ﷺ تمهيد
قد يكون مصطلح العولمة من أكثر المصطلحات ترويجاً خلال السنين الأخيرة، ونكاد نجزم أن الكل يحرر في موضوع العولمة، على أنه ثمة فوارق كبيرة بين صدور مقالات أو أبحاث أو كتب تتناول الموضوع انطلاقاً من أرضية تفسيرية صلبة وبين تحرير قراءات مضادة ذات خطاب عاطفي هشّ، لا يشفي غليل القارئ العربي والمسلم المتعطش لمعرفة كنه ظاهرة الساعة بامتياز.
نحن نرى أن التعاطي مع موضوع معقد من ناحية المفهوم ويحمل اسم العولمة يتطلب حدوداً أدنى من العدة المعرفية والمفاهيمية، أو أن يكون صاحب التعاطي، متخصصاً في الشأن الاقتصادي مثلاً، وهو تخصص تجعله أقدر على تحصيل معطيات ميدانية تضفي الكثير من المصداقية على ما يحرره حول العولمة.
سوف نقتصر في قراءتنا الاستطلاعية هذه على عرض أهم القراءات العربية الخاصة بمفهوم العولمة، بصرف النظر عن مجموعة من الملاحظات النقدية التي لا يمكن تجاهلها في معرض تقييم ما يصدر عن الكُتَّاب العرب والمسلمين الذي حرروا مؤلفات عددية حول هذا المفهوم.
من هذا المنطلق إذن، نرى أن المؤلفات العربية التي تطرقت بكثير من التأمل والنقد والتفكيك لموضوع العولمة تبقى نادرة، ويصح الحديث على أن الترحال مثلاً، مع ما سطَّره الاقتصادي المصري جلال أمين في كتابه الذي يحمل عنوان: «العولمة والتنمية العربية»، والصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، يجسد متعة معرفية، من منطلق أن الحقل المعرفي الذي يميز إصدارات الكاتب يحفز المؤلف على تمرير رؤى تحليلية قيمة لموضوع اقتصادي بامتياز من قبيل العولمة. والكتاب يقدم قراءة قيمة ورصينة في التقييم والنقد، قلَّما نجد مثيلاً لها فيما سطرته الأقلام العربية التي تطرقت لموضوع العولمة، حيث تطغى القراءات الاختزالية أو العاطفية، من ناحية، أو يتم التركيز على ما سطَّره الآخر والاكتفاء بتجميع ما قاله قلم الفرنسي وآخر أمريكي، من جهة ثانية.
- 1 -
إشكالية تعريف العولمة
بداية، يهمنا التوقف مع إشكالية تعريف العولمة، وبرأي أحد الباحثين، فإن من يصفهم برعاة العولمة «لم يصوغوا لها تعريفاً ولا تحديداً بل تركوها ملتبسة كي تنطلي مؤامراتهم على البسطاء، يريدون من خلالها توسيع مساحة نفوذهم وسيطرتهم على الاقتصاد والسياسة والفن والثقافة وسائر وجوه الحياة وميادينها، وضرب الهويات والخصائص في كل أمة»[2]. والحال أن مصطلح العولمة في حد ذاته لم يكن ليلقى كل هذا الرواج لو لم تكن هناك أرضية فكرية مهدت إيديولوجيًّا وبالتالي مفاهيميًّا لهذا الترويج، ونحن نستحضر في هذا المقام تقييماً لأحد الأقلام العربية المختصة في ملفات العولمة والإعلام والاتصال إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق، ويتعلق الأمر بالباحث المغربي يحيى اليحياوي الذي يعيب على الخطاب السائد في العالم الثالث حول ظاهرة العولمة عدم تحديده للمفهوم، وتركيزه الجلي على أبعاده وتجلياته. فتأتي الإسقاطات إما مؤدلجة أو عديمة الموضوعية، أو مجانبة للسياق العام[3].
يروج المنظرون للعولمة لتجاوز الحدود القومية والوطنية، أو كون العالم بات «قرية كونية صغيرة»، وهذا تعبير فيه تجاوز للحقيقة حسب أسعد السحمراني، فالعالم متنوع متعدد الانتماءات والعقائد والثقافات، ولن يكون غير ذلك، لهذا يعمل هؤلاء على تغليف مشروعهم الاستعماري بغلاف اسمه «العولمة» أو الأمركة، وإن كان الكاتب للأسف لا يشير إلى بعض الفوارق الجوهرية بين المصطلحين. صحيح أنه بزغت اختلافات حتى بين المثقفين العرب المشاركين في ندوة «العرب والعولمة» البيروتية، ولكنها لا تعفينا من ضرورة الالتزام بالتدقيق في المصطلحات، وخاصة الابتعاد على القراءات النقدية الاختزالية.
على صعيد آخر، خاص بإشكالية التعريف، يضيف السحمراني أن العولمة تزعم أنها تستطيع فرض ثقافتها، وبالتالي ضرب ونسخ ثقافات الآخرين، بدليل بزوغ أطروحات أكاديمية تزكِّي هذا المعطى، وأهمها بالطبع أطروحات «صدام الحضارات» و«نهاية التاريخ» و«الفوضى» و«الاضطراب الكبير»، وسواها من عناوين المؤلفات التي تُظهر التخبط والارتباك الفكري بسبب فقدان البوصلة المحدِّدة للاتجاه السليم، وعدم التزام دين أو ثقافة محددة المبادئ والمنطلقات والقيم الناظمة للحركة الحضارية، وهذه نقطة نختلف فيها كثيراً مع الكاتب، بحيث نرى أن وصف مثل هذه الأطروحات بكونها تترجم التخبط والارتباك الفكري أمر يجانب الصواب، لأسباب عدة، أهمها أن العقل الغربي عموماً، الأمريكي نموذجاً، معروف عنه أنه عقل براغماتي صرف، وعليه، من السذاجة أن نغفل عن الخلفيات التي تقف وراء الترويج الأمريكي لمثل هذه الأطروحات بالذات، والتي للمفارقة الغائبة على ما يبدو عن ذهن الكاتب، نجد مفكراً أمريكيًّا مرموقاً من صنف نعوم تشومسكي يصفها «بلعب أطفال تشرعن ممارسات الإدارة الأمريكية في ربوع المعمورة».
أما الباحث الموريتاني السيد ولد أباه، فيحصر أبرز المتغيرات التي ارتبطت باتجاه العولمة في النقاط التالية:
ـ انحسار القطبية الثنائية بعد نهاية الحرب الباردة، وبروز مؤشرات متعارضة لنظام دولي جديد عادة ما يُختزل في الهيمنة الأمريكية الأحادية.
ـ انحسار الإيديولوجيا الشيوعية بعد سقوط جدار برلين وتفكُّك الاتحاد السوفياتي وانهيار الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية.
ـ تسارع وتيرة الثورة الصناعية الجديدة القائمة على التقنيات الاتصالية والتكثيف المعلوماتي.
- توسع المنظومة الرأسمالية بعد انهيار خصمها الاشتراكي، وما نجم عنه من توحد السوق العالمية في سياق أنظمة تبادل حرة تتحكم فيها المراكز الاقتصادية والمالية الغربية وصناديق التمويل الدولية[4].
ولئن كانت ظاهرة العولمة قد أثيرت غالباً في الفكر الغربي في إطار الإشكالات المتعددة التي تطرحها هذه التحولات على نموذج الحداثة في المرحلة الراهنة من تاريخ المجتمعات الصناعية، فإن الهم المهيمن على اهتمامات المفكرين العرب انصب في مجمله على ما تطرحه الظاهرة المذكورة من إشكالات ثقافية وأنماط استجابة في السياق القومي، تحسباً لما تقتضيه العولمة من اختراق للحواجز والحدود في المستويات المختلفة، بما لها من آليات تنميط وتقريب ناجعة، وبسبب تداخلها ومؤشرات الوضع الجديد المنطبع بالأحادية القطبية والأمركة المعمَّمة.
ضمن هذا الإطار، يُعرِّج ولد أباه على أبرز الأفكار التي يتأسس عليها خطاب العولمة، ويتقدمها بالطبع خطاب النهايات أو «نهاية الإيديولوجيات» التي سادت بعد اندثار الفكر الماركسي وتطبيقاته العملية (الأنظمة الاشتراكية). لم يعرج الكاتب قط على الكتاب - التحفة الموسوم: «نهاية الإيديولوجيا» لصاحبه دانيال بل، والصادر عام 1978، مفضِّلاً تركيز الاستشهاد مع كتاب «نهاية التاريخ»، لفرانسيس فوكوياما. ومعلوم عند الباحثين المختصين أن هذه المقولة التي تشكل مرتكزاً رئيساً من مرتكزات خطاب العولمة السائد تغفل حقيقة أن الإيديولوجيا بمعناها الأعم هي «منظومة من التمثلات والقيم تعكس رؤية أكسيولوجية للوجود وتسمح ببناء قاعدة للشرعية السياسية وضبط معايير الالتزام والفعل»، ومن ثم فإن الإيديولوجيات من هذا المنظور، تعبر عن هم رئيس من هموم الوجود الإنساني الذي يتأسس على المرموز والمتخيل بقدر ما يقوم على طلب المنفعة والفائدة. فالذين يتحدثون عن «نهاية الإيديولوجيات» إنما ينطلقون من الواقع من معاينة قاصرة وزائفة لواقع المجتمع الغربي في السنوات الأخيرة دون إدراك عميق وجاد للقاعدة النظرية التي تسند نموذجه السياسي وبنيته الاقتصادية، ودون اعتبار للتصدعات التي تخترقه والمنعرج الذي يقف عنده، فضلاً عن كونهم ضحايا لموقف تعميمي يتجاهل الجزء الأكبر من الفضاء العالمي الذي يتشكل من ثقافات متعددة ومتباينة، وضمن هذه الثقافات هناك الثقافة العربية والإسلامية.
وهناك أخيراً، من يختزل منظومة العولمة في الثالوث المقدس الذي يُسطِّر الخطوط العريضة المتحكمة في مسار ظاهرة العصر، ونقصد بطبيعة الحال ثالوث البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية[5].
1- البنك الدولي
من الأهداف «المعلنة» للبنك الدولي مساعدة البلدان النامية في تطوير اقتصادياتها من خلال تقديم القروض المالية الميسرة، والمساعدات الفنية اللازمة لإنشاء البنى التحتية الأساسية، لكن السمة الأساسية لعمل هذا البنك كانت وما زالت تتمثل في تسييس هذه القروض والمساعدات، وذلك بسبب نظام التصويت الذي يسمح بهيمنة الدول الكبرى ولاسيما الولايات المتحدة على البنك وقراراته.
2- أما صندوق النقد الدولي
فقد تم تأسيسه للسهر على حسن سير النظام النقدي العالمي من خلال تنظيم العلاقات النقدية الدولية، بتقديم قروض ميسرة للدول التي تعاني من صعوبات في ميزان مدفوعاتها. وكما في حالة البنك الدولي، فقد تم ربط تقديم القروض باعتبارات سياسية واقتصادية تحت عنوان «التصحيح الاقتصادي وإعادة هيكلة الاقتصاد»، وهي تسمية لتحرير الاقتصاد وتقليص دور الدولة وفق أطروحات «اجتماع واشنطن»، وهي:
* تحرير التجارة الخارجية.
* تحرير وتسهيل انتقال رؤوس الأموال.
* الانضباط المالي (خفض عجز الموازنة).
* تقليص تقديم الإعانات المالية.
* الإصلاح الضريبي (لجهة تقليص الضرائب المفروضة على الشركات).
* تحرير النظام المالي والمصرفي.
* تحرير أسعار الصرف، وتخفيضها عند الضرورة.
* خصخصة الشركات العامة.
* تقليص الإجراءات والقيود الرسمية.
* حماية حقوق الملكية الفكرية.
ونتيجة لذلك، أصبحت «وصفة» صندوق النقد الدولي مجموعة من الأوامر التي يجب أن تنفذها الدول التي تطمح إلى الحصول على قروض من هذا الصندوق.
3- منظمة التجارة العالمية
من أجل أن يكتمل الثالوث ويحكم قبضته على النظام الاقتصادي العالمي، كان لا بد من توقيع «الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة» (الغات) في عام 1974. بعد أن مرت هذه الاتفاقية بجولات تفاوضية حول تخفيض التعريفات الجمركية، تم في اجتماعات مراكش 1994، إنشاء منظمة التجارة العالمية التي حلت محل الغات وبدأت نشاطها فعليًّا في الأول من كانون الثاني عام 1995.
يتمثل الهدف الرئيس للمنظمة في إدارة عملية تحرير التجارة العالمية، وإلغاء الحدود أمام حركة السلع والخدمات ورؤوس الأموال، وحل النزاعات التجارية التي يمكن أن تنشأ بين أعضائها.
ولسنا في حاجة إلى أدلة مادية وموضوعية تؤكد دور النفاق الذي يمارسه الشمال عندما يطلب من دول الجنوب فتح أسواقها أمام منتجات القطاعات الجديدة (الاتصالات، التأمين، الأدوية، ... إلخ)، وفي الوقت نفسه، يرفض فتح حدوده أمام منتجات القطاعات ذات التكنولوجيا المنخفضة، وهي المنتجات الوحيدة التي تستطيع دول الجنوب تصديرها (منتجات زراعية، منسوجات ... إلخ). تنفق أوروبا والولايات المتحدة واليابان مليار دولار في اليوم لدعم المزارعين، يعادل هذا المبلغ ست أضعاف مساعدات هذه الكتل الثلاث للدول النامية. وفي الوقت نفسه، تحاول هذه الدول فرض احترام حقوق الملكية الفكرية الخاصة بمنتجات حيوية بالنسبة للدول الفقيرة مثل الأدوية.
-2-
بين الاقتصاد الإسلامي واقتصاد العولمة
في معرض فك الاشتباك بين الإيحاءات التي تفرزها المقارنة الصعبة بين الإسلام (كمنظومة دينية اجتماعية) والعولمة (كمنظومة اقتصادية بالدرجة الأولى)، يفرق أحد الكتاب[6] بين طبيعة الأنظمة الاقتصادية، سواء كانت رأسمالية أم اشتراكية، مقارنة مع النظام الاقتصادي في الإسلام. فالنظام الرأسمالي، يقوم على أربعة دعائم أساسية:
ـ إقراره لمبدأ الملكية الخاصة، لوسائل الإنتاج.
ـ الربح هو الغرض الأساس للإنتاج.
ـ السوق هو الموجِّه الأساس للإنتاج.
ـ يعمل الاقتصاد في إطار مبدأ عدم تدخل الدولة إلا إذا كانت هناك أزمات تستدعي تدخل الدولة تروم من خلاله إقرار التوازن.
أما النظام الاشتراكي، فيقوم على الأسس الآتية:
ـ إقراره لمبدأ الملكية العامة لوسائل الإنتاج.
ـ المصلحة العامة هي الحافز الأساس للإنتاج.
ـ التخطيط هو الموجِّه الأساس للإنتاج.
ـ التدخل التام للدولة.
بالنسبة لنظام «الاقتصاد الإسلامي» فيرتكز على المقومات التالية:
ـ تحريم مسألة الربا في المعاملات التجارية، وتعويضها بمبدأ المشاركة في الربح والخسارة معاً، وتعتبر معاملات البنك الإسلامي الذي يقوم على أساس المبدأ المذكور نموذجاً لنوع المعاملات التجارية الواجب التقيد بها في البلد الإسلامي.
ـ إقراره للملكية الفردية.
ـ تدخل الدولة ضروري لتحقيق التوازن الاجتماعي وإغاثة المحرومين.
ـ الأصل في النشاط الاقتصادي الحرية، ما لم يتعارض هذا النشاط مع قواعد التشريعية الإسلامية.
ـ الاستغلال الأمثل لوسائل الإنتاج من أراضي فلاحية، رؤوس الأموال، وقوى العمل بهدف تحقيق الأمن الاقتصادي بمختلف أشكاله وتحقيق كرامة الإنسان، واستقلالية الدولة الإسلامية بشكل عام.
-3-
عناصر العولمة واستخداماتها
لم تكن العولمة انعكاساً للتطورات الدولية السياسية والاقتصادية الجارية في العالم كما يتصور البعض، بل إن هذه التطورات إنما تشكل مرحلة من مراحل تحقيق هذه السياسة وهذه الاستراتيجية، وغني عن البيان أن المرجعية السياسية والفكرية إنما تم تأسيسها منذ نهاية الستينات من هذا القرن حين ارتكزت هذه الاستراتيجية على الركائز التالية:
1- ركيزة الثروة: المال والسلع.
2- ركيزة التكنولوجيا: الإلكترونيات وترسانة السلاح.
3- ركيزة المنبر العالمي: الأمم المتحدة وسياسة حقوق الإنسان، كما يشير إلى ذلك الدكتور أنصار لطيف نصيف[7] ونرى أنه كان من الأجدر أن يدقق لطيف نصيف في تركيبة هذه الركائز الثلاث، من خلال تصنيفها مثلاً تبعاً للتصنيف التالي:
1- ركيزة المؤسسات المالية.
2- ركيزة المؤسسات العلمية.
3- ركيزة المؤسسات السياسية الدولية.
حيث تشكل هذه الركائز أدوات ووسائل لتنفيذ هذه الاستراتيجية. وقد جرى تنفيذ وتطبيق قياسات القوة بركائزها المشار إليها خارج المحتوى الأخلاقي والإنساني من قبل الولايات المتحدة. بل جرى تنفيذ وممارسة القوة دون الالتفات إلى المصلحة العالمية.
ولأجل مناقشة ركائز «استراتيجية العولمة»، نجد أنها لا تمثل مشروعاً شاملاً لإسعاد الإنسانية وإنقاذها، بل هي مجموعة احترازات لحماية خزينة الأثرياء. وهي أيضا عبارة عن مجموعة الإجراءات التي تُبقي على حصر الثراء في نخبة في بعض دول أوروبا الغربية وبعض دول العالم الثالث. ومجموع هؤلاء توفر لهم العولمة استمرار وتزايد المصالح والأسواق الجديدة وزيادة في النفوذ والتسلط وقوة الشركات المتعددة الجنسية في التفاوض، لتبقى الغالبية العظمى أدنى من مستوى أصحاب المصالح وتحت مطرقة النفوذ الذي تمارسه الدولة الأم، ونفوذ وتسلط الشركات المتعددة الجنسية. ويزكي هذا التقييم ما ذهب إليه يوماً الرئيس الأمريكي الأسبق إيزنهاور، بقوله: إنه «ليس بمقدور أي شعب بعد اليوم التعلق بشيء مميز أو معرفة الأمان في الانفراد الاقتصادي. فرغم كل مقدراتنا المادية نحتاج في العالم إلى أسواق لتصريف الفائض من إنتاجنا الزراعي والصناعي»، وواضح جدًّا عند متأمل هذا الخطاب أن أهداف إيزنهاور لم تكن بالضرورة إنسانية، وإنما انطلق من حاجة أمريكية، وهي قطعاً ليست حاجة كل الأمريكيين بل ما يمثله أصحاب المصالح من رأي وسياسة وهم يمثلون الأقلية.
لا نعتقد البتة أن الأمور تغيرت كثيراً في اللجوء لذرائع حقوقية فجَّة من قبل القوى العظمى، وكل ما تغير، إن صح الحديث عن التغيير، لا يخرج عن دائرة شكل الخطاب المؤدلج لا أقل ولا أكثر. فـ«مهام» القوى العظمى بالأمس، كان يسميها الإنجليز «عبء الرجل الأبيض» في حين يسميها الفرنسيون «رسالتهم الحضارية»، أما الأمريكيون، وبالتحديد في بداية القرن التاسع عشر، فقد كانوا يسمونها «المصير المحتوم»، «مسؤوليات القوة والسلطان».
-4-
العولمة بين الخطاب والممارسة
نختتم أهم الاستشهادات العربية والإسلامية التي تطرقت إلى مفهوم العولمة عبر استحضار بعض القراءات النقدية الهامة التي حررها الباحث العربي يحيى اليحياوي، والذي أصبح اسمه لصيقاً تحديداً بملفات العولمة والإعلام والاتصال[8].
يرى اليحياوي أنه على مستوى الخطاب الاقتصادي، أسس مصطلح العولمة لما اعتيد على تسميته بالعولمة الاقتصادية، في حين أسس بالنسبة لخبراء التكنولوجيا لما سُمِّي بعولمة التكنولوجيا، في الوقت الذي تبناه «أهل الثقافة» فيما أسموه بالعولمة الثقافية، أو رجال الأعمال فيما اصطلحوا على نعته بعولمة المال والأعمال ورأس المال.
أما على مستوى الممارسة، فقد وظف المصطلح لتبرير، وبالتالي تمرير، برامج ومخططات لم ينجح الخطاب السائد إلا جزئيًّا في تبريرها وتمريرها. من هنا فإننا نجد من يفسر طبيعة الأزمة بظاهرة العولمة، وينادي بضرورة مسايرتها، أو على الأقل، التكيف معها. ونجد من يرى فيها إحدى فرص الخلاص نظراً لما توفره من حوافز ولما يمنحه تبنيها من امتيازات. ليخلص إلى أن العولمة هي بكل المقاييس إفراز لمعطيين ما انفكا منذ ثمانينات القرن العشرين يتكرسان ويتقومان:
المعطى الأول، ويتمثل في النمو المتسارع لسوق رأس المال والخدمات المالية غير الخاضع لسلطة ورقابة الدولة. إذ تنتقل مئات مليارات الدولارات عبر التدفقات المالية من مكان لآخر لمجرد تغييرات طفيفة في نسب الفائدة ودونما أن يكون للدولة الوطنية سلطان يذكر على حِلِّها أو ترحالها.
المعطى الثاني، ويتجلى في عولمة رأس المال نفسه، التي سرَّعت بدورها من وتيرة تدويل الاستثمارات والأنظمة الإنتاجية وبالتالي التيارات التجارية بين أقطاب الاقتصاد العالمي، وهو ما أدى إلى عولمة لا المؤسسات فحسب، بل والاستراتيجيات والسياسات والأسواق أيضاً. يعيب المؤلف على الخطاب السائد في العالم الثالث حول العولمة (وخصوصاً الخطاب الأكاديمي منه) عدم تحديده للمفهوم، وتركيزه الجلي على أبعاده وتجلياته، بحيث تأتي الإسقاطات إما مؤدلجة، أو عديمة الموضوعية، أو مجانبة للسياق العام. وهو ما يفرغها، في كل الأحوال، من طابعها العلمي وفرضية تجردها. كما يعيب على الممارسة تبنيها للمصطلح من باب الترويج الديماغوجي المحض وعلى خلفية من «تحيزها» الصارخ، إذ باسمه تفسر الأوضاع، وتحت مسوغاته تبرر السياسات[9].
-5-
أي رسالة أخلاقية للعولمة؟
تحدث الباحثون المسلمون والغربيون عن كل شيء تقريباً يمسّ بشكل أو بآخر مفهوم العولمة، ونرى جازمين أن الإشكال الأخلاقي في المنظومة يبقى أهم النقاط التي لم تحظ بكثير من التأمل والتقييم، وإذا كان الغربيون يقدمون ذرائع مادية تقزِّم من أهمية الشق الأخلاقي، فإننا نرى أن أمة الأخلاق، أو الأمة التي بعث نبيها الكريم (صلى الله عليه وسلم) ليتمم مكارم الأخلاق، تبقى المعنية الأولى بنقد هذا التقزيم، بل والتركيز على البعد الأخلاقي في الأزمات التي أفرزتها العولمة.
هناك شبه إجماع من قبل الباحثين العرب والمسلمين وحتى من قبل بعض الباحثين الشرقيين (من الصين واليابان على وجه الخصوص) على أن خطاب العولمة يبقى فارغاً من أية رسالة إنسانية حضارية إيمانية ويُعبِّر في مناهجه عن غايات مادية، فإن مناهج العولمة تبيح قتل الأمم أو إضعافها، وكلنا نستحضر تبرير مادلين أولبرايت، لسقوط أزيد من نصف مليون طفل عراقي نتيجة الحصار المضروب على العراق، فقط لأن «الثمن يستحق ذلك».
إنها متطلبات «مسؤوليات القوة والسلطات»، التي تقتضي الاقتناع بمقدمات التفوق في القوة وليس بسمو الأهداف الإنسانية ونشر حالة الإيمان والتعاون بين الأمم، كما تحدث عن ذلك يوماً المثالي جون أدامز (عام 1765) حيث اعتبر تأسيس أمريكا «غاية إلهية صممت بقصد تنوير وتحرير جزء من الإنسانية مازال يعيش تحت نير العبودية»[10].
وكما يشير إلى ذلك أسعد السحمراني، تبقى إحدى أخطر تجليات العولمة، كونها معادية للدين وقيمه، وقد استشهد مثلاً بما قُدِّم في مؤتمر السكان بالقاهرة في العام 1994م، ومؤتمر المرأة في بكين في العام 1995م، وما سبق أو تبع ذلك، من دعوات لضرب القيم الإنسانية والروحانية والمعنوية كي تخلو الساحة للقيم المادية وفلسفات الاستهلاك بعيداً من كل ما هو إنساني الطابع، ولا أدل على ذلك من الممارسات الأمريكية الاستعلائية التوجهات، المستقرة خلف قرارات مفبركة للمؤسسات الدولية يخضع تطبيقها لمتطلبات السياسة الأمريكية[11].
فالتكيف الأعمى مع الضرورات، التي تفرزها السوق العالمية، يقود المجتمعات التي تتمتع بالثراء الآن إلى فوضى، وإلى هدم البنى الاجتماعية التي تشكل سلامتها ضرورة حتمية لهذه الدول. ولا طائل من انتظار ما ستقدمه الأسواق، والشركات العابرة للقارات من حلول، لمواجهة القوة التدميرية الآتية من أولئك الذين سيدفعهم التهميش، والخسران إلى التطرف، فلا الأسواق ولا الشركات العابرة للقارات لديها الحلول لمواجهة هذه المخاطر، وقد أحصى ما لا يقل عن سبعة أهداف ثقافية تحاول العولمة تعميمها انطلاقاً من نزعة ليبرالية:
1- تمجيد ثقافة الاستهلاك، حيث وصل الأمر إلى حد التبذير عند أهل الشمال وإلى الحرمان عند أهل الجنوب، وبالنتيجة نصل إلى أن الدول الغنية حققت قدراتها المادية من نهب ثروات الدول الفقيرة.
2- تقديس الفردية، وإطلاق العنان للأنا في سباق محموم شعاره «أنا ومن بعدي الطوفان» (après moi le deluge) فثقافة العولمة تشكل فيها الدولة دور الحارس لمصالح الأفراد، والغلبة فيها للأقوى نفوذاً، ماليًّا أو إعلاميًّا أو سياسيًّا.
3- توليد مناخات للعنف، لأنها تعمل للسيطرة والاختراق، وكل هذا لا يكون بغير القوة، لذلك نجد أن عماد العولمة ثقافة حق القوة، في حين أن الأصل أن تكون القاعدة المعتمدة قوة الحق.
4- ثقافة العولمة مادية الأبعاد لا تقيم وزناً لغير الكم والمقدار ولغة الأرقام، ولا يعنيها إذا كان ذلك على حساب الآخرين أو باستغلالهم وقهرهم، فهي ثقافة مادية لا مكان فيها للإنسانية.
5- لا يوجد في ثقافة العولمة أي اعتبار للقيم الأخلاقية السامية، بل نراها ثقافة وضيعة، وفنًّا هابطاً تنتجه هوليود، ومطاعم الوجبات السريعة، فثقافتهم لا تخاطب النخب الواعية والواعدة لأنهم يخافونها، وإنما يتوجهون إلى الفئات الوضيعة يستثيرون غرائزها ليستقطبوها من خلال التلويح بالمصالح، أو الوعود بالإشباع المادي[12].
6- لا مكان للأسرة المستقرة في ثقافتهم، إنما يوجهون إلى عنصر اللذة في العلاقات بين نوعي بني آدم: الأنثى والذكر، وقد شرعوا الأبواب للإباحية، من احتقار العفة إلى المساكنة بلا زواج، إلى الإجهاض وإلى المثلية في العلاقات الجنسية (same sex marriages)، وعملوا لتعميم نموذجهم في مؤتمر السكان بالقاهرة عام 1994م، ومؤتمر المرأة في بكين عام 1995م[13].
7- لا تحترم ثقافة العولمة الخصائص العقدية والثقافية للشعوب والأمم، فهي بالتالي لا تحترم المجتمع التعددي، ولا التنوع، رغم زعم مؤدلجي العولمة أنهم يعملون على ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، ويسوقون أفكارهم هذه من خلال مقولة: «العالم قرية كونية»، ولكنهم في الوقت عينه يتمسكون بكل خصائصهم ومفاهيمهم.
وأخيراً، وبعد أن استعرضنا بعض الإشارات التعريفية الخاصة بمفهوم العولمة، ولأننا أبناء حقبة زمنية تتميز بنزول الدين الخاتم، يتبين أن مسؤولية المسلمين أكبر في مجابهة إكراهات العولمة من جهة، وفي التصدي على الخصوص للانحرافات الأخلاقية التي أفرزتها على الصعيد العالمي، مادامت تعرف نفسها على أنها عولمة مفروضة على جميع الأعراق والأعراف والديانات.
[1] الأمين العام للمؤتمر الإسلامي الأوروبي، ورئيس الفيدرالية العامة لمسلمي فرنسا، ونائب رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية.
[2] ويلات العولمة على الدين واللغة والثقافة. أسعد السحمراني. دار النفائس. بيروت. الطبعة الأولى. 2002.
[3] جاء ذلك في كتاب قيم للباحث المغربي يحيى اليحياوي تحت عنوان: «في العولمة والتكنولوجيا والثقافة: مدخل إلى تكنولوجيا المعرفة». وصدر عن دار الطليعة. 2002.
[4] اتجاهات العولمة: إشكالات الألفية الجديدة. السيد ولد أباه. المركز الثقافي العربي. بيروت/ الدار البيضاء. 2001.
[5] نهاية التاريخ أم صدام الحضارات. حسين علي. دار النشر «النفائس». بيروت. 2002.
[6] الإسلام والعولمة. عبد السلام أقنين. منشورات عربية. الرباط. 2002.
[7] العالمية الجديدة: المرجعية، الأهداف والوسائل. أنصار لطيف نصيف جاسم. المكتبة الثقافية. بيروت. 2002.
[8] كما تشهد له بذلك عناوين أغلب مؤلفاته التي لا تخرج عن هذه المجالات المعرفية الثلاثة، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: «حركة الليبرالية ومنطق الخوصصة» (1996 بالفرنسية)، «الوطن العربي وتحديات تكنولوجيا الإعلام والاتصال» (1997)، «العولمة ورهانات الإعلام» (1998)، «المحطات الفضائية في العالم العربي/ الإسلامي: تحليل في المضامين الثقافية» (1998)، «العولمة الموعودة» (1999)، «العولمة ومجتمع الإعلام» (2001)، «الإنترنت ومجتمع الإعلام» (2001)، «العولمة والتكنولوجيا والثقافة» (الصادر عن دار النشر «الطليعة». بيروت. 2002).
[9] يراجع على الخصوص كتاب اليحياوي المرجعي والذي يحمل عنوان «العولمة والتكنولوجيا والثقافة». مرجع سابق.
[10] لا يسعنا حصر تناقض أطروحات العولمة مع آراء السياسيين والمفكرين ورجال الاقتصاد في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، ونكتفي في هذا المقام باستحضار ما جاء على لسان ريتشارد نيكسون، رئيس الولايات المتحدة الأسبق في بداية السبعينات، الذي يقر بأن غوص مدن أمريكا الداخلية بالحرية والإدمان على المخدرات واليأس، مقابل مضي الأثرياء كامل حياتهم يجمعون ويزيدون ثروة على ثرواتهم تراهم يجدون أنفسهم ليسوا بالأسعد وجوداً ولا الأغنى.. كل هذه نماذج تقدم برهاناً ساطعاً على أن تحقيق الذاتية لا يتأتى من المادية المطلقة. والحالة هذه، كيف نتحدث عن أبعاد أخلاقية في العولمة الأمريكية؟
[11] ويلات العولمة على الدين واللغة والثقافة. أسعد السحمراني. مرجع سابق.
[12] في إشارة دالة وعميقة للمفكر المصري عبد الوهاب المسيري، ألقاها في ندوة «الحداثة والإبادة» عقدت في عام 2003 بالرباط، أكد أن «الهامبورغر يجسد بحق طعاماً علمانيًّا» والمقصود بالطعام العلماني هنا، هو النموذج الإداركي الذي يرتبط تلقائيًّا برمز «الهامبورغر»، بصفته طعاماً لفرد واحد، ولنمط معين في العيش والملبس والحياة بصفة عامة.
[13] ونضيف معها ما تم التسطير له في مؤتمر نيويورك عام 1999، أو ما وصف بـ«أهداف خطة العمل بأجندة الشباب للسكان والمرأة» في دورة الحكومات بنيويورك، ونورد منها بضع نقاط فاضحة:
* إعطاء الشذوذ صفة شرعية بوصفه حقًّا من حقوق الإنسان وقبول زواج الجنس الواحد.
* مطالبة الحكومات بدعم وسائل منع الحمل للشباب والشابات المراهقين غير المتزوجين والشواذ.
* مطالبة الحكومات بإدخال الصحة الإنجابية في المقررات الدراسية وتدريسها في الفصول اليومية لتكون المرجع الأساسي لدول العالم!!
* مطالبة الحكومات بتوعية الشباب بمعنى الإجهاض الآمن، والمراهقات ذوات الحمل المبكر «غير الشرعي» بمعنى الأمومة الآمنة.
* مطالبة الحكومات برعاية المجهضات دون ضوابط قانونية أو تحفظات أخلاقية.
لمزيد من التفصيل، انظر مبحث د. رشا عمر الدسوقي. مؤامرة صندوق الأمم المتحدة على شباب العالم. المجتمع. الكويت. العدد 23/3/1999.