شعار الموقع

حياة النص

د. أحمد فرشوخ 2007-09-20
عدد القراءات « 999 »

 

 

- 1 -
الشكل والقوة

يشكل مفهوم «حياة النص»، في دلالته الاستعارية، مبدأً نقديًّا ثميناً يفيد في التحرر من ترسبات الميتافزيقا وأغلال العقل الكلي والذات المتعالية والحقيقة المطابقة، ومن ثم، فإن المعاني تخضع للتوليد والانزياح والارتياب والحركة: الشيء الذي يفضي بالنص إلى إنجاز رحلة قاسية بين سياقات مختلفة وقراءات متنوعة قد لا تحترم غربته ويتمه، وقد تتعاطف معه فتغنيه وتخصبه وترفق به، من هنا تتباين التأويلات والترهينات والاستعمالات والمقارنات والتحويلات، التي قد تدهش الكاتب نفسه فتجعله يفاجأ بالقوة الذاتية لنصه، وبالآثار المادية والرمزية لهجرته في الزمان والمكان.

وهكذا يؤشر المفهوم السابق إلى نقل تمثُّل النص من المستوى الماهوي والجوهراني إلى المستوى القيمي والتداولي والحياتي، وذلك باستحداث آليات جديدة في مقاربة الخطابات بالاعتماد أساساً على التحليل الجينيالوجي، وبلورة تصور جديد للأدب والنقد، وتشييد منحىً مغاير لقضايا الكتابة والحقيقة والأخلاق والسلطة والواقع والوجود. لذا، وجب تعويض علاقة الكتابة/ الكاتب، بعلاقة الكتابة/ الحياة: أي الرهان على الاختلاف والصيرورة والمنظورية والتدفق، بدلاً من التطابق والثبات والماهية والسكون. وبهذا تغدو «الحياة» محايثة لنسيج النص وقماشه الخلفي، كما تمّحي الذات «المتماسكة» للكاتب، لكن مع بذرها وانتشارها كصورة راغبة، مترحلة ومؤجلة ومتشظية، أو قابلة للتنكر، والهروب من المراكز، والحلول في ذوات أخرى.

إن الارتباط الوثيق بين النص والحياة يحفِّز على ممارسة قراءة حركية واستعادية تسعى لفهم السابق من الأعمال في ضوء اللاحق، وكذا إضاءة النصوص الراهنة من منظور تخلُّقها عبر الشعور التاريخي، وتشكل وحداتها الصغيرة من خلال أشكال سابقة مستقلة متحركة في الزمان.

انطلاقاً من هذا الفهم، تضعف فرضيات الأصل والقطيعة والجواهر الثابتة: إذ مع كل أثر جديد هناك صياغة متجددة، وولادة لممكنات أخرى، وإخصاب لبذور منتشرة، وتحقق لعلامات كامنة وأفكار كتيمة وأحاسيس توشك أن تنبثق، فلا فصل بين الأشكال والقوى (Formes/ Forces)، إذ وراء كل صيغة «تعبيرية» استراتيجية صامتة، وهي ثنايا كل بنية بذرة نافية لها، وخلف كل نسق أزمة تمنعه من الاكتمال؛ أزمة ذات قيمة إيجابية في تشكيل طيات النص الحيوي المشتبك بالمجال المفتوح والجذموري، الذي يندّ عن كل جذر وأصل وهوية مغلقة تدَّعي السمو فوق التاريخ بهديره ووجوهه الصراعية وتحولاته العنيفة، وبذا تتشيّد قيمة الكتابة بما هي رسم للحياة في خطوطها المتعرجة وقواها المحتشدة وشهواتها المحجوزة. وحينئذ، ينبثق حلم النص الذي قد يغرينا بأن ننظر إليه كمجال ملتبس ومُرَّكب تُجرّب فيه الحياة ممكناتها واحتمالات قواها وصنوف إرداتها.

وهذا يعني أن العالم الرمزي للنص يولج ضمنه العالم المحسوس ويفيض عنه: أي أنه يشتق منه عالماً ممكناً يتميز بشكل فني يرنّ بالتفكير والتدبر والإحساس. فنحن، إذن، أمام عالم «مستقل» يتكون في داخله من قوى، وفي برانيته يتشح بمظاهر تُشخِّص توتراً خلَّاقاً بين اللحظة والخلود، بين الفردانية والكلية، بين الكائن والصيرورة. وهكذا يتحلل «الموضوع» النصي، ويشفّ، ويتحول إلى فكرة ممزقة، وقلق لا يسكت، وصراع بين غرائز فنية وقوى توّاقة إلى الغلبة، وبنيات حائرة لا تستقر إلا لكي تنفلق.

لذلك، فإن حياة النص لا تُلمس أو تُكتشف من خلال الأطروحات الجامدة، والمواضيع الناجزة، والوصايا التعليمية، والإملاءات المبتذلة، بل تنجلي في الصوغ الفني الذي يُظهر عالماً منحوتاً، ذا استقلالية تؤكد تمايزه الذي يمنحه كيانه من خلال التدبير الدقيق والمعقد لجدلية الداخل/ الخارج، أو المرجعي/ الفني: الأمر الذي يحيط العلاقة بين النص والواقع بجملة من المنظورات المتباينة التي تتمايز في تقديرها لِكُنْهِ تلك العلاقة وطبيعة مداها واشتغالها.

وواضح أن استقلالية (Autonomie) النص تختلف عن دعوى الاستقلال (Indépendence)، التي تغالي في عزل النص وتحويله إلى قيمة مطلقة باسم الخصوصية والأدبية والنزاهة، والبحث عن العمل الصافي المطهَّر من الشوائب. ذلك أن العزل الكامل قد يضفي على الأعمال الفنية طابعاً لغزيًّا «أسطوريًّا» يعود بنا مرة أخرى إلى تصورات الإلهام، والعبقرية، والفرادة المطلقة، والتجرَّد من الحس الزمني والثقل المادي.

ونحن واجدون في بعض المصطلحات النقدية الحديثة نفسها، أو في توظيفاتها بالأحرى، ما قد يتجاوب مع مثل هذا الفهم. ذلك أن كثيراً من التصورات والمبادئ النظرية المنبثقة عن مفهومات: «الأدبية»، و «البنية»، و «النسق»، و «المحايثة»... إلخ، قد تؤول إلى «أصنام صغيرة» تتشرب طابع الشيئية، وتتوهم أنها موضوعات فعلية أو آليات مادية ملموسة يمكنها أن تتقوّى من طاقتها النظرية الباطنية، بعيداً عن علاقات القوة الكامنة في النص، وحركات المقاومة المتعددة التي تزحزح كل نزوع نحو السيطرة والتمركز والثبات.

- 2 -
موت المؤلف

لا يحيا النص سوى بموت مؤلفه: ذلك هو شعار الحداثة النقدية التي تغذَّت من فلسفات الشك في الذات الواعية والمتحركة، بحيث أكدت أن الذات المبدعة لا تعرف حضوراً ولو سعت لتخليد الاسم وتوقيعه، لأن الآخر دوماً هناك. وما تم توقيعه لن يخلد إلى الراحة، ولن يحضر؛ فهذا الآخر هو من سيمنحه الحياة مرة أخرى بعد انسحاب المؤلف.

ومن المؤكد أن هذا الانسحاب، المعبر عنه «بموت المؤلف»، ليس استنباطاً عابراً أو مجرد استعارة نقدية بسيطة؛ بل إن هذا الحدث التراجيدي يشكِّل منعطفاً حاسماً في سيرورة النظرية الأدبية، أثمر فكراً وعلماً وفناً، وأخصب أبحاثاً وقلب قناعات كثيرة. وهو منعطف حاسم بالنسبة لمن يعي نتائجه، إذ إلى جانب دلالته الأخلاقية والفلسفية المقترنه بموت الذات العليا المسيحية لدى «نيتشه»، وقتل الأب لدى «فرويد»، ثمة دلالة أعمق تضعنا خارج التاريخ: أي داخل تلك «اللحظة» التي لن تحضر أبداً، ولن تتطابق أبداً، والتي لم (ولن) يدركها التاريخ.

وبهذا الفهم لن يبقى ثمة معنىً للتاريخ الميتافزيقي، وستنفتح تجربة النسيان الفعَّال، الذي هو قوة إيجابية تجعل اللحظة كسراً للحاضر في امتلائه وخطيته وثقله. وحينئذ، نصبح أمام حضور لا زمني للحاضر، فيتداخل الماضي والمستقبل داخل الحاضر مرة واحدة. وبذلك يحصل التحرر من حس الإفراط في التاريخ الذي قد يفضي إلى الشعور بالتأخر والتبعية، ويخلق التناقض، ويضعف العدالة، ولربما أضر بالطاقات الحيوية.

وعليه، فإن تضخيم الحس التاريخي قد يكون معادياً وخطيراً، بل وقد يتحول إلى «مرض»، يستدعي طلب الشفاء عبر تحويل التاريخ لصالح «الحياة»، وذلك بجعله تاريخاً لا زمنياً: أي «بإنجاز عمل لا زمني، وضد الزمن، وذلك لصالح زمن مقبل»[2]. وبهذا المعنى تتحرر الأفكار وتختفي الأصول، وتتفتح آفاق التأويل.

ولا مراء في كون موت المؤلف، ضمن بعده الإيجابي، يضعنا، نحن القراء، أمام أنفسنا، ويتيح لنا تجربة فريدة في استعادة النصوص الأدبية وامتلاكها ضمن مدار الاختلاف والصراع وسوء الفهم الخلَّاق، وحتى ضمن التفسيرات المتناقضة: فكما أنه لا وجود لنص دون تفسير، فإنه لا وجود لتفسير دون نص.

وبهذا يحيا النص في استقلال عن مؤلفه، ما دام هذا الأخير هو من رغب في موته أثناء الكتابة. فموت الكاتب ما كان ليتحقق لو لم يرغب الكتَّاب أنفسهم في ذلك، يغمرهم في ذلك شعور عميق يحاذي طقس التضحية. والأمثلة كثيرة في التاريخ الأدبي، تلك التي تحيلنا على شهادات وتأملات الكتَّاب والفنانين، ورؤاهم لفعل الإبداع وفلسفته، وجميعها تنتصر للكتابة والخلق عبر غياب الذات، مؤكدة ذلك الجدل الخصيب بين الميلاد والموت، بين التجلي والاحتجاب، بين المرآة والقناع، بين الصمت والكلام، بين الامتلاء والتلاشي.

فالكلام المكتوب، والإبداع المنجز هو ما يجعل رؤية الذات أفضل: أي رؤية الذات الأخرى التي هي ظل واختلاف وقرين.

وإذن، فموت الكاتب، مفهوماً على هذا النحو، تحقق بملء إرادته، لأنه لم يعد يملك بنفسه المعنى لحياته أو وجوده. ومن هنا تتخلق حياة النص، وينبثق كيانه: إنها حياة موثوقة إلى النقصان الذي لن يكتمل أبداً، مشدودة إلى الموت الذي يحمل معه النسيان المبدع، الذي هو طاقة نفي وتجديد وإيلاج لحياة في أخرى، والذي هو أيضاً تحرر وقوة مستقبل.

وعليه، فإن إنعاش حياة النص لا يحصل بالتذكر والحضور فقط، بل بالنسيان والتواري أيضاً. وهذا هو مضمون ومغزى العبارة البارتية الشهيرة: «لأنني أنسى فأنا أقرأ»[3]. وبذلك يكون النسيان مثرياً للنص، مولداً لتحققاته الممكنة، منعشاً لعلاماته ورموزه النائمة في الطبقات العميقة والأثرية. ولكي يحصل هذا، يتعين على النسيان أن يكون في مكانه: أي أن نعرف كيف ننسى في المقام المناسب، مثلما نعرف كيف نتذكر عند الضرورة الموجبة.

فوجود الحس التاريخي ونفيه ضروريان لكل قراءة أو نقد. وهذه الإمكانية الدقيقة والمعقدة تعتبر من شروط حياة النص، وهي بالتالي صورة من صور القراءة المزدوجة. فكل عمل يقتضي الاختفاء والنسيان في حضوره مثلما أن حياة الكائن العضوي تقتضي لا الضوء وحده، وإنما الظلام كذلك. وما يفلت من الضوء يظهر في العتمة.

وهذه بلاغة عجيبة تؤكد أن حياة النص قرينة بحياة التأويل، إذ «مع تنامي قوة الرؤية والبصيرة... ينمو البعد، وعلى نحو ما الفضاء المحيط بالإنسان: عالمه يزداد عمقاً، ونجوم جديدة وألغاز وصور جديدة تحضر أبداً في أفق نظره»[4]. فالعالم نفسه، إذن، نص (أنطولوجي)، وما تعدد النصوص سوى سعي نحو «القراءة» الأعمق والأغنى، وسوى بحث دؤوب عن معان ممكنة ومختلفة لعالم مثقل بالرهون الحسية، والبداهات النوامة، والأخطاء القديمة والمشتركة.

إن مقولة «موت المؤلف» قد أثمرت، في ضوء ما رأينا، الكثير من الرؤى النقدية المتصلة باختفاء الحضور، ونسيان الذات الموحدة، وهدم المراكز الثابتة، والتخلص من الوصاية الأبوية للمبدع، ومن المعاني المراقبة للنص، ونقض تصورات الأصول والأسرار الميتافزيقية للفن، وإثبات مادية النص وانشباكه بقوى المجتمع وصراع الإرادات، وتأكيد التشكل المتعدد والهجين للنص، المفارق لتمثل الولادة الإبداعية الخالصة والمنفلتة من كل تأثير.

وغني عن البيان، أن تلك المقولة الجريئة تُنسب عادة لـ«رولان بارت» الذي كتب مقالته الشهيرة في الموضوع، والتي يعلن فيها الحداد الرمزي على المؤلف مبشراً بمستقبل عظيم للكتابة، وذلك من خلال قلب الأسطورة السائدة، بحيث يكون «ميلاد القارئ رهيناً بموت المؤلف»[5]، ويكون وجود النص موثوقاً إلى «نسيج من الاقتباسات تنحدر من منابع ثقافية متعددة» لا شأن لها بالمعنى ولا بـ«رسالة المؤلف المقدسة»[6].

غير أن «ميشال فوكو» كان قد دعا، قبل «بارت»، إلى هدم الذات العارفة في مشروعه الأركيولوجي، وله ضمن هذا السياق مقولة قوية، تؤكد توقه إلى حرية الكتابة، ونشدانه لصيرورة الذات، وهروبه من كل مركز. يقول: «إن أكثر من واحد هم مثلي، يكتبون، بلا شك، كي لا يكون لهم وجه واحد بعينه. فلا تطلبوا مني من أنا ولا تأمروني بأن أظل أنا هو باستمرار: فتلك أخلاق الحالة المدنية؛ وهي أخلاق تحكم أوراقنا وبطاقاتنا الإدارية، كبطاقة الهوية. فلتتركنا وشأننا أحراراً، حينما يتعلق الأمر بالكتابة»[7].

وفي سياق آخر، يتمنى الفيلسوف الفرنسي لو كان «مغموراً بالكلمة» [أي جسداً من كلمات]، وبدل أن يكون الشخص الذي منه ينحدر الخطاب، يفضل لو كان «فجوة رهيفة في مجراه العرضي ونقطة اختفائه الممكنة»[8].

ويبدو أن «فوكو» نفسه، قد استلهم هذا الولع بتواري الذات من «فرديريك نيتشه»، الذي نجده في مستهل القسم المعنون «لماذا أنا أكتب كتباً ممتازة»، المضمن في سيرته الذاتية - الفكرية «هو ذا الرجل»، يقول: «أنا شيء ، وكتاباتي شيء آخر»[9]. وفي المؤلَّف ذاته نجد الإلماع التالي: «أنا طيف»[10]. إلا أن أعمق وأطرف ما كتبه الفيلسوف الألماني في الموضوع، هو تلك الشذرة الموحية الموجودة في كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته»، والتي يقول فيها: «يفاجأ الكاتب مفاجأة لا تنتهي حين يرى كتابه الذي انفصل عنه يحيا حياته الخاصة، يتشكل لديه الانطباع الذي قد يتشكل لدى حشرة انفصل عنها جزء منها وصار يحيا مستقلاً. قد ينساه تماماً، قد يسمو فوق الأفكار التي ضمَّنها إياه، قد لن يفهمه بعد، وقد يكون فقد تلك الأجنحة التي كان يحلق بها حين كان يتأمل الكتاب: وها هو ذا الكتاب يبحث عن قرَّائه، يبعث الحياة، يلهم الفرح، يلهم الرعب، تتولد عنه أعمال أخرى... باختصار، يحيا ككائن له روح وعقل ولكنه مع ذلك ليس إنساناً. لعل الكاتب قد جلب أسعد الحظوظ لأواخر أيامه بكون كل ما لديه من أفكار وأحاسيس حاملة للحياة، من قوى، من سمو، من إشعاع، مازالت تحيا في كتاباته، إنه لم يعد يمثل سوى الرماد بينما ناره قد توزعت في كل الآفاق ولم تنطفئ»[11].

لا شك في أن الفلسفة «التناسخية» المشتقة من هذه الشذرة، قد تُفضي بنا إلى مزيد من الحفر عن المصادر القديمة لفكرة الذات «الميّتة». وذلك ما نلفيه في بعض الديانات والمذاهب والفلسفات الشرقية الإحيائية، إذ نجد «البوذيّة»، تمثيلاً، ترى الذات وهماً محضاً، بحيث لا تشكِّل هويّة ثابتة. والكتاب الأساس للبوذية يتصور الفرد أو الكيان مُكوَّناً من أربعة وثلاثين عنصراً، فضلاً عن اعتقاده بالتغيُّر المستمر للجسد. وهذا يعني خضوع الذات لتبدل دائم، يجعل منها أثراً عابراً وزائلاً. و«ما الحياة، وفق هذا المنظور، إلا حبة رمل في الصحراء، لا قوام لها ولا صلابة. هي وهم... وهذا كله، إلى التغيُّر الذي هو ديدنُ الكائن دينه، ينبغي أن نحاول اجتذابه إلى الأدب»[12].

إن تتبعنا لبعض منابع مقولة «موت المؤلف»، يبتغي التأكيد على مدى رسوخ وشيوع تلك الدينامية الهائلة التي تحوزها فكرة الهروب من الذات الواحدة والملموسة، لفائدة شكل معرفي آخر للذات، يُشظِّيها، أو ينفيها، أن يُضمرها في جوف الخطاب، أو يقتلها دون الاجتراء على دفنها، أو يُواريها من وراء قناع.

ونحن واجدون، بمُوازاة التنظير الفلسفي والمذهبي لموت المؤلف، وموت الإنسان عامة؛ واجدون افتتان الأدباء بتجربة الحضور من خلال الغياب: «فمالارمي» أحل اللغة مكان المؤلف، جاعلاً إياها مستفردة بالكلام؛ و«فاليري» لم يتوان في تبعيد المؤلف عبر السخرية منه والارتياب في وُجوده؛ و «بروست» اكتشف الهوّة الفاصلة بين الكاتب والإنسان اليومي، مؤكداً أن الكاتب هو ثمرة أنا آخر[13]؛ و«أرطو» ثار على «مسرح المؤلف»، داعياً إلى «مسرح القساوة»[14]، حيث قتل الأب: أي قتل المؤلف والنص (بالمعنى النيتشوي والفرويدي)، إذ لا أحد يحق له أن يدعو نفسه مؤلفاً عدا من لهم صلة ملموسة وحيّة بالمشهد. والتأسيس الجديد للمسرح يستدعي نقض حاصل اللوغوس، والتحرر من الفضاء اللاهوتي للرّكح، حيث يتعيّن على المسرحية أن «تُكتب فوق الخشبة، أي تُبتكر بلغة كلماتها هي، بالإيماءات والإشارات الجسدية»[15]. وذلك لأجل تطفيف لغة الكلمات التمثيلية، والانتصار لتأليف وإبداع «لا ينسجمها دماغ مؤلف، بل يتمّان على الطبيعة نفسها، داخل الفضاء الواقعي، دون أن يؤثر ذلك على القصد الذي سيظل دقيقاً ومُحدّداً شأنه في ذلك شأن مصير أي عمل مكتوب، بل لرُبّما فاقه من جهة الخصوبة والغنى الموضوعي»[16].

وقريباً من هذا الطقس الفني، نُلفي «بلانشو» مفتوناً بتجربة «الغياب» و«الانسلاب»، فلقد خصّ العلاقة بين الأدب والموت بدراسة مُضيئة ونادرة في النقد الحديث[17]، مؤكداً مُجاوزة العمل لمؤلفه وجاعلاً من الكتابة ممارسة للغربة، حيث الذات تغدو مشدوهة بما كتبته. وهكذا تتشيَّد تجربة الاغتراب والانتشار بفقدان الهويّة، فيُضحي الإبداع انتصاراً للعتمة لا احتفالاً بالشفافية والامتلاك.

أمّا «بورخيس»، وفي السياق ذاته، فيتصور الجميل غُفلاً، إذ «لم يعد ملكاً لأحد»[18]. ويتخيل حياته هروباً، لأنه فقد كل الأشياء التي غدت في «ملك النسيان أو في ملك الآخر»[19]. وفي نهاية المقطع ذاته، الموسوم «بورخيس وأنا»، يتساءل الكاتب الأرجنتيني الكوني: «لستُ أعلم أي الاثنين يكتب هذه الصفحة»[20].

وبانتقالنا إلى الكاتب البرتغالي «فرناندو بيسوا»، نلفيه قد جلّى ومَسْرَح فكرة «الأنداد»[21]، التي لا تنظر إلى الذات كآخر وحسب، بل تتعدى ذلك إلى الآخرين في الذات. ومن هنا انبثاق الآخر، الذي هو ضدٌّ وشبيهٌ في آن. وأنداد «بيسوا» هم جمهرة من الكتَّاب المتناسخين، ألَّفوا نصوصاً متباينة، متعاكسة وتنضيدية، سكنت جسد الشاعر وتخللت كيانه كما يتخلّل الريح الشجر. وفي ذلك إيحاء بكون الذات ليست متعددة فقط، بل هي، أيضاً حاضنة للآخرين بوصفهم أنداداً يتجادلون ويتناقضون ويختلفون ويتآلفون، ضمن حواريّة عميقة ومُلغزة.

والأصيل في تجربة «بيسوا» هو أنه لم يقتصر على تشخيص التعدد المُقيم في ذات النفس، على شاكلة ما فعل «رامبو» عندما قال: «الأنا هو آخر»، ولم يكتف بالأطروحة الفرويدية التي تعتقد بالتركيب الثلاثي للذات (الهو، الأنا، الأنا الأعلى)؛ بل صاغ، كما أسلفنا، ظاهرة الندّ بما هي كيان مستقل عن الذات والإرادة، وباعتبار الأنداد هم آخرون ينصهرون بالذوات الطباقية (ذات على ذات، وقول على قول، وإرادة على إرادة)، فيُصبحون «آخر» بالمعنى العميق والمتسع للكلمة.

من هُنا، يكون «الآخر»، في التحليل الدّقيق، مسؤولاً عن رسم الاختلاف بما هو ألم، يُفهم ويُفسَّر بوصفه بتراً وقطعاً؛ وبما هو أيضاً، تعاطف ما دام يجذب الأشياء، ويُقارب بينها وإن تباعدت: فهذه هي إرادته، وهذا هو شعره.

ومن ثم، فإن مُعالجة الاختلاف تستدعي البيْن والآخر وتنتجهما، ممّا يفيد أن كتابة الاسم بالمعنى الإبداعي العميق، تتطلب تدميراً لتعالي التطابق والهويّة، ونفياً لقداسة الأنا، بحيث تتغلغل الخطيئة في النص، فتغدو الذات «عتبة اللغة»، حركة من دون مركز، مرآة محدّبة أو مشروخة. إنها، إذن، ذات متباعدة مع نفسها، توجد حيث لا تفكر، وتفكر حيث لا توجد. لا يتطابق ما هو شعوري لديها مع ما هو نفسي. وهي، إلى هذا، مسكونة بمجرّة من الأنوات، مُخترقة بآثار وتناصات وعلامات رمزية وسيميائية، ولغات جبرية ومُذوَّتة.

وهُنا تتجلى تاريخانية الذات ودُنيويتها، إذ هي بناءٌ وتجربة، ونتاج لنظام معرفي مُسيطر، وأرشيف منظم لقواعد اللعبة الاجتماعية. وهذا كلّه، هو ما يُفسّر تلك الحركة المزدوجة التي تُميّز النصوص الفنية الثرية: حركة تقوم بحجب عناصر الاسم وأسرار الكتابة، في الوقت نفسه الذي تبدو فيه وهي تكشف عنها.

وهكذا يغزو التناقض الخلَّاق فضاء النص الذي يُقوِّض كل صرح منطقي متماسك وراسخ، ويسلب كل محاولة لتحجير المعنى: فثمة توتر مستمر بين الحقيقة العصية على التعبير، وشكل الكتابة والتوصيل. فالكلمة تخون التجربة، وتقصر عن تشخيص غناها الحميم ونغمتها الأصيلة وحرارتها اللافحة. ولهذا نُحسُّ أثناء القراءة العميقة بلوعة الفهم، وجرح المعنى المنبثق عن المعاناة في تخليق الكلمات المطابقة للأشياء.

فهناك فاصل عنيف ومُبهم يحول دون تطابق الوعي مع مفقوده أو الدال مع مدلوله. لذا تؤجّل الكتابة موعدها مع ذاتها ومع اسمها المنتشر والمنثور، ذاك الذي يتسرّب من شقوق النص في انكساراتته وإيقاعاته وانعطافاته.

وفي سيرورة الإرجاء، ترقص الكتابة ضمن أغلال اللغة، وتتوق لمخاتلة كل سلطة تكبت الصوت وتمنع الكلام وتقمع انبعاث المتخيل الدفين، الذي هو حدس الاختلاف، وكشف للغريب في المألوف، وللمنكسر في المترابط، وللفوضى في النظام، وللتوتر في الانبساط، وللّعب في البنية، وللمحجوب في السطح، ولدودة الاعتباط في الحلاوة المنطقية للنص.

فثمة تمدّد متبادل، وزحزحة للحدود، وسعي لكسر الثنائيات المتصلبة؛ وذلك في اتجاه البحث الشاق عن لحظة أعمق من زوج الصدّق الكذب، لحظة ما وراء الخير والشر. إنَّ هذا هو ما يؤسس أخلاق الكتابة المقرونة بتقويم القيم، المغلولة إلى ذلك الشيء الخفي الملحاح الذي يُعايشه الكاتب الفنان دون أن يعرف تسميته بالكامل، إلى أن يتضح، في النهاية، أنه المُهمة القصوى للكتابة، يوجّه سلوكها وأشواقها: هذا الشيء الخفيّ، جبّار حميم ينتقم من كل مُحاولة لاجتنابه وكبته والتخلص منه؛ ينتقم من أي «كسل» أو «تزييف» أو «اختزال» أو طمأنينة خادعة، قد تُوفر قساوة المسؤولية العميقة للكتابة الفنية القويّة، التي قد تتخذ استعارة «نظام شمسي» مستقل بنفسه، ولكن تمُرّ به خيوط مُختلفة ودقيقة من تاريخ الأفكار، ومُتخيل الشعوب، وجمال الأشكال، ورموزية العلامات.

هكذا يكسر «موت المؤلف»، في بُعده الإيجابي وفهمه السلس، قانون «الأب»، مثلما تكسر الراقصة، عبر فنّها، قانون الجاذبية. وحينها تنبثق القوة المبدعة لدى الكاتب كما لو أنها إرادة مُستقلة وغريبة.

- 3 -
انبعاث الأطياف

غير أن هذا «الموت» قد يُشعر القارئ بنوع من الافتتان الاستيهامي (جاذبية الأب (المؤلف) الميّت)؛ وهو افتتان مُشرب بشعور خفي من الإثم: إذ يصبح الأب مقتولاً كمانع ومعيق، ومحبوباً كآخر هو جزء من مُخيلتنا وسلطتنا وحياتنا. حينئذٍ، تنبثق دينامية نشيطة للتكفير، موثوقة إلى ذلك التناقض الوجداني (Ambivalence) الذي يُحسه كل قارئ يرغب في المؤلف، من جهة التعلق بصوره وأطيافه، لكنه يكره وصايته واستبداده واحتكاره لحقوق النص، وسعيه لتجميد المعنى، واختزال الرموز، وإملاء وصايا القراءة، والاستخفاف بالتلقيات غير المطابقة للقصد، والدخول في صراعات عنيفة مع النقاد.

ولا ريب في كون هذا التمزق يكشف، في العمق، عن صعوبة دفن المؤلف (الأب). ذلك أن موت الأب، في التحليل النفساني، مسألة، وتمكن الابن من دفنه مسألة أخرى. وضمن هذا الأفق، يقول عالم النفس «ثيودور رايك Theodor Reik»، في كتابه: «قضايا علم نفس الأديان»: «الموتى يجبُ قتلهم»[22].

وإذن، فثمة رغبة في استعادة الأب المقتول، والحفاظ عليه من خلال الاستفادة من «ثمرة الجريمة». وحينئذ، يتمُّ التهام أو استبدان (Incorporation) قوة الأب، وذلك باستدخال ميزاته وامتصاص عُنفه وعنفوانه.

ولرُبّما كان هذا هو السر في إحلال القارئ (الابن) محل المؤلف (الأب)، باعتبار هذا الأخير مرهوباً ومحبوباً في الآن ذاته. إذ لا يخفى أن النظريات الجمالية والتفكيكية، قد بوَّأت القارئ مكاناً رفيعاً، حيث أجلسته على «عرش المؤلف»، ومنحته، خصوصاً لدى التيارات المتطرفة، كافة السلطات التي تمتَّع بها الكاتب في السابق. وبذلك تم استبدال سُلطة بأخرى، وبالمعايير ذاتها، ممّا قد يجعلنا أسيري الرؤية نفسها المتجهة صوب السيطرة أو التبعية، وبالتالي صوب جدلية (السيد/ العبد). والحال أن التكافؤ بين القوتين هو طموح كل قراءة متوازنة ورشيدة.

وفي وجهة أخرى، ثمة تعبيرات مُداورة عن الوعي بالإثم الذي انوجد عند بعض النقاد المحدثين كمحاولة تهدف إلى تلطيف هذا الإحساس، والحصول على مصالحة مع المؤلف المُهان في طاعة استعادية.

ومن ذلك، ما نجده عند «بارت» نفسه، الذي راجع أطروحته السابقة في دراسته الشهيرة «لذة النص». فقد كتب يقول: «إن الكاتب ضروري للمعنى (المعركة)، ولكنه محروم هو ذاته من المعنى الثابت»[23].

كما كتب أيضاً: «المؤلف يضيع دائماً وسط النص.. لقد مات المؤلف من حيث هو مؤسسة: اختفى شخصه المدني والغرامي (العاطفي) والسيري (البيوغرافي). ولمّا جُرد من كل ما لديه، فإنه لم يعد يُمارس على مؤلفه تلك الأبوية الرائعة التي تكفل كل من تاريخ الأدب والتعليم بإقرار سردها وتجديده: بيد أني أرغب في المؤلف على نحو ما داخل النص، إنني بحاجة إلى صورته، وهي ليست تمثلا لي ولا إسقاطاً»[24].

نلحظ في هذا المقتبس، إلى جانب تكريس احتجاب المؤلف كمؤسسة وككيان مدني وبيوغرافي، نلحظ نُقلة في إعادة الاعتبار لشخص المؤلف كرغبة وصورة: أي كجسد وتسامٍ واستيهام.

وسيلتقط الناقد الفرنسي «موريس كوتوريي Maurice Couturier»[25] الخيط من «بارت»، منطلقاً من فرضية «صورة المؤلف»، وذلك في اتجاه استثمارها وبيان مردوديتها النظرية والنقدية والمنهجية. ولأجل هذا يستعين «كوتوريي» بقصة لـ«هنري جيمس» عنوانها: «الصورة في البساط»، والتي تحكي تجربة ناقد شاب يسعى عبثاً لاختراق السر الكامن في أعمال أديب يُدعى (فيركير). وعند التقاء الناقد بالكاتب، يتخيل الأول السر كما لو أنه صورة معقدة لبساط فارسي. وإذ يستحسن الثاني هذا التشبيه البليغ، يستعمل بالمقابل استعارة موحية ترى في السر خيطاً تُنضَّد عليه لآلئ النص.

لن يرى الناقد الشاب الأديب (فيركير) بعد هذا اللقاء الغامض أبداً، لكن صورة هذا الأخير ستحفزه على القراءة المستمرة والحارقة لأعماله كالمهووس أو من به مس، لعل الحظ القرائي يكشف له في النهاية عن لغز كيان الكاتب، أو يشف الستار فتبزغ الصورة الرجراجة التي استحوذت على خياله ووجدانه.

هذا السر الذي تمثله الناقد الشاب في شكل صورة مركبة الجمال شبيهة بتلك التي تنسج على البساطات الفارسية، وظنه (فيركير) خيطاً ينضد عليه لآلئه؛ هذا السر، هو في النهاية، محرمٌ لمسُه، يُخيف كل من يسعى للاقتراب منه بشدة، لأن كل من اكتشف حقيقته يموت على الفور.

هكذا، سيموت (كروفيك) صديق الناقد الشاب حال اكتشافه للسر، وزوجته التي أودعها إياه ستموت هي الأخرى بغتة، وكذلك الأمر بالنسبة لـ(فيركير) نفسه الذي سيفارق الحياة في ظروف غامضة.

لم ينج من الهلاك، إذن، إلا الناقد الشاب الذي لم يُفلح في مُعاينة السر، إذ كان ثمَّة منذ البدء من قرَّر إبعاده عن مجال الخطر بجعله عاجزاً عن بلوغ «المعرفة المحرَّمة»، و «الخيال المحظور» و «الهوية الملغزة».

يستثمر «كوتوريي» هذه القصة الأمثوليَّة، بحيث يرى أن الصورة الملازمة المانعة من نسج الصلات بين مجموع أعمال (فيركير)، ليست سوى «صورة المؤلف» المتوارية بين السطور والمنتشرة ضمن الفضاء النصي.

فمنذ اللحظة التي علم فيها الناقد الشاب بوجود هذه الصورة، أي هذا السر المتواري في نصوص (فيركير)، فإنّ نهجه القرائي سيتغير تماماً: منذ الآن سيمنع نفسه من التأويلات العسفية، لفائدة تحليل عميق ومنسق وملائم يستوعب مجموع الوحدات التركيبية والدلالية والأسلوبية، لعله يظفر بالصورة التي تتخايل أمامه، ثم ما تلبث أن تختفي.

ولا شك أن الحضور الطيفي لهذه الصورة هو الذي سيمنع الناقد الشاب من التملك السلبي للنص، وكذا من التأويل السائب لعلاماته ورموزه.

إن هذه الصورة الحاضرة - الغائبة، هي ترياق النص وضمانه؛ إذ من خلالها تنتفي غطرسة القراءة، وتستعاد حُرمة المكتوب المستدعي لتلقٍ مُبدع ومسؤول في الآن ذاته. فالقراءة، في نظر «كوتوريي»، حوار وتبادل بين ذاتين منفصلتين في الزمان والمكان. والمؤلف، بهذا المعنى، ليس كياناً معزولاً تماماً، معتكفاً على نفسه مستغرقاً في تمجيد ذاته، «يُقلِّم أظافره» في إباءٍ وتعالٍ. بل هو فضاء مُشترك، وجسر للتلاقي، وفجوة رهيفة ينفذ إليها خلسة ذلك القارئ الراغب في بناء حوار مع النص وكاتبه، والطامح إلى تشييد نص جديد مزدوج وغني، لكنه لا يحرم أحداً من الاستضافة، ولا يُقصي قوة من قواه.

بعد ذلك، يقترب «كوتوريي» من الآليات التي يعتمدها القارئ في القبض على صورة المؤلف قصد إقامة الحوار الضروري معها. فمن ذلك الانغمار في شبكة معقدة من التطابقات الإيجابية والسلبية مع السارد والشخصيات القصصية أو الروائية: إذ المؤلف ينثر عبر مُختلف أجزاء نصه صوراً لذاته المتعددة، فيعمد إلى بعثرتها ومنحها أصواتاً مفارقة، فيتحول، من ثمة، إلى شخص متنكر بأقنعة عديدة، كلما أزاح القارئ قناعاً أو كاد، توارى المؤلف وراء قناع جديد. وكل قناع يُغري المتلقي ويدعوه للعبة التماهي أو التطابق.

وبذلك تتحول الكتابة إلى لعبة هروب كبرى، وبالتالي إلى استعارة مسترسلة ومنسوجة، تجعل من جسد الكاتب يشف عن تآلف السلطة والرغبة، وتآخي الامتلاء والتلاشي، وتلاقي التاريخ باللاوعي.

هذه العودة، من وراء حجاب، نجدُ لها نظيراً في مقولة أخرى، هي مقولة «الكاتب الضمني Auteur implicite»، التي اجترحها الناقد الأنجلو ساكسوني «واين بوث Wayne C. Booth»، في مقالته الذائعة: «المسافة ووجهة النظر»[26]، وكذا ضمن كتابة «بلاغة الرواية»[27].

هذا الكاتب «العجيب» يكون مُختفياً في الكواليس، محرِّكاً للأقنعة. وهو يختلف بالتأكيد عن الكاتب الواقعي الذي يحظى بسيرة وحياة اجتماعية ملموسة، وينتمي إلى مؤسسات مدنية، وحس جماعي مشترك.

وجليٌّ، أن أغلب الروايات تحفزنا على الاعتقاد بوجود كاتب نؤوله كطيف أو قرين، أو كنوع من «الأنا المضاعفة». هذه الأنا قد تُسعف القارئ في رسم صورة متموجة عن الكاتب - الإنسان؛ صورة تتسم بنوع من التجريد الصافي، والمعرفة الحساسة، الفائقة العذوبة.

ومن ثمَّ، يغدو الكاتب الضمني وعياً مستحكماً في الأثر ككل، يتوقف عن كونه ذاتاً بارزة وبرانية، لينبثق كفعل خطاب خالص، يومئ إلى انتصار اللغة على الحياة! أو كتشييد مؤسس على النص؛ تشييد يبنيه القارئ من كل مكونات الرواية، إلى أن يتراءى له في صورة كينونة «متماسكة» مع نفسها، على نحو عميق وموحٍ.

وكما يتميز هذا الكاتب عن المؤلف الحقيقي، فإنَّه، في الآن ذاته، يختلف عن السارد المشارك في القصة والمُشخَّص ضمن العمل الأدبي.

فعكس السارد، بإمكان الكاتب الضمني أن يخاطبنا بشكل صامت، من خلال الكلية الروائية، بكل الأصوات، وعبر مجموع الوسائل والتقنيات والعلامات والرموز التي انتقاها للتواصل معنا.

بهذا المعنى، يمثل هذا الكاتب، الذي يسمه «جيب لنتفلت Jaap Lintvelt» «بالمؤلف المجرّد Auteur abstrait»[28]؛ يُمثل المعنى العميق للعمل الأدبي، أي دلالته الإجمالية، ومن ثمَّ يكون مُنتجاً للعالم الروائي، بل ومنتجاً لذات مجهولة ولا واعية، تسكُن النص وتُبنينُ إيقاعه ونبضه السري.

وقد يُفضي بنا ما تقدَّم إلى توسيع مقاربة الكاتب الضمني من جهة التأمل في التراسل الدقيق والمعقد بين الكلام والصمت، وبالتالي التأمل في دلالة غياب علامة الكاتب الملموس، من خلال وصلها التناقضات الملغزة في كثير من الثقافات التي تتواصل دون كلام، ضمن سياقات متعددة.

هكذا يعمل صمت الكاتب في محاذاة الكلام، بل قد يُحلّ محلّه. وحينئذ، تكون قوة العمل، ذاته، «ثمرة صمت»: أي ثمرة جدل رهيف وشائق بين الكلام وهُجرانه، بين شفرات الإطناب والتكرار وشفرات الإيجاز والسكون الدينامي. وقد نخلص هنا إلى ضرورة التفكير في مشكلة الكاتب من زاوية «اللغة الصامتة» المُجابهة لعُنف «اللوغوس Logos»، أي من زاوية الغنى التأويلي لشفرة الصمت، التي تظل واحدة (على خلاف اللغة) لكن تفسيرها وتقدير أثرها ووقعها على المتلقي سيختلف طبقاً للسياق الفني والاجتماعي والثقافي، وكذا طبقاً للكفاءة التأويلية لدى القارئ.

وفي فسحة هذه البلاغة الصامتة، تتكشف الجوانب المجهولة للمؤلف الواقعي، هذا الذي يقول الطبقات الغائرة لذاته، مأخوذاً بحدائقها السرية، راسماً صورته، كفنان، عبر تشكيل الكلمات. وهنا يتخلق ما أصبح ما يُسمى «بالتذويت subjectivation»، هذا الذي يحضر على مُستوى الذات الخلافية التي تصبو لنسج حوار حميم وحيٍّ مع المجتمع وعلامات المتخيل والإيديولوجيا، كما يحضر على مستوى نبرة الكتابة الروائية وأخلاقيتها من جهة استثمار البلاغة الشفوية، ومزج اللغات المتعددة وفق محاكاة ساخرة تكسر القوالب، وتقاوم «دولة الأفكار» أو قد تتورط خلسة، في تكريسها. هذا ناهيك عن العلامات السردية الدالة على الكبت والتكرار والهوس وظلال المعنى وظلال الظلال.

وواضح، أن الاستكناه التأويلي لصورة المؤلف، يستدعي تشخيص قوى الحظر المندسّة في قيعان الكتابة، كما يستدعي القيام بحفريات نصية تشتغل على «لا وعي النص»، بحيث تُرهف الإصغاء للتفاصيل السردية الدقيقة وللترجيعات النصية المتباعدة، والمؤشرات الأسلوبية اللمّاحة، والقرائن المجازية والاستعارية الحُبلى ببذور ما لم يتشكل، وبما هو مطمور في الرحم السردي. فضلاً عن استنطاق إشارات الندرة والتكثيف، وتحليل وجلو المحكيات الصغيرة والضمنية القابعة في مرايا النص المندسّة في كل الزوايا والمنعطفات، الملتبسة بأقنعة المجاز والإرصاد (Mise en abyme)، حيث التناسخ والتجويف والتضمين والتصغير والاستباق ورجعُ الصوت بالصدى.

إن الآثار الفنية والأخلاقية والوجودية للتذويت المعمق، في اقتران عضوي بالكاتب الضمني، بإمكانها أن تدفعنا لطرح مسألة البُعد الشخصي في الكتابة عامّة. فالكاتب هو أولاً وأخيراً «شخص»، لكن قلما يستطيع أحدٌ أن يُصبح شخصاً بالمعنى الجذري. من أجل ذلك يُمكن قراءة مجموع أعمال المؤلف بوصفها محاولات متعاقبة وأصيلة وأليمة ومتواشجة لكتابة سيرة جذرية، تُجاوز الشخص التاريخي، وتصبو للظفر بنوع الإنسان الذي تسعى إلى استخلاصه من الوجدان الصميم للذات، من غناه الطافح، الزاخر بشتى التناقضات، حيث يلتبس البطل بالمهرج، والصدق بالكذب، والغرض بالنزاهة، فيختفيان في الهوى المعرفي الفني.

وكم هي شاقة تلك التجربة التي تضع الكاتب فوق علامات النص، فوق كائناته ومخلوقاته بمجموع إرادتها وقواها وسعيها نحو تجريب الحياة. ولا ريب في أن فن الكتابة سبيل ملكي لاستعادة تلك الحرية المنشودة: فن الكتابة الساخر والمُنسدل والنزق والراقص والطفولي والصافي، ذاك الذي يُمسك بالأفكار والأحاسيس الجنينية والخافتة، ويُرغمها على أن تنبجس فجأة إلى النور بعد وقت طوي من مُعايشتها دونما وعي، والإحساس بها دونما تعقل، والحدس بها دون فهم.

فن الكتابة هذا، هو ما يمكنه تسمية نوع الإنسان الداخلي المفصول عن الإيديولوجيا الملموسة الثقيلة والمتعالية (هل يُمكن ذلك؟)، تسمية كأحدّ وأقصى ما يكون الاسم.

لأجل ذلك، تشتغل علامات الكاتب الضمني المُفارقة للكاتب الملموس، لكن الرافضة لموته، تشتغل كضمان أو ترياق ضد كل تطابق أو إسقاط، إذ لا مجال لتحديد الذات الكاتبة كعلامة مُوحدة ومُتماسكة وجاهزة وشفافة، والحال أن الكاتب ما إن يُحلّ ضيفاً على نصه حتى تزدوج ذاته، فتغدو مُريبة مُنطوية على «مغارة» مرموزة[29]، مليئة بالأسرار والألغاز والأرواح القديمة التي قد تساكن جدّة الأنا، فتصارع استقرارها وانبساطها وتوقها إلى منطق المعنى. كما أنه لا مجال لتزكية تلك الغلالة اليقينية التي تلف الكتابات التقليدية الصادرة عن وعي مُطمئن إلى قناعات خادعة؛ بل ولا مجال للثقة في أي خطاب يدّعي التطابق والشفافية، والحال أن العالم الحديث يمور بالتمثيلات الخائبة والنسخ المزيفة والشهادات المزوّرة والنصوص المتواطئة، وبكل أنواع فخاخ الخطاب الذي أضحى شبكة تُدرك حتى من خال نفسه نائياً ومنيعاً.

إضافة إلى هذا، يمكن لمقولة الكاتب الضمني أن تُسعف في جلو التمزق المقلق الذي يسكن الذات الفنية. إذ لا مراء في كون الأبحاث النفسانية الجديدة لم تعُد ترى في فكرة وجود أشخاص عدّة داخل شخصية الإنسان الواحد، ما يُهدّد استواء الذات وسلامتها، إذ يُخفي كل واحد منا جماعة من الناس في داخله ولو أننا نركن مع الزمن إلى تذويب هذه الكثرة ضمن مدى الوحدة والتفرد. لهذا فإننا نعوّد الأشخاص المتنوعين في داخلنا على الصمت والتواري، بيد أن الكتابة تساعدنا على اكتشافهم، وتمكننا من التحديق في وجوههم، وإسماع الأصوات الخرساء لرغائبهم.

هذه الهوية الهشة المُزوّقة من الخارج، هي التي يُسائلها الكاتب، مُفككاً إياها في ضوء السرد، كاشفاً عن حياتها المضاءة بأنوار أخرى مجهولة، بعيدة وغريبة.

وعلى المستوى الإيديولوجي، تفيدنا مقولة «الكاتب الضمني» في تنسيب تلك الوحدة المطابقة للوعي بالفعل، والتخلص من النظرية التبسيطية التي تقرأ النص في ضوء النوايا الصريحة لكاتبه. والحال، أن ثمة أمثلة كثيرة في التاريخ الادبي تكشف عن أعمال كُتبت ضد القناعات الإيديولوجية لأصحابها: فـ«بلزاك» رغم انتمائه السياسي للملكية والأرستقراطية، تمكن بالذات من فضح فرنسا الإقطاعية وتشخيص نقائصها وسيرها نحو الانحطاط. لذلك نجد في رواياته، وخاصة في رواية «الفلاحون»، توتراً بين الفني والإيديولوجي، يصل إلى حد التناقض الاضطراري المنبثق عن التعارض بين القصد والتحقق. إذ نلفي أبطال أعماله الروائية الأصيلين والأقوياء والشجعان والمتمتعين بسحر فني فائق، هم الذين يناهضون بوعي وجسارة الإقطاعية والرأسمالية. وهكذا يتحول تصوير خطر اليعاقبة والثوار والفلاحين إلى إشادة ضمنية بإيديولوجيتهم، وتنديد خفي بالسلوك الرأسمالي البورجوازي.

و «جورج أوروبل»، الروائي الإنجليزي، رغم مُشايعته المخلصة للاشتراكية، أدان في روايته الشهيرة «مزرعة الحيوانات» غطرسة وشمولية الاشتراكية الجمعية، وكشف عن الأسطورة الخاوية للنظام الستاليني، مخرجاً إلى واضحة الضوء ما يعتمل خلف الرطانات الثورية.

ذلك أن هذه الأمثولة الرمزية الساخرة تصوغ على ألسنة الحيوانات مجموعة من القصص التي يمكن تلقيها ضمن مستوى الحكي البسيط والممتع والحرفي، أو ضمن مستوى الحكي الموحي والعميق، المشخص للواقع السياسي الذي تمخضت عنه الثورة الاشتراكية؛ بحيث يمكن ترجمة الكثير من «شخصياتها» الحيوانية إلى نظائرها الواقعية والتاريخية.

وما تلا «مزرعة الحيوان» كان أدهى، إذ «رواية 1984»، التي يعكس (يقلب) عنوانها الرقمين الأولين لتاريخ كتابتها (1948)، لا تبدأ بحلم وتنتهي بكابوس، أو من ثورة تنشد العدل الاجتماعي فتصل إلى تشييد دولة بوليسية عاتية. وإنما تبدأ من الكابوس نفسه، من الحضور الطاغي لدولة القهر والاستبداد. وبذا فهي تمثل نوعاً من اليوتبيا المقلوبة وتسجل «نبوءة أورويل» المنذرة بما سيصير إليه حال النظام السياسي.

وعليه، فإن أخلاق الكتابة في الروايتين تنتهك الهيمنة الشاملة، وتعبّر من خلال التصوير اللغوي والسردي عن حدة الاشتباك الخفي بين الفساد اللغوي والفساد السياسي. بل وتفضح لغز السلطة، وعقدة الحكم الشمولي. وكل هذا يتشخص روائياً عبر مخيلة كاتب اشتراكي تعرض لهجوم اليمين واليسار، وشاءت أعماله أن تتغذى من الازدواج والتناقض، وأن تقاوم اللغة المغتربة الجاهزة والمريضة، وأن تندّ عن كل تصنيف وحسم قد يجعل منها مجرد صدى لمواقف كليانية وجامدة تدّعي الحقيقة والوثوق.

وبخلاف هذه الصورة «الإيجابية» للكاتب الضمني الموحية بمقاومة الكتابة وحيازتها لقانونها الخاص، ثمة صورة أخرى تكشف عن أهواء وتحيّزات مشبوهة لروائيين يدّعون الوقوف إلى جانب الحرية والمساواة والعدالة، ويتدثرون بمُسوح الشعارات الإنسانية والديمقراطية، فيما كتاباتهم تتورط في خدمة المشروع الاستعماري وتكريس القوة الإمبريالية.

ذلك ما حلله بألمعية واقتدار «إدوارد سعيد» في كتابه «الثقافة والإمبريالية»[30]، الذي يعدّ التتمة الكبرى لمؤلف «الاستشراق»[31]. وهذا الكتاب يُتمّم ويُعمّق ما غاب عن الكتاب السابق الرائد، سواء في تفكيك نسق الثقافة الإمبريالية أو تجربة المقاومة التي أفرزها ذلك الانشباك الآثم بين السلطة والمعرفة الروائية. ولأن مجال بحث «سعيد» هو الإمبراطوريات الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، فإن الرواية هي الشكل الأدبي الأساسي الذي يبحث فيه عن الآثار الإيديولوجية الإمبريالية اللاواعية في أعمال: جوزيف كونراد، جين أوستن، رديارد كبلنغ، ألبير كامو، أندريه جيد، توماس هاردي، أندريه مالرو، كاثرين مانسفيلد، دانيال ديفو، إلخ.

وهكذا تتحول كثير من الروايات إلى أشكال قوة مُتواطئة مع التوسعات الاستعمارية، بل مرتبطة بها. وأفضل مثال يُشار إليه ضمن هذا السياق، رواية «روبنسون كروزو» لـ«دانيال ديفو» التي اعتبرت النموذج الأولي للرواية الحديثة، وليس من قبيل المصادفة أنَّ أحداثها تدور حول أوروبي يصنع لنفسه إقطاعية على جزيرة غير أوروبية نائية[32].

إن اقتران الرواية بالإمبريالية في تمثيل المستعمِر والمستعمَر، يأخذ شكلين متناقضين: ففيما يخص الذات، يُنتِج التمثيل السردي في الرواية الغربية ذاتاً نشيطة وخيّرة ومتحضرة وغامرة الحضور؛ وفيما يخص الآخر، تنثال الصورة والإشارات والرموز، الموحية بالخمول والتبعية والجهل والسلوكات البدائية.

هكذا تتحالف «المؤسسة الروائية» مع المؤسسة السياسية، وذلك من جهة تكريس المشروع الإمبريالي وتسويغ هيمنته وإضفاء الشرعية عليه. وبالمقابل، تنتفع الرواية على مستوى توغلها في عوالم بعيدة وغريبة تستجيب لتطلعات المجتمع البورجوازي الذي أنتج تطلعات استعمارية. وبذا تندرج في الشبكة الثقافية للمجتمع، لتمتلك بذلك، وهي الجنس الفني الجديد، شرعية أدبية.

في هذا الضوء، يتحوّل الروائي المتورط إلى صورة سردية مُشعّة لسيطرة سياسية. فيغدو، حينها، الخيال فخًّا يوقع مختلقه في أحابيل العنصرية والسخرة الإيديولوجية، والتمركز العرقي دون أن يفطن إلى ذلك دوماً.

تقدم لنا الأمثلة السابقة، إذن، نماذج من استقلالية النص، تؤكد نسبية النوايا، وقوة الكتابة. وحينئذ يضعف امتياز تفوق الكاتب في معرفة نصه، إذ كثيراً ما أساء المؤلفون فهم أعمالهم، وكثيراً ما حكموا عليها، كما أشار إلى ذلك «نيتشه»، بما هو دون قيمتها الحقيقية: «فهُم يحكمون بشكل سطحي على أفضل ما في حديقتهم الخاصة، على أفضل كرمتهم الخاصة، إذ لا يتساوى تخمينهم مع حبهم»[33]. فثمة ذوق فني أعلى من قوى الكتابة، والمبدع الذي يخلق باستمرار، إنسان «لا يعرف شيئاً آخر غير حمل وتوليد ذهنه... [إذ يمكن له] أن ينتج آثاراً تفوق بكثير حسه النقدي، بشكل يقول فيه عن ذاته وعن آثاره تفاهات... فما من أحد يجهل الابن كأهله»[34].

ونحن واجدون لدى كتّابنا العرب المحدثين ما قد يؤكد هذا الطرح. ومن ذلك ما أشار إليه «د. محمد برادة» في تعليقه على «ندوة معهد العالم العربي» بباريس، والتي خُصصت لمناقشة رواية «وردة» لصنع الله إبراهيم بمناسبة صدور ترجمتها الفرنسية. يقول برادة: «أعرف بالتجربة، أن حديث المبدع عن نصوصه ليست مسألة مريحة للكاتب وليست عملية مأمونة العواقب، لأن «تفسير» المبدع لعمله أو الدفاع عنه كثيراً ما يؤولان إلى الاختزال بل وإلى مناقضة النص... وخلال مناقشة «وردة»... فوجئت بصنع الله وهو يُصرّ على الإفاضة في التأويل «السياسي» لروايته مطنباً في تفاصيل الصراعات التي عرفها القوميون والماركسيون العرب، وفي المؤامرات التي تعرضت لها المجتمعات العربية ولا تزال...»[35].

وعليه، فإن تأويل الكاتب لعمله لم يَرْقَ إلى استيعاب غناه الداخلي، ومُجاوزته للسياق التاريخي الضيق، لأن الروائي ليس مؤرخاً بالمعنى الوضعي، ولا صاحب شهادة مُطابقة لواقع ما. إذ ثمة مسافة فنية تتيح توليد عالم منظوري، وتخليق معرفة مُغايرة ومُقاومة تضع الأشياء والقناعات والرؤى على حافة التفكير المتدفق دوماً، المانع لموت النص وتقييده إلى عجلة مذهب سياسي واثق، أو إدراك حسي مُستبدّ.

ومن هذه الزاوية، فإن رواية «وردة» تكتسب عمق قيمتها ودلالاتها، عندما تتحرر من النوايا الصريحة لكاتبها، ومن القراءة السياسية المبرمجة، التي تُقلِّصها إلى وقائع وصراعات تاريخية محددة لا إشعاع لها خارج مدارها الزمني، وخارج مادتها الخامّ. كما أن فهمها يتسع في ضوء الوزن «الشعري» للأفكار، والتخلص من الحب القديم للواقع، من الخوف المبتذل والأهواء القطيعية والأحكام المسبقة والتسميات العتيقة.

هكذا، يتبين أن «كذب» المبدع في صياغة نصه أو تفسيره، يكتسي طابعاً مُغايراً للأخلاق العامة. فإذا كان الكاذب يُخفي الحقيقة عن غيره، فإن الكاذب الفنان يُخفيها عن نفسه وعن غيره معاً. ومن ثمَّ فلا مجال لتقويم النصوص انطلاقاً من نوايا أصحابها، لأن ذلك سيكون إخلالاً خطيراً بشروط الفن، وفهماً لا جماليًّا للموضوعات الأدبية.

وغني عن البيان، أن الاستقبال غير الجمالي لكثير من الروايات في الشرق، وفي الغرب، قد أفضى إلى مُحاكمات وإدانات وتجديفات وفتاوى بالقتل. إذ أصبح الكثير من الكتّاب شهداء عباراتهم، ينظرون في دهشة وحسرة إلى ما ينبعث من بطون كتبهم.

ولا يفوتنا، هنا، التذكير بالكراهية القديمة - الجديدة للكتاب الفني الذي يستحيل إنجازه في عالم كامل أخلاقيًّا[36]، ويستحيل أن يتحيز لجانب «الخير» حصراً. إذ من شأن ذلك أن يُقلِّصه إلى ظاهرة وحيدة البعد، لا اختلاف ولا تفرُّد فيها. والحال، أنه ما من رواية عميقة إلا وتسكنها «الخطيئة»، دون أن تكون الخطيئة، هنا، بالضرورة شرًّا أخلاقيًّا، أو مروقاً فجًّا عن المنظومات الاجتماعية والثقافية. فالخطيئة الفنية ليست حسنة ولا قبيحة، إنها موجودة؛ موجودة ضمن عالم نصي له فرادته وتسمياته واستراتيجياته في تقويم القيم، وتقليب النظر، وإعادة الاعتبار للمنظور «والخطأ»، ودمج النبل في الانحطاط، والسامي في الوضيع والفاضل في الخسيس.

وإذن، فلا تخيل «للكمال الفني» دون قسوة، ولا ابتكار دون مطرقة. بل، ولا كينونة دون آلة فنية حربية وعُنف طبيعي. فالعمل الفني ليس ردّ فعل وحسب، بل هو فعل لا يتقنه إلا النادورن؛ فعل يتضمن الفرح الذي لا يعمى عن عناصر الألم ونشوة المعاناة.

 

 



[1]  كاتب من المغرب.

[2] للتوسع في إشكالية «الحس التاريخي المفرط» من المنظور النيتشوي، تراجع الدراسة القيمة لمصطفى كاك، الموسومة: «التاريخ والحكاية»، مجلة الكرمل، عدد 48، 1993، ص 88.

[3] R. Barthes, S/ Z, Editions du seuil, 1970, p 16.

[4] فريديريك نيتشه، ما وراء الخير والشر، ترجمة جيزيلا فالورحجار، غروب في، بيروت، 1995، ص 92.

[5] رولان بارت، درس السيميولوجيا، ترجمة: ع. بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1986، ص 87.

[6] المرجع نفسه، ص 85.

[7] ميشال فوكو، حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1986، ص 17.

[8] ميشيل فوكو، جنيالوجيا المعرفة، ترجمة: أحمد السطاتي - عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1988، ص 5.

[9] عن: ج. هيو سلفرمان، نصيات، بين الهرمنيوطيقا والتفكيكية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، الطبعة الأولى، 2002، ص 169.

[10] المرجع نفسه، ص 165.وثمة ترجمة عربية لسيرة نيتشه الفكرية، أنجزها مجاهد عبد المنعم مجاهد، تحت عنوان: «هذا هو الإنسان»، سلسلة آفاق الترجمة، الهيئة العامة لقصور الثقافة.

[11] فرديريك نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، كتاب العقول الحرة، الجزء الأول، ترجمة: محمد الناجي، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1997، ص 115، الشذرة 208.

[12] يُراجع حوار كاظم جهاد مع الكاتب الكوبي سيفيروا سارودي: «الباروكية اقتصاد آخر»، مجلة الكرمل، عدد 38، 1990، ص 89.

[13] Marcal Proust, Contre sainte - Beuve, Gallimard (Pleiade), Paris, 1971, pp 221 - 222.

[14] Antonin Artaud, Le theatre et son double, paris, (1964), 1994.

[15] Ibid, p 141.

[16] Ibid, p 184 - 185.

[17] Maurice Blanchot, L`espace litteraire, coll. Idees, n 155, paris, 1986.

[18] خ. ل. بورخيس، المرايا والمتاهات، ترجمة: إبراهيم الخطيب، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 1987، ص 87.

[19] المرجع نفسه، الصفحة ذاتها.

[20] المرجع نفسه، الصفحة ذاتها.

[21] هذه الترجمة من اجتراح محمد برادة، وردت في: سياقات ثقافية، منشورات وزارة الثقافة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2003، ص 268.

[22] عن: أنيسة الأمين، «قتل الأب أو صراع النظامين الأبوي والأموي»، مجلة مواقف، العدد 70 - 71، ربيع 1993،ـ ص 81.

[23] رولان بارت، لذة النص، ترجمة فؤاد صفا والحسين سبحان، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1988، ص 39.

[24] المرجع نفسه، ص 33.

[25] Maurice Couturier, La Figure de l`auteur, Editiins du seuil, paris, 1995.

[26] W. C. Booth, Distance et point de vue, in poetique du recit, Seuil/ points, 1977.

[27] W. C. Booth, The rhetoric of fiction, the university of Chicago, Chicago, 1961.

[28] Jaap Lintvelt, Essai de typologie Narrative, point de vue: Theorie et analyses, librairie Jose corti, paris, 1981.وثمة ترجمة للقسم الأول من الكتاب، أنجزها: رشيد بنحدو، بعنوان «مستويات النص السردي الأدبي»، ضمن ملف مجلة «آفاق» المخصص لطرائق تحليل السرد الأدبي، العدد 8 - 9/ 1998، ص 79.

[29] ينم توصيف الذات «بالمغارة» عن دلالة تحليلية - نفسية، طوَّرها المحلل النفساني نيكولاس إبراهام في دراسته (بالاشتراك مع م. توروك) عن «الرجل صاحب الذئاب»... الذي يتحدث انطلاقاً من «مغارة» يحملها في داخله، هي التي تجعل الاسم سريًّا ومُرمَّزاً، لكن بالإضافة إلى أن جميع الناس لا تملك مغارات، فإن كاتباً لا يتوصل إلى معرفة مغارته كليًّا. انظر: مقدمة كاظم جهاد، مُترجم «الكتابة والاختلاف» لجاك ديريدا، دار توبقال للنشر، البيضاء، 1988، ص42.

[30] إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية، نقله إلى العربية وقدّم له كمال أبو ديب، دار الآداب، بيروت، 1997.

[31] إدوارد سعيد: الاستشراق، المعرفة. السلطة. الإنشاء. نقله إلى العربية كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، الطبعة الثالثة، 1991.

[32] إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، مرجع سابق، ص 58.

[33] نيتشه: العلم الجذل، ترجمة: د. سعاد حرب، دار المنتخب العربي، بيروت، 2001، ص 89.

[34] المرجع نفسه، ص 230.

[35] محمد برادة: الأدب والسياسة، الاتحاد الأسبوعي، العدد: 31، 8 - 14 نوفمبر 2002، ص 22.

[36] عن: عبد الفتاح كليطو: لسان آدم، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1995، ص 5.