثير منهم بحضارتها المادية، والتي تدفع بعضهم إلى المبادرة إلى القول بأن الإسلام يقر مذهب أوروبا السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، وبخاصة فيما يبدو مفيداً من هذه المذاهب في نظر بعض الناس، كالاشتراكية والديموقراطية وغيرها، ولم يكن جمال الدين بدعاً في هذا، وإنما شاركه عدد من الكتاب وعدد من المصلحين. ووجه الخطأ في هذه المبادرة أنها توحي بأن الإسلام ينقصه أن يقر الاشتراكية أو يعترف بالديموقراطية حتى يحقق مصالح الناس.

مع أن اليقين كان ولا يزال قائماً بأن الإسلام دين الله الذي ارتضاه لخلقه آخر الأديان وأتمها، فهو بما هو عليه مما عبر عنه القرآن الكريم وفصلت سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبينت خطوطه سيرته الطاهرة.

فاليقين قائم بأن هذا الدين محقق لمصالح البشرية كلها عاجلها وآجلها، وليس هو بحاجة إلى أي مذهب أو نظام يستعين به على تحقيق مصالح الناس. فالقول، بأن في الإسلام اشتراكية أو ديموقراطية يوحي بأن قائله يعاني من تصور خاطئ بتكامل هذه المذاهب أو قدرتها على تحقيق مصالح الناس في الدنيا، مع العلم بأن هذه المذاهب ليست متكاملة ولا قادرة على تحقيق مصالح الناس[85].

لم ينكر الأفغاني أهمية الرابطة القومية، فهو يقر بأنه من الممكن قيام دولة فاضلة على أساس العقل البشري، كما يمكن قيامها على أساس الشريعة الإلهية.

وقد أعرب عن هذا بتعابير تذكِّر بالفلاسفة، في محاضرة له أدت به إلى مغادرة إستنبول. إذ قال: “إن الحجم الاجتماعي لا يحيا بدون روح، وإن روح هذا الجسم هي الملكة النبوية أو الملكة الفلسفية... أما الأولى فهي هبة من الله... بينما الثانية تنال بالتفكير والدرس”.

وهو يقر كذلك بأن في مقدور الجماعة القائمة على الفضائل البشرية والخاضعة لتدبير العقل البشري، أن تستقر استقرار الدولة القائمة على الدين، لا بل في مقدورها أن تكون أكثر استقراراً.

بل إنه في عدم إنكاره للروابط القومية أو غيرها من الروابط “الطبيعية” كان يدعو إلى تضامن “طبيعي” يتعدى الأمة الإسلامية. أي تضامن يربط بين جميع شعوب الشرق التي يتهددها التوسع الأوروبي باعتبارهم شرقيين. وقد أعلنت “العروة الوثقى” في عددها الأول أنها موجهة: “إلى الشرقيين عموماً وإلى المسلمين خصوصاً”[86].

حتى أن شعار الجامعة الإسلامية عند الأفغاني لم يكن ذا مضمون طائفي -أي إسلامي- فلم يكن الأفغاني يتحدث عن بلاد المسلمين فقد، وإنما عن بلاد الشرق، ورأى أن صراع الغرب مع الشرق ليس صراعاً دينياً، وإنما يعني التصدي لأطماع استعمارية[87].

وفي كتاب الأفغاني (الخاطرات) وضحت أفكاره عن الوطن والقومية وكيفية المزج بينهما وبين الإسلام، وتبنى بعد ذلك شعار “مصر للمصريين”، وأخذ يتحدث عن حرمان الشرقيين من “المنفعة القومية” وأن للإنسان ثلاث دوائر يتحدث فيها، هي دائرة الجماعة التي ينتسب إليها، ودائرة الملة التي ينتمي إليها دينياً، ودائرة النوع الإنساني الذي هو أحد أفراده، بل إننا نجده في مرحلة متأخرة من حياته يتحدث عن العروبة والعرب وعن قيمة اللسان العربي في إقامة الحضارة الإسلامية، وأن وحدة اللسان هي أهم الخصائص القومية[88].

فقد كتب المستشرق الكندي (ماك لوري) في كتابه “حركات التنوير في الشرق”: “كانت أقوى مشاعل حركة التنوير القومي والفكري في الشرق هي التي حملها الأفغاني الذي تخرج علي يديه وفي مجالسه الكثيرون من أبناء مصر والبلاد العربية”[89].

وعند النظر إلى مقالة للأفغاني بعنوان “الحكومة الاستبدادية” فإننا نرى بوضوح مدى تأثره بالفكر السياسي الأوروبي. فهو يرى أن نظام الحكم الجمهوري هو أفضل أنظمة الحكم، حتى أنه لم يرى أن هناك نظاماً سياسيًّا إسلاميًّا يمكن أن يكون البديل لهذه الحكومة الاستبدادية التي تحدث عنها، وهذا ما نلاحظه واضحاً في مقالته[90].

إن القسم الأكبر من فشل الأفغاني في إصلاحه، يعود إلى أنه لم يتخذ في مجال دعوته برنامجاً متكاملاً محدد المراحل واضح الأهداف. بل إنه كان متعجلاً يريد أن يرى أثر نجاحه وثمرة غراسه في حياته.

وقد أوجز المفكر الفرنسي (فرنو) حين قال في حركة الأفغاني: “فهو -أي الأفغاني- قد أيقظ النفوس أكثر مما دلها على طرق جديدة”[91].

والآن لنأتي إلى الإصلاح الذي حاول القيام به تلميذ الأفغاني محمد عبده في المجتمع الإسلامي.

 

2-  الشيخ محمد عبده 1849م  1905 - م

انطلق تفكير محمد عبده، كما انطلق تفكير الأفغاني، من قضية انحطاط المجتمعات الإسلامية وحاجتها إلى البعث الذاتي، فأرجع الإمام أسباب ذلك الانحطاط إلى البدع الغربية التي دخلت على الريف، فحلت محل “الاعتقاد الصحيح” وأخذت مكان “الشرع القويم”، وإلى فساد علمائهم وجهلهم وتسلط حكامهم وجشعهم وسوء التربية في صفوفهم[92].

وبهدف تجاوز حالة الانحطاط شدد عبده على أهمية إصلاح الدين، فالإسلام في نظر عبده قد جاء ليحرر الفكر من التقليد وليطلق العقل من كل قيد ويرده إلى مملكته. وهما في حقيقة الأمر أصلان قامت عليهما المدنية في أوروبا، وسيمهد عودة التزام المسلمين بهما الطريق نحو الحداثة في العالم الإسلامي[93].

عرف الشيخ محمد عبده الإصلاح الديني بأنه: “تصحيح، وإزالة ما طرأ عليه من الخطأ في فهم نصوص الدين، حتى إذا سلمت العقائد من البدع تبعتها سلامة الأعمال من الخلل والاضطراب، واستقامت أحوال الأفراد، واستضاءت بصائرهم بالعلوم الحقيقية، دينية ودنيوية، وتهذبت أخلاقهم بالملكات السليمة، وسرى الصلاح منهم إلى الأمة، فإذا سمعت داعياً يدعو إلى العلم بالدين، فهذا مقصده، أو منادياً يحث على التربية، فهذا غرضه، أو صائحاً ينكر ما عليه المسلمون من المفاسد فتلك غايته”.

فالعلاج الجذري لمشكلات المسلمين، في نظر محمد عبده، يكمن في إصلاح الإسلام، أي الرجوع إلى منابعه الأولى من ناحية، ثم الأخذ بأساليب الحضارة الغربية ومفاهيمها من ناحية أخرى[94].

وهكذا نلاحظ، أن الشيخ محمد عبده، قد اعترف أكثر من أستاذه بالحاجة إلى تجديد المجتمع الإسلامي عن طريق الاستعانة بالمناهج العلمية الأوروبية، رغم تشديده على المبدأ الأساس للعصر الذهبي في الإسلام[95].

يرجع انفتاح محمد عبده على عالمية الفكر الإنساني، إلى إلمامه العميق بعلم المنطق والفلسفة، وإيمانه بوحدة النوع البشري وتشابك مصالحه، واحتكاكه المباشر بالغرب وانفتاحه على لغاتهم[96].

فعرف عن الإمام تقديره لدور الحكماء وسعيه إلى توثيق الروابط المباشرة وغير المباشرة معهم، ففي رسالة بعث بها إلى (تولستوي) في (18/ نيسان/ 1904)، خاطب محمد عبده الأديب الروسي بقوله: “لم نحظ بمعرفة شخصك، ولكنا لم نُحرم التعارف بروحك، سطع علينا نور من أفكارك، وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائك، أَلَّفت بين نفوس العقلاء ونفسك”.

أما الفيلسوف الإنكليزي (هربت سبنسر) فقد كان محط إعجاب الإمام الشديد، حتى أنه طلب من صديقه المستشرق (ويلفرد بلنت) أن يرتب له زيارة إلى لندن للتعرف المباشر على الفيلسوف الإنكليزي، وتمت هذه الزيارة بالفعل في شهر (آب/ 1903م).

كما أنه كان هناك علاقة وطيدة ربطت ما بين محمد عبده والقس الإنكليزي (إسحاق تيلر) والتي قامت على أساس قناعتهما المشتركة، بأهمية التأليف بين الأديان الثلاثة، وذلك كي يتم -على حد تعبير الإمام في إحدى رسائله إلى القس-: “نور الله في أرضه ويظهر دينه الحق على الدين كله”[97].

كان مفتاح دفاع محمد عبده عن الإسلام مفهومه الخاص للدين الحقيقي، القائم على التمييز بين ما هو جوهري وغير متغير فيه، وبين ما هو غير جوهري ويمكن تغييره بلا حرج.

فالإسلام الحقيقي، في نظره، جهاز عقائدي بسيط: بعض المعتقدات الخاصة بأخطر مسائل الحياة البشرية، وبعض المبادئ الخاصة بالسلوك البشري. ورأى أن العقل والوحي ضروريان معاً لاكتشاف هذه المعتقدات ولتجسيدها في حياتنا.

وفي ضوء ذلك الفهم للإسلام من قبل محمد عبده أدرك أن الشعوب الإسلامية لن تصبح قوية ومزدهرة إلا إذا اقتبست من أوروبا العلوم التي نتجت عن نشاطها العقلي، وأن هذا الاقتباس يمكن تحقيقه دون التخلي عن الإسلام. إذ إن الإسلام يحث على قبول جميع منتجات العقل.

لكن لم يدر في خَلَد عبده أن ذلك يقتضي تغييراً في مؤسسات المجتمع الإسلامي، كنظامه الشرعي، ونظام الحكم فيه ومدارسه.

فبتأثير من الفكر الأوروبي ومجتمعه في القرن التاسع عشر، اعتقد محمد عبده، أن على المسلمين اليوم أن يقوموا بما كان عليهم القيام به دوماً: إعادة تأويل شريعتهم وتكييفها وفقاً لمتطلبات الحياة الحديثة، ولبلوغ هذه الغاية لابد من الاهتداء بمبدأين سَلِمَ بهما الفقهاء وأعطاهما محمد عبده بعداً جديداً: الأول مبدأ المصلحة، بحيث يفترض الفقه حسب هذا المبدأ تأويل النصوص في شرحه للقرآن والحديث بما يتوافق مع مصلحة البشر.

أما المبدأ الثاني الذي اتخذه محمد عبده لإعادة تأويل الشريعة الإسلامية، فهو مبدأ التلفيق، فلقد كان من المسلَّم به لدى بعض أصحاب الرأي، أنه يجوز للقاضي في أي قضية معينة أن يختار من مذهبه الشرعي أو من مذهب شرعي آخر، التفسير الشرعي الأكثر ملاءمة للظروف.

لكن محمد عبده ذهب أبعد من ذلك، فدعا إلى وضع (مذهب موحد) يؤلف بين العناصر الصالحة في كل من المذاهب الأربعة. وقد تمكن بوصفه مفتي مصر من وضع هذه الدعوة موضع التنفيذ[98].

إن مناداة محمد عبده بإعادة تفسير الشريعة، كانت من أجل التمكين من اقتباس ما كان صالحاً من الأخلاق الأوروبية، كإلغاء الرق مثلاً، ومنح المساواة أمام القانون للمسيحيين قاطني البلدان الإسلامية. وذلك الاقتباس -في نظره- أمر مفروض باعتبار أن “الإسلام عبارة عن تلك المجموعة من العقائد المتفقة مع متطلبات العقل البشري، وما الشريعة إلا التطبيق العقلي لهذه المبادئ على أحوال العالم...”. لكن كيف يمكن لهذه العملية أن تتم دون الخروج على الشرع؟[99] فرأى محمد عبده ضرورة تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض. فقال: “اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أُخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه وتفويض الأمر إلى الله في علمه، والطريق الثانية: تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل.

وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي (صلى الله عليه وسلم)، مهدت بين يدي الفعل كل سبيل، وأزيلت من سبيله جميع العقبات، واتسع له المجال إلى غير حد”[100].

فبالرغم من اعتقاده بأن “القرآن هو السلطة التي تمكن الناس من تمييز الزائف الضار من المفيد النافع” إلا أنه أتى بعد ذلك ليقترح أن يتم تفسير الشرع الإسلامي على ضوء العقل، وأن يقدم العقل على النقل عند التعارض بينهما. ودلل على ذلك شخصياً في الفتاوى التي أصدرها عندما كان قاضياً ومفتياً للديار المصرية، وفي التفسيرات التي وضعها لبعض سور القرآن، من هذه الفتاوى التحليل للمسلمين، بإيداع أموالهم في المصارف بالفائدة.

وذهب عبده إلى أبعد من هذا عندما قال “بأن القرآن لا يعارض نظرية داروين في التطور، ولا نظرية باستور في الجراثيم”[101].

لقد كانت إحدى غايات محمد عبده الرئيسة أن يُظهر إمكان التوفيق بين الإسلام وبين الفكر الأوروبي الحديث، وأن يبين كيفية تحقيق ذلك. وقد اشترك في مناقشتين حول هذا الموضوع، إحداهما مع المؤرخ الفرنسي (هانوتو)، والأخرى مع اللبناني المستمصر فرح أنطون.

فقد كان الجدل من مقومات فكر محمد عبده، غير أن الجدل له أخطاره، ففي الدفاع عن النفس، قد يصبح المجادل أقرب إلى خصمه مما كان يظن. ومما يلفت النظر، أن محمد عبده لم يهتم في كلتا المناقشتين بمسألة صحة الإسلام أو خطئه، بل حصر اهتمامه بأمر اتفاقه مع ما يفترض بأنه من متطلبات الفكر الحديث.

ولعل نظرته إلى الإسلام قد تأثرت من جراء ذلك النقاش، فنجده أنه قد تابع النهج الذي سار عليه كل من الطهطاوي والأفغاني، في التوحيد بين بعض المفاهيم التقليدية للفكر الإسلامي وبين الأفكار السائدة في أوروبا الحديثة. وعلى هذا النهج انقلبت (المصلحة) تدريجياً إلى (الرأي العام). وأصبح الإسلام نفسه مرادفاً للتمدن والنشاط اللذين كانا قاعدتي التفكير الاجتماعي في أوروبا في القرن التاسع عشر. ولا شك أنه كان من السهل، باتباع هذا النهج، تحوير، إن لم نقل إبطال، المعنى الوثيق للمفاهيم الإسلامية، وتناسي ما يميز الإسلام من غيره من الأديان، لا بل عن النظرة (الإنسانية) اللادينية.

إذ كان لابد أن يرافق عملية الانتقاء والتقريب هذه شيء من التقدير الكيفي. إذ عندما نتخلى عن التفسير التقليدي للإسلام ونفتح الباب للرأي الشخصي، يصبح من الصعب إن لم يكن من المستحيل التمييز بين ما هو موافق للإسلام وما هو مخالف له.

فهل فتح محمد عبده، دون قصد منه، الباب لإغراق العقيدة والشريعة الإسلاميتين في لجة مبتكرات العالم الحديث؟

لقد نوى إقامة جدار ضد العلمانية، فإذا به في الحقيقة، بنى جسراً تعبر العلمانية عليه لتحتل المواقع واحداً بعد الآخر.

فليس من المصادفة أن يستخدم فريق من أتباعه معتقداته في سبيل إقامة العلمانية الكاملة[102].

صحيح أن محمد عبده قد أقام بأفكاره “التقدمية” في الإسلام من حيث لا يدري جسراً للعلمانية، إلا أنه من سوء الفهم أن يعتقد أحد أن كلاً من الأفغاني وعبده من العلمانيين الذين يقولون بفصل الدين عن الدولة، وقد جاء سوء الفهم هذا من كتابات ومقالات لها ظروفها وملابساتها، ولا تعني إطلاقاً العلمانية[103].

كان هدف محمد عبده في جميع أعماله وكتاباته سد الثغرة القائمة في المجتمع الإسلامي، بغية تقوية جذوره الخُلقية. ولبلوغ هذا الهدف، رسم طريقاً واحدة، هي عدم الرجوع إلى الماضي وتوقيف مجرى التطور الذي بدأه محمد علي، بل الاعتراف بالحاجة إلى التغيير وربط هذا التغيير بمبادئ الإسلام، وذلك بإثبات أن هذه التغيير الحاصل ليس مما يجيزه الإسلام فحسب، بل إنما هو من مستلزماته الضرورية إذا ما فُهم على حقيقته، وأن الإسلام يمكنه أن يشكل، في الوقت نفسه المبدأ الصالح للتفسير والرقابة السليمة عليه.

ولم يكن محمد عبده ليهتم، كما اهتم خير الدين في الجيل السابق، بالتساؤل إذا ما كان بإمكان المسلمين المتمسكين بأهداب الدين قبول مؤسسات العالم الحديث وأفكاره، وذلك لاعتقاده -أي عبده- أن هذه المؤسسات والأفكار إنما أتت لتبقى، وأن على من يرفضها أن يتحمل نتائج رفضه هذا[104].

وعند التدقيق في التاريخ الفكري لعبده، نجد أن الرجل قد احتل العنصر القومي، منذ البدء مركزاً مهماً في تفكيره، حتى أن أول مقالة نشرت له في الأهرام تحدثت عن الماضي العظيم “لمملكة مصر”. وكان يشعر دوماً بأن التاريخ والمصالح المشتركة بين الذين يعيشون في البلد الواحد تخلق رابطة عميقة فيما بينهم بالرغم من اخلاف الأديان. وقد أثر شعوره بأهمية الوحدة القومية في نظرته إلى الإصلاح الإسلامي، كما أثر أيضاً في نظرته إلى الأمة الإسلامية. فهو يعتقد أن أقوى نوع من أنواع الوحدة إنما هو وحدة الذين ينتمون إلى البلد الواحد. وأن انتساب غير المسلمين إلى الأمة لا يقل أصالة عن انتساب المسلمين أنفسهم إليها[105].

كان محمد عبده يطلق على قبائل العرب في الجاهلية المصطلح القومي الحديث “الأمة العربية” التي رآها موجودة بوصفها حقيقة تاريخية قائمة قبل ظهور الإسلام. فجاء عنه على سبيل المثال قوله: “كانت الأمة العربي قبائل متخالفة في النزعات”، وما جاء في أثناء حديثه عن معجزة القرآن الكريم: “ومع أنه لم يسبق له (صلى الله عليه وسلم) السياحة في نواحيها والتعرف برجالها -يقصد البلاد العربية- وقصور العلم البشري، عادة، عن الإحاطة بما أودع في قوى أمة عظيمة كالأمة العربية[106].

كما أنه كان يتحدث في نطاق الإسلام ذاته عن “جند عربي” و “جند أجنبي” والنظر إلى هذه العناصر المسلمة باعتبارها أجنبية، والدولة العثمانية “التركية” ما زالت قائمة، فإنه يتطابق تماماً مع موقف الرواد القوميين العرب الأوائل في نظرتهم إلى الوجود العثماني في البلاد العربية بقدر ما يتناقض مع موقف الفقهاء “التقليديين”.

وهذا يعني أن إصلاحه الديني المرتبط بالعودة إلى جوهر “الإسلام العربي” هو في حقيقته تمهيد تاريخي لظهور حركة القومية العربية والوحدة العربية[107].

ولكن الأمر الأكثر أهمية هو، أن محمد عبده لنزعته إلى القومية العربية، قد وفر الشرعية الدينية في زمنه لحركة التحرر القومي من الترك لتحقيق استقلال الكيان العربي عن الإمبراطورية العثمانية[108].

حتى أننا نستطيع القول: إن بذور القومية العربية تم غرسها على يد محمد عبده، فهو يقول: “كان الإسلام ديناً عربياً، ثم لحقه العلم فصار علماً عربياً، بعد أن كان يونانياً، ثم أخطأ خليفة في السياسة -يقصد المعتصم- فاتخذ من سعة الإسلام سبيلاً إلى ما كان يظنه خيراً له، ظن أن الجيش العربي قد يكون عوناً لخليفة علوي لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي، فأراد أن يتخذ له جيشاً أجنبياً من الترك والديلم وغيرهما من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه... هنالك استعجم الإسلام وانقلب أعجمياً، خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه، وبئس ما صنع بأمته ودينه، عندما أكثر من الجند الأجنبي فلم تكن إلا عشية وضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء واستبدوا بالسلطان دونهم، وصارت الدولة في قبضتهم ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام، والقلب الذي هذبه الدين”[109].

فمن الواضح أن محمد عبده بتركيزه على “فكرة القومية العربية” يخالف الفكرة الدينية الإسلامية الشمولية، التي لا ترى فضلاً لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ولا تميز بين جند عربي وتركي وديلمي في ظل العقيدة وتحت راية الجهاد، ليعيد تفسير التاريخ الإسلامي تفسيراً عربياً صريحاً ذا طابع قومي قد لا يشاركه فيه مفكرون إسلاميون من قوميات أخرى.

فهناك على أيامه وبعدها، من كان يقول بأن التنازلات التي قام بها للفكر الأوروبي الحديث خطرة وغير ضرورية، وبأن إعادة النظر في العقيدة والشريعة، كما كان محمد عبده يرتئي، لم تكن أمراً لابد منه. لا بل كان هناك، حتى بين الذين تأثروا به وكان من حقهم الإدعاء بأنهم من تلاميذه، من كانت عقليتهم على خلاف عقليته[110].

ومع وفاة الشيخ محمد عبده عام (1905م) كُتب على حركة التصالح التوفيقي الفشل بشكل “رسمي” إذا جازت التسمية، فقد انقسم تلامذته بعد وفاته إلى جماعة “محافظين متحجرين” كانوا يسايرون معتقداته العامة المليئة بالبدع والضلالات، وإلى أصحاب الآراء “المتطرفة” في التقدم، الذي دعوا إلى الحد من دور الإسلام في المجتمع، فقد نظروا إلى الإسلام على أنه مبدأ حي يجب أن يستمر في التطور، وعلى أن النتيجة النهائية لهذا التطور ستكون علمنة المجتمع الإسلامي، وكان على رأس هؤلاء علي عبد الرزاق مؤلف كتاب “الأسلام وأصول الحكم” الذي نادى فيه بفصل الدين عن الدولة.

وكان بين هذين الاتجاهين جماعة يُطلق عليها “جماعة المعتدلين” أيدوا أفكار أستاذهم “محمد رشيد رضا”، وكان من بين هؤلاء د. محمد توفيق صدقي (مصر)، عبد القادر المغربي (لبنان)، الشيخ طاهر الجزائري (دمشق)[111].

إن محمد عبده لم يدرك أن التوتر بين الإسلام والمدنية الحديثة كان بحد ذاته توتراً دقيقاً، وكان من الصعب تعيين الحدود بين طرفيه، فنشأت نزعة دائمة عنده لتخفيف حدته بمحاولة “شبه واعية” للتوفيق بين وصايا الإسلام ومفاهيم الفكر الحديث، وفي مثل هذه المحاولة “يذوب الإسلام” في الفكر الأوروبي الحديث إذا جاز التعبير[112].

وسوف نرى لماذا فشل الإصلاح الديني في القرن التاسع عشر بالنهوض بالمجتمع الإسلامي.

إن المسألة الأهم التي واجهت الإصلاح الديني هي البحث عن إجابات إسلامية عن الأسئلة التي طرحتها الحياة آنذاك، فإن الجهد قد انصب على تأويل المتجه نحو التوفيق بين ثقافة الغرب المتقدم والإسلام، إذ إن فكر الغرب وتقدمه المشخص قد فرض نفسه وبقوة على الجميع دون استثناء، فانطلق الإصلاح الديني ليدلل على الجزء الأهم من التقدم الغربي لا يتعارض وروح الإسلام إذا ما فُهم الإسلام على حقيقته[113].

كان التقاء المصلحين الإسلاميين بالنماذج الثقافية الأوروبية هو الموضوع الذي سيطر على الحياة الفكرية في جميع أنحاء العالم الإسلامي طوال القرن التاسع عشر.

وقد أدى الأخذ والرد في هذا الموضوع إلى تعريف الأوساط المستنيرة، تدريجياً، بالقيم والمثل التي كانت تؤمن بها المجتمعات الأوروبية في ذلك الوقت. وكان للمفاهيم الفردية والتحررية والتقدم الاجتماعي وقع طيب لدى المسلمين الشبان، الذين لم يجدوا بأساً في استعارة أفكار من لغة الغرب، تسمح لهم بالتعبير عن آراء اجتماعية ودينية في مشكلات الساعة، -ظناً منهم- أنها تتفق تماماً وروح الثقافة الإسلامية[114]. فعملية “عصرنة الإسلام” هذه قد دفعت بالمصلحين الدينيين الإسلاميين أن يكونوا متسامحين تجاه الخصوم الإيديولوجيين من الغرب، ومهدت السبيل أمام انفتاح المسلمين على عالم من الآراء والأفكار بعيدة عن حقيقة الإسلام.

كما اكتفى المصلح الديني الإسلامي في القرن التاسع عشر برفع التعارض بين الإسلام والعلم، دون أن يبحث في شروط تقدم العلم الواقعية[115].

فهل معرفة ما كان عليه المسلمون من التخلف -وما زالوا- يحتاج إلى اجتهاد ومقارنة -من قبل محمد عبده- مع الحضارة الغربية، فهذا أمر قد اتضح قبل محمد عبده بما يقارب ثمانية عقود من الزمن هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن معرفة ذلك تأتي عند الرجوع بحال المسلمين إلى مرجعية أهم من أوروبا، وهو دين الإسلام بقرآنه وسنته.

فالشيخ عبده تزداد همته لإصلاح حال المسلمين عند ذهابه إلى أوروبا، لا عند رجوعه إلى عصر الخلفاء الراشدين ومن قبلهم عصر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).

فقد جاء قوله في مقالة لأنور الجندي أكال فيها عبارات المدح والتعظيم على الشيخ عبده، قوله -محمد عبده-: “ما من مرة أذهب إلى أوروبا إلا ويتجدد عندي الأمل في تغيير حالة المسلمين إلى ما هو خير منها وذلك بإصلاح ما أفسدوه في دينهم”[116].

فإصلاح حال المسلمين حتى عند أصحاب الدعوة الإصلاحية الدينية أصبح يحتاج إلى وصفة من الخارج لا من منبع عقيدتهم.

إن الإصلاح الديني الإسلامي قد حصل نتيجة “غليان سياسي - ثقافي، فالمجتمعات الإسلامية قد تعرفت على الحداثة آنذاك من خلال الاستعمار، بشتى صوره، وتحت ضغطه. أي ليس في أحس الظروف[117] الدافعة إلى إحداث نهضة حقيقية، كما حدث في الغرب.

لقد كان المجتمع العربي الإسلامي في القرن التاسع عشر يعيش نظام فريد من نوعه، نظام يدعي التراث والحداثة معاً. في حين أنه يبتعد عن الحداثة الصحيحة بعده عن التراث الحقيقي في هذا المجتمع العربي - الإسلامي تكمن حالة معقدة من الخلل لا يمكن التخلص منها بقرار نتخذه للعودة إلى التراث أو اللجوء إلى الحداثة المعاصرة، ولا يمكن تجاوز هذا الوضع إلا بعملية ذاتية تحدث في داخل المجتمع وفي داخل الفرد معاً[118].

إن المأزق الذي عاشه المفكر الإسلامي في القرن التاسع عشر هو أنه أصبح يرى كل ترقٍّ يحصل في العالم، وكل خطوة تخطوها العقول في سبيل الكمال ليس إلا تقرباً إلى الإسلام.

فالإسلام متقدم وتقدمي وأحوال المدنية ماثلة فيه. وقد أصبح البرهان على عدم التعارض بين الإسلام تراثاً وديناً، والتقدم بوصفه قانوناً للحضارة، ونموذجاً غربيًّا، هو في الواقع محور عمل رجال النهضة من الإسلاميين. فمنهم من سعى إلى أن يبين كيف كان الإسلام يحث على التضحية والعمل والجهد، ومن هم من بين تعلقه بالحرية، بل وبالسلطة المدنية غير الدينية.

والأفغاني وهو يحتاج إلى النظام الدستوري، فإنه قادر على إيجاد مبررات ذلك لا في الغرب وحده، بل تكفيه العودة إلى النص القرآني -وتأويله-[119].

لقد فشلت العملية التوفيقية التي حاول الأفغاني وعبده القيام بها بين الغرب والإسلام في النهوض بالمجتمع الإسلامي، فطبيعة الظروف الجديدة حتمت أن يلمس الإسلام الحديث من الغرب ظواهره المادية المتفوقة قبل أن يدرك جوهره الحضاري الإنساني الداخلي، في حين تعرف المسلمون القدماء إلى جوهر الفكر الإغريقي بصورة حميمة متأتية بعد ذهاب سطوة الإسكندر بقرون، ولم يضطروا للخلط بين الجانبين، كما حدث للتوفيقيين المحدثين الذين ظلوا ينتقون من الغرب ما يرونه باهراً أو ظاهراً، من أوجه حضارته كأساليبه العسكرية والسياسية والاقتصادية دون النفاذ إلى ما وراء تلك الأساليب من غايات ومنطلقات، ومن نظرة كونية جديدة للإنسان والحضارة والطبيعة مغايرة لكل ما سبقها من نظرات غيبية.

وهي حقيقة لابد من مواجهتها بشكل مباشر ونافذ قبل الشروع في أية صياغة توفيقية بين الإسلام والغرب الحديث.

عند مطلع النهضة إلى اليوم والمحاولات مستمرة لدعم المعادلة التوفيقية بين توازن واختلال حسب حركة المد والجزر في مجرى المؤثرات الغربية، وكلما جاءت هذه المؤثرات بتحديات أكبر اضطرت التوفيقية إلى مزيد من التنقيح في معادلتها وذلك بالتوسع في إعادة تفسير الإسلام، عقلياً ومدنياً وعلمياً ثم ديموقراطياً ثم اشتراكياً وماركسياً[120] من أجل الحفاظ على سلامة منطلقها النظري المبدئي القائل إن الإسلام يتقبل كل ما هو صحيح وجوهري وضروري في الحضارة الحديثة، وكل ما تحتمه تطورات العصر ومصالح الجماعة.

لقد كانت قوة التحدي الأوروبي، الحضاري والسياسي أعظم من أن تصمد لها توفيقية جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومعادلتها التي حاولت بعد أزمان من العداء والتنافر، الجمع بين الإسلام والغرب في صيغة تصالحية واحدة[121].

 



[1] مساعد بحث وتدريس، قسم العلوم السياسية - الجامعة الأردنية.

[2] يصف المستشرق الأمريكي لوثروب ستودارد حالة العالم الإسلامي في ذلك الوقت قائلاً: “في القرن الثامن عشر كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدني أعمق درجة، فأربد جوه وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجاء من أرجائه وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب وتلاشى ما كان باقياً من آثار التهذيب العربي واستغرقت الأمم الإسلامية في اتباع الأهواء والشهوات، وماتت الفضيلة في الناس، وساد الجهل وانطفأت قبسات العلم الضئيلة، وانقلبت الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال، ليس يرى في العالم الإسلامي ذلك العهد سوى المستبدين الغاشمين، كسلطان تركيا، وأواخر ملوك المغول في الهند، يحكمون حكماً واهناً، فاشي القوة، متلاشي الصبغة... وأما الدين فقد غشته غاشية سوداء فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة سحباً من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عديد الأدعياء الجهلاء وطوائف الفقراء والمساكين، يخرجون من مكان إلى مكان، يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات... فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر ورأى ما كان يدهور المسلمين لغضب، وأطلق اللعنة على من استحقها منهم”. انظر محمد ضاهر، ص 15 - 17.

[3] د. محمد ضاهر، الدعوة الوهابية وأثرها في الفكر الإسلامي الحديث، ط 1 (بيروت: دار السلام، 1993)، ص 13 - 15.

[4] د. محمد كامل ضاهر، مرجع سابق، ص 17 - 18.

[5] سيمر أبو حمدان، الإمام محمد عبده: جدلية العقل والنهضة (بيروت: الشركة العالمية للكتاب، 1992)، ص 59.

[6] د. سيار الجميل، تكوين العرب الحديث، ط 1 (عمان: دار الشروق، 1997) ص 301.

[7] د. محمد بديع شريف، “اليقظة الفكرية والسياسية في القرن التاسع عشر”، في: دراسات تاريخية في النهضة العربية الحديثة، ط 2 (بيروت: د. ن، 1984) ص 30.

[8] د. منذر معاليقي، معالم الفكر العربي في عصر النهضة العربية (بيروت: دار اقرأ، 1986) ص 54 - 44.

[9] المرجع السابق، ص 51.

[10] المرجع السابق، ص 62.

[11] د. محمد بديع شريف، مرجع سابق، ص 29 - 30.

[12] د. منذر معاليقي، مرجع سابق، ص 53.

[13] ياسر شعبان “الحملة الفرنسية على مصر وعلاقاتها بالإسلام والصهيونية” صحيفة الحياة “اللندنية” ع: 13175، 4/ 4/ 1999، ص F.

[14] محمد عمارة، الأعمال الكاملة لرفاعة رافع الطهطاوي، ج 1، ط 1 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1973) ص 14 - 15.

[15] د. منذر معاليقي، مرجع سابق، ص 62 - 63.

[16] د. منذر معاليقي، مرجع سابق، ص 54.

[17] د. محمد عمارة، الأعمال الكاملة لرفاعة رافع الطهطاوي، مرجع سابق، ص 13.

[18] د. منذر معاليقي، مرجع سابق، ص 68.

[19] د. سيار الجميل، مرجع سابق، ص 309.

[20] Bernard, Lewis, The Arabs in History (London: Hutchinson University Libaray, 1960) p 177.

[21] د. منذر معاليقي، مرجع سابق، ص 25 - 28.

[22] د. محمد عمارة، الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي، مرجع سابق، ص 16.

[23] د. يوسف سلامة “الإصلاح الديني وعودة التفلسف العربي” مجلة الطريق، ع: 1، يناير/ فبراير، 1997، ص 33.

[24] د. منذر معاليقي، مرجع سابق، ص 68.

[25] د. محمد جابر الأنصاري، تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي (1930 - 1970) سلسلة عالم المعرفة، رقم الكتاب 35 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1980) ص 13.

[26] د. منذر معاليقي، مرجع سابق، ص 69 - 70.

[27] ولد محمد علي عام (1869م) في مدينة كافاله (قوله) بإقليم مقدونيا، وتنطوي قصة حياته على أساطير وتناقضات، إلا أنه على ما يبدو، عاش طفولة يتيمة مترعرعاً في أحضان أسرة غربية، واشتغل في تجارة التبغ. أصبح قائداً للقوات الألبانية التي دخلت في عداد الجيوش العثمانية المرسلة إلى مصر. تحالف مع المماليك معلناً معهم حرباً على الباشوات العثمانيين، وعندما أخذ الشعب المصري بالثورة ضد المماليك انحاز إلى جانب الثوار. وفي شهر أيار/ مايو (1805م) نادى به مجموع الشيوخ في الأزهر حاكماً على مصر. وقد أثار هذا كله السلطة المركزية في استنبول، كيف أن ضابطاً ألبانياً يرتفع مقامه بهذه السرعة، فأصدر الباب العالي أمراً بإرجاعه إلى وطنه، ولكن ذلك أثار الاحتجاج والاضطرابات عند مختلف الأوساط المصرية، فاضطر السلطان سليم الثالث أن يعترف بمحمد علي والياً على مصر. (انظر د. سيار الجميل، مرجع سابق، ص 312 - 314).

[28] عرفت مصر أول محاولة لتحديث الدولة على يد (علي بك الكبير) (ت 1773م) الذي أعلن استقلاله عن الدولة العثمانية عام (1769م) (انظر: إبراهيم مروان، “حول تحرير مفهوم النهضة في الفكر العربي” مجلة الفكر العربي، ع: 39/ 40، يونيو/ أكتوبر، 1985، ص 10).

[29] د. محمد بديع شريف، مرجع سابق، ص 36.

[30] د. حسام عيسى “محمد علي وحلم النهضة” مجلة الهلال، ع: 107، نوفمبر، 1998، ص 54.

[31] د. منذر معاليقي، مرجع سابق، ص 66.

[32] ولد رفاعة الطهطاوي وقضى طفولته وصباه في طهطا. انتقل إلى القاهرة عام (1817م) ليدرس في الأزهر، وكان قد بلغ السادسة عشرة من عمره، وفي الأزهر تلقى العلوم الدينية واللغة والأدب. تم إيفاده في بعثة علمية إلى باريس عام (1826م) ليكون إماماً لهذه البعثة الأولى. ولما شاع أمر هذا الإمام المقبل على الدرس والتحصيل ضمه محمد علي إلى عضوية البعثة ليستغل درايته باللغات وليجعل منه مترجماً ينقل إلى العربية ما تحتاج إليه العسكرية المصرية من علوم عسكرية وهندسية وطبيعية. عاد رفاعة إلى مصر عام (1831م) وفي عام (1836م) أنشأ مدرسة الألسن، وكان ناظراً لها، وكان الهدف من إنشاء هذه المدرسة تخريج أفواج من المترجمين الذين ينقلون إلى العربية أمهات الكتب في العلوم والفنون والآداب. نفاه عباس الأول إلى السودان، فعين ناظراً على مدرسة ابتدائية في الخرطوم. ولما مات عباس الأول عام (1858م) عاد رفاعة إلى مصر حيث استرد بعض مكانته الضائعة. وحين أنشأ علي مبارك مجلة (روضة المدارس) عام (1870م) جعل رفاعة رئيس تحريرها. وقد ظل رئيساً لتحرير هذه المجلة الأدبية الاجتماعية ثلاث سنوات حتى مات في (1873م). (انظر: لويس عوض) تاريخ الفكر المصري الحديث (القاهرة: دار الهلال/ د. ت) ص 90 - 98.

[33] حسن العطار (1766م - 1825م): من الذين أتاحت لهم الظروف الاحتكاك بعلماء الحملة الفرنسية. فثارت في عقل الشيخ العطار الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام حول الواقع الذي تحياه هذه الأمة، واقتنع الرجل بضرورة التغيير، فقال: “إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها” ولكن العطار لم يستطع أن يحوِّل الأزهر إلى أداة تنهض بمهام هذا التغيير، فقرر الرجل أن يرعى كوكبة من النابهين، كان على رأسهم رفاعة الطهطاوي. (انظر: محمد عمارة، رفاعة الطهطاوي، الأعمال الكاملة، مرجع سابق، ص 19).

[34] د. حسين مؤنس، تاريخ موجز للفكر العربي، ط 1 (القاهرة: دار رشاد، 1996) ص 340، 346.

[35] د. محمد بديع شريف، مرجع سابق، ص 37.

[36] د. محمد بديع شريف، مرجع سابق، ص 38.

[37] د. محمد عمارة، الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي، مرجع سابق، ص 157.

[38] د. لويس عوض، تاريخ الفكر المصري الحديث: الفكر السياسي والاجتماعي (القاهرة: دار الهلال، ب، ت) ص 176 - 177.

[39] د. منذر معاليقي، مرجع سابق، ص 67.

[40] د. محمد عمارة “الطهطاوي ناقداً للحضارة الغربية” مجلة العربي، ع: 432، نوفمبر، 1994، ص 84 - 85.

[41] د. محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، ط 4 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1981) ص 38 - 39.

[42] المرجع السابق، ص 18 - 19، 20، 25.

[43] المرجع السابق، ص 25.

[44] المرجع السابق، ص 23.

[45] المرجع السابق، ص 30، 34، 35، 36.

[46] إقبال بركة، “رفاعة رافع الطهطاوي” “مجلة العربي”، ع: 484، مارس 1999، ص 108.

[47] إبراهيم مروان “حول تحديد مفهوم النهضة في الفكر العربي” مجلة الفكر العربي، ع»: 39/ 40، يونيو/ أكتوبر، 1985، ص 12.

[48] هشام جعيط “أثر فلسفة التنوير على تطور الفكر في العالم العربي - الإسلامي” مجلة الفكر العربي المعاصر، ع: 37، كانون الأول/ كانون الثاني 1985 - 1986، ص 22.

[49] التنوير “Enlightenment”: هو مصطلح أوروبي النشأة والمضمون والإيحاءات فهو عنوان على نسق فكري ساد في مرحلة تاريخية من مراحل الفكر الأوروبي الحديث، حتى ليقال كثيراً في تقييم مراحل هذا الفكر “عصر التنوير” وهذا المفكر من “عصر التنوير” وهذا الفكر من أفكار “عصر التنوير”.وفي تعريف مجمع اللغة العربية للمصطلح يقول عنه: “حركة فلسفية، في القرن الثامن عشر، تعتقد بالعقل، والاستقلال بالرأي، وتؤمن بأثر الأخلاق وتقوم على فكرة التقدم والتحرر من السلطة والتقاليد”. انظر، محمد عمارة، معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام (القاهرة: دار نهضة مصر، 1997) ص 54.

وفي واقع الأمر، إن الأديان السماوية كانت كلها عند ظهورها حركات تنويرية من الطراز الأول {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} وان اختلط بها في مراحل تالية من تاريخها حركات منافية ومعادية للعلم. (انظر المصدر في الهامش اللاحق).

[50] يطلق شكري عياد على هذا الجيل اسم “جيل الفتنة الكبرى”، فقد دعا هذا الجيل إلى استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، فدعا قاسم أمين وأحمد لطفي السيد إلى استعمال العامية المصرية، وطالب طه حسين في بدايات حياته بالانسلاخ من الوعي الديني عند دراسة الظواهر الأدبية، وأطل سلامة موسى برأسه ليقول: “إن الرابطة الدينية وقاحة” وأضحى الدين خرافة ميتافيزيقية على يد زكي نجيب محمود. فقد حدثت مذبحة للتراث الإسلامي على يد ذلك الجيل -أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين-، لم يشهد لها تاريخنا الثقافي مثيلاً.

وتبلورت مقولات حادة مادحة يصر أصحابها على تسميتها بأفكار التنوير، وهي تسمية لا تصح على التحقيق إلا من خلال إحالتها إلى مرجعيتها الحقيقية في التنوير الأوروبي، ليتم التأكيد من جديد على أن الأنوار العقلية مستوردة تماماً كاستيراد مصابيح الإنارة. (انظر المصدر في الهامش اللاحق).

[51] عمر حسين القيّام “التنوير العربي وإرهاصات النقد الذاتي” صحيفة الرأي (الأردنية) ع: 9972، 26/ 12/ 1997، ص 24.

[52] هشام جعيط، مرجع سابق، ص 22.

[53] المرجع السابق، ص 21.

[54] المرجع السابق، ص 20.

[55] د. منذر معاليقي، مرجع سابق، ص 10.

[56] د. منذر معاليقي، مرجع سابق، ص 12 - 13.

[57] د. محمد جابر الأنصاري، الفكر العربي وصراع الأضداد، ط 1 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1996) ص 48 - 49.

[58] جمال الدين الأفغاني: هو محمد بن منصور الحسيني. ولد في أسعد أباد في أفغانستان، ونشأ في كابل، وتلقى العلوم العقلية والنقلية فيها. سافر إلى الهند، ثم إلى الآستانة، فجُعل فيها من أعضاء مجلس المعارف، ونفي منها عام (1871م)، فقصد مصر وساهم في نهضتها الإصلاحية الدينية والسياسية، وتتلمذ عليه كثيرون من بينهم الإمام محمد عبده. نُفي من مصر عام (1879م) فرحل إلى حيدر أباد ثم إلى باريس وأنشأ فيها مع محمد عبده جريدة (العروة الوثقى) ثم دعاه السلطان عبد الحميد الثاني إلى الآستانة وظل فيها حتى وفاته عام (1897م) (انظر، أحمد فهد الشوابكه، مرجع سابق، ص 126). وهناك من رأى أن الأفغاني إيراني شيعي، فهو من (أسراباد) بالقرب من همدان وليس من (أسعد أباد). وقد أخفى أصله الإيراني لأنه كان يريد أن يخفي تشيعه عن الناس في البلاد العثمانية التي تنقل فيها، وأهلها سُنية حنفية كالأفغان. وقد استفاد جمال الدين من انتسابه للأفغان، لأنه أصبح بعيداً عن سلطة ممثلي إيران وقناصلها في الخارج. وكان من السهل أن تُروج أفغانيته بين الناس في البلاد التي نزلها، لأن أفغانستان لم يكن لها تمثيل خارجي في ذلك الوقت، وكان للإنجليز نفوذ كبير فيها، فكانوا يرعون أتباعها في الخارج. (انظر، محمد محمد حسين، مرجع سابق، ص 62 - 63).

[59] محمد عبده: ولد في (شبرا) من قرى الغربية في مصر من عائلة آل التركماني. تعلم في الأزهر وفيه تصوف وتفلسف. عمل في التعليم وكتب في الصحف ولا سيما الوقائع المصرية، التي تولى تحريرها. أجاد الفرنسية بعد الأربعين، اتُّهم بمناصرة الثورة العرابية عام (1881م) فحوكم ونفي إلى بلاد الشام، سافر إلى باريس، فأصدر مع صديقه وأستاذه جمال الدين الأفغاني جريدة (العروة الوثقى)، سمح له بدخول مصر عام (1888م) فتولى منصب القضاء، ثم عمل مستشاراً في محكمة الاستئناف، ومفتياً للديار المصرية، واستمر في منصبه إلى أن توفي بالإسكندرية عام (1905م).

[60] أنور الجندي، الفكر العربي المعاصر في معركة التغريب والتبعية الثقافية. (القاهرة: مطبعة الرسالة، د. ت) ص 78.

[61] د. محمد عمارة، تجديد الفكر الإسلامي: محمد عبده ومدرسته (القاهرة: دار الهلال، ب. ت) ص 39.

[62] بخصوص التوسع في مفهوم هذا المصطلح وجذوره التاريخية -انظر نفس المرجع، ص 95 - 101.

[63] د. محمد جابر الأنصاري، الفكر العربي وصراع الأضداد، مرجع سابق، ص 47 - 48.

[64] المرجع السابق، ص 50.

[65] محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب: رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، ط 1، ترجمة: هاشم صالح (لندن: دار الساقي، 1995) ص 114.

[66] د. محمد ضاهر، مرجع سابق، ص 187.

[67] المرجع السابق، ص 187.

[68] ألبرت حوارني، الفكر العربي في عصر النهضة (1798 - 1939) ترجمة: كريم عزقول (بيروت: دار النهار، 1968) ص 144 - 145.

[69] د. ماهر الشريف، “مفهوم الاختلاف بين الإصلاح الديني والإسلام السياسي” مجلة الطريق، ع: 1، كانون الثاني/ شباط، 1997، ص 39.

[70] إن إرنست رينان في محاضرة له ألقاها في السوربون في (1883م) كان قد هاجم فيها الإسلام باعتباره يؤدي إلى انعدام الفكر لدى الشعوب التي تقتبس عنه وحده ثقافتها، وقد تصدى الأفغاني لرد على محاضرة رينان تلك التي نشرتها صحيفة “جورنال دي ديبا” -Journaldesdebets- أي “صحيفة المناظرات” التي نشرت رد الأفغاني على رينان في (18/ مايو/ 1883م) وتركزت محاضرة رينان -يُعد من أهم كتاب عصره، وأكثرهم إثارة للخصومات والمعارك الفكرية، وقد درس اللاهوت في شبابه لكي يصبح كاهناً. لكن إيمانه سرعان ما اهتز، فاكتفى من الدين بالبحث فيه- (انظر، د. علي شلش) “جمال الدين الأفغاني في رده على إرنست رينان” مجلة الأزمنة، المجلد الأول، ع: 6 أيلول (سبتمبر/ تشرين الأول (أكتوبر) 1987، ص 52، 54)- على ثلاث نقاط: 1- إن نسبة الحضارة والمدنية والعلم والفلسفة إلى العرب خطأ. فهذه الأشياء نتاج الأمم غير العربية أكثر منها نتاجاً للأمة العربية. فالتمدن أكثره من نتاج الفرس، والفلسفة أكثرها من نتاج النصارى.

2- أن الإسلام لا يشجع على العلم والفلسفة والبحث الحر، بل هو عائق لها، بما فيه من اعتقاد للغيبيات وخوارق العادات والإيمان التام بالقضاء والقدر. ومن اشتغل بالفلسفة من المسلمين اضطهد أو أحرقت كتبه. 3- إن العنصر العربي بطبيعته أبعد العقول عن الفلسفة والنظر فيها، فالزمن الذي كان يعود فيه العنصر العربي وهو عهد الخلفاء الراشدين لم تكن فيه فلسفة ولم يظهر فيه البحث العلمي ولا الفلسفة إلا حين انتصر الفرس ونصروا العباسيين على الأمويين. (انظر، أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ط 3 (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1971) ص 92 - 93.

[71] د. ماهر الشريف، مرجع سابق، ص 39 - 40.

[72] Nake Keddie, An Islamic Response to Imperialism (California, University of pares, 1980) p 89 - 91.

[73] نقلاً عن محمد عمارة الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني، ص 139.

[74] نقلاً عن محمد المخزومي، خاطرات جمال الدين الأفغاني الحسيني، طبعة (1931م) ص 161.

[75] فارس راتب الأشقر، فهم جمال الدين الأفغاني للدين ودلالته على مذهبه وجنسيته، (رسالة ماجستير” الجامعة الأردنية، عمّان، 1995، ص 18 - 20.

[76] ألبرت حوارني، مرجع سابق، ص 159 - 160.

[77] المرجع السابق، ص 154 - 155.

[78] موفق بني المرجة، صحوة الرجل المريض (الكويت: مؤسسة صقر الخليج، 1984) ص 341.

[79] أبو الهدى الصيادي (1849م - 1909م): من أشهر علماء الدين في عصره، ولد في حلب. أتقن علوم الفقه والتفسير والنحو. وتولى العديد من المراكز في مدينة حلب، ثم سافر إلى إستنبول، حيث أسندت إليه نقابة إشراف قضاء جسر الشغور عام (1870م). بلغ مكانة عالية عند عبد الحميد الثاني، فكان من أكبر ثقاته. (انظر، أحمد فهد الشوابكة، مرجع سابق، ص 69 - 70).

[80] د. محمد محمد حسين، مرجع سابق، ص 68.

[81] د. علي شلش “جمال الدين الأفغاني في رده على إرنست رينان” مجلة الأزمنة، المجلد الأول، ع: 6 أيلول (سبتمبر)/ تشرين الأول (أكتوبر) 1987، ص 59.

[82] موفق بني المرجة، مرجع سابق، ص 342.

[83] إن الأفغاني حين هاجم الماديين في كتابه “الرد على الدهريين” قال: إن النيشرية -(Naturalism) المذهب الطبيعي: مذهب قائل بأن النواميس العلمية مؤهلة لتعليل جميع الظواهر- في أوروبا قد أفضت إلى ظهور أوجه ثلاثة هي (الاشتراكية) و (الشيوعية) و (النيهليزم) أو (العدمية) أو (الفوضوية). وهو في هجومه على هذه المذاهب الثلاثة الداعية للتسوية التامة وشبه التامة بين البشر قد سار أحياناً في الدرب المألوف الذي سلكه أعداء هذه الدعوات، وهو أن إلغاء الفوارق والتنافس على الامتياز بين البشر كفيل بتحطيم الحوافز المؤدية إلى العمل وإلى الرقي. (انظر، لويس عوض “جمال الدين الأفغاني: الإيراني الغامض في مصر” مجلة التضامن، ع: 17، 1983، ص 66.

[84] محمد المخزومي، خاطرات جمال الدين الأفغاني الحسيني (بيروت: المطبعة العلمية، 1931) ص 188 - 204.

[85] علي عبد الحليم محمود، جمال الدين الأفغاني (الرياض: دار عكاظ، 1979) ص 124 - 129.

[86] ألبرت حوراني، مرجع سابق، ص 148 - 149.

[87] عبد العاطي محمد أحمد، “السمات القومية للاتجاه الإسلامي التجديدي” مجلة المستقبل العربي، ع: 5، 1979.

[88] عبد العاطي محمد أحمد، مرجع سابق، ص 43 - 44.

[89] موفق بني المرجة، مرجع سابق، ص 347.

[90] د. عبد الباسط محمد حسن، جمال الدين الأفغاني وأثره في العالم الإسلامي الحديث، ط 1 (القاهرة: مكتبة، 1982) ص 267.

[91] أحمد فهد الشوابكة، مرجع سابق، ص 132.

[92] د. علي شلش، محمد عبده: سلسة الأعمال المجهولة، ط 1 (لندن: دار رياض الريس، 1987) ص 43.

[93] د. ماهر الشريف، مرجع سابق، ص 43.

[94] د. محمد ضاهر، مرجع سابق، ص 188.

[95] المرجع السابق، ص 193.

[96] د. ماهر الشريف، مرجع سابق، ص 44.

[97] المرجع السابق، ص 45.

[98] ألبرت حوراني، مرجع سابق، ص 179، 186 - 188.

[99] المرجع السابق، ص 191.

[100] محمد عبده، الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، ط 2 (بيروت: دار الحداثة، 1983) ص 73 - 74.

[101] د. محمد ضاهر، مرجع سابق، ص 189 - 190.

[102] ألبرت حوراني، مرجع سابق، ص 178 - 179.

[103] عبد القادر بن محمد العماري، “كلمة حق فيما يقال عن الأفغاني ومحمد عبده” مجلة الأمة، ع: 40، كانون الثاني، 1984، ص 27.

[104] ألبرت حوراني، مرجع سابق، ص 172 - 173.

[105] المرجع السابق، ص 192.

[106] محمد عبده، رسالة التوحيد، تحقيق: محمد عمارة، ط 1 (بيروت، القاهرة: دار الشروق، 1994) ص 119 - 133.

[107] د. محمد جابر الأنصاري، “الإمام محمد عبده: مطلوب إعادة اكتشاف هذا الرجل” مجلة العربي، ع: 286، سبتمبر، 1982، ص 82.

[108] المرجع السابق، ص 83.

[109] محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدنية (القاهرة: دار الهلال، 1959) ص 166.

[110] ألبرت حوراني، مرجع سابق، ص 200.

[111] د. محمد كامل ضاهر، مرجع سابق، ص 193، 194، 195.

[112] ألبرت حوارني، مرجع سابق، ص 198 - 200.

[113] د. أحمد برقاوي “الإصلاح الديني في عصر النهضة العربي” مجلة الوحدة، ع: 52، كانون الثاني (يناير) 1989، ص 29.

[114] د. علي مراد، الإسلام المعاصر (القاهرة: الهيئة المصرية العامة الكتاب، 1994) ص 38 - 39.

[115] د. أحمد برقاوي، مرجع سابق، ص 30.

[116] أنور الجندي “الشيخ الفتي محمد عبده: من النهضة إلى الصحوة” مجلة منار الإسلام، ع: 26 أكتوبر، 1998، ص 71.

[117] محمد أركون، مرجع سابق، ص 114.

[118] د. هشام شرابي، مرجع سابق، ص 15.

[119] د. أحمد برقاوي، مرجع سابق، ص 31.

[120] استطاعت التوفيقية أن تجعل هذه المفاهيم جزءاً من الإيمان الإسلامي ذاته، وشاع على ألسنة الكتاب دون استثناء تحفظ نسبة المصطلحات الغربية إلى مضمون الشرع الإلهي: “جعل الله فيه أفضل ما في الديموقراطية، وأعدل ما في الاشتراكية، وأجمل ما في المدنية، ثم كشف لرسوله عن أطوار النفس البشرية في طوايا الغيب، فدعا دعوته الخالدة لتكريم الإنسان وتنظيم العمران... من طريق التوحيد والمؤاخاة والمساواة والحرية والسلام” - نقلاً عن الزيات، وحي الرسالة، ج 3، ص 186.

[121] د. محمد جابر الأنصاري، الفكر العربي وصراع الأضداد، مرجع سابق، ص 49 - 55.