* مفتتح
لعلنا لا نأتي بجديد، حين نقول: إن الدين الإسلامي هو دين الحرية واحترام العقل ومنجزاته. ووجود وقائع وحقائق في تجربة وحياة المسلمين مضادة أو مناقضة لهذه البديهية، لا يعني خلو الإسلام من تلك القيم والمبادئ التي تُعلي من شأن الحوار والحرية والتسامح، ونبذ التقليد الأعمى بكل صنوفه وأشكاله.
ووجود مسافة بين الإسلام المعياري والإسلام التاريخي، على هذا الصعيد، يحملنا جميعاً مسؤولية العمل على توحيد الواقع مع المثال، وتجاوز كل ما يُشين إلى قيم الحرية والعدالة.
فآيات الذكر الحكيم تصدح بضرورة قول الحق والحقيقة وعدم كتمانهما، والعمل على تنمية المشتركات بين مختلف التعبيرات والأطياف الدينية والإنسانية. إذ يقول تبارك وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[1].
فالدعوة إلى التبيين وقول الحقيقة، هي التي تؤسس لفضاء اجتماعي حر يتعاطى مع كل الأفكار ولا يتوجس خيفة من الآراء، بل يرحب بها ويدافع عن شروطها الاجتماعية والثقافية والسياسية.. ولكيلا تكون الآراء والأفكار بلا أفق، نجد أن القرآن الكريم، يؤكد ضرورة بناء (كلمة سواء) وتوافقات عميقة بين مختلف الأطراف على قاعدة القيم المشتركة والمصالح المتبادلة. إذ يقول عز من قائل {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[2].
فالمطلوب دائماً هو حضور مفردات اللقاء والتوافق، حتى تتعمق أسسهما في الفضاء الاجتماعي والثقافي، وتزول عناصر السلب أو تضبط من خلال الحوار الدائم والمفتوح، والمستند إلى عناصر اللقاء والتوافق.
فالإسلام ومن خلال هذه الآية القرآنية الشريفة، لا يدعو إلى المفاصلة الشعورية والعملية مع المختلف أو المغاير، وإنما إلى الحوار الذي يُعلي من شأن المشتركات والجوامع، ويتطلع إلى صياغة مشروع عمل بين المختلفين في النقاط والمفردات التي تشكِّل محل إجماع وتوافق بين الجميع.
«وهكذا يُعطي الإسلام للحوار خاتمته من دون أن يغلق بابه أو يسيء إلى الآخرين، بل كل ما هناك أنه يحاول أن يؤكد لهم أن إعراضهم لا يغيِّر من الموقف شيئاً لأنه لم ينطلق من خلال قناعات الآخرين وتشجيعهم، بل من داخل القناعة الذاتية المرتكزة على وضوح الرؤية، مما يجعل من استمراره نقطة تحدٍّ حاسمة.
وفي ضوء ما قلناه آنفاً، فليس هذا الطرح في أسلوب الحوار منطلقاً من خصوصية أهل الكتاب بل هو مستمد من المنهج العام للأسلوب الإسلامي، الذي يؤكد على نقاط اللقاء في رحلة الوصول إلى الحقيقة، ولا يؤكد على نقاط الخلاف إلا في نهاية المطاف.
وعلى هذا الأساس فلا بد للدعاة إلى الله في حركتهم نحو الهدف الكبير من الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان وذلك بأن يتلمسوا بأيديهم وأفكارهم المجالات المشتركة في العقيدة والأسلوب والحياة التي تربطك بالآخرين وتربطهم بك، لتقربهم إليك، ولتوحي لهم بأن هناك مرحلة من الطريق يمكن أن تمثل وحدة السبل في المرحلة الأولى أو الثانية، فإن ذلك كفيل بإلغاء الكثير من التعقيدات وتجميد الكثير من الحساسيات، وتقريب كثير من الأفكار. حتى إذا انتهى الأمر إلى نقطة الافتراق كانت الطريق ممهدة أمام الطرفين للوصول إليهما كمقدمة للسير عليها من موقع القناعات المشتركة التي تصنع الأرض المشتركة»[3].
* الحوار وحماية المختلف
فالحوار والتواصل بين المختلفين ليس حالة طارئة، أو تكتيكاً سياسيًّا، وإنما هو من القواعد الثابتة التي يُرسي دعائمها الدين الإسلامي للتعامل بين المختلفين والمتغايرين. فالمسلم لا يتحرك في دعوته في أجواء الإرهاب والقتل والتدمير، بل في أجواء الحوار والموعظة والمجادلة بالتي هي أحسن. وإن الذي يتطلع إلى إنجاز مشروعه الفكري والدعوي بالقتل والتفجيرات والاغتيالات، فإنه يناقض بذلك نصوص الشريعة الإسلامية، ويحارب قيمها ومبادئها، ويدفع الناس بوعي أو دون وعي للانفضاض من حوله. فالإسلام لا يدعو إلى ممارسة القسر والكراهية في الدعوة إليه، بل على العكس من ذلك تماماً؛ إذ يحدد مهمة ووظيفة الرسل الأساسية في التذكير والموعظة إذ يقول تبارك تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[4].
ويقول تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}[5]، ويقول عز من قائل: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[6]. فـ«القوة -مهما كانت درجتها- لن تنسجم مع طبيعة الرسالة الإسلامية، ما دامت القوة تعني محاصرة العقل وفرض الفكرة عليه تحت تأثير الألم أو الخوف، وحتى عندما يحني رأسه أمامها فإنه يتظاهر بالقبول ليخرج من الكابوس، ويبقى بينه وبين الاعتقاد مرتع غزال»[7].
فالعنف ليس وسيلة من وسائل الدعوة، بل هو من وسائل التنفير والتدمير. وأي طرف يتوسل بهذه الوسيلة، فإنه يهدد الاستقرار السياسي والسلم الأهلي. ولو تأملنا في سيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، سنجد أن الدعوة النبوية قامت على المحبة والأخلاق الفاضلة والتحلي بأجمل الصفات نفساً وسلوكاً. فقد جاء في الحديث الشريف: «سيد الأعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك، ومواساة الأخ في الله، وذكر الله تعالى في كل حال».
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «السابقون إلى ظل العرش طوبى لهم. قلنا: يا رسول الله ومن هم؟
قال: الذين يقبلون الحق إذا سمعوه، ويبذلونه إذا سُئلوه، ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم؛ هم السابقون إلى ظل العرش. وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): الرفق رأس الحكمة، اللهم من ولي شيئاً من أمور أمتي فرفق بهم فأرفق به، ومن شق عليهم فأشقق عليه».
فقتل الأبرياء ليس طريقاً إلى سيادة الشريعة، وممارسة الإرهاب بكل صوره ليس سبيلاً لإحقاق الحق وإزهاق الباطل؛ «لذلك فإن الكثير من الأعمال الإجرامية التي تحدث اليوم باسم الإسلام والجهاد، هي في ذاتها وتأثيراتها لا تخدم الإسلام والمسلمين، بل تدخلهم في الكثير من التحديات، وتهدد الكثير من المكاسب على المستويات كافة. فالعنف الديني والإرهاب الذي شاع في العديد من الدول والبلدان، بحاجة إلى مواجهة شاملة، حتى يتم إنهاء الجذور الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي تقف خلف هذه الظاهرة الخطيرة وتغذيها باستمرار.
وفي إطار مواجهة آفة العنف والإرهاب، نحن بحاجة إلى التأكيد على النقاط التالية:
1- ضرورة الوقوف بحزم ضد كل أنواع التحريض التي تمارس ضد المختلف والمغاير. لأن استمرار حالات التحريض، هي التي تخلق البيئة الاجتماعية الحاضنة لممارسات العنف وأعمال الإرهاب. ولا يمكننا أن نواجه هذه الجرثومة إلا بتجريم كل الممارسات والأقوال التحريضية، التي تدق إسفيناً بين مكونات المجتمع والوطن الواحد. ولعلنا لا نجانب الصواب حين نقول: إن الكثير من الأعمال والتصرفات التي يمكن وصفها بأنها من ممارسات وأشكال العنف الديني، هي بشكل أو بآخر من جراء ثقافة التحريض ومقولات التسفيه والتحقير التي تتوجه إلى فئة أو شريحة من المجتمع. إن تجريم كل الممارسات الشائنة، التي تستهدف تحقير بعض الناس سواء لقوميتهم أو مذهبهم أو دينهم، هو الخطوة الأولى في مشروع وأد وإنهاء الجذور الثقافية والاجتماعية لظاهرة العنف والإرهاب وبث الكراهية بين أبناء المجتمع الواحد.
2- إن الاعتراف بالآخر في الدائرة الوطنية أو الإسلامية، لا يُشرِّع إلى التحاجز وخلق الكانتونات والجزر الاجتماعية المنفصلة عن بعضها. وإنما من أجل دمج كل هذه التعبيرات والأطياف في بوتقة واحدة وهي بوتقة الوطن والمواطنة. فنحن مع الاعتراف بكل الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لكل شريحة أو فئة، ولكن هذا الاعتراف لا يعني الانكفاء والانعزال أو القبول بحالة التشظي الاجتماعي، إنما الاعتراف الواعي والحضاري، الذي يقودنا إلى بناء مواطنة متساوية بين جميع الأطراف والتعبيرات. فالاعتراف بالخصوصيات، لا يلغي مفهوم المواطنة، بل يبنيها على أسس منظومة الحقوق والواجبات المتكافئة والمتساوية. فالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة، ومن خلال صحيفة المدينة، أسس إلى هوية جامعة قائمة على مبدأ المواطنة المتساوية.
حيث تضمنت هذه الوثيقة تنسيق العلاقة بين المسلمين واليهود، وبعض من المشركين العرب. فقد كان الانتماء إلى دولة المدينة هو مقياس المواطنة، فالكل (بصرف النظر عن أديانهم) آمنون فيها، والكل مسؤولون عن حمايتها. وبهذا خلق الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة تجربة قامت على مواطنة، متساوية، بين مجموعات بشرية متغايرة في أديانها ومعتقداتها.
من هنا نصل إلى حقيقة أساسية في مشروع مواجهة ظاهرة العنف والإرهاب، وهي أننا كلما تقدمنا خطوات نوعية في مشروع إنجاز المواطنة المتساوية، اقتربنا أكثر من إنهاء الجذور السياسية والفكرية لهذه الظاهرة الخطيرة. لذلك نجد أن المجتمعات التي تعيش وضعاً مستقراً على هذا الصعيد، هي الأقدر على مقاومة هذه الظاهرة وضبطها.
فالمواطنون سواء بصرف النظر عن أيدلوجياتهم وقناعاتهم الفكرية والسياسية. ولا يجوز بأي شكل من الأشكال ممارسة التمييز ضد بعض المواطنين لاعتبارات لا تنسجم وحقائق ومتطلبات المواطنة. وينقل لنا التاريخ الإسلامي الكثير من القصص، التي توضح أهمية المساواة وتكافؤ الفرص. ومن شواهد ذلك: «حدثني هشام بن عمار، أنه سمع مشايخ يذكرون الخليفة عمر بن الخطاب عند مقدمه الجابية من أرض دمشق، مرّ بقوم مجذمين من النصارى، فأمر أن يعطوا من الصدقات، وأن يجري عليهم القوت»[8].
فالاختلاف العقدي لا يعني الحرب الاجتماعية، والتباين في القناعات والمواقف لا يعني ممارسة التهميش والإقصاء. تبقى قاعدة (البر) هي الحاضنة لكل التنوعات والتعدديات. إذ يقول تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}[9]. «إن النص ليس ظاهراً وحسب، بل هو بحر من الدلالات، وهو سيل من الأفكار والتصورات التي تكمن في باطنه، وتتوارى في أخاديد كلماته وحروفه والعلاقة بينهما. ونحن نعلم أن الكتاب الكريم حرّم السب تحريماً مطلقاً، وحرّم التجديف بحقوق وشرف الناس وسمعتهم، مهما كان دينهم، ومهما كانت لغتهم، والسب ظاهرة بارزة في حوار المتخلفين والطغاة والأميين، وهذا يضيف جمالاً آخر إلى جمال الإسلام في معالجة قضايا الخلاف»[10].
فالمواطنة بمؤسساتها وقيمها وروحها، هي القادرة على دمج مختلف التنوعات في بوتقة واحدة، بحيث تتحول التنوعات من مصدر قلق إلى رافد من روافد الإثراء والتمكين.
فالتطرف وتبني خيار العنف لا يخلق مواطنة متساوية، بل يفضي إلى تفكيك أسس الوحدة، ويدخل المجتمع في أتون الصراعات والنزاعات الحادة والدموية. وإننا أحوج ما نكون اليوم، ومن أجل مواجهة خطر الإرهاب والتطرف والعنف، إلى تلك الثقافة التي تولي المواطنة -حقوقاً وواجبات- أهمية خاصة، وتتعامل مع مختلف التعدديات بوصفها حقائق قائمة ينبغي احترامها، وتوفير كل مستلزمات مشاركتها في البناء الاجتماعي والوطني.
3- يسعى البعض وعبر وسائل مختلفة إلى التفتيش عن عقائد وأفكار الآخرين. ويجعل من نفسه (فرداً أو جماعة) المحاسب على الصحة والفساد. فهو الذي يوزع صكوك الغفران والمقبولية، وهو الذي يطلق أحكام الضلال والبعد عن الجادة والطريق المستقيم، أو أحكام الهدى والسير على الجادة. ولا يكتفي بذلك بل يعمل على محاسبة الناس على أفكارهم وانتماءاتهم العقدية والفكرية.
ولا شك أن هذه الممارسات تعطي للبعض سلطة ليست له، وتجعله يمارس واجباً ليس مكلفاً به. وذلك لأن الباري عز وجل هو المعني وحده جل جلاله بمحاسبة الناس على عقائدهم وأفكارهم. إذ يقول تعالى: {وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ، اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[11]. ووجود فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تخوِّل للإنسان مهما علا شأنه أن يتدخل في خصوصيات الناس، ويفتش عن عقائدهم وأفكارهم. فإن للإنسان حرمة وقدسية، لا يجوز التعدي عليها بأي شكل من الأشكال. ولعل من أهم جوانب هذه الحرمة رفض محاولات التفتيش على العقائد والأفكار، والتدخل (إذا جاز التعبير) في مختصات الباري عز وجل.
فالعدل هو المطلوب في العلاقة الاجتماعية والإنسانية، أما مسائل الضمائر والقلوب والعقائد، فالباري عز وجل هو الذي يحكم فيها. ولا يجوز لأي إنسان أن يفتش على عقائد الناس.
يقول تبارك وتعالى: {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ، لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ، لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ}[12].
فالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يجبر أحداً على تغيير عقيدته، وعمل على صيانة حقوق الجميع.
وإذا كان هناك اختلاف وتباين بين المواطنين في عقائدهم وأفكارهم، فالمطلوب أن يحترم كل طرف عقائد وأفكار الطرف الآخر. ولا يجوز بأي شكل من الأشكال الإساءة لعقيدة أو أفكار أي مواطن. وعلى ضوء هذا الاحترام المتبادل، يتم حوار بين مختلفين، وليس هناك حوار بين صاحب الحق والهدى وآخرين يعيشون في ضلالهم وزيغهم. لذلك يقول تبارك وتعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}[13]. فالمساواة في الاختلاف من الضرورات العميقة التي تساهم في نجاح أي مشروع حواري وفي أي دائرة من الدوائر.
فالمطلوب هو أن نتحاور مع بعضنا البعض، على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. ولا توجد سلطة لأحد في تفتيش عقائد البشر واتخاذ الإجراءات اللازمة على ضوء عملية التفتيش. كل المواطنين سواء، في ضرورة صيانة حرمتهم، واحترام عقائدهم وأفكارهم، والسماح لهم بالتعبير عنها في ظل قانون يحمي الجميع ويصون خصوصياتهم.
فالغيرية في العقائد والأفكار، لا تنفي حقوق المواطنة، بل تؤكدها. وليس من شروط المواطنة المطابقة في الأفكار والقناعات.
ومن يبحث عن المطابقة، فإنه لن يجدها. فالمواطنة بقيمها وهياكلها ومؤسساتها، هي الإبداع الإنساني لحفظ الحقوق، وصيانة المكاسب، وإدارة التنوع بعقلية حضارية وإدارة حكيمة. ومبدأ الولاء والبراء، لا يعني ممارسة العدوان والحرب على الآخرين، وإنما وجود موقف نفسي يحول دون تأثير الآخر (المحارب والمعتدي) في أخلاقنا ونسيجنا الاجتماعي.
فـ«الأصل في العلاقات مع الآخر في القرآن هي التواصل الفكري، والاجتماعي، والعائلي، والأخلاقي بدليل جواز مؤاكلتهم، ومخالطتهم، ومشاربتهم، ومصاهرتهم، والتعامل معهم في كل مجالات النشاط الاجتماعي. وهذه المقتربات لا تنسجم مع (التولي والتبري) كما يعرضها البعض في قالب عدواني ابتدائي مسبق. فإن الموالاة المنهي عنها تأتي في نطاق إعلان الكره والحرب من قبل الطرف الآخر، إنها تبدأ من الطرف الآخر، هي جواب على موقف سلبي من الآخر يبدر منه أولاً، وليس مع كل (مخالف)، كما هو مقرر في الفقه الإسلامي، وإن المودة المنهي عنها في الكتاب الكريم هي مودة الذين ينصبون العداء السافر، ويعملون على التعريض بالمؤمنين، ومن ثم هي حالة قلبية أكثر مما تكون حالة عملية، بل هي موقف قلبي صرف عند كثير من الفقهاء<[14].
وعليه فإننا نعترف بالاختلافات بكل مستوياتها، وندعو إلى احترام الخصوصيات، ولكننا نعتقد أن تحويل الاختلافات من مصدر قلق وحذر إلى مصدر للإثراء الثقافي والاجتماعي، بحاجة إلى تكريس قيم المواطنة في الفضاء الاجتماعي. وذلك لأن المواطنة هي الوعاء القانوني والسياسي والدستوري الذي يستوعب كل المبادرات والخطوات، ويعمل على إدماج كل التنوعات في منظومة الحقوق والواجبات المتساوية. فالمواطنة هي الحد الفاصل بين كل الاختلافات والتباينات في الدائرة الاجتماعية والوطنية.
فالاختلاف مهما علا حجمه، لا يبرر الانتقاص من مواطنة الإنسان. والتعدد مهما اتسعت دوائره ومستوياته، يُضبَط بالمواطنة بواجب الوحدة والانسجام وبحق التعبير وتحمل المسؤولية والمشاركة في صناعة الحاضر وصياغة المستقبل. وهكذا يكون الآخر، مشروعاً للتعارف والحوار والتواصل والتعاون والتنمية وتطوير الجوامع المشتركة.
* التعددية المذهبية والواقع الإنساني
في بداية الأمر لعلنا لا نضيف شيئاً إلى علم القارئ والمتتبع حين نقول: إن المجتمعات الإنسانية كلها اليوم، تعيش تعدديات وتنوعات متفاوتة. بحيث لا يخلو مجتمع إنساني من وجود حالة تعدد وتنوع. فهناك مجتمعات تتعدد دينيًّا،حيث يوجد فيها أتباع ديانات مختلفة. وهنالك مجتمعات تشترك في الانتماء الديني إلا أنها تتنوع على الصعيد المذهبي. وهناك مجتمعات تتفق في المذهب إلا أنها تختلف وتتنوع على الصعيد العرقي والقومي. ولو بحثنا اليوم في واقع كل المجتمعات الإنسانية، سنجد أن التعدد بكل مستوياته هو السمة الملازمة لهذه المجتمعات، ولكن الاختلاف الحقيقي على هذا الصعيد بين هذه المجتمعات، يكمن في طبيعة وآلية إدارة هذه التعددية القائمة في المجتمعات.
فهناك مجتمعات تعاملت مع حقيقة تعددها بعقلية حضارية، لذلك صاغت لنفسها أنظمة وقوانين استوعبت هذه الحقيقة، وضمنت لها المشاركة في بناء مجتمعها ووطنها. وهناك مجتمعات أخرى ضاقت ذرعاً بالتعدد الموجود في فضائها، وسعت عبر وسائل مختلفة لدحر هذه الحقيقة بوسائل قسرية - قهرية؛ فأضحت التعددية بكل مستوياتها في المجتمعات الأولى، أي المجتمعات التي تعاملت بعقلية حضارية معها، مصدراً للقوة والثراء المعرفي والمجتمعي. أما المجتمعات التي ضاق صدر بعضها بحقيقة التعددية الموجودة فيها، فإن هذه التعددية تكون عنواناً للخلاف والاختلاف، ورافداً من روافد التشظي والاهتراء الداخلي. ومجتمع المملكة ليس بدعاً من المجتمعات، وإنما هو كغيره من المجتمعات، التي تضم تعدديات مذهبية وتنوعات ثقافية واجتماعية، إلا أن الجامع الديني والوطني هو الذي يحتضن الجميع ويرفدهم بأسباب التلاقي والتفاهم والوحدة.
من هنا فإننا نشعر بأهمية العمل على تعزيز وحدتنا الاجتماعية والوطنية على قاعدة احترام واقع التعددية الموجود في كل مجتمعاتنا وأوطاننا؛ لأن هذا الاحترام بكل مضامينه ومداليله، هو القادر على إفشال كل المخططات التي تستهدف تمزيق الأوطان وإدخالها في نفق الحروب والصراعات والنزاعات على أساس مذهبي - طائفي. فهذه الطريقة والوسيلة هي القادرة على إفشال هذه المخططات والمؤامرات التي تستهدف أمن واستقرار أوطاننا ومجتمعاتنا.
ومن الضروري أن ندرك أن تقسيم أبناء الوطن على أسس مذهبية، لا يضر حاضر الوطن فقط، بل يهدد مستقبله. لذلك فإننا جميعاً ومن مختلف مواقعنا، ينبغي أن نقف ضد كل مظاهر التقسيم الطائفي والمذهبي، وذلك لأن هذا التقسيم لا يضر فقط الطرف الموجه ضده، بل يضر وحدة الوطن والمواطنين، ويزيد من فرص الاحتراب الداخلي.
* التعددية ومفهوم المواطنة
فنقد الطائفية وفضح ورفض كل مظاهرها ووقائعها، هو الخطوة الأولى في مشروع بناء الوحدة الوطنية الصلبة وتطوير مستوى الانسجام والاندماج الاجتماعي.والاجتماع الوطني الصلب، لا يبنى على قاعدة محاربة حقيقة التعدد بكل مستوياتها الموجودة في المجتمع. فكل المجتمعات تحتضن تعدديات، وتُبنى الأوطان دائماً على احترام هذه التعدديات.
والأوطان التي عملت سلطتها السياسية على دحر حقيقة التعدد ومحاربة وقائع التنوع، هي أوطأن هشة لا تستطيع أن تصمد أمام رياح التغيير والتحديات المختلفة. والاتحاد السوفيتي كتجربة مجتمعية، ليس بعيداً عنا، بل هو أحد النماذج الصارخة على أن الأوطان لا تُبنى بمحاربة وقائع التعدد بل باحترامها وتقديرها وتوفير كل مستلزمات فعاليتها الإيجابية.
وتجربة العراق الحديث ليست خافية علينا، فمهما كانت سطوة الحكم وقسوته، إلا أن حالة التعدد في المجتمع العراقي قائمة وراسخة. والمطلوب ليس محاربتها وإنما إدارتها على نحو سليم وحضاري، حتى يتسنى لجميع الأطياف المشاركة الفعالة. فقوة الأوطان في قدرتها على صياغة نظام متسامح وقادر على استيعاب كل التعدديات وفسح المجال لها، بل تشجيعها للمزيد من الاندماج الوطني.
والمواطنة لا تقتضي بأي حال من الأحوال أن تندثر خصوصيات الأفراد، بل إنها تقتضي صياغة منظومة قانونية وسياسية لجميع المواطنين على قاعدة الاعتراف بتلك الخصوصيات، والتعامل الإيجابي والحضاري مع متطلبات التعدد بمختلف أشكاله ومستوياته.
فالتعدد المذهبي ليس حالة مضادة للمواطنة، بل هو الجذر الثقافي والاجتماعي لبناء مواطنة حقيقية بعيداً عن الشعارات الشوفينية واليافطات الشعبوية والعدمية.فاحترام التعدد المذهبي وحمايته القانونية والسياسية، هو الذي يوجد الشروط المجتمعية الحقيقية لبناء مواطنة مندمجة مع بعضها البعض في مجتمع متعدد مذهبيًّا أو قوميًّا أو سياسيًّا. فالتعدد المذهبي في الاجتماع الوطني الحديث، لا يؤسس للانزواء والانكفاء، بل يؤسس للتواصل المستديم بكل صوره على قاعدة المواطنة الجامعة. ولا سبيل لخلق مجتمع وطني متراص ومتماسك ونسيجه الداخلي صلب إلا بحماية هذا التعدد ودفعه صوب المشاركة الإيجابية والاندماج الوطني. الذي لا يعني الإلغاء والنبذ والخصومة، وإنما المشاركة والمسؤولية والبعد عن النزاعات الشوفينية والنرجسية سواء إلى الذات أو إلى الآخر.
* نقد التعصب
والحوار الدائم والمتواصل بين مختلف المكونات والتعبيرات، هو الذي يسمح للجميع بالتجاوز الدائم للمشاكل والأزمات. لهذا كله فإن نقد العصبية والوقوف بحزم ضد كل أشكالها ومستوياتها، هو الذي يؤسس لثراء معرفي ومجتمعي من جراء حقيقة التعدد في الاجتماع الوطني. فالتعددية ليست هي الحالة المضادة للمواطنة، وإنما الحالة المضادة للمواطنة هي التعصب وبناء التكتلات الاجتماعية على قاعدة عصبانية طاردة ونابذة للغير والآخر. فالتعصب الأعمى للذات بكل عناوينها، هو الذي يخلق حالة العداء بين المختلفين.
والنسيج الاجتماعي لأي مجتمع، يصاب بالضعف والاهتراء، حينما تستحكم فيه نزعات العصبية والتعصب. لذلك فإن العدو الحقيقي لاستقرار المجتمعات والأوطان، هو التعصب. لأنه هو الذي يقضم المساحات المشتركة بين المواطنين، وهو الذي يثير النعرات والغرائز. وليست هناك علاقة عميقة وطردية بين التعددية والتعصب. فبإمكان المجتمع المتعدد أن يخلق ثقافة التسامح والحوار والتواصل. كما بإمكانه أن يخلق ثقافة القطيعة والنبذ والإقصاء. وجذر التحول في هذا يعتمد على طريقة التعامل مع واقع التعددية في الاجتماع الوطني. فإذا كان التعامل راقياً وحضاريًّا وبعيداً عن لغة الإلغاء والنبذ. فإن هذا التعامل يؤسس لثقافة التسامح والأخوة والاندماج. أما إذا كان التعامل فوقيًّا وإقصائيًّا وطارداً، فإنه ينم عن عصبية تخلق بدورها عصبية معكوسة. فتكون النتيجة العملية لكل ذلك سيادة العصبية ونزعات التعصب في الفضاء الاجتماعي والثقافي، فتضمحل المساحات المشتركة، وتغيب الحكمة، وتتصاعد نزعات الاتهام والاتهام المضاد. فعدو الوحدة والاندماج، ليس التعدد والتنوع، وإنما هو التعصب الذي لا يرى وقائع الحياة والمجتمعات، وإذا رأى لا يرى إلا بعين واحدة. وهي عين مهما كان اتساعها فإنها قاصرة ولا تستطيع الإلمام بكل الحقائق والوقائع.
ولعل من العناوين المعبرة عن هذه الحقيقة، هو عنوان الكتاب الأخير للدكتور (وجيه كوثراني) وهو (هويات فائضة.. مواطنة منقوصة). وكذلك عنوان كتاب الأديب أمين معلوف (الهويات القاتلة). فحينما يتعصب الإنسان لجماعته المذهبية أو العرقية أو القومية أو ما أشبه ذلك، تعصباً أعمى، فإن هذه الهوية القائمة على العصبية، إما أن تنتقص من مضامين المواطنة وحقوقها، أو تتحول إلى منطلق النبذ والإقصاء الذي قد يصل إلى ذروته القصوى وهو القتل والإعدام.
* الانفتاح وبناء الهوية الوطنية
فالهويات الوطنية لا تتشكل على نحو إيجابي وبعيد عن نزعات الشوفينية والتعصب الأعمى، إلا إذا انفتحت هذه الهويات على حقائق مجتمعها، وتواصلت مع مكونات وطنها الدينية والمذهبية والقومية والإثنية.. بحيث تكون الهوية أو الهويات الوطنية، تعبيراً دقيقاً عن حياة المجتمع الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بكل تنوعها وتعددها. وفي المحصلة النهائية فإن الثقافات الإنسانية في أي بيئة اجتماعية كانت، هي ثقافات متداخلة، ومتشابكة، بحيث إن الأفكار الرئيسية موجودة في كل الثقافات. ونزعات الاصطفاء الثقافي لا توجد إلا في عقول أصحابها. حيث إن جميع الثقافات والهويات متداخلة مع بعضها، ومن الصعوبة بمكان أن تعبر ثقافة أو هوية عن نفسها بعيداً عن روافدها المتعددة القادمة إليها من ثقافات وهويات مجاورة.
وتشير الباحثة (سعيدة لطفيان) إلى أن 95 بالمئة من دول العالم هي دول متعددة القوميات، أي تتألف من أمم متعددة. فإذا أحصينا الإثنيات والأقوام أي الجماعات المتمايزة لغويًّا أو دينيًّا أو مذهبيًّا أو عرقيًّا في العالم لاستنتجنا أن دول العالم تمارس السيادة على خمسة آلاف أمة وشعب.
لهذا فإن نزعات الاصطفاء، هي نزعات ذهنية أكثر منها اجتماعية واقعية. حيث إن الهويات متداخلة والثقافات متشابكة. ولا يمكن بناء الاجتماع الوطني الحديث بلغة الاصطفاء والهويات الخالصة. لأن هذه اللغة لا تبني مجتمعاً وطنيًّا بل تبني كياناً اجتماعيًّا خاصاً ومنعزلاً وغير قادر على استيعاب كل التعبيرات والمكونات. والأوطان دائماً تتسع لكل القوى والتعبيرات، وأية محاولة لحصر الوطن بفئة أو شريحة، فإن هذه المحاولة تضر بالوطن مفهوماً وكياناً أولاً، وتضر بالنسيج الاجتماعي ثانياً.
فالاجتماع الوطني المستقر والحيوي في آن، لا يُبنى على دحر التعدديات أو محاربتها، وإنما ببناء نظام اجتماعي - ثقافي - سياسي، قادر على استيعاب كل حقائق التعددية، ويبلور للجميع خيار المشاركة الذي يزيد من فرص التفاعل والاندماج الوطني. وإننا هنا لا ندعو إلى إيقاظ العصبيات المذهبية أو القومية أو الإثنية، وإنما ندعو إلى التعامل مع الوجودات المذهبية والقومية والإثنية، بعقلية الاستيعاب وبمنهج الجوامع المشتركة، التي تضبط بطبيعة الحال إذا أحسنَّا التعامل معها، كل النزعات التي تضر بمفهوم الوحدة وحقائق الشراكة الوطنية.
[1] القرآن الكريم، سورة المائدة، الآية 15 - 16.
[2] القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية 64.
[3] السيد محمد حسين فضل الله، تفسير من وحي القرآن، المجلد الثاني، ص 46، دار الزهراء، بيروت.
[4] القرآن الكريم، سورة النحل، الآية 125.
[5] القرآن الكريم، سورة الغاشية، الآية 21 - 22.
[6] القرآن الكريم، سورة التوبة، الآية 128.
[7] محسن عطوي، زاد المبلغين، ص 21، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.
[8] فتوح البلدان، ص 131.
[9] القرآن الكريم، سورة الممتحنة، الآية 8.
[10] غالب الشابندر، الآخر في القرآن، ص 115، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، 2005م.
[11] القرآن الكريم، سورة الحج، الآية 68 - 69.
[12] القرآن الكريم، سورة الشورى، الآية 15.
[13] القرآن الكريم، سورة سبأ، الآية 24.
[14] غالب الشابندر، الآخر في القرآن، ص 119، مصدر سابق.