«إن أعمال التغيير.. إنما تحتاج -سواء من حيث التصورات والآليات، أو من حيث صيغ العقلنة واستراتيجيات التدخل- إلى عدة فكرية جديدة ومغايرة، من مفرداتها: التواضع الوجودي، التقى الفكري، سياسة الاعتراف، البعد المتعدد، عقلية الشراكة..».
علي حرب
لمناقشة عوائق الإصلاح والتجديد في العالم العربي، وسبل تحقيق هذا الإصلاح، وبالاشتراك مع المعهد الأمريكي للسلام نظَّمت مؤسسة مخزومي في بيروت ورشة عمل تحت عنوان: «التجديد الإسلامي: تحويل الأفكار الإصلاحية إلى سياسات عملية» وذلك في 21 - 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2006م.
شارك في الندوة نخبة من المفكرين والباحثين من العالم العربي، حيث ناقشوا وعلى مدى يومين أربعة محاور هي:
- التجديد الديني.
- الإصلاح الفكري.
- الإصلاح السياسي.
- دور المرأة.
انطلقت أعمال الورشة بجلسة افتتاحية تحدث فيها في البداية الدكتور أحمد موصللي أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية في بيروت، الذي أشار إلى مشكلة تقليد الغرب المتقدم من طرف العالمين العربي والإسلامي، وبالتالي السقوط في معضلة حقيقية كبرى تمثلت في إشكالية الرؤية العربية للذات وللآخر.. داعياً إلى تحويل الصراعات الموجودة إلى عملية إصلاح شاملة في جميع المجالات الفكرية والتربوية والسياسية وغيرها.. ثم ألقى بعده الدكتور عبد السلام المغراوي مدير المعهد الأمريكي للسلام ومسؤول برنامج الديموقراطية في المعهد كلمة أشار فيها إلى الجهود التي يبذلها المعهد لحل الصراعات وتمويل مشاريع ميدانية وتربوية من أجل التنمية العامة وتنمية الموارد البشرية، مؤكداً وجوب التفكير في كيفية الاستثمار وتطبيق كل الخطط الصالحة لتحقيق معايير أفضل، والتوجه دائماً إلى الحداثة والتقدمية في كل المجالات.
كما تحدَّث المهندس فؤاد مخزومي رئيس حزب الحوار الوطني باسم مؤسسة المخزومي عن الإصلاح والديموقراطية، وأشار إلى فشل المشروع الأمريكي لدمقرطة الشرق الأوسط مؤكداً أن بلادنا تتشوق إلى ممارسة الديموقراطية، لكن هذا الحلم يحتاج إلى إجراء إصلاح حقيقي لا إلى رؤية سطحية تتأقلم في ظل التدخل الأجنبي مع ما استجد من تطورات على الساحة السياسية.
* المحور الأول: التجديد الديني
لمناقشة المحور الأول: التجديد الديني، عقدت الجلسة الثانية برئاسة الدكتور عدنان السيدحسين (أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة اللبنانية)، وقد تحدَّث فيها في البداية الأستاذ زكي الميلاد (رئيس تحرير مجلة الكلمة) عن: «مشاريع الإصلاح والتجديد الإسلامي»، في البداية وللإجابة عن سؤاله: هل العالم العربي عصيٌّ على الإصلاح؟ تتبع الميلاد التجارب النهضوية التي عرفها العالم العربي، وما انتهت إليه، بدءاً بتجربة التحديث التي قام بها محمد علي باشا في مصر ومروراً بأهم الأحداث والمتغيرات والحروب التي مرت على هذه المنطقة، وصولاً إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي جعلت الغرب يطالب الحكومات العربية بضرورة الإصلاح. وحسب القراءات التحليلية لهذه التجارب وأسباب فشلها فنحن كما يقول الباحث: إما أمام تاريخ من الهزائم والفشل أو تاريخ من التآمر والمؤامرات، أو أمام تاريخ من الفرص الضائعة. والحقيقة أننا أمام تاريخ من التخلف فيه من كل ذلك. فيه من الهزائم والفشل، وفيه من التآمر وفيه من الفرص الضائعة، ولكن فيه أيضاً محطات مضيئة.
أما الآن فإن العالم العربي وبسبب الأحداث التي يعيشها وإصرار العامل الخارجي على إحداث إصلاح ما، فإن تحقيق الإصلاح يحتاج في نظر الباحث إلى الالتفات والأخذ بالحسبان مجموعة من المعطيات أهمها: القيام بمراجعة شاملة للأوضاع على جميع المستويات، وأن تنطلق هذه المراجعات من إرادة جريئة وشجاعة تغلِّب مصالح الأمة والأوطان على أي مصلحة أخرى، وأن يكون الإصلاح معبِّراً عن إرادة الأمة وتصورات شعوبها وضروراتها، لا أن يكون الإصلاح مفروضاً من الخارج. أما من أين يبدأ الإصلاح؟ فإن المعطيات الواقعية تؤكد ضرورة الإصلاح في المجالين السياسي والديني، مؤكداً في الأخير عدم وجود تعارض بين الإسلام والديموقراطية، فالمجتمعات الإسلامية بإمكانها أن تتقدم في ظل الإسلام، وهو -أي الإسلام- بإمكانه أن يدفع هذه المجتمعات نحو التقدم.
الورقة الثانية في هذه الجلسة قدمها الباحث السوري الأستاذ عبد الرحمن الحاج (باحث سوري) تحت عنوان: «التجديد الديني الإسلامي والإصلاح السياسي: بحث في نمط العلاقة» أشار فيها إلى وجود منظورين أساسيين للعلاقة بين المعرفة الدينية والمجال السياسي، أما بخصوص العلاقة الجدلية بين تطور المعرفة الدينية والإصلاح السياسي، فقد تساءل الباحث عن التجديد الديني، هل هو الذي يؤسس للتطور والإصلاح السياسي، أم أن الانفتاح السياسي هو الذي يؤسس لتطور الفكر الديني وتجديده؟ وهذا ما حاول الباحث الإجابة عنه بالتفصيل في هذه الورقة من خلال التجارب الكثيرة التي عرفها العالم العربي. حيث أكد أن الفكر الديني عندما يحاصر سياسيًّا وإيديولوجيًّا فإنه يقوم بعملية تقويم وتكيُّف بحثاً عن مخارج لهذه الأزمة. وهذا الحصار جعله ينحصر في أوقات كثيرة في زاوية الدفاع عن الهوية، وهذا حسب الباحث ما أفقده النمو والتطور، لكن بمجرد ظهور بوادر انفكاكه من ربقة هذا الحصار يبدأ في التحرك نحو الإصلاح والتجديد الديني بزخم غير مسبوق. وقد ظهر ذلك في ظهور أفكار إصلاحية من داخل المنظومة الإسلامية أكثر ليبراليةً وانفتاحاً في المجال السياسي والفلسفي.
الورقة الثالثة في هذه الجلسة كانت بعنوان: «التجديد الديني والإصلاح السياسي: نحو استقلال السلطة الرمزية» قدمها د. رضوان زيادة (مدير مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان)، الذي أشار إلى حادثة وقعت في الشام في بداية القرن الماضي كشفت عن الصراع الخفي والمبكر على السلطة الرمزية التي يتمتع بها علماء الدين، كذلك انطلاق الجدال حول معنى التجديد، وكيف أن السلطة السياسية -كما يقول الباحث- ذاتها ترغب في التدخل في هذا المعنى لأنه يعنيها، وبشكل خاص عندما يمس هذا الاجتهاد شرعية السلطة السياسية ذاتها، فالإصلاح الديني إذا ارتبط وجوديًّا بإعادة الاعتبار لمفاهيم دينية - سياسية مثل الشورى وطاعة الحاكم وشرعية الخروج على الحاكم.
وبعد تتبعه لجذور الحركة الإصلاحية في العالم العربي ومدى تأثرها بالإصلاح الديني في أوروبا، أكد الباحث أن الإصلاح الإسلامي مع الأفغاني وعبده ارتكز على تجربة الإصلاح البروتستانتي لتبرير قيام النهضة، وبالتالي فالإصلاح الإسلامي وحده هو القادر على بعث النهضة في الشرق وهو سر تقدمه. أما بخصوص فشل مشروع الإصلاح الإسلامي، فإنه لايرجع فقط إلى المناخات المضادة لهذا المشروع، وإنما -كما يقول الباحث- ينبع من طبيعة تكوين المعرفة الدينية بذاتها. وكذلك التعثر الفكري الذي أصاب مسار الإصلاح الإسلامي على يد بعض الإصلاحيين المتأخرين، ومما عقَّد مسار هذا الإصلاح ومنعه من تطوير آلياته ومفاهيمه، تأججُ المناخ السياسي الخارجي والداخلي الذي يحرِّض على الاحتماء الذاتي خوفاً على الهوية المهدَّدة. ويجعل الإصلاح الإسلامي ينحرف باتجاه تبني مفاهيم أصولية بعيدة عن تصورات الإصلاح. وبسبب بعض الأحداث السياسية التي ارتبطت بهذه الأصولية فقد أصبح مطلب الإصلاح الإسلامي عالميًّا وجزءاً من استراتيجية دولية، من هنا فقد تبلور لدى السياسيين أن الإصلاح السياسي لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن الإصلاح الديني.
وقد خلص الباحث في الأخير إلى أن إصلاح دور الدين في المجتمعات العربية ربما يساعد على تنظيم العملية السياسية وفق أسس سلمية وقانونية أفضل، لكن لن يحسم الإصلاح الديني والسياسي بشكل أكيد لأن الإصلاح الديني مسار صعب ومعقَّد ويحتاج إلى إجيال متتابعة.
* المحور الثاني: الإصلاح الفكري
ولمناقشة المحور الثاني، أي الإصلاح الفكري؛ عقدت جلسة ترأَّسها الاستاذ زكي الميلاد وتحدَّث فيها أولاً الدكتور علي حرب (باحث من لبنان) عن: «الحاجة العالمية للإصلاح: مشكلة الإسلام مع حُرَّاسه ودعاته» حيث أشار في البداية إلى أن هموم الإصلاح ومطالبه أصبحت شاملة، وأن ثمة حاجة عالمية للتغيير وإعادة البناء، لأن الأزمة الآن شاملة ولا تقتصر على مجتمع أو منطقة أو عالم ثقافي بعينه. كما أن هذه الأزمة ليست طارئة أو عرضية وإنما هي بنيوية تمس الثوابت والعناوين، كما تطال المفاهيم والمعايير. أما في العالم العربي فالمشكلات مزمنة ومركبة بقدر ما هي مضاعفة ومتفاقمة، والجبهتان المتصارعتان كما يطلق عليهما الباحث كلاهما يعاني من العجز عن التجديد. الإسلاميون لم يضيفوا شيئاً إلى التراث ويعملون تحت شعار يحتاج إلى تجديد معناه وملء فراغاته الدلالية. أما الحداثيون -يقول د. حرب- فقد اشتغلوا طوال عقود بتكرار الشعارات الحديثة حول العقلانية والاستنارة والديموقراطية والعلمانية دون التمكن من التجديد في صيغها وحقولها ومناهجها، والنتيجة هي الهشاشة وانعدام الفاعلية في مواجهة المجريات وازدياد أشكال الاستبداد والممارسات المعتمة. وهكذا لم نجدد لا في الشورى ولا في الديموقراطية، ولم نبتكر في فروع المعرفة، لا على غرار القدامى ولا على غرار المحدثين.
وبناء على هذا التشخيص للواقع العربي والإسلامي، يقدِّم الباحث مجموعة من المقترحات للتداول وهي على قسمين: أولاً في المفاهيم حيث يقترح إطلاق حرية الاعتقاد، لأن عقلية التكفير والتأثيم -في نظره- لا تصلح للبناء والعمران، بل تخرِّب العلاقات بين الناس وتدمر صيغ التعايش بين المسلمين، وتحيي الفتن النائمة، بقدر ما تؤجج الذاكرة الموتورة. والكف عن عبادة الأصول وعن التعامل مع نصوص التراث ومرجعيات المعنى بوصفها سلطات مقدسة أو حقائق مطلقة أو نماذج كاملة ينبغي التماهي معها واحتذائها، وإنما الأجدى في نظره هو التعامل مع هذه النصوص أو مع التعاليم والأحكام بوصفها مساحة للتأويل وتجديد المعنى.
بالإضافة إلى اقتراحه العمل على تجاوز مفهوم التسامح الذي يظهر التساهل مع الغير إلى الاشتغال بمفهوم الاعتراف المتبادل، والتمرس بالحس النقدي والوعي الضدي، بحيث نعترف بأننا مسؤولون عما يحدث لنا، فلا نوجِّه التهم دوماً إلى الغرب والغير، بل نهتم بتشخيص الآفات ودرس المشكلات.. وغيرها من المقترحات.
أما بخصوص آليات الإصلاح، فإن د. حرب يرى أن الإصلاح بما أنه عملية شائكة فلنبدأ من أي مكان وفي أي حقل كان، كذلك لابد من مشاركة الجميع فيه حكومات ومؤسسات أهلية. كما طالب بتجاوز ما يسميه الجدل العقيم، عما إذا كان الإصلاح ينبع من الداخل أو يُملى من الخارج. وفي الأخير تحدَّث عن النماذج الفاعلة، ليخلص إلى أن عملية التغيير تحتاج سواء من حيث التصورات والآليات، أو من حيث صيغ العقلنة واستراتيجيات التدخل، إلى عدة فكرية جديدة ومغايرة، من مفرداتها التواضع الوجودي، التُّقى الفكري، سياسة الاعتراف، البعد المتعدد، عقلية الشراكة، الهويات الهجينة والمفتوحة.
ثم تحدث بعده الدكتور غانم جواد (مدير العلاقات الثقافية في مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية - لندن) الذي قدَّم ورقة بعنوان: «تحويل الأفكار الإصلاحية إلى سياسية عملية» حيث أشار في البداية إلى كون قضية الإصلاح والتجديد أصبحت مطلباً ملحًّا من قِبَل المجتمعات العربية والإسلامية في هذه المرحلة الراهنة، نتيجة للظروف الصعبة التي تمر بها على جميع الأصعدة، بالإضافة إلى الضغوط الخارجية. إلا أن هذه المجتمعات متباينة في موقفها من مسألة الإصلاح والتجديد؛ فالعرب والمسلمون -حسب الكاتب- يميلون إلى القبول بالإصلاح السياسي دون أن يكون هناك تغيير كبير في المنظومة الثقافية والدينية، أما التجديد الثقافي المحض فهو صعب للغاية، سواء من داخل الوسط الديني أو من خارجه.
أما بخصوص عوائق الإصلاح والتجديد فقد أكد الباحث أنهم ينضوون في الغالب ضمن بوتقة السلطة وهما صنفان يكمل أحدهما الآخر، وهي السلطة السياسية والسلطة الدينية، فبالنسبة للسلطة السياسية لا يرى الباحث أي مبرر لرفضها للتغيير والإصلاح سوى احتكار السلطة، أما السلطة الثانية فهي كذلك -في نظره- تختفي وراء الخوف على الإسلام من الفكر الوافد لتحتفظ بمصالحها الخاصة. لكن مع تنامي الضغوط الخارجية عمدت السلطة السياسية إلى القيام بتغيير سطحي حيث أفرغت الإصلاح من مضمونه الحقيقي، فقد وضعت دساتير وهناك أحزاب وانتخابات. وهذا ما جعل الهوة تتسع بين الأنظمة وشعوبها المحبطة التي تمكَّن الاستبداد السياسي من تحطيمها نفسيًّا وإشعارها بأنها غير قادرة على فعل أي شيء ذي بال. لكن على الشعوب أن تراهن على نفسها وأن تقوم بالبحث عن أفق لتحقيق مطلب الإصلاح والتجديد.
أما بخصوص آليات التجديد الديني، أي تطوير الفكر الإسلامي والآليات التي تنتجه، فقد أكد الباحث غانم جواد أن التجديد مشروع لأنه مفهوم أصيل في الثقافة الإسلامية، ولتحقيق التجديد المتعلِّق بفهم النص الديني، طالب الباحث بالتمييز ما بين الفكر الإسلامي والنص الديني المقدس. والعمل على الانخراط في إنتاج فهم جديد ومعاصر للدين لمواكبة التطور الإنساني. وهذا التجديد لابد أن ينطلق -كما يرى- من اعتماد مجموعة من القواعد، مثل قاعدة: تغيّر الحكم بتغيّر الموضوع، لأن مراعاة مناسبات الحكم والموضوع يفتح الأفق أمام المجتهد لإعادة النظر في عدد من الأحكام ومراجعتها. القاعدة الثانية: تغيّر الحكم من العنوان الواقعي الأولي إلى العنوان الواقعي الثانوي. القاعدة الثالثة تغيّر الحكم نظراً للتزاحم بين الأهم والمهم. القاعدة الرابعة: تغيّر الحكم نظراً لكونه خاصًّا مما يساعد على تغيير الكثير من الأحكام الفقهية التي أصبحت غير متلائمة او متطابقة وروح العصر.
هذه القواعد الأصولية يمكن الانطلاق منها لتفعيل تحقيق الإصلاح والتجديد الديني، كما قدَّم الباحث مقترحات لتحويل الأفكار الإصلاحية إلى سياسات عملية من بينها إنشاء فرق عمل بحثية - سياسية اجتماعية، تقوم بجهد فكري لوضع السياسات العامة للعاملين في حركة الإصلاح الديني، المباشرة بوضع استراتيجية واضحة المعالم تستهدف القيام بالإصلاحات المطلوبة على ضوء مصالح كل دولة وطبيعة تركيب مجتمعها. وغيرها من المقترحات. كما أدرج مجموعة أخرى من المقترحات كان قد تقدَّم بها في ندوة سابقة عن التجديد الديني.
الورقة الثالثة في هذه الجلسة كانت بعنوان: «في انتظار مابعد الإسلاموية» وقدمها الباحث الفرنسي ألان روسيون (مدير مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية في القاهرة) حيث رأى أن التغيّرات التي طرأت على الممارسات والخطابات الإسلامية في عقد التسعينات أدَّت ببعض المراقبين إلى وضع مقولة (مابعد الإسلاموية)، بصفتها نعتاً لعهد إيديولوجي جديد في بلاد الإسلام، سيتم فيه التخلي عن المشروع الأول للحركة الإسلامية وفكرة بناء الدولة الإسلامية على وجه الخصوص وما يمكن أن يؤكد ذلك في نظر هؤلاء هو ظهور خطابات تمجد النجاح الفردي وقيم اقتصاد السوق. وهذا يعني أفول الإسلام السياسي، لكن الباحث يشكِّك في هذا التوصيف أو تعميمه لأنه يخفي ما تمتاز به المجتمعات الإسلامية من تعقيد وازدواجية، وإن كان قد أشار إلى التأثير الذي يمكن أن تكون العولمة قد أحدثته. أما بخصوص المراحل التي مر بها الإسلام السياسي فقد أشار الباحث إلى أن المراقب الغربي يرى أن الإسلام السياسي قد مرَّ عبر ثلاث مراحل:
الأولى مرحلة العودة العامة أو الصحوة في منتصف السبعينات، والتي ستتطور إلى محاولة صياغة برامج سياسية واجتماعية جعلت الإسلام السياسي يصطدم مع السلطة.
وتبدأ المرحلة الثانية في مطلع التسعينات بظهور مقولة: «فشل الإسلام السياسي» أو تراجع الإسلاموية عندما فشل الإسلاميون -وحسب المراقب الغربي- في إعادة تطبيق النموذج الإيراني، كما حصل في مصر والجزائر، حيث انتهى الصدام المسلح إلى صالح الأنظمة ضد الإسلاميين، وذلك بمساعدة الغربيين الخائفين على مصالحهم من العدوى الإسلامية في المناطق الحيوية المنتجة للطاقة. وفشل الإسلاميين -كذلك- في العثور على صيغة سياسية إسلامية تجمع بين السياسة والدين، وبديلاً للقومية أو الأنظمة الاقطاعية الثيوقراطية الحاكمة في الجزيرة العربية. إلا أن هناك تطوراً قد حدث واعتبر بمثابة دخول العالم الإسلامي الحداثة والمتمثل في التأثير الكبير لثورة الاتصالات والإعلام... بالإضافة إلى أحداث 11 سبتمبر ومحاولة نقل العمليات الجهادية إلى خارج العالم الإسلامي، هذا المنزلق دفع الجماعات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي ولنفي تهمة الإرهاب عنها إلى العمل على تطبيع عملها السياسي وإيمانها بالتعددية والانخراط في عمل سياسي سلمي ديموقراطي.
وبعد أن أشار إلى أنماط ما بعد الإسلاموية والإيحاء بظهور ما يُطلق عليهم بعض الكتاب الغربيين بمثقفين إسلاميين جُدُد، وكذلك الإشارة إلى بروز نسوية إسلامية، أكد الباحث أن التباس مفهوم ما بعد الإسلاموية، هذا الالتباس الذي يطال كذلك المقولات الأخرى المبنية على النسق نفسه مثل: ما بعد الحداثة وما بعد الشيوعية وما بعد الدولة الوطنية... وهكذا يرى الباحث أن مقولة ما بعد الإسلاموية والتحليلات المبنية عليها، من شأنها أن توقعنا في المعتقد الثقافوي نفسه الذي يقوم عليه الاستشراق القديم والجديد ألا وهو الطابع الاستثنائي للمجتمعات الإسلامية واستعصائها على كل تحليل.
* المحورالثالث: الإصلاح السياسي
في اليوم الثاني ولمناقشة المحور الثالث الخاص بالإصلاح السياسي عقدت الجلسة الأولى برئاسة الدكتور المرتضى بن زيد المحطوري، وتحدَّث فيها في البداية الدكتور فيصل الرفوع (وزير الثقافة الأردني الأسبق) عن: «الإسلام والإصلاح السياسي» تحدَّث فيها في البداية عن العولمة والغرب والإسلام، حيث كشف عن حجم التوتر الذي يسود العلاقة بين الحركات الإسلامية والغرب بسبب الانحياز الغربي للعدو الصهيوني ودعمه للأنظمة الشمولية العربية والإسلامية. وبعد أن قدَّم لمحة تاريخية للإسلام والإصلاح السياسي منذ قيام الدولة الإسلامية في المدينة وصولاً إلى حركة النهوض والإصلاح الحديثة والمعاصرة بعدما استيقظ العالم الإسلامي وجُلّ أراضيه مستعمرة، انتقل إلى توصيف واقع الإسلام والإصلاح السياسي، حيث أكد أن حركة الإصلاح الجارية اليوم في العالم الإسلامي أفرزت مدرستين تنشدان الإصلاح وإن اختلفت وسائلهما: المدرسة الأولى ذات توجه ليبرالي يدعو للاستفادة من تجارب الغرب في عملية إصلاح، ويدعو هذا الاتجاه إلى العلمانية والديموقراطية الليبرالية الشبيهة بالممارسة الأمريكية وتجربتها. أما الاتجاه الثاني فيمثله الاتجاه الإسلامي الذي يرى أن التدخل الغربي هو المسؤول عن تأخر الإصلاح والتنمية في المجتمعات الإسلامية.
وبين هذين الاتجاهين يشير د. الرفوع إلى وجود اتجاه ثالث سمَّاه بالاتجاه القومي - الإسلامي خاصة في الوطن العربي، وهذا الاتجاه يؤمن -في نظره- بإمكانية أن تقوم عملية الإصلاح بالمواءمة بين الخصوصية العربية الإسلامية وبين متطلبات التطور العالمي وإفرازات العولمة، والاستفادة من مفهوم الغرب للإصلاح ولو بشكل نسبي. لكن السياسات الغربية المنحازة إلى العدو الصهيوني أضعفت موقف الإصلاحيين الليبراليين في الشارع العربي والإسلامي لصالح الإسلاميين والقوميين، وجاءت الإصلاحات السياسية التي حث عليها الغرب لتزيد في أسهم الإسلاميين الذين استفادوا من الانفراج السياسي وبعض مظاهر الديموقراطية فكان أن فازوا في الانتخابات بنسب كبيرة، الأمر الذي جعل الغرب يتوجس خيفة، ما دفعه لإعادة النظر في استراتيجياته تجاه عمليات الإصلاح في العالمين العربي والإسلامي.
وفي الأخير قدَّم الباحث نظرة مستقبلية على شكل توصيات طالب فيها بإنشاء هيئات لجان لمراجعة الوظيفة الحالية للمذاهب الإسلامية، وإجراء الحوار بين الأديان ومع الغرب، بالإضافة إلى تشجيع منظمات المجتمع المدني للمساعدة في تجذير مبدأ الإصلاحات السياسة والاقتصادية والقانونية بما يخدم عملية الإصلاح الشاملة، كذلك دعا الاتجاه الإسلامي للمساهمة وبفاعلية في العملية الإصلاحية بعيداً عن الاستقطاب والتمحور ورفض الآخر، كما طالب بفتح باب الاجتهاد.
الورقة الثانية في هذه الحلقة كانت بعنوان: «نقد الخطابات الإصلاحية في الفكر الإسلامي العراقي المعاصر»، وقد قدَّمها الدكتور رسول رسول، حيث تحدَّث في البداية عن البيئة المولِّدة للإرهاب أو العنف الموجَّه ضد الأبرياء، والذي أصبح ارهاباً معولماً عابراً للجغرافيا ويستفيد أصحابه من التقنيات المتقدمة، وهذا ما ظهر واضحاً في تجربة العراق، هذه التجربة -التي يصفها الكاتب بأنها مدماة ومريرة مغموسة بالألم والبكاء والعويل- كانت ضد أي مشروع إصلاحي يقوم في العراق. وهذا الإرهاب الدموي يخفي وراءه -في نظر الكاتب- مشروعاً إصلاحيًّا لكن على غرار نموذج الإمارة الطالبانية التي قامت بعد فشل المجاهدين في الاتفاق على حكم أفغانستان بعد هزيمة السوفيات. وبالتالي فبعد سقوط النظام العراقي واحتلال العراق من طرف الأمريكيين، ظهرت هناك نماذج متعددة للإصلاح من بينها النموذج الأمريكي. نماذج أخرى جاءت بها المعارضة والحركات السياسية، إلا أن الغالب على هذه المشاريع الإصلاحية في نظر الكاتب، الطابع السياسي، مع التصادم الواضح بين هذه المشاريع الإصلاحية وما يسميه بالنموذج الإصلاحي الطالباني الذي يتوسل بالإرهاب لتحقيق هذا المشروع.
وفي الأخير أشار الكاتب إلى عدم وجود مؤسسة في الوطن العربي لدراسة خطاب هذه المشاريع الإصلاحية الدموية، وكل ما هنالك مئات من المقالات التحليلية والنقدية لظاهرة راهنية الجماعات الدموية المسلحة، لكن لا توجد دراسات متخصصة تقرأ العنف الدموي بوصفه خطاباً إصلاحيًّا كما يراه أهله ودعاته.
بعده قدَّم الدكتور عدنان السيد حسين (أستاذ الدراسات العليا في كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية) ورقة بعنوان: «تجديد الفكر الإسلامي والعلاقات الدولية” أكد فيها أن التجديد في الفكر الإسلامي يحتاج إلى تجديد في المنهج المتبع في دراسة علوم الدين، وكذلك العلاقات بين الدول تحتاج إلى اجتهاد على المستويين الوضعي والإسلامي انطلاقاً من الوسطية، كما أكد أهمية السلام في العلاقات الدولية وضرورة أن يشارك المسلمون في التعاون الدولي بعيداً عن التطرف أو الانعزال، مؤكداً حاجة العلاقات الدولية إلى شحنة جديدة من الالتزام بالإنسانية والكرامة بدل اللجوء إلى العنف والإرهاب، أما العلاقة بين المواطنين فيجب أن تقوم على أساس المواطنة وليس الطائفية والعشائرية والعصبيات بأشكالها.
* المحور الرابع: دور المرأة
ولمناقشة المحور الرابع: (دور المرأة)، عُقدت جلسة ترأَّسها د. عبد السلام المغراوي، وتحدَّثت فيها أولاً الدكتورة فاطمة الصايغ (أستاذة في جامعة الإمارات) عن: «دور المرأة في الإصلاح»، حيث ركّزت بحثها لدراسة وضع المرأة في دولة الإمارات العربية خصوصاً وفي منطقة الخليج عامة في محاولة للكشف عن أهمية إعطاء المرأة حقوقها السياسية بوصفها خطوة ضرورية في تفعيل عملية الإصلاح السياسي داخل المجتمعات الخليجية. في البداية أشارت الباحثة إلى وضع المرأة بشكل عام في منطقة الخليج والعزلة التاريخية التي فُرضت عليها لعدة أسباب: دينية وثقافية واجتماعية، إلا أن النهضة التعليمية والثقافية التي عرفتها هذه الدول بعد اكتشاف البترول ستغيِّر هذا الواقع، حيث استطاعت المرأة أن تحقق قفزة مهمة ظهرت في تطور مستوى الوعي لديها ومشاركتها في بعض الأنشطة الاقتصادية، وهذا ما شكَّل مقدِّمة لمطالبتها بحقوقها السياسية، لكن المشكلة -كما ترى الباحثة- لا تتعلق بالمرأة فقط، فالمشاركة السياسية في الانتخابات أو إدارة البلد غير متوافرة للرجل كذلك.
لكن ارتفاع مستوى الوعي لدى كل من الرجل والمرأة وتأثير التطور الإقليمي والعالمي في المنطقة دفع باتجاه التغيير والإصلاح حيث استطاعت المرأة أن تحصل على بعض المكاسب السياسية في عدد من هذه الدول، كالحق في الانتخاب والوصول إلى المجالس التشريعية بل الوصول إلى مناصب سياسية مهمة وزيرةً أو دبلوماسيةً، كل ذلك بسبب تطور الوعي الثقافي لدى هذه المرأة، وانخراطها في العمل التطوعي المدني، كذلك تأثير وسائل الإعلام التي طالبت الباحثة بدور مهم لها في تحقيق الوعي السياسي للمرأة.
وأخيراً أشارت الباحثة إلى وجود علاقة وطيدة بين غياب استراتيجية حكومية للنهوض بالمرأة في العالم العربي وبين تطور وعي المرأة الثقافي والسياسي.
الورقة الثانية في هذه الجلسة قدمتها د. هدى رزق (من لبنان) تحت عنوان: «المشاركة السياسية للمرأة العربية بين الواقع والمرتجى: لبنان/ المغرب نموذجاً» حيث أشارت في البداية إلى ما أكده تقرير التنمية البشرية العربية لسنة 2002م الذي اعتبر عصب المشكلات المانعة من تحقيق التنمية المنشودة يكمن في نقص الحرية والمعرفة ونقص تمكين المرأة. لذلك فقد تساءلت الباحثة: هل الحكومات جادة في القضاء على التمييز الذي مُورس ضد المرأة طوال قرون؟ وهل هنالك قناعة حقيقية بضرورة مشاركة المرأة في الحياة العامة؟ وما هي العوائق التي تقف في وجه هذه المشاركة؟
إن قضية المرأة قضية عالمية والتمييز ضدها لا يقتصر على المجتمعات العربية. لكن ارتفاع مستويات التعليم، ودخول المرأة سوق العمل، والجهود العالمية لتطوير وضعها في إطار دعم الخطط التنموية؛ كل ذلك دفع باتجاه تفعيل دورها السياسي في المجتمع. وهذا ما حاولت الباحثة تسليط الضوء عليه من خلال استعراض ثلاث تجارب عربية لتبيّن مكامن الخلل التي تقف حائلاً دون الانخراط الفعلي للمرأة في الحياة السياسية على الصعيد القانوني، ودورها في المجتمع المدني، وفي التجربة الحزبية، وكذلك انخراطها في التجربة البرلمانية، بالإضافة إلى عقد مقارنة بين التجربة اللبنانية والتجربة المغربية.
بالنسبة للتجربة اللبنانية تحدَّثت الكاتبة عن واقع المرأة اللبنانية وما حققته على صعيد العمل الاجتماعي والمدني، فأشارت إلى انخراط النساء في بعض المنظمات النسوية، ودخولها الحياة البرلمانية في السنوات الأخيرة، وإن كان ذلك قد اقتصر على نساء ينتمين لعوائل سياسية، مع أن الدستور اللبناني يعطي المرأة اللبنانية الحق في المشاركة السياسية، إلا أن من وصلت إلى الندوة البرلمانية كان بفعل سلطة الأب أو الزوج أو الأخ، بوصفهم مسؤولين سياسيين.
وبالتالي فطريق المرأة اللبنانية في المشاركة السياسية لم يكن ممهَّداً بالرغم من الإقرار بحقها القانوني في المشاركة لوجود عقبات اجتماعية واقتصادية وطائفية، وضعف انخراطها في سوق العمل أو الالتحاق بالأنشطة الحزبية. لكن مع هذا الوضع فقد شاركت المرأة في الانتخابات بكثافة واستطاعت أن تفوز في بعض الأقضية، لكن يبقى العامل الاقتصادي والقوانين الانتخابية التي تتحكم فيها المحاصصة والطائفية من بين أهم العوامل المهمِّشة للمرأة اللبنانية والتي تحول دون تمتعها بحقوقها السياسية.
ومن الأوراق المقررة في هذه الجلسة كذلك كانت ورقة للدكتور عبد الملك المتوكل عن: «المساواة بين الرجل والمرأة ودور الفقهاء».
الجلسة الثانية ترأستها الدكتورة فاطمة الصايغ، وتحدَّثت فيها الدكتورة حنان محمود إبراهيم (من برنامج الأمم المتحدة الانمائي في الأردن) عن «أزمة الخطابات النسائية في العالم العربي: رؤى تغييرية»، حيث رأت أن الخطابات النسائية في العالم العربي والعالم الغربي ترابطت ارتباطاً وثيقاً بقضايا الأمة القومية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقد ارتبطت هذه الخطابات على الصعيد المعرفي والنظري والمنهجي. وفي ثمانينات وتسعينات القرن المنصرم استطاع عدد من النساء في الغرب -كما تقول الباحثة- أن تبلور مناهج نقدية سعت إلى اختراق حدود النظريات التي تبلورت في عصر النهضة والتنوير والحداثة؛ لكونها كانت مغرقة في الذكورية واستثناء الآخر الأضعف أيًّا كان ذكراً أم أنثى. ومع تطور هذه الخطابات في أطرها الإيديولوجية إلا أنها تعاني من أزمة حقيقية. أما بالنسبة للمرأة العربية فرغم زيادة نسبة تعليمها وتفعيل مشاركتها في المجالات الفكرية والإعلامية والسياسية، إلا أن هذه التغيرات لم تمس وضع المرأة بشكل فاعل وشامل. إنما مثَّلت حرص الجهات الرسمية على إضفاء طابع الحداثة على صورة الدولة.
أما ألاسباب الحقيقية التي تقف وراء استمرارية معاناة النساء في مناحي الحياة المختلفة، فقد أشارت الباحثة إلى مجموعة من الأسباب، منها قصور الاتجاهات الفكرية النسوية على التصدي بحكمة وعقلانية إلى منظومة الفكر الرجعي الذي يعوق عجلة التنمية والتطور والتحرر من التبعية لمراكز القوى المهيمنة، لذلك فما حقَّقته المرأة العربية من حقوق هو أدنى بكثير من المتوقع ومن الهالة الإعلامية التي لا تنفك تركِّز على المرأة ودورها في التنمية.
لذلك لابد -تقول الكاتبة- من إعادة تقويم الخطابات النسائية بأوجهها المختلفة للوقوف على الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء عجز هذه الخطابات عن المساهمة الفاعلة في إحداث تغييرات جذرية وإيجابية في أوضاع المرأة في كافة المجالات. والمساهمة في تطوير خطابات نسوية تنسجم مع سياقنا التاريخي والثقافي إلى جانب استيعاب الإنجازات الإنسانية في هذا المجال والإفادة منها.
كما تحدث في هذه الجلسة الدكتور المرتضى بن زيد المحطوري من اليمن عن المرأة في الإسلام.