شعار الموقع

في منهجية التوفيق بين التقيد بالثوابت ومقتضيات المواطنة للمسلمين خارج الديار الإسلامية

أ. د. قطب مصطفى سانو 2008-03-21
عدد القراءات « 816 »

 

رؤية منهجيّة

[1]

«.. ينبغي لنا -نحن المسلمين-ألَّا نغفل (عن حقيقة مهمة) وهي أنّه يجب أن يكون للمسلمين -بوصفهم أمة ذات رسالة عالمية- (وجود إسلاميّ) ذو أثر في بلاد الغرب باعتبار أن الغرب هو الذي أصبح يقود العالم، ويوجّه سياسته، واقتصاده، وثقافته. وهذه حقيقة لا نملك أن ننكرها. فلو لم يكن للإسلام وجود هناك لوجب على المسلمين أن يعملوا متضامنين على إنشاء هذا الوجود، ليقوم بالمحافظة على المسلمين الأصليين في ديارهم، ودعم كيانهم المعنوي والروحي، ورعاية من يدخل في الإسلام منهم، وتلقي الوافدين من المسلمين، وإمدادهم بما يلزمهم من حسن التوجيه والتفقيه والتثقيف بالإضافة إلى نشر الدعوة الإسلاميّة بين غير المسلمين..».

فضيلة العلامّة الدكتور يوسف القرضاوي.

* في تقديم الدراسة: أهميتها وضرورتها

إنّ الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الغرّ الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فمن نافلة القول أنّه لا يختلف اثنان من عقلاء الأمّة أنّ الوجود الإسلاميّ خارج الديار الموسومة بالديار الإسلاميّة يشهد يوماً بعد يومٍ تناميًا متزايدًا، كما يشهد ذلك الوجود تحدّيات فكريّة متصاعدة ومتشعبة، بل إن هذا الوجود تموج به نوازل سياسيّة وابتلاءات اجتماعيّة وإملاءات اقتصاديّة متفاقمة، الأمر الذي ينبغي للباحثين الغيارى المخلصين من أبناء الأمة تحويل تلك التحدّيات والنوازل والإملاءات إلى آفاق وفرص يستفاد منها في جعل ذلك الوجود وجودًا مؤثّرًا وفاعلاً وحاضرًا بالقوة والفعل على جميع الأصعدة.

ولئن سعدت الساحة الفكريّة وخاصّة الفقهيّة بظهور اهتمام غير قليل بالفقه الموسوم بفقه الأقليّات، ولئن خصّصت بعض المواقع الإلكترونيّة والقنوات الفضائيّة صفحات وبرامج ولقاءات للحديث عن هموم ذلك الوجود الإسلاميّ وآماله وتطلعاته، فإنّه لقد حان الآوان للتصدّي المنهجيّ العلميّ الشامل لكبرى التحدّيات التي تواجه ذلك الوجود وخاصّة في علاقته بالعالم والواقع الذي يعيش فيه على المستوى السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والثقافي.

إنّنا لنخال وصف ذلك الوجود بالأقليّة أو الأقليّات وصفًا غير دقيق ينبغي مراجعته وتجاوزه في ضوء ما آل إليه واقع ذلك الوجود في تلك الديار، إذ إنّه لم يعد وجود أقليّة لا جمل لها ولا ناقة فيما يجري حوله من أحداث ونوازل وتحدّيات، بل أمسى وجودًا ملموسًا ومحسوسًا ومؤثّرًا في كثير من الأقطار التي يعيشون فيها، فلئن كان أجدادهم الذين هاجروا إلى تلك الديار أقليّة تحت رحمة وشفقة الأغلبية الصارخة، فإنّ أحفاد أولئك الأجداد -الجيل الثالث- تجاوزوا في العصر الراهن عقدة الأقليّة المنبوذة المهملة مقابل الأغلبيّة المتمكنة والمسيّرة، ولم يعودوا مهاجرين -كما كان أجدادهم وآباؤهم- بل إنّهم أمسوا في تلك الديار مواطنين لهم ما لغيرهم من حقوق وواجبات مدنيّة وسياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة.

ومن ثمّ، فليس من سديد الرأي ولا صائب النظر أن تصرّ الدراسات المعاصرة على تصنيف ذلك الوجود تصنيفًا عدديًّا باليًا، وتصنيفًا معبّرًا عن واقع لم يعد -كما قررنا- قائماً في كثير من تلك الديار، بل بدلاً من ذلك، فإنّه ينبغي أن ينصب وصف ذلك الوجود بأنّه وجود إسلاميّ متنامٍ وواعد ومتصاعد في ديار غير إسلاميّة، وليكن الوصف الأنسب لأولئك الموجودين بالمسلمين خارج الديار الإسلاميّة متجاوزين وصفهم بالأقليّة المسلمة تفويتًا على المتربصين من النيل من هذا الوجود استنادًا إلى وصفها بأنّهم أقليّة مقابل أكثريّة.

أجل، لئن أسلفنا بأنّ ثمة تراكمًا للتحدّيات السياسيّة والفكريّة التي تواجه الوجود الإسلاميّ في تلك الديار، فإنّنا نرى أنّ المنهج الأمثل في التعامل مع هذه التحدّيات بصنوفها يكمن في ضرورة التأصيل العلميّ الموضوعيّ الشامل لمنهجيّة التعامل من جهة، ومنهجيّة تحويل التحدّيات إلى آفاق وفرص تستثمر استثمارًا موضوعيًّا رصينًا لصالح ذلك الوجود وتمكينه في الآماد القريبة والبعيدة.

ومن ثمّ، فإنّ هذه الدراسة تأتي اليوم لتقدّم منهجيّة متواضعة لكيفيّة التعامل مع تحدٍّ من التحدّيات الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة الكبرى للوجود الإسلاميّ خارج الديار الإسلاميّة، ويتمثل ذلك التحدّي في كيفية التوفيق بين الالتزام بالثوابت الدينيّة والقيام بمقتضيات المواطنة والإقامة والتجنس في تلك الديار.

وسعيًا إلى صياغة موضوعيّة لتلك المنهجيّة المنشودة للتعامل مع هذا التحدّي، رأينا استهلال دراستنا بتحرير علميّ لمصطلح الديار الموسومة بالديار الإسلاميّة والديار غير الإسلاميّة، ذلك لأنّه من المعروف لدى العالِمين أنّ ثروتنا الفقهيّة المتراكمة لا تسعفنا بتعريف متفق عليه سواء للدار الموسومة بدار الإسلام أم الدار الموصوفة بدار غير الإسلام (= دار الكفر = دار العهد، دار الحرب)، بل يجد الناظر في تلك الثروة انتعاشًا ورواجًا ظاهرًا للتعريفات التي يعارض بعضها بعضاً معارضة تبلغ في بعض الأحيان إلى درجة التناقض والتنافر. وليس بخافٍ أنّ لتلك الاختلافات أثرًا واضحًا في الأحكام التي تُنسج إزاء الديار، ذلك لأنّه من الوارد أن تعدّ دولة ما دار إسلام وفق تعريف من التعريفات، ثم نجد الدولة ذاتها مندرجة تحت دار عهد أو دار كفر حسب تعريف آخر، وهكذا دواليك.

وبناء على هذا، رأينا أنّه من الأحكم منهجيًّا أنّ نستهلّ حديثنا المنهجيّ بوقفة تأصيلية عند الأسس المعرفيّة التي يرتد إليها مختلف تعريفات الديار الإسلاميّة وغير الإسلاميّة في منظورات فقهاء الأحكام السلطانيّة والسياسات الشرعيّة؛ حتى إذا ما حرّرنا أساسًا معرفيًّا صالحًا للاستناد إليه في تصنيف الديار، أتبعنا ذلك بتحرير منهجيّ آخر لموقف الشرع الحنيف من الوجود الإسلاميّ إقامة وتجنُّسًا في الديار الموسومة بالديار غير الإسلاميّة. فإذا حالفنا التوفيق في ذلك التحرير، لذنا بتأصيل منهجيّ لما يصطلح عليه اليوم في الدراسات المعاصرة بالثوابت ومقتضيات المواطنة والإقامة في الديار غير الإسلاميّة محرّرين أسس منهجيّة التوفيق بين الالتزام بالثوابت والقيام بمقتضيات المواطنة والإقامة في تلك الديار، لنصل في نهاية مطاف سعينا المنهجيّ إلى تأصيل لموقف الشرع الحكيم إزاء جملة من نماذج القيام بمقتضيات المواطنة والتجنس في تلك الديار معتصمين في ذلك بالاحتكام إلى الأصول العامّة والقواعد الكليّة، والاستئناس الرشيد بمقاصد الشرع، فضلاً عن الالتفات الأمين إلى مآلات الأفعال. فهلمّ بنا لنوسع هذه الموضوعات جانب الدراسة والتحقيق والتحرير والتأصيل، وذلك في ثلاثة مباحث، يُعنى أولها بتقديم رؤية إبستمولوجيّة لأسس تقسيمات الديار في الدراسات الفقهيّة، وأما المبحث الثاني، فسيلقي ظلالاً من الضوء المنهجيّ على مصطلح الثوابت، وأسس التوفيق بين الالتزام بها والقيام بمقتضيات المواطنة والإقامة والتجنس في الديار غير الإسلاميّة، وسنودع الخاتمة أهم نتائج الدراسة واقتراحاتها.

والله المسؤول أن يوفقنا في تحرير هذا الهمّ التأصيليّ الهامّ، ويجنبنا الخطأ والزلل، إن نريد إلا الإصلاح ما استطعنا، وما توفيقنا إلا بالله العليّ العظيم، عليه توكلنا، وإليه ننيب.

المبحث الأول

في مصطلح الديار الإسلاميّة والديار غير الإسلامية:

رؤية إبستمولوجيّة (=معرفيّة)

إنّ التأمل الرزين في تلك الثروة الفقهيّة المتراكمة المتكاثرة إزاء ما يعرف بالأحكام السلطانيّة أو السياسة الشرعيّة نجد أنّ الساحة الفكريّة السياسيّة الإسلاميّة شهدت في فترة مبكرة من التاريخ تقسيم الفقهاء الدار (=العالم) من حيث الإسلام والكفر إلى دار إسلام، ودار كفر، كما عُني فقهاء آخرون بتقسيم الدار (=العالم) من حيث الإسلام والعهد والحرب إلى دار إسلام، ودار عهد، ودار حرب.

ولئن اتفق أولئك الفقهاء على مبدأ تقسيم الدار حسب التقسيمات المشار إليها، فإنّهم قد اختلفوا فيما بينهم اختلافًا شديدًا حول خصائص كلّ واحدة من هذه الديار، إذ ليس ثمة تعريف متفق عليه لأي من هذه الديار، بل من اليسير أن يعدّ بعضهم داراً ما دار إسلام لاعتبارات معيّنة، ويعدّ آخرون الدار ذاتها دار كفر لافتقارها إلى خصائص معيّنة، كما أنّه من الوارد أن يعتبر بعضهم داراً ما دار عهد، ثم يعدّ طائفة ثالثة منهم تلك الدار دار إسلام، وهكذا دواليك.

فعلى سبيل المثال، من تعريفات دار الإسلام عند بعضهم أنها الدار التي لم تظهر فيها خصلة شرك، فأيّ دار تظهر فيها خصلة شرك، فإنّها تعدّ دار كفر، وليست دار إسلام. وبالنظر في هذا التعريف فإنّه من المتعذر أن تعدّ دار في عصرنا هذا دار إسلام، ذلك لأنّه لا تخلو دار اليوم من ظهور خصلة شرك فيها سواء أكان شركاً أكبر أو شركاً أصغر، بل إنّ التاريخ الإسلاميّ بعرضه وطوله لم يعرف دارًا لم تظهر فيها خصلة شرك، فسائر الديار من لدن المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ظهرت فيها خصلة بل خصال شرك، وتمثّل ذلك في وجود العديد من غير المسلمين من اليهود وسواهم في الديار الإسلاميّة، وقد كان هؤلاء اليهود يمارسون شعائرهم في تلك الديار، وشعائرهم -كما هو معلوم- تنطوي على جملة غير منكورة من الشرك، وعلى رأسها اعتبارهم عزيرًا ابن الله، وكذلك الحال في عقائد النصارى الذين قالوا المسيح: ابن الله، وقال بعضهم المسيح: ثالث ثلاثة، وهكذا.

وبمقابل هذا التعريف الذي يعرّف دار الإسلام تعريفاً مثاليًّا لا وجود له في واقع الأمر، نجد تعريفاً آخر لدار الإسلام، يجعل كثيراً من الديار القائمة اليوم ديار إسلام، إذ إنّ ذلك التعريف يعدّ الدار دار إسلام إذا كان المسلمون يمارسون شعائرهم فيها بحرية وأمان. فأي دار تبيح للمسلمين ممارسة شعائرهم بحرية وأمان، فإنّها تعدّ دار إسلام، وبناء على هذا التصور عن دار الإسلام، فإنّ عدداً غير يسير من الدول الموسومة بالدول الغربيّة يمكن عدّها اليوم ديار إسلام، لأنّ المسلمين في تلك الديار يمارسون شعائرهم فيها بحرية وأمان لا يقلان عن الحرية والأمان اللذين يجدهما المسلمون في الديار الإسلاميّة.

وصفوة القول، أنّ تعذر الاتفاق بينهم على ضبط محكم لحقيقة كل واحدة من هذه الديار، أدّى إلى تنامي الاختلاف وانتشاره بينهم حول تنزيل مفهوم من مفاهيم الديار المتعددة والمتعارضة على دار من الديار في العصر الراهن.

وعلى العموم، إننّا نرى أنّه إذا كان لا بد من تقسيم للديار في العصر الراهن، فليكن الأساس الموضوعيّ المنهجيّ العلميّ المنضبط لذلك هو مبدأ السلم والأمان والحرب، مما يعني أنّه ينبغي تقسيم الديار اليوم إلى دار سلم (=دار إسلام، ودار عهد)، ودار حرب، ومقتضى هذا التقسيم هو ضرورة نفي التقابل المتوارث بين الإسلام بحسبانه دينًا وشريعة وبين الحرب بوصفها موقفًا طارئًا من الآخر، فالإسلام يقابله غير الإسلام، ولا يقابله الحرب أو العهد أو سواهما. وقد دلَّت بعض نصوص الكتاب على هذا البعد في التقسيم في قوله تعالى:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[2].

دلّت هذه الآية على أنّ الاعتداد ينبغي أن يكون ببعد السلم والأمان والحرب، كما دلّت هذه الآية على أنّ ثمة تقاربًا وربما تطابقًا غير مباشر بين أحكام الدار الموسومة بدار السلم، والدار الموسومة بدار العهد، وأما دار الحرب، فقد وصفها الذكر الحكيم بدار قوم عدوّ لكم {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ}.

وعليه، فإنّ التقسيم الأمثل في نظري للديار هو التقسيم الذي يعتدّ بهذا البعد لكونه أوضح الأبعاد، وأكثرها وضوحًا وصراحة، ولكونه بعدًا قابلًا للمقايسة والتقويم والضبط والتحديد، فضلًا عن أنّه بعد لا يولي اهتمامًا كبيرًا بالجانب العقديّ اعتبارًا بأنّ الأديان كلها تدعو أتباعها إلى السلم والأمان والحفاظ على الحياة على درجات متفاوتة ومختلفة. وبناء على هذا التقسيم، فإنّه يمكن الخلوص إلى القول بأنّ أيّ دار ينتعش فيها السلم والأمان ينبغي عدّها دار سلم وأمان سواء أكان أهلها مسلمين أم غير مسلمين، وإذا انتفى السلم واختلّ الأمان في دار ما عدّت تلك الدار دار حرب وفتنة سواء أكان أهلها مسلمين أم غير مسلمين، فإذا كان أهلها مسلمين عدّت دار فتنة، وأما إذا كان أهلها غير مسلمين وكانت ثمة حرب قائمة بينهم وبين ديار السلم عدّت دار حرب.

على أنّه من الحريّ بالتقرير والتوضيح أنّ الاعتداد ببعد الأمان والسلم والحرب لا يعني بأي حالٍ من الأحوال نفيًا لأبعاد أخرى يمكن اعتبارها أسسًا للتقسيم، وعلى رأس تلك الأبعاد البعد العقديّ التصوريّ العلميّ لا البعد العقديّ التشريعيّ العمليّ، ومراد بالبعد العقديّ التصوريّ العلميّ البعد الذي يعتد بمطلق وجود العقيدة دون وجوب تطبيق عمليّ لمقتضياتها، ويسمّى بالجانب المعرفيّ أو النظريّ أو العلميّ، وأما البعد العقديّ التشريعيّ، فإنّه يراد به البعد الذي يجمع بين العقيدة والعمل بمقتضياتها المتمثلة في الالتزام بالأحكام الشرعيّة العمليّة التي تنتظمها العقيدة.

بناء على هذا التصور، من الممكن منهجيًّا تقسيم الديار باعتبار هذا البعد العقديّ التصوريّ العلميّ إلى دار إسلام ودار غير إسلام، ويعني هذا أنّ التقابل الموضوعيّ المعتبر في هذا التقسيم يكون حينئذ بين الإسلام بوصفه عقيدة فقط وغير الإسلام بوصفه عقيدة أو عقائد مغايرة للإسلام، وهذا التصور يتجاوز التقابل التقليديّ بين الإسلام والكفر، كما يتجاوز التقابل الشائع بين الإسلام والحرب أو العهد علمًا بأنّ عدم الإسلام لا يعني بالضرورة عهدًا أو حربًا، فالعهد والحرب والسلم سلوكات لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحقائق الأديان، ولكنها بممارسات أتباع الأديان وتصوراتهم عن تعاليم الأديان ونظراتها إلى المخالفين.

وأيًّا ما كان الأمر، فإنّه حريّ بنا أن نتجاوز -في هذه الدراسة المتواضعة- الغوص في إبستمولوجيا الأسس العقديّة والتشريعيّة والفكريّة التي استند إليها أولئك الفقهاء الذين عُنوا بالحديث عن أحكام السلم والحرب في تقسيمهم الديار إلى تلكم التقسيمات المتكاثرة، ولنعتدّ في هذه الدراسة بالتقسيم الأخير القائم على الالتفاف حول البعد العقديّ التصوريّ العلميّ بحسبانه -كما أسلفنا- بعدًا قائمًا على الاعتداد المكين بالبعد العقائديّ المعرفيّ (=العقديّ غير التشريعيّ) بغض النظر عن ممارسة أو التزام بمقتضيات تلك العقيدة، ولأنّ هذا البعد لا يولي -كما أوضحنا- كبير اهتمام بالجانب التشريعيّ في العقائد والمتمثل في نسبة الكسب الدينيّ ودرجة الالتزام العمليّ بالأحكام العمليّة المنبثقة عن العقائد، فالديار الموسومة اليوم بديار الإسلام -وفق هذا المنظور العقديّ- تشمل كل الديار التي يتخذ غالبية أهلها العقيدة الإسلاميّة دينًا لها بغض النظر عن مدى تطبيقهم العمليّ والتزامهم الفعليّ بأحكام هذا الدين؛ وأما الديار الموسومة بالديار غير الإسلامية، فإنّها تتنظم تلك الديار التي يتخذ غالبية أهلها عقيدة أو عقائد غير إسلاميّة دينًا أو أديانًا لهم وذلك بغض النظر عن التزامهم هم أيضًا بأحكام ذلك الدين.

ومن الحقيق علينا الإشارة إلى أنّ التفريق بين الجانب العقديّ والجانب التشريعيّ في الأديان لا يختصّ به الدين الإسلاميّ دون غيره، إذ من الملاحظ اليوم أنّ الغالبية العظمى من أولئك الذين ينتسبون إلى الديانة المسيحيّة أو اليهوديّة أو البوذيّة أو سواها لا يلتزمون في معظم الأحيان بالجانب التشريعيّ في هذه الأديان، فمن المشاهد أنّ أولئك المنتسبين إلى تلك الأديان لا يعرفون في كثير من الأحيان مواقع الكنائس والمعابد والبيع وسواها، ولا يرجعون إلى هذه الأديان في سلوكاتهم وتصرفاتهم على الرغم من انتسابهم وحرصهم على نسبتهم إلى هذه الأديان. وهذا الأمر ملاحظ أيضًا في واقع كثير من المسلمين في البلقان والجمهوريات الوسطى حيث إنّهم عاشوا ردحًا من الزمن يعانون من نير الشيوعيّة وجحيمها الذي ما كان يترك لهم متنفسًا أو مجالًا للتفكير العاديّ في ممارسة الجانب التشريعيّ من العقيدة الإسلاميّة التي يعتنقونها. ولكن مع هذا، فإنّه ليس من حصيف الرأي، ولا من سديد الفكر تجريد هؤلاء أو أولئك من الأديان التي اختاروها وينسبون أنفسهم إليها اعتبارًا بأنّ الأصل أن يتكامل كل من العقيدة والشريعة والأخلاق، ولكن من الوارد لظروف داخلية أو خارجية أن يختل التكامل بين هذا الثالوث، فتكون ثمة عقيدة غير مترجمة في الشريعة والأخلاق، مما يفتح المجال واسعًا لمعالجة ذلك الخلل وإعادة التوازن والتكامل والتلاحم بينها.

وعلى العموم، إنّنا نرى أنّه من الممكن اليوم تجاوز جزء غير يسير من الاختلافات التقليدية حول تحديد المراد بجميع أنواع الديار، وذلك من خلال تجاوز الاعتداد بالبعد التشريعي التطبيقي، فمن الملاحظ أنّ معظم تلك التعريفات يركّز تركيزًا على نسبة الالتزام بالجانب التشريعيّ العمليّ ودرجة ممارسة ذلك الجانب في تصنيف الديار إلى ديار إسلام وديار غير إسلام. وليس بخافٍ أنّه من الأمر العسير ضبط هذا الجانب ضبطًا علميًّا ملموسًا، كما أنّه من المتعذر الاتفاق على درجة معيّنة يتم اتخاذها معيارًا للحكم على إسلاميّة دار أو عدم إسلاميّتها.

ولهذا، فإنّنا نرى أنّه قد حان الأوان لتجاوز هذا البعد في التعريفات، وليكن الاعتداد كل الاعتداد بأحد البعدين اللذين ذكرناهما آنفًا بحسبانهما بعدين قابلين للتقويم والمقايسة والضبط والتحرير، وخاصّة البعد الأخير المتمثل في البعد العقديّ المعرفيّ العلميّ إيمانًا بأنّ توافر ذلك البعد يمثّل الأرضيّة التي يمكن الانطلاق منها في تحقيق البعد التشريعيّ العمليّ، كما يمثّل ذلك متنفسًا يتحقق من خلاله التنزيل التدرجي التسلسليّ لأحكام الشرع في الواقع العمليّ؛ ويعني هذا أنّه يجب التفريق بين الديار الموسومة بالديار الإسلاميّة والديار غير الإسلاميّة عند الهمّ بترقيع الأحكام العمليّة في واقع المكلّفين، فتطبيق أحكام شرعيّة عمليّة في الديار الموسومة بالديار الإسلاميّة يختلف في كثير من الأحيان عن تنزيل الأحكام ذاتها في الديار غير الإسلاميّة، وذلك من حيث نسبة الاستعداد والتقبّل والتكيّف، والتنفيذ. بل إنّ ثمة تفاوتًا بين درجات التقبل والتكيف للأحكام العمليّة في الديار الإسلاميّة ذاتها، إذ هناك ديار لا تجد حرجًا لما يتوافر عليه أهلها من استعداد لتنزيل الأحكام الشرعيّة عليها، وهنالك ديار أخر تجد شيئًا من الحرج والعنت الشديد في تنزيل الأحكام ذاتها عليها وذلك لما تعانيه من ظروف داخليّة أو خارجيّة.

وإذا كان التفاوت وارداً بين الديار الإسلاميّة ذاتها، فإنّ وجود التفاوت والاختلاف في الديار الموسومة بالديار غير الإسلاميّة أمر آكد وأكثر وضوحًا، ولهذا، فإنّه من الحقيق على أولئك الذين يرومون تفعيل تعاليم الشرع في الديار الإسلاميّة عامّة وفي الديار غير الإسلاميّة خاصّة ضرورة الوعي بهذا التفاوت في درجات التقبل والتكيُّف والتمُّثل.

وتأسيسًا على هذا، فيمكننا الخلوص إلى القول بأنّ للظروف الفكريّة والأوضاع السياسيّة والأحوال الاجتماعيّة والاقتصاديّة تأثيرًا بالغًا غير منكور في تطبيق التزام شموليّ أو جزئيّ بالعديد من الأحكام الشرعيّة الثابتة، كما أنّ للظروف ذاتها وتيك الأوضاع والأحوال تأثيرًا مشهودًا لنسبة التدين المتمثّل في الكسب الدينيّ للأفراد والمجتمعات لحقائق أحكام الشرع وتعليماته العمليّة، وهذه النسبة تشهد ارتفاعًا وانخفاضًا نتيجة ارتفاع وانخفاض الظروف الفكريّة المؤثّرة والأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة السائدة الموجّهة. ولهذا، فإنّه ينبغي أن يكون معلومًا أنّ تمثُّل الأحكام الشرعيّة والالتزام الشموليّ أو الجزئيّ بها تحدّده الظروف الفكريّة والأوضاع السياسيّة والأحوال الاجتماعيّة والاقتصاديّة، الأمر الذي يتطلب فهمًا دقيقًا وفقهًا ناضجًا بطبائع الأحكام الشرعيّة وحقائقها من جهة، كما يتطلب وعيًا رشيدًا وإدراكًا مكينًا بالظروف والأوضاع المؤثرة في مآلات الوقوع الفعليّ لتلك الأحكام في واقع الناس من جهة أخرى.

بهذا، تتضح لنا تلك العلاقة الجدليّة والمنطقيّة بين الالتزام بالجانب التشريعيّ (=الأحكام الشرعيّة العمليّة) في الديار الموسومة بالديار غير الإسلاميّة وأثر الظروف الفكريّة والأوضاع السياسيّة والأحوال الاجتماعيّة والاقتصاديّة في ضبط نسبة ذلك الالتزام والتمثّل والتكيّف.

على أنّه من الجدير تقريره أنّنا تعمدنا في هذا التحرير نسبة الديار إلى الإسلام بدلاً من نسبتها إلى المسلمين، وذلك إيمانًا منّا بأنّ المواطنين المسلمين الذين يقطنون في الديار الموسومة بالديار غير الإسلاميّة لا يختلفون في اختصاصهم بتلك الديار عن غيرهم من غير المسلمين، بل هم شركاء في ذلك الاختصاص والانتماء، والديار لهم جميعًا. ولهذا، فإنّنا نعتقد أنّه ليس من الأمر الدقيق ولا من المنطق الرشيد اعتبار تلك الديار قصرًا وحصرًا على غير المسلمين، والحال أنّ أولئك المسلمين الذين ولدوا ونشؤوا وتربوا في تلك الديار لا يعرفون ديارًا سواها، مما يجعل نسبتهم إلى ديار أجدادهم وآبائهم الأقدمين رفضًا غير مباشر لوجودهم الضروريّ المشروع في تلك الديار.

وفذلكة القول، لا تزال ثمة حاجة إلى مزيد من التحليل العلميّ والتحرير الموضوعيّ المنهجيّ للعديد من الانطباعات والأفكار التي نسجت حول طبيعة الديار الإسلاميّة والديار غير الإسلاميّة، والأحكام التي تختص بها كل واحدة من هذه الديار، وأثر الظروف والأوضاع في تلك الأحكام والممارسات. وبهذا نرى أن ننتقل لتحقيق القول في حكم الشرع الحكيم في الوجود الإسلاميّ في تلك الديار في العصر الراهن، فهلمّ بنا لنتعرف على ذلك الحكم التكليفيّ الناصع القارّ لهذه المسألة الهامّة.

المبحث الثاني

في الوجود الإسلاميّ في الديار غير الإسلاميّة:

في العصر الراهن

ليس من مرية في أنّ الإسلام دين عالميّ لا يختصّ به أهل بلد دون سواه، كما أنّ تشريعاته تتجاوز كل الأزمنة والأمكنة والأحوال مصداقًا لقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[3]، ولقوله جل جلاله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[4]. وثمة آيات كثيرة في الذكر الحكيم تقرّر وتؤكّد هذا البعد في الرسالة الخاتمة، ولا نرى حاجة في سردها في هذا المقام لكونها معلومة للداني والقاصي، ولا يشك فيها عاقل البتة.

ومقتضى عالميّة الرسالة الخاتمة أن يكون لها حضور ووجود في جميع الأرجاء والآفاق، كما أنّ مقتضى كون هذه الرسالة رحمة للعالمين أن تعمّ تلك الرحمة البشريّة جمعاء حيثما حلّوا أو ارتحلوا، فلا يصح حرمان بشر منها، كما لا يصح الحيلولة دون جيل من الأجيال من نيل هذه الرحمة المهداة والنور المبين والصراط المستقيم، بل إنّ مقتضى خاتميّة هذه الرسالة الخالدة ألَّا تبقى أرض حجر أو مدر إلا ويبلغها هذا الدين بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل، ولهذا، فليس من عجب أن تكون الدعوة إلى هذا الدين واجبًا مقدّسًا، ومطلبًا شرعيًّا، يجب على كل فرد مسلم القيام به قدر الاستطاعة، بل ليس من غريب في أن يتفق أهل العلم جميعًا على تأثيم عموم الأمّة إذا لم تقم جماعة معتبرة منهم بواجب الدعوة إلى الله مصداقًا لقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}[5]، ولقوله تعالى: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[6].

أجل، إنّ خاتميّة هذه الرسالة توجب على المسلمين أن يجوبوا البلاد ويركبوا الفيافي من أجل إبلاغ هذا الدين إلى جميع أرجاء المعمورة، كما توجب عليهم أن يعملوا على البلوغ بهذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولا عذر لهم إذا لم يفعلوا ذلك، ولم يضحوا من أجل إيصال هذه الرحمة المهداة إلى جميع الآفاق والأنحاء.

وتأسيسًا على هذا، فإنّ الأمّة اليوم تكون آثمة إذا كانت ثمة بقعة أو بقاع من العالم ليس للمسلمين وجود مؤثّر أو حضور بارز فيها، وتزداد الأمة إثمًا على إثمٍ إذا تركوا الساحة الفكريّة والعلميّة والسياسيّة والاقتصاديّة فارغة خالية لغيرهم من أصحاب الديانات والمعتقدات في تلك الديار الموسومة بالديار غير الإسلاميّة ليملوا على المسلمين في الأرجاء رغباتهم وتوجهاتهم.

ومن ثمّ، فإنّه ليس من سديد الرأي ولا حصيف الفكر، ولا من صائب النظر أن يتساءل سائل بريء عن مدى مشروعيّة إقامة المسلمين في تلك الديار الموسومة بالديار غير الإسلاميّة، بل ليس من المقبول شرعًا وعقلاً أن يشك عاقل أو يرتاب مرتاب في وجوب الوجود الإسلامي في تلك الديار. فإذا كان الوجود الإسلاميّ واجبًا في كثير من أقطار العالم اليوم، فإنّ ذلك الوجود أشد وألحّ في تلك الديار من سواها، ذلك لأنّها أكثر حاجة إلى هذه الرحمة من سواها لما يموج فيها من أحوال وأوضاع وظروف يتحتّم على الغيارى الوجود فيها للأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم، وتعريفهم بهذه النعمة الكبرى التي أنعمها الله على البشر، إنّها نعمة هذه العقيدة السمحاء التي تطمئن بها القلوب، وتهنأ بها النفوس، وتنعم بها البلاد، وتستقر بها الأرجاء.

إنّ الوجود الإسلاميّ في الديار غير الإسلاميّة وخاصّة تلك الديار الموسومة بديار الغرب يعدّ اليوم من أوجب الواجبات، وآكد الفرائض، وأعظم القربات انطلاقًا مما لتلك الديار اليوم من تأثير ونفوذ في صياغة توجهات الأمم، ومستقبل الشعوب، ومواقع المجتمعات في هذا الكون، فهذا العالم -شئنا أو أبينا- أمسى اليوم قائدًا للبشريّة، ومسؤولاً عن رسم سياسات الشعوب، وتوجهات الأمم، الأمر الذي يوجب العيش الدائم والمستقرّ في كنف هذا العالم بغية التأثير فيه تأثيرًا إيجابيًّا يعود على البشرية بالخير والسعادة والفلاح، وقصد توجيه تطلعاته وترشيد آماله إنقاذًا للإنسانية من غلوائه واعتداءاته. فليس من الإسلام في شيء التفكير في هجر هذا العالم، وتركه يمرح ويسرح، ويقرّر ويخطّط لمستقبل الشعوب وطموحاته دون مشاركة فاعلة وحضور مؤثّر لحملة الرحمة المهداة إلى البشرية جمعاء.

وجزى الله العلامّة فضيلة الشيخ الدكتور القرضاوي الذي قرّر هذا الأمر تقريرًا جليًّا عندما قال ما نصّه:

«..ينبغي لنا -نحن المسلمين- ألَّا نغفل (عن حقيقة مهمة) وهي أنّه يجب أن يكون للمسلمين -بوصفهم أمة ذات رسالة عالمية- (وجود إسلاميّ) ذو أثر في بلاد الغرب باعتبار أن الغرب هو الذي أصبح يقود العالم، ويوجّه سياسته، واقتصاده، وثقافته. وهذه حقيقة لا نملك أن ننكرها. فلو لم يكن للإسلام وجود هناك لوجب على المسلمين أن يعملوا متضامنين على إنشاء هذا الوجود، ليقوم بالمحافظة على المسلمين الأصليين في ديارهم، ودعم كيانهم المعنوي والروحي، ورعاية من يدخل في الإسلام منهم، وتلقي الوافدين من المسلمين، وإمدادهم بما يلزمهم من حسن التوجيه والتفقيه والتثقيف بالإضافة إلى نشر الدعوة الإسلاميّة بين غير المسلمين. ولا يجوز أن يترك هذا الغرب القويّ المؤثّر للنفوذ اليهوديّ وحده يستغله ويوجّهه لحساب أهدافه وأطماعه، ويؤثر في سياسيته وثقافته وفلسفاته، ويترك بصماته عليها؛ ونحن المسلمين بمعزل عن هذا كله، قابعون في أوطاننان، تاركين الساحة لغيرنا في حين نؤمن نظريًّا بأنّ رسالتنا للناس جميعًا وللعالمين قاطبة.. ومن هنا لا مجال للسؤال عن جواز إقامة المسلم في بلد غير مسلم، أو في (دار الكفر) كما يسميها الفقهاء، ولو منعنا هذا -كما يتصور بعض العلماء- لأغلقنا باب الدعوة إلى الإسلام وانتشاره في العالم؛ ولانحصر الإسلام من قديم في جزيرة العالم ولم يخرج منها..»[7].

وبطبيعة الحال، إنّنا لا نرى أدنى مشروعيّة فكريّة أو موضوعيّة للتساؤل أو الاختلاف عن مدى مشروعيّة تجنس المسلم أو المسلمة بالجنسيات المتاحة في تلك الديار تمكينًا له أو لها من القيام بواجب الدعوة إلى الله، وتعريف الناس بهذا الدين الحنيف من خلال الدعوة الهادئة الهادفة حالاً ومقالاً، بل إنّنا لا نرى أدنى حاجة إلى البحث عن الأصول الشرعيّة لجواز الإقامة في تلك الديار، ذلك لأنّ أقلّ ما يمكن أن يؤدّى به اليوم واجب القيام بالدعوة في تلك الديار يتمثل في الإقامة في تلك الديار، ولهذا، فإنّ الإقامة في تلك الديار والتجنس بجنسيات أهلها يعدّان من الأمور المشروعة نقلاً وعقلاً، ولا صحة بل لا حاجة إلى تضييع الوقت والجهد والفكر للرد على تلك التفسيرات التطويعيّة لأعناق بعض النصوص التي يوهم ظاهرها تحريم الإقامة في هذه الديار. فالنظر المقاصديّ الموضوعيّ المنهجيّ في ثنايا تلك النصوص الشرعيّة بمقاصدها ومناسباتها يهدي المرء إلى أنّه لا علاقة موضوعيّة ولا منهجيّة بين معانيها ومسألة الإقامة بهذه الديار أو التجنس بجنسيات أهلها، وخاصّة إذا علمنا يقينا أنّ كلا الأمرين -الإقامة والتجنس- أصبحا اليوم من آكد وأهمّ الوسائل التي يجب توظيفها والأخذ بها من أجل نشر الإسلام، والدعوة إلى الله في هذه الديار.

ولئن قرّر أهل العلم بالأصول قديمًا أنّ مقدمة الواجب واجبة، وأن الوسائل المفضية إلى الأحكام لها أحكام تلك الأحكام، فإذا كان الحكم واجبًا، كانت الوسيلة المفضية إليه القيام به واجبة، فإنّه في ضوء هذه القواعد الأصوليّة وفي ضوء ما يموج العالم اليوم من أنظمة وأحوال وأوضاع لا يجد المرء من بدّ سوى تقرير القول بوجوب بذل كل ما يمكن بذله من أجل الإقامة المشروعة في هذه الديار، ومن أجل التجنس بجنسيات أهلها استنادًا إلى كون هذين الأمرين من أهمّ الوسائل التي يتوقف عليهما اليوم القيام المنهجيّ العلميّ المدروس المرسوم بواجب الدعوة إلى الله في تلك الديار. فلقد أثبتت الأيام والتجارب والأحوال والأحداث أنّ الارتجال في منهجيّة الدعوة ونشر الإسلام في تلك الديار لم تعد تجدي نفعًا بل جلبت ولا تزال تجلب على الإسلام وأهله الكثير من المآسي والمشاكل. إذ إنّه في خضم الأحداث والأزمات والنوازل التي اجتاحت وتجتاح تلك الديار يجد غير المتجنسين أو المقيمين بصورة نظامية دائمة أنفسهم خارج تلك الديار، إذ تحمّلهم الجهات الغاضبة والأجهزة المختلفة مسؤولية تلك الأزمات والنوازل، فيتم اتخاذ إجراءات الإبعاد والترحيل في حقّهم، فلو كان أولئك الدعاة متجنسين بجنسيات أهل تلك الديار، فإنّ التعامل معهم لن يكون والحال كذلك بتلك القسوة والإهانة والاحتقار، إذ إنّ لهم بحكم حقّ المواطنة أن يرفعوا أصواتهم ويطالبوا بحقوقهم دون خوف أو وجل.

وعليه، فإنّنا ننتهي إلى تقرير القول بأنّ الأدلة الشرعيّة المتضافرة والداعية إلى نشر الإسلام والدعوة إلى الله تعدّ في حقيقتها أدلة توجب ضرورة تكوين وجود إسلاميّ لائق بخاتمية هذه الرسالة في تلك الديار، كما توجب مقاصد الشرع وخاصة مقصد الحفاظ على الدين على الغيارى اتخاذ كافة الوسائل من إقامة وتجنس وسواهما من أجل تحقيق وجود إسلاميّ دائم حاضر وشاهد في تلك الديار، وفضلاً عن هذا، فإنّ الظروف الفكريّة والأوضاع السياسيّة والأحوال الاجتماعيّة والاقتصاديّة السائدة اليوم في أنحاء العالم تملي على كل أولئك المسلمين ضرورة تحقيق وجود محترم لهم في تلك الديار التي تعدّ مسؤولة عن صنع قرارات العالم، والتأثير في مستقبل الشعوب والأمم، فليس من المقبول في أي منطق أو فكر أو تصور ألَّا يكون للأمة وجود مؤثر في تلك الديار في هذه اللحظة الحضارية المحرجة التي تمر بها الأمّة في العصر الراهن نتيجة عدم تنبه الأجداد إلى ضرورة وأهميّة تكثيف الوجود الإسلاميّ في تلك الديار منذ عقود.

وأيًّا ما كان الأمر، فإنّه لمن غير المقبول نقلاً وعقلاً أن تفتقر اليوم تلك الديار غير الإسلاميّة إلى الوجود الإسلاميّ الرشيد الواعي المدرك المؤثّر، بل من المسؤولية الجسيمة الملقاة اليوم على عاتق الغيارى والقادرين من أبناء الأمة -قادة ورعية- بذل الغالي والرخيص من أجل تكثيف الوجود الإسلامي المؤثّر في تلك الديار، ومن واجب أولئك الذين منّ الله عليهم بالإقامة في تلك الديار أن ينخرطوا في جميع الأنشطة الفكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة تمكينًا للوجود الإسلاميّ من التأثير المرجوّ، والحضور المعتبر لدى صناع قرارات العالم، بل إنّه لمن الواجب المقدّس أن يخالطوا جميع شرائح المجتمع مخالطة موضوعيّة هادفة، وعليهم أن يصبروا على أذاهم، ويتعرفوا على مداخل التأثير في نفوسهم، وطرق كسب قلوبهم وعقولهم بغية تسخيرهم لخدمة قضايا الإسلام والمسلمين في أرجاء المعمورة.

وفضلاً عن هذا، فإنّ على المسلمين في تلك الديار أن يصاهروا غير المسلمين مصاهرات استيراتيجيّة، ويتناسلوا معهم، ويتجاوزوا عقدة الانغلاق والتوجس غير المشروع من الذوبان نتيجة المصاهرة، كما أنّ على المسلمين أن يجاوروهم، ويبتعدوا عن التكتل حول أنفسهم، وعليهم أن يتاجروهم، ويشاركوهم في أفراحهم وأتراحهم، ويواسوهم في مآسيهم ومحازنهم عملاً بسيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) الغرّاء في تعامله الراقي الفذّ مع غير المسلمين في المدينة المنوّرة وما حولها.

وإضافة إلى هذا، لا بدّ من تصحيح ذلك الاعتقاد الشائع والنظرة السلبيّة المتوارثة التي تعدّ تلك الديار ديارًا لغير المسلمين، والحال أنّها ديار للأجيال المسلمة التي ولدت وتربت ونشأت في تلك الديار، حيث إنّها تشبعت من ثقافتها وتقاليدها ونظمها وقوانينها، ولا تعرف شيئًا كثيرًا عن ديار الأجداد والآباء، مما يجعل الإصرار على عدّهم من غير أهل تلك الديار اعتداءً صارخًا على الواقع، واستمراءً لحالة الدوران والانكفاء على الذات.

وزبدة القول، إنّ الوجود الإسلاميّ أمر حتميّ، وضرورة دينيّة، وفريضة شرعيّة مقدّسة، والأمّة الإسلاميّة جمعاء مسؤولة عند الله إذا قصّرت في تحقيق وجود إسلاميّ منشود لائق راقٍ، أو أهملت الارتقاء بالوجود الإسلاميّ المتنامي في بعض تلك الديار نحو مدارج التمكين والتأثير والشهادة إبلاغًا لواجب الدعوة لله وعمارة الكون وإسعاد البشريّة.

المبحث الثالث

في مصطلح الثوابت وأسس منهجيّة التوفيق بين الالتزام
بالثوابت والقيام بمقتضيات المواطنة والإقامة: رؤية تحليليّة

لئن تبدَّت لنا أهميّة التأصيل الشرعيّ المنهجيّ الموضوعيّ العلميّ لمسألة الوجود الإسلاميّ في الديار الموسومة بالديار غير الإسلاميّة (=الغرب وبعض دول الشرق)، ولئن أبرزنا أهميّة وضرورة تجاوز تلك التساؤلات التقليديّة التي تستفتي حول مدى مشروعيّة الإقامة في تلك الديار والتجنس بجنسيات أهلها، بل لئن قرّرنا في خضم ذلك بأنّ الإقامة في تلك الديار والتجنس بجنسيات أهلها تعدّ اليوم من أهمّ الوسائل الشرعيّة التي يجب توظيفها قدر الاستطاعة بغية القيام بواجب الدعوة الصادقة إلى الله في أنحاء تلك الديار، ولئن أشرنا إلى الأهميّة الفكريّة والضرورة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الكامنة وراء الوجود الإسلاميّ في تلك الديار، فإنّنا نرى أن نسلّط ضوءًا تأصيليًّا على أسس منهجيّة الالتزام بالثوابت الشرعيّة مع القيام بمقتضيات المواطنة أو الإقامة في هذه الديار اعتبارًا بأنّه من الوارد في بعض الأحيان أن يكون ثمة تعارض أو تناقض بين الالتزام بالثوابت الدينيّة والقيام بمقتضيات المواطنة والإقامة والتجنس، ومردّ هذا التناقض أو التعارض إلى طبائع القرارات والأنظمة والتشريعات التي تصدرها الجهات المسؤولة عن التشريع وسنّ القوانين في تلك الديار، كما يعزى معظم حالات التناقض إلى سوء فهم كثير من الناس لطبائع الأحكام التي يصح اعتبارها ثوابت، إذ من المعلوم أنّ أحكام الشرع منها ما هي ثوابت، ومنها ما هي متغيرات، ولا يدرك الفروق الثاوية بين هذه الأحكام كثير من العامّة، مما يدفعهم في خضم الحماسات الدينية غير المرشّدة إلى مهاجمة بعض التشريعات والأنظمة والقوانين التي تقتضيها المواطنة والإقامة في تلك الديار.

وسعيًا نحو تأسيس منهجيّة رشيدة للتوفيق بين الالتزام بالثوابت والقيام بمقتضيات المواطنة يحاول هذا المبحث التأصيل لمصطلح الثوابت، وتحرير أسس منهجيّة التوفيق المرجو بين الثوابت ومقتضيات المواطنة، وذلك في فقرتين تاليتين:

الفقرة الأولى: في مصطلح الثوابت: رؤية تحليلية

يعدّ مصطلح الثوابت من المصطلحات الشرعيّة التي تحظى اليوم بحضور مستمر في مناقشات أهل العلم المتعلقة بالوجود الإسلاميّ في الديار غير الإسلاميّة، فكثيرًا ما تعلو الأصوات الداعية إلى ضرورة الحفاظ على الثوابت، وعدم الإفراط أو التفريط فيها اعتبارًا بأنّها تمثّل الهويّة والشخصيّة المعبّرة عن الانتماء إلى الإسلام؛ ومن الملاحظ أنّه في خضم تلك المناقشات والمداولات لا يجد المرء ضبطًا علميًّا محكمًا لهذا المصطلح الذي نخاله حريًّا بالتحقيق والتأصيل والضبط قضاء على السجالات الفكريّة حول بعض المسائل المتعلقة بالمسلمين في تلك الديار.

وبالرجوع إلى المدوّنات الأصوليّة لا يجد المرء حضورًا كبيرًا لهذا المصطلح في أروقة الباحثين الأصوليّين، بل إنّ عامّة أهل العلم بالأصول يعبّرون عن هذا المصطلح بالقواطع والمحكمات من الأحكام[8]، فالثوابت في الحسّ الأصولي يراد بها الأحكام القطعيّة التي لا تقبل تغييرًا أو تبديلاً سواء أكانت أحكامًا عقديّة، أم أحكامًا عمليّة أم أحكامًا تهذيبيّة[9].

وتستمدّ هذه الأحكام القطعيّة من طبائع النصوص الشرعيّة التي وردت فيها، حيث يجب أن تكون تلك النصوص نصوصًا قطعيّة في ثبوتها بحيث يكون ثمة قطع ويقين في صحة نسبتها إلى مصدرها، وقطعيّة في دلالاتها على المعاني المرادة لله منها بحيث لا يجد المرء خلافًا أو اختلافًا بين عاقلين إزاء معانيها لوضوحها وصراحتها وجلائها. وتعدّ النصوص قطعيّة الثبوت إذا كانت قرآنًا، أو سنّة صحيحة متواترة، كما تعدّ النصوص قطعيّة في دلالاتها إذا كانت معانيها واضحة وصريحة لا تقبل مجالاً للتعددية أو الاختلاف. فإذا توافر في النصّ هذان الأمران أنتج حكمًا قطعيًّا، وعرف ذلك الحكم بالثابت أو القاطع أو القطعيّ أو المؤبّد[10].

وأمّا إذا لم تتوافر في النصّ القطعيّة إن في جانب الثبوت أو في جانب الدلالة، فإنّ ذلك النصّ لا يمكن له أن ينتج حكمًا قطعيًّا أو ثابتًا، بل تظل الأحكام المستقاة منه أحكامًا قابلة للتغير والتبدل والتحول والتعديل كلما تغيرت العوامل المؤثّرة في الفهم والتحقيق والتحرير والضبط.

ويصدق هذا الأمر على جملة الأحكام الشرعيّة المستنبطة من النصوص الظنيّة الثبوت والظنيّة الدلالة، ومن النصوص القطعيّة الثبوت الظنيّة الدلالة، ومن النصوص الظنيّة الثبوت القطعية الدلالة؛ فهذه النصوص بأشكالها لا يمكن لها أن تنتج أو تثمر أحكامًا قطعيّة ثابتة، بل إنّها تنتج أحكامًا ظنيّة قابلة للتغير والتبدل والتحول في حالة تغير الموقف العلميّ أو الفكريّ من الجانب الظنيّ من النصّ.

فعلى سبيل المثال، لو أخذنا مسألة اشتراط الولاية في النكاح[11]، لوجدنا أنّ النصوص الواردة في شأنها نصوص ظنيّة في ثبوتها قطعيّة في دلالتها، ولذلك، لا يمكن لتلك النصوص أن تثمر حكمًا ثابتًا في الولاية، مما جعل الفقهاء يختلفون في مدى كونها شرطًا من شرط صحة النكاح، فلو عارض المشرّعون في دار من الديار غير الإسلاميّة مسألة الولاية، وحظروا على المسلمين المواطنين في تلك الدار الاعتداد بهذه المسألة، لا ينبغي لامرئ أن يعتبر صنيع أولئك المشرّعين مصادرة لثابت من ثوابت الدين، ذلك لأنّ هذه المسألة لا تعدّ في عرف الشرع من الثوابت لعدم توافر خصائص الثبات فيها.

ومثل هذا القول يقال في مسألة حدّ الشرب، فإذا نظرنا فيها لوجدنا أنّ النصوص الواردة في شأنها ظنيّة في ثبوتها وقطعية في بعض دلالاتها، مما جعل علماء الأمة يختلفون في مدى كون الواجب في الخمر حدّا أو تعزيرًا، وذلك بعد اتفاقهم جميعًا على تحريمها تحريمًا قطعيًّا إلى يوم القيامة، ولا يتسع المقام لمزيد من الأمثلة الدالة على كون الأحكام المستنبطة من النصوص غير القطعيّة في الثبوت والدلالة أحكامًا غير قطعيّة، بل أحكامًا تقبل التغير والتبدل والتحول والتعديل.

وبناء على هذا، فإنّ التأصيل المنهجيّ الموضوعيّ لمسألة الثوابت ينبغي أن يتأسّس على معرفة أصيلة بطبائع النصوص الشرعيّة التي تستند إليها تلك الأحكام الموسومة بالثوابت أو المتغيرات، فإذا لم يدرك المرء طبائع النصوص من حيث القطعيّة والظنيّة، فإنّه لن يتمكن المرء بأيّ حال من الأحوال من معرفة الثوابت من المتغيرات، ولا من معرفة المتغيرات من الثوابت، بل ربما دفعه الحماس والتحمس في بعض الأحيان إلى عدّ كل الأحكام الشرعيّة ثوابت مادامت قد وردت في شأنها نصوص بغض النظر عن طبائع تلك النصوص، ولا يخفى ما في هذا من شطط وحيدة وخروج على الجادّة.

بل ربما دفع الجهل بطبائع النصوص الشرعيّة بعض المتطفلين على المعرفة الأصوليّة إلى عدّ كل الأحكام الشرعيّة متغيرات تعميمًا لفكرة التغير والتبدل والتحول التي تغشى بعضًا من الأحكام الشرعيّة نتيجة طبائع النصوص التي وردت فيها تلك الأحكام، ولا تخفى تلك الخطورة الكامنة في تفكير كهذا إذ إنّه من شأنه تمييع شريعة الله، وإخضاعها للأهواء والأذواق والأطماع والرغبات المتقلبة والمتناقضة والمتعارضة[12].

جَيْرِ (=نعم)، إنّ مسألة الثوابت تعدّ في حقيقتها من أهمّ مسائل النظر الأصوليّ، وقد نالت اهتمامًا أصوليًّا بارزًا تمثّل في تطوير العديد من المباحث والموضوعات الأصوليّة التي ترتد إلى هذه المسألة، أعني أن مباحث الألفاظ والدلالات وطرق الاستنباط برمتها هدفت إلى التأصيل لهذه المسألة تأصيلاً منهجيًّا مترابطًا، ولذلك، فإنّ معرفة هذه المسألة والإلمام بقضاياها تتطلب إلمامًا غير مغشوش بأبجديات الفكر الأصوليّ، فمن لم يكن زاده في هذا الفكر رصينًا، فإنّه حريّ به أن ينأى بنفسه من الخوض في لجاج حول الثوابت والمتغيرات، بل من كان زاده زادًا صحفيًّا، فإنّه قمن به أن يبتعد عن إصدار الأحكام والآراء في مسألة الثوابت في تلك الديار. فشرعنا يؤدّبنا ألَّا نقول ما لا نعلم، كما يأمرنا أن نقرن أقوالنا بالأدلة الدامغة التي تبين للعامة والخاصّة مصادرها ومنابعها.

وانطلاقاً من هذا، فإنّنا نعود لنقرّر أنّ الثوابت في الهمّ الأصوليّ عبارة عن مجموع الأحكام العقديّة والعمليّة والتهذيبيّة التي وردت في شأنها نصوصٌ قطعيّة في ثبوتها وفي دلالاتها، وتتميّز هذه الأحكام بكونها أحكامًا عامّة واضحةً تخاطب في ألفاظها ومعانيها النوع البشريّ[13] والإنسان المسلم بغضّ النظر عن موقعه الجغرافي، ومركزه الاجتماعيّ أو السياسيّ، وانتمائه العرقي أو الوطنيّ، كما تختصّ هذه الأحكام بكونها أحكامًا فوق كلّ الأزمنة والأمكنة والأحوال والأوضاع، إذ لا يمكن لزمانٍ أو مكانٍ أو وضعٍ أو حالٍ أن يؤثّر فيها إن بتغيير أو بتبديل أو بتعديل لكونها أحكامًا فوق التاريخ، والظروف والأحوال والأوضاع، وفضلاً عن هذا، فإنّ هذه الأحكام تتميّز بكونها أحكامًا مرنةً قابلة للتطبيق والتمثّل الشموليّ أو التدريجيّ لمعانيها ومراميها في كلّ العصور والدهور. وجماع الأمر، تعرف هذه الأحكام بالمحكمات التي وصفها الباري -جلّ في علاه- بأنّها أم الكتاب، وذلك في قوله: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}[14].

ولئن جاز لنا أن نمثّل لهذه الثوابت على المستوى العقديّ، فنقول إنّها تنتظم أصول العقيدة التي وردت في شأنها نصوص قطعيّة في الثبوت والدلالة، وعلى رأسها توحيد الله، والإيمان بأركانه الستة المعروفة (=الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره) مصداقًا لقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}[15]. ولا تعدّ المسائل المتعلقة بأصول العقيدة ثوابت، أعني أنّ جميع المسائل الموسومة بمسائل الكلام بدءًا بمسألة هل القرآن كلام الله أم مخلوق، ومسألة هل الله في السماء أم في كل مكان، ومسألة إمكانيّة رؤية الله يوم القيامة وعدم إمكانيّة رؤيته، ومسألة الأسماء والصفات إلخ.. فهذه المسائل ومثيلاتها لا تعدّ ثوابت قواطع، ذلك لأنّ النصوص الواردة في شأنها لا تتوافر فيها القطعيّة في الثبوت والدلالة، إذ لا تخلو أن تكون ظنيّة في كلا الجانبين، أو ظنيّة في جانب دون آخر، وفي كل الأحوال يعدّ وجود الظنيّة فيها دليلاً على عدم كونها من الثوابت التي لا يصحّ الاختلاف فيها.

وأما على المستوى الفقهيّ، فإنّ الثوابت من الأحكام تشمل جميع الأحكام الشرعيّة التي وردت في شأنها نصوص قطعيّة في الثبوت والدلالة، وتنتظم الأركان العمليّة للإسلام كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحجّ، كما تشمل الثوابت على المستوى الفقهيّ كل الأحكام الشرعيّة العمليّة القصاص، وبعض الأعداد كعدد ركعات الصلوات، ومعظم الحدود (=كالزنا والقذف، والسرقة إلخ..)، وبعض المقادير الشرعيّة وسواها.

وأما الثوابت من الأحكام الشرعيّة على المستوى التهذيبي (=الخلقي)، فإنّها هي الأخرى تشمل سائر الأخلاق والفضائل التي وردت في شأنها نصوص قطعيّة ثبوتًا ودلالة، وتنتظم فيما تنتظم أصول الأخلاق الفاضلة المتثملة في الصدق، والأمانة، والإخلاص، والتواضع، والوفاء، والاستقامة، والطهارة إلخ.. وسواها من الأخلاق الحميدة الخالدة التي تكفل القرآن الكريم والسنن النبويّة المتواترة بالتنصيص عليها، والأمر بالعمل بها، كما يندرج تحت الثوابت من الأحكام الشرعيّة على المستوى التهذيبي تلك الأخلاق الرذيلة التي أمر الشرع الكريم بالاجتناب والابتعاد عنها في كل الأحوال وفي كل الأعصار والأمصار لبشاعتها، وقذارتها، وكونها شؤمًا على المتورطين فيها، وتشمل الكذب، والنفاق، والنميمة، والغيبة، والحسد، والكبرياء، والتجسس، والتحسس، والتنابز بالألقاب، وسواها من الأمراض الموسومة بأمراض القلوب، وقد نبّه القرآن الكريم على كل واحد من هذه الأمراض، وحذّر منها المؤمنين المتقين.

وهكذا تتضح لنا حقيقة الأحكام الشرعيّة التي يصح اعتبارها ثوابت وقواطع على المستويات الثلاثة -العقديّ والفقهيّ والتهذيبي- ومن الملاحظ الجليّ أنّ هذه الأحكام يجمعها اتحاد في طبائع النصوص الواردة في شأنها من حيث كونها نصوصًا قطعيّة في ثبوتها لا يشكّ مسلم في صحة نسبتها إلى الشارع الحكيم، وقطعيّة في دلالتها لا يختلف اثنان في كون المعاني المرادة منها واحدًا لا يقبل التعدد أو التنوع أو الاختلاف.

على أنّه من الحريّ بالتقرير أنّ كون هذه الأحكام ومثيلاتها ثوابت لا يعني بأي حال من الأحوال أنها متروكة لكلّ من هبّ ودبّ ليعبث بها، ويطبّقها بالطريقة التي تحلو له، بل لقد تكفل الشرع الكريم بضبط طرق تنزيل كل واحدة من هذه الأحكام، كما تكفَّل ببيان الجهات المسؤولة عن تطبيق بعضها كما هو الحال في إقامة القصاص والحدود، وعقد الأمان العامّ، وسوى ذلك، مما يعني أنّ الالتزام والصدور عن هذه الأحكام ليس اعتباطيًّا بل ثمّة نصوص مفسّرة وموضّحة لكثير منها، مما يزيدها ثباتًا واستقرارًا وتمكينًا.

وعليه، فإنّ ثمة فرقًا بين أن تكون الأحكام ثوابت وبين الالتزام بهذه الأحكام والعمل بها بالوجه الذي يرضي المولى جلّ جلاله. وهذا يقودنا إلى تقرير القول بأنّه من واجب الأفراد والجماعات معرفة هذه الأحكام معرفة دقيقة واضحة واعية، كما أنّه من واجبهم التعرف على كيفيّة تمثلها والصدور عنها في واقعاتهم المختلفة والمتعددة.

ومن ثمّ، فإنّنا نهرع إلى تقرير القول بأنّ هذه الثوابت -على الرغم من وضوحها وجلائها وصراحتها وسدادها- غير أنّه عند الهمّ بترقيعها وتوقيعها على الواقعات المختلفة تحتاج إلى نظرة اجتهاديّة رشيدة تجمع بين فهم دقيق لهذه الثوابت، وفهم الواقع الذي يراد تنزيلها فيه، وفهم المآلات التي يمكن أن تنتج عن تنزيلها في واقع من الواقعات بعينها، وقد عبّر الإمام القيّم ابن القيّم ذات يوم في كتابه إعلام الموقعين عن أهميّة فهم الواجب في الواقع، فقال ما نصّه:

«.. ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحقّ إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبّق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا.. فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان (عليه السلام) بقوله: ائتوني بالسكين حتى أشقّ الولد بينكما إلى معرفة الأم؛ وكما توصّل أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب لما أنكرته لتخرجنّ الكتاب أو لنجرّدنك، إلى أن استخرج الكتاب منها.. ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا، أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله..»[16].

بناء على أهميّة هذا البعد وضرورته، قسّم الإمام الشاطبي الاجتهاد إلى ضربين: أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة، والثاني: يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا. فأما الأول، فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهو ما يصطلح عليه بالاجتهاد التنزيلي أو الاجتهاد التطبيقيّ، ويراد به أن يثبت الحكم بمدركه الشرعيّ، فيبقى النظر في تعيين محلّه[17].

الفقرة الثانية: في أسس منهجيّة التوفيق بين الثوابت والالتزام بمقتضيات المواطنة

اعتبارًا بما سبق، فإنّ منهجيّة التوفيق بين الالتزام بالثوابت الشرعيّة والقيام بمقتضيات المواطنة والإقامة في الديار غير الإسلاميّة منهجيّة فكريّة موضوعيّة تروم الحفاظ على الثوابت اليقينيّة من جهة، كما تهدف في الوقت نفسه إلى احترام سائر الأنظمة والتشريعات والقوانين التي تحكم وتنظم حياة المواطنين والمقيمين في تلك الديار، وذلك في إطار من الثقة المتبادلة والتعايش المحترم بين المسلمين وغيرهم في تلك الديار التي يستوون في مسؤولية حمايتها، وتطويرها، وتقدمها، وصونها من الاضطرابات والقلاقل والأزمات والنوازل.

إنّ هذه المنهجيّة تعدّ الوجود الإسلاميّ في تلك الديار وجودًا طبيعيًّا وضروريًّا وجزءًا لا يتجزأ من وجود غيرهم، وتنظر هذه المنهجيّة إلى الوجود الإسلاميّ في تلك الديار بحسبانه وجودًا لا يختلف بأي حال من الأحوال عن أيّ وجود لسواه من أتباع الديانات والشرائع المختلفة القاطنين في تلك الديار، وفضلاً عن هذا، فإنّ هذه المنهجيّة تقرّر أنّ المسلمين وسواهم يتساوون في الانتماء إلى هذه الديار، فهي ديارهم كديار غيرهم، ولا ينبغي وصفهم أو اعتبارهم -وخاصّة الأجيال المولودة فيها- وافدين أو أجانب أو مهاجرين. ولهذا، فإنّ من واجب المسلمين في تلك الديار أن يعملوا جاهدين على إيجاد انسجام ووئام بين ثوابتهم الدينيّة وواجباتهم الوطنيّة والمدنيّة بطرق من التفاعل الإيجابيّ والتكامل الرشيد بين الثوابت والأنظمة والتشريعات.

وزبدة القول، تتمحور منهجيّة التوفيق حول بلورة منهجيّة فهم رشيد وفقه عميق جامع بين معرفة دقيقة بطبائع الأحكام من جهة، ومعرفة موازية بطبائع التشريعات والأنظمة والقوانين من جهة أخرى وصولاً إلى إيجاد ربط مكين بين المعرفتين بغية تحقيق تعايش سلميّ سديد بين المعتقد وما يجري عليه الواقع المعاش.

وبناء على هذا، فإنّنا نرى أنّ تحقيق هذه المنهجيّة الهادفة إلى خلق وئام وانسجام بين الثوابت ومقتضيات المواطنة في الديار غير الإسلاميّة ينبغي أن تستند وتنبثق عن ثلاثة أسس رئيسة، وهي:

الأساس الأول: المعرفة الدقيقة بالثوابت وعدم الخلط بينها وبين المتغيرات

لئن سلّطنا شيئًا من الضوء المنهجيّ على مصطلح الثوابت، فإنّنا نرى أنّ أيّ سعي للتوفيق بين الالتزام بالثوابت والقيام بمقتضيات المواطنة يجب أن ينبثق ذلك عن معرفة دقيقة بالثوابت تمييزًا لها من المتغيرات، ذلك لأنّه إذا وقع تعارض بين المتغيرات والأنظمة والتشريعات لم يكن ثمة صعوبة في تجاوز تلك المتغيرات والبحث عن بدائل لها خلافًا للثوابت التي لا يمكن التنازل ولا التغاضي عنها في حالة وقوع تعارض بينها وبين الأنظمة والتشريعات. وبتعبير آخر إنّه ليس ثمّت محظور في أن يتجاوز أو يتنازل المسلمون في تلك الديار عن العديد من بعض الأحكام الموسومة بالأحكام الاجتهاديّة إذا كانت الظروف والأحوال والأوضاع لا تسمح بالامتثال بتلك الاجتهادات انطلاقًا من القاعدة الشرعيّة الثابتة التي تقرّر بأنّه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعادات والتقاليد والأعراف.

إنّ الأحكام الاجتهاديّة تعدّ في واقع الأمر متغيرات قابلة للتطوير والتعديل، كما أنّها تعدّ أحكامًا نابعة وناشئة من رحم الظروف الفكريّة والأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، فإذا داهم تغيير تلك الظروف والأحوال والأوضاع يجب أن يتبع ذلك تغيير في تلك الأحكام. وأما الثوابت، فإنّها لا تخضع لتغييرات الظروف والأحوال والأوضاع، لأنّها فوق الأزمنة والأمكنة والظروف والأحوال والأوضاع.

ومن هنا، فإنّ أيّة محاولة توفيقيّة بين الالتزام بالثوابت ومقتضيات المواطنة ينبغي أن تتأسّس بصورة كليّة على التأكد من مدى انطباق خصائص الأحكام الثابتة على تلك الأحكام المراد تمثلها والصدور عنها في تلك الديار، ويتحقق هذا التأكد من خلال التعرف على طبائع تلك النصوص الشرعيّة التي استنبطت منها تلك الأحكام، فإذا ألفيناها نصوصًا ظنيّة في أي جانب من جوانبها، لم يكن ثمة حاجة إلى البحث عن توفيق بينها وبين مقتضيات المواطنة، بل كان اللوَّاذ بنسج اجتهادات نابعة من الظروف المستجدة والأحوال القائمة والأوضاع السائدة تجاوزًا إيجاد أزمة بين الاجتهادات والتشريعات والأنظمة والقوانين التي تقتضيها المواطنة والإقامة في تلك الديار.

وبطبيعة الحال، إذا ألفينا أنّ تلك الأحكام المراد تطبيقها وتنزيلها تعدّ من جنس الثوابت لكون نصوصها قطعيّة في ثبوتها ودلالتها، وجب -والحال حينئذ- البحث الحثيث الجادّ عن سبل توفيق أمين بين هذه الثوابت والأنظمة والتشريعات، وذلك بطرق من المخارج الشرعيّة قائمة على استصحاب رشيد لجملة حسنة من أحكام الضرورات والحاجات العامّة التي تنزّل منزلة الضرورة.

إنّ الوعي على هذا الأساس يشكّل نقطة انطلاق في صياغة منهجيّة للتوفيق بين الالتزام بالثوابت والقيام بمقتضيات المواطنة في حالة وقوع تعارض أو تناقض بينهما.

الأساس الثاني: معرفة مراتب الثوابت ومواقعها في منظومة الجهة المسؤولة عن تطبيقها وتنزيلها:

إذا كانت معرفة موقع الأحكام في ثنائية الثبات والتغير أمرًا ضروريًّا لمنهجيّة التوفيق بين الثوابت والأنظمة والتشريعات، فإنّ ثمة معرفة لصيقة بتلك المعرفة لا بدّ منها لتحقيق توفيق منشود بين الثوابت والتشريعات المتعارضة في تلك الديار، وتتمثل تلك المعرفة في معرفة مراتب الثوابت من حيث كونها ثوابت يؤدّي التنازل عنها إلى الخروج من الملّة، ومن حيث كونها ثوابت يؤدّي التنازل عنها إلى الإساءة إلى الأصول الكبرى، وأهميّة هذه المعرفة تكمن في كونها معرفة تقوم على استحضار قاعدة «يختار أخف الضررين»، وقاعدة «إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما بارتكاب أخفّهما»، وقاعدة «يختار أهون الشرّين،» وسواها من القواعد الموجّهة للظروف الاستثنائيّة.

وأما معرفة مواقع الثوابت في منظومة الجهة المسؤولة عن تنزيلها وتطبيقها في تلك الديار، فإنّ لذلك أهميّة قصوى، لأنّها تحمي الوجود الإسلاميّ من التخبط والإساءة إلى صورة الإسلام الناصعة بسبب ارتكاب أفعال مشينة وممارسات مخالفة لمنهجيّة الإسلام في توزيع المسؤوليات والمهام[18].

إذا كان من المتفق عليه أنّ مسؤوليات تطبيق الأحكام موزعة بين الحكّام والرعيّة، فإنّ المقصد الأجلّ من ذلك حماية المجتمع من التناحر والتخاصم إذ إنّ شيوعيّة المسؤوليّة من شأنها إيجاد القلاقل والفتن والأزمات بين الأفراد، إذ من الممكن أن يدّعي كل امرؤ أنّه هو الأحقّ والأولى بالعمل بالحكم الفلاني دون سواه، كما أنّه من الممكن أن يعتدّ كل امرئ بفهمه وتطبيقه، ويعدّه الفهم الأسلم والأوجه، بل إنّه في حالة غياب الالتزام بالأحكام لا تكون هنالك جهة تعتبر مسؤولة عن الإخفاق.

ومن ثمّ، فإنّ الأحكام سواء أكانت ثوابت أم متغيرات لا تتساوى في الجهة المسؤولة عن تنزيلها في الواقع وتمثلها في أرض الواقع، فثمة ثوابت تعدّ الدولة ممثّلة في أولياء الأمر مسؤولة عن تطبيقها وتنزيلها، ولنصطلح على تلك الثوابت بالثوابت السلطانيّة، وهنالك ثوابت يعدّ الأفراد مسؤولين عن تطبيقها، ولنصطلح عليها بالثوابت الفرديّة.

إنّ معرفة هذا الأساس من شأنها إبعاد الوجود الإسلاميّ من الخلط العشوائي بين ثوابت ليس في مقدور أحد تنزيلها في واقع الناس في المرحلة الراهنة، وثوابت يعدّ كل فردٍ مسؤولاً عن تنزيلها وتطبيقها في واقعه قدر الاستطاعة. كما أنّ المعرفة بهذا الأساس، من شأنها تقرير القول بأنّ الثوابت من حيث علاقتها بالحاكم والمحكوم لا تخلو أن تكون ثوابت سلطانيّة لا يعدّ الأفراد والجماعات والتنظيمات مسؤولين عن تطبيقها وتمثلها، أو تكون ثوابت فرديّة، فإذا كانت فرديّة كان اللواذ بما سبقت الإشارة إليه، وأما إذا كانت سلطانيّة، فإنّه ليس من اختصاص الأفراد التدخل في تلك الثوابت في تلك الديار، بل لا بدّ لهم من ترك أمرها للجهات المسؤولة عنها.

فعلى سبيل المثال، يعدّ الجهاد المسلّح للدفاع عن الأحكام الثابتة في الشرع، غير أنّّ الجهة المسؤولة عن الدعوة إلى هذا الجهاد هي الدولة ممثّلة في ولي الأمر، فليس من الإسلام في شيء أن يدعو أفراد أو جماعات أو تنظيمات إلى هذا الجهاد، ذلك لأنّ الشرع لم يأمر الأفراد بالقيام بهذا الحكم، وإنّما جعله من اختصاصات ولي الأمر ومسؤوليته أمام الله يوم القيامة.

وبناءً على هذا، فليس من حق الأفراد في الديار الإسلاميّة أن يدعوا المجتمعات إلى هذا الجهاد بشكل عامّ، وليس من مسؤولية المسلمين الذين يعيشون في تلك الديار أن يدعوا إلى الجهاد المسلّح بشكل خاصّ، فهذه الشعيرة لا يتصدّى لها ولا يطبّقها الأفراد والجماعات والتنظيمات، وإنّما تعدّ من مسؤولية الدول وأولياء الأمر، وإذ لا وجود لتلك الدول وأولياء الأمر في تلك الديار، فإنّ القيام بهذا الواجب المقدّس يسقط عنهم لفوات محلّ تطبيق الحكم الشرعيّ.

ويندرج تحت هذا الأمر أحكام متعددة لا بدّ من تنبيه المسلمين في تلك الديار على أهميّة إدراكها وضرورة الابتعاد عن التصدّي لها بدعوة الالتزام بالثوابت، فعلى سبيل المثال، تعدّ إقامة القصاص حكمًا ثابتًا ورد في شأنه نصوص قطعيّة ثبوتًا ودلالةً، فإذا همّ امرؤ على الالتزام بهذا الحكم الثابت في الديار غير الإسلاميّة، كان لا بدّ من معرفة الجهة المخوّلة شرعًا في إقامة هذا الحكم الثابت، إذ إنّ من الأحكام الثوابت أحكامًا لا يطالب الشرع الحكيم الأفراد والجماعات والتنظيمات بتطبيقها، بل إنّ الشرع وجّه خطابه في تلك الأحكام إلى أولياء الأمر في كلّ الأقطار والأمصار، فهم المسؤولون عن تطبيقها وتنزيلها في الواقعات المختلفة إن بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة وذلك بتفويض من يرونه مناسبًا لذلك، فليس من حصيف الرأي ولا سديد الفكر أن يعتقد امرؤ بريء أنّه مسؤول أمام الله عن تطبيق هذه الأحكام السلطانيّة دون إذن أولياء الأمر، وذلك بمجرد الاعتقاد بكونها أحكامًا ثابتة، والحال أنّ ثبات الأحكام لا يعني فتح مجال تطبيقها للغادي والرائح! وفضلاً عن هذا، فإنّ معرفة الجهة المخوّلة والمسؤولة عن تطبيق الثوابت لا تعتبر نهاية المطاف الفكريّ والمعرفيّ، بل ينبغي أن يتلو ذلك فهم وتعرّف دقيق وعميق على الواقع الذي يراد تطبيق تلك الأحكام الثوابت فيه، ويعدّ هذا الأمر أيضًا من مسؤولية أولياء الأمر إذا كانت الأحكام أحكامًا سلطانيّة.

وأما بالنسبة للأحكام الثوابت الفرديّة (=غير السلطانيّة)، فإنّ معرفة واقع تلك الديار غير الإسلاميّة من حيث انفتاحها وانغلاقها على الديانة الإسلاميّة، ومن ترحيبها وترهيبها بالوجود الإسلاميّ، تعدّ مقدّمة ضروريّة لا بدّ من الوعي بها قبل تطبيق تلك الأحكام سعيًا إلى تطبيق أمثل وأدوم لتلك الأحكام الثوابت في ضوء ما تسمح به الظروف والأوضاع القائمة بعيدًا عن جميع أشكال العنف والتطرف والفظاظة.

الأساس الثالث: مراعاة أقدار التنزيل وإمكاناته

بعد التأكد من كون الأحكام المراد تنزيلها وتطبيقها من جنس الثوابت، وبعد معرفة الجهة المسؤولة عن تنزيلها وتطبيقها، ينبغي أن يتبع ذلك وعي رشيد وفهم عميقٌ بأقدار التنزيل من حيث القدر الأدنى والقدر الأقصى الذي تؤدى به تلك الأحكام الثابتة وذلك في حالة وجود تعارض بينها وبين مقتضيات المواطنة، ويروم هذا الأساس الالتفات إلى أقدار التدين في النفوس، ومدى إمكانيّة الإتيان بتلك الأحكام الثابتة بصورة كليّة أو بصورة جزئيّة وذلك نظرًا للظروف والأوضاع السياسيّة القائمة.

إذا كان الإسلام ذلك الدين الذي يأبى التكليف بما لا يطاق، ويوجّه جميع تكاليف الشرع بأن تكون في مقدور المكلفين استنادًا إلى المبدأ الإسلامي الخالد الذي قرّر قوله تعالى في نهاية سورة البقرة: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}، وقوله جلّ جلاله: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وإذا كان مقصود الشرع من أن يحفظ على المكلفين دينهم، ونفوسهم، وأعراضهم، وعقولهم، وأموالهم[19]، لذلك، فإنّه من المنطق أن يكون ثمة اهتمام وعناية بمدى قدرة المكلفين على التمثل لتلك الأحكام والصدور عنها.

ومن هنا، فإنّ منهجيّة التوفيق بين الالتزام بالثوابت والقيام بمقتضيات المواطنة تقوم على مراعاة هذا البعد في الأحكام الشرعيّة كلّها عامّة، وفي الأحكام الموسومة بالثوابت خاصّة، ذلك لأنّه لا يصح في الشرع العدول عنها بصورة كليّة دون أن يكون هنالك عذر شرعيّ معتبر خلافًا للأحكام الاجتهاديّة (=المتغيرات).

بناء على هذا الأساس، لا بدّ من البحث عن سبل لتجاوز التعارض إما من خلال البحث عن سبل تعديل مقتضيات المواطنة، أو من خلال الأخذ بأحكام الضرورات والحاجات الثابتة في الشرع لمجابهة مثل هذه الأحوال والظروف.

فعلى سبيل المثال، لنفترض أنّ المواطنة في بلد ما تقتضي مخالفة واضحة ومعارضة صريحة مع الثوابت، كأن يكون ثمة حظر على أداء الصلوات المفروضة في مؤسسات الدولة في بعض الديار غير الإسلاميّة، ومن المعلوم أنّ أداء الصلاة من الثوابت غير السلطانيّة وهي تجب على كل مكلف، وخروجًا من هذا التعارض والتناقض يجب على المسلم إدراك أدنى ما يؤدّى به هذا الواجب كأن يؤدّيه جمعًا كلما سنحت له الفرصة، فيتأتى بذلك الواجب في الثوابت، وللمسلم في التعامل مع مختلف القضايا في هذا المجال الاستعانة بجملة من القواعد الشرعيّة المعتبرة، وعلى رأسها إذا ضاق الأمر اتسع، وقاعدة المشقة تجلب التيسير وسواها[20].

وصفوة القول، هذه هي أهمّ الأسس التي نخالها ضروريّة لصياغة منهجيّة للتوفيق بين الالتزام بالثوابت والقيام بمقتضيات المواطنة والإقامة في الديار غير الإسلاميّة، وقد تبدَّى لنا أنّه لا أمل في صياغة تلك المنهجيّة ما لم تتركز تلك الصياغة على هذه الأسس بحسبانها أسسًا تقوم على وعي عميق وفهم رشيد لحقائق الثوابت وتميزها عن المتغيرات، كما تقوم على دراية فائقة بطبائع الثوابت من حيث كونها ثوابت سلطانيّة، وثوابت غير سلطانيّة، فالثوابت السلطانيّة -كما أسلفنا- مرفوعة عن الأفراد والجماعات والمنظمات والتجمعات في الديار الإسلاميّة بشكل عامّ، وفي الديار غير الإسلاميّة بشكل خاصّ، وأما الثوابت غير السلطانيّة، فإنّ الالتزام بها يتطلب وعيًا بها، ووعيًا بالواقع الذي يعيش فيه الوجود الإسلاميّ في الديار غير الإسلاميّة انفتاحًا وانغلاقًا وترحيبًا وترهيبًا، ومن الواجب المحتوم أن يرافق أي التزام أو تمثل بالثوابت غير السلطانيّة استصحاب أمين لجملة من القواعد الشرعيّة الناصعة، وعلى رأسها: الأمور بمقاصدها، ودرء المفاسد مقدّم على جلب المصالح، والمشقة تجلب التيسير، والعادة محكّمة، ولا ينكر المنكر بمنكر أكبر منه، ويرتكب أخف الضررين، وإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما بارتكاب أخفّهما، وإذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع ضاق.. فهذه القواعد ومثيلاتها تمثّل مرجعيّات يمكن الاستناد إليها بعد التعرف على الواقع الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ الذي يتحكم في الوجود الإسلاميّ في الديار غير الإسلاميّة.

وفضلاً عن هذا، فإنّ انتهاج الحكمة والحوار بالتي هي أحسن، والرفق، وسواه تعدّ مرتكزات لا بد من استحضارها عند الهمّ بتطبيق ثوابت في واقع منغلق على الوجود الإسلاميّ، ويعني هذا أنّ الابتعاد كل الابتعاد عن العنف والقسوة والتهور ينبغي أن يكون ذلك كلّه منهجًا وسلوكًا لا يحيد عنه المرء في الديار غير الإسلاميّة عملاً بقوله المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث الصحيح الذي أخرجه أصحاب السنن: «ما دخل الرفق في شيء إلا زانه، وما خرج من شيء إلا شانه».

وبهذا نصل إلى نهاية هذه الدراسة آملين أن نكون قد وفّقنا في تسليط الضوء على الأبعاد المنهجيّة المتصلة بهذه المسألة الجاثمة على صدور الأحبة في الديار غير الإسلاميّة، ولنا أملٌ فسيح إذا أمدّ الله في الأجل، وأفسح في الصحة، أن نتبع هذه الدراسة بدراسات تطبيقيّة واسعة، والله نسأل السداد والتوفيق والرشاد، إنّه نعم المولى ونعم النصير.

* الخاتمة: أهم نتائج الدراسة

لقد توصلنا من خلال هذه الدراسة إلى جملة حسنة من النتائج يحسن بنا تلخيصها في النقاط التالية:

أولاً: إنّ ثمة حاجة إلى إعادة النظر الحصيف في جملة من الأسس المعرفيّة والظرفيّة التي استند إليها العديد من تقسيمات أهل العلم بالفقه للديار في القرون الغابرة إلى دار إسلام ودار كفر، وإلى دار إسلام، ودار عهد، ودار حرب، إذ إنّ غلبة الضبابيّة على تلك الأسس هي التي أدّت إلى تعذر وجود تعريف متفق عليه للديار كلها. فسائر التعريفات التي تذكرها المدوّنات الفقهيّة لدار الإسلام أو دار الكفر أو سواهما كانت ولا تزال محل سجال واعتراض، ولم يحظ تعريف عبر التاريخ باتفاق العالِمين من الفقهاء.

ثانيًا: توصلت الدراسة إلى أنّ الاعتداد بأساس البعد العقديّ التصوريّ المعرفيّ هو الأولى، وذلك عند الهمّ بتقسيم الديار إلى دار إسلام ودار غير إسلام، فإذا كان الإسلام هو العقيدة الغالبة على أهل بلد من البلدان صحّ اعتبار ذلك البلد دار إسلام وذلك بغضّ النظر عن نسبة التزام أهل ذلك البلد بالأحكام التشريعيّة المتصلّة بالعقيدة، وكذلك الحال في العقائد الأخرى عند تكون غالبة على أهل بلد من البلدان. وعمدتنا في هذا تتمثل في إيماننا بنفي التقابل بين الإسلام والحرب من جهة، وبين الإسلام والعهد من جهة أخرى، فالإسلام يقابل غير الإسلام، ولا يقابله الحرب أو العهد، وفضلاً عن هذا، فإنّه من الملاحظ اليوم أنّ عددًا من الدول التي تعدّ دولاً إسلاميّة لا يتجاوز انتماء أهلها إلى الإسلام دائرة البعد العقديّ التصوريّ المعرفيّ. مما يجعل الاعتداد بالبعد التشريعيّ العمليّ -كما هو شائع في معظم تعريفات الفقهاء- أمرًا غير قابل للتطبيق في العصر الحاضر. إذ ليس من الحصافة عدّ تلك البلدان بلدانًا غير إسلاميّة.

ثالثًا: أوضحت الدراسة أنّ الوجود الإسلاميّ في الديار الموسومة بالديار غير الإسلاميّة أمسى اليوم من آكد الواجبات، وأقدس الفرائض، وأعظم القربات، وذلك لأنّ تلك الديار غدت المسؤولة عن رسم سياسات العالم، وتحديد مصائر الشعوب والأمم، مما يجعل الوجود الإسلاميّ فيها ضروريًّا، وفريضة مقدّسة أملاً في أن يكون للإسلام ذات يوم دور في صياغة القرارات المصيريّة، وقيادة البشرية إلى برّ الأمان. وإذا كانت رسالة الإسلام عالميّة، وكان خطابه للعالَمين، فإنّ هذه العالميّة لا تحقيق لها إذا لم يكن للإسلام والمسلمين وجود مؤثّر في مراكز صنع قرارات العالم. وعليه، فلا التفات إلى تلك النقاشات العقيمة حول مدى مشروعيّة الإقامة في تلك الديار، بل لا حاجة إلى مناقشة مدى مشروعيّة التجنس بجنسيات تلك الديار، بل يجب العمل الجادّ على الإقامة والتجنس قدر الاستطاعة تمكينًا للوجود الإسلاميّ من التأثير والمشاركة الفاعلة، وإيمانًا بأنّ الأرض كلها لله، وأنّ التشبث بالعصبيات والعرقيات مناقض للعقيدة السمحة التي يرى الانتساب إلى الإسلام لا إلى التربة والأراضي الخضراء أو الصفراء أو السمراء!

رابعًا: ينبغي على الأمّة الابتعاد عن وصف المسلمين القاطنين في تلك الديار بالأقليّات لما في ذلك الوصف من توهين، وتهميش للأدوار التأثيرية التي ينبغي أن يقوموا بها في تلك الديار، فأولئك المسلمون يعتبرون من أهل تلك الديار، ولا يصح نسبتهم إلى ديار أخرى سواء أكانت ديارًا إسلاميّة أم ديار غير إسلاميّة، ولا يصحّ لهم كذلك التفكير في الانتماء إلى غير هذه الديار التي ولدوا ونشؤوا وترعرعوا وتشبعوا من ثقافتها، وقوانينها، وأنظمتها، وعاداتها وتقاليدها.

خامسًا: يجب على المسلمين القاطنين في تلك الديار الانخراط في سائر الأنشطة السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والعسكريّة قدر الاستطاعة، ولا يجوز لهم الابتعاد عن هذه الأنشطة تغليبًا لروح العافية على روح المجاهدة والمشاركة والمخالطة البنّاءة الإيجابيّة. إنّ مشاركتهم في الأنشطة المختلفة في تلك الديار لا تختلف عن مشاركة إخوانهم في الأنشطة ذاتها في ديارهم، وتحكم تلك المشاركة مبدأ إقامة العدل، والإحسان، والرحمة، والاستقامة، والابتعاد عن الظلم والغش والعدوان. وعليه، فإنّه لمن الخطأ الجسيم، والاجتهاد المقلوب أن يثبّط امرؤ عزائم الراغبين في الانخراط في هذه الأنشطة الهامّة والضروريّة لمستقبل الوجود الإسلاميّ في تلك الديار.

سادسًا: ينبغي أن يكون معلومًا أنّ الأحكام الشرعيّة موزّعة بين أحكام ثابتة (=ثوابت) وأحكام متغيرة (=متغيرات)، ولكل واحدة من هذه الأحكام خصائصها ومكانتها، وبناء عليه، فلا يصح اعتبار جميع الأحكام الشرعيّة ثوابت، كما لا يجوز اعتبارها كلها متغيرات. ويعرف الفرق بين الثوابت والمتغيرات من الأحكام من خلال النظر إلى النصوص التي استنبطت منها تلك الأحكام من حيث كونها نصوصًا قطعيّة في الثبوت والدلالة، ونصوصًا ظنيّة في الثبوت والدلالة أو في الثبوت دون الدلالة، أو في الدلالة دون الثبوت، فإذا كانت نصوص الأحكام قطعيّة في الثبوت والدلالة عدّت تلك الأحكام أحكامًا ثابتة (=ثوابت) وأما إذا كانت نصوصها ظنيّة في أي من الجانبين: الثبوتي والدلالي، عُدّت تلك الأحكام أحكامًا متغيرة (=متغيرات).

وتأسيسًا على هذا، فإنّه لا يجوز الخلط بين الثوابت من الأحكام والمتغيرات منها، فالثوابت لا يعتريها تغيير أو تطوير أو تبديل أو تحويل، وأما المتغيرات، فإنها عرضة للتغيير والتبدل والتحول والتعديل بتغير الظروف الفكريّة والأوضاع السياسيّة والأحوال الاجتماعيّة والاقتصاديّة اعتبارًا بأنّ للظروف والأوضاع تأثيرًا غير منكور في الأفهام المستنبطة من النصوص الظنيّة في الدلالة أو في الثبوت.

سابعًا: إنّ على الوجود الإسلاميّ في تلك الديار السعي الحثيث للمحافظة الشديدة على الثوابت التي لا تعدّ أحكامًا كثيرة مقارنة بالمتغيرات، ذلك لأنّ الثوابت في مجملها صالحة للتمثل والتطبيق في جميع الأمكنة والأزمنة والأحوال، وأما المتغيرات، فللوجود الإسلاميّ أن يجدّد فيها النظر في ضوء ما يستجد في ساحتهم من ظروف فكريّة وأوضاع سياسيّة وأحوال اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة. فليس من الحكمة في شيء النظر إلى تلك المتغيرات بحسبانها ثوابت لا تقبل تغييرًا أو تطويرًا أو تعديلاً، والحال أنّها تقبل التغير والتبدل والتحول بتغير الأزمنة والأمكنة والظروف والأوضاع والأحوال التي أسهمت في تشكلها وتكونها.

ثامنًا: يجب مراعاة أسس ثلاثة لصياغة منهجية للتوفيق بين الالتزام بالثوابت ومقتضيات المواطنة في تلك الديار، وهي: المعرفة الدقيقة بطبائع الأحكام التي يصح اعتبارها ثوابت تمييزًا لها من المتغيرات، فهذه المعرفة هي التي تحمي الوجود الإسلامي من التشبث ببعض الأحكام المتغيرة وغير الصالحة للتطبيق في تلك الديار نتيجة تقادمها وعدم ملاءمتها للواقعات الجديدة. وأما الأساس الثاني، فيتثمل في المعرفة الكافية بمراتب الثوابت ومواقعها من حيث الجهة المسؤولة عن تطبيقها وتنزيلها في الواقع، إذ من المعلوم أنّ الثوابت ليست على درجة واحدة من الأهميّة والمكانة والمنزلة، وبالتالي، لا بد من الوعي بهذا الأمر عند التعامل مع الثوابت المتعارضة مع مقتضيات المواطنة، كما لا بدّ من معرفة الجهة المسؤولة عن تطبيق الثوابت وتنزيلها، إذ من الثوابت ما يمكن اعتبارها من حيث الجهة المسؤولة عنها ثوابت سلطانيّة، كما أنّ منها ثوابت يمكن عدّها ثوابت فرديّة، ولا يجوز الخلط بين هذين الموقعين للثوابت سواء في الديار الإسلاميّة أم في الديار غير الإسلاميّة.

أخيرًا: لا بدّ للوجود الإسلاميّ في تلك الديار من تغليب الانتماء إلى الإسلام العامّ الذي يسع كل المذاهب العقديّة والفقهيّة والتربويّة المعتبرة على الانتماء الحرفيّ إلى مذهب عقديّ أو فقهيّ أو تربويّ، ولا بدّ من توحيد الصفّ، وجمع الكلمة، والابتعاد عن إثارة الفتن والقلاقل والبلابل إزاء المسائل الجزئيّة والأحكام الاجتهاديّة التي تشكلت منها المذاهب العقديّة والفقهيّة والتربويّة. فالتمسك بالإسلام الشامل الفسيح هو الضمان الأساس لاستمرار ذلك الوجود، وتمكينه من التأثير والشهود. فبقدر ما تتوحد كلمتهم تكون لهم القوة والمكنة والتأثير، والعكس صحيح جد صحيح.

والله نسأل أن يحفظ الوجود الإسلاميّ، ويزيده ثباتًا وقوة وتطورًا وتقدمًا وتمكينًا في الأرض، إنّه ولي ذلك، وعليه قدير، وإن نريد إلا الإصلاح ما استطعنا، وما توفيقنا إلا بالله العليّ العظيم.

 



[1] أستاذ أصول الفقه والفقه المقارن بالجامعة الإسلاميّة العالميّة بماليزيا، وكيل الجامعة لشؤون الابتكارات العلمية والعلاقات الدوليَّة بماليزيا، ونائب رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي.

[2] النساء: 92.

 

[3] الفرقان: 1.

[4] الأنبياء: 107.

[5] آل عمران: 104.

[6] التوبة: 122.

 

[7] انظر: المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث - بحث بعنوان: المشكلات الفقهية للأقليات المسلمة في الغرب - يوسف القرضاوي - (دبلن، العدد الأول، سنة 1423هـ الموافق 2002) ص45.

 

[8] انظر: البحر المحيط في أصول الفقه - الزركشي - تحقيق مجموعة من العلماء (الكويت، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة، طبعة ثانية عام 1992م).

[9] انظر: البحر المحيط في أصول الفقه - الزركشي - تحقيق مجموعة من العلماء (الكويت، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة، طبعة ثانية عام 1992م).

[10] انظر:  معالم المنهج الإسلامي - محمد عمارة - (القاهرة، الأزهر الشريف، وواشنطن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، طبعة أولى عام 1991م) ص101 وما بعدها.

 

[11] انظر: بداية المجتهد ونهاية المقتصد - ابن رشد - (القاهرة، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، طبعة خامسة عام 1981م) ج2 ص9 وما بعدها.

 

[12] انظر: خلافة الإنسان بين الوحي والعقل - عبد المجيد النجار - (واشنطن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، طبعة ثانية عام 1993م) ص98 وما بعدها.

[13] انظر: الموافقات في أصول الشريعة - الشاطبي - شرح الشيخ دراز (بيروت، دار المعرفة، طبعة أولى عام 1994م) م2 ج5 ص519 وما بعدها.

 

[14] آل عمران: 7.

[15] البقرة: 283.

 

[16] انظر: إعلام الموقعين - مرجع سابق - ج1 ص70 - 71 باختصار.

[17] انظر: الموافقات - مرجع سابق - م2 ج4 ص463 وما بعدها.

 

[18] لقد ألَّف الإمام القرافي كتابًا قيّماً حول هذا الموضوع، وسمّاه الإحكام في التمييز بين أحكام القاضي والإمام.

 

[19] انظر: المستصفى في أصول الفقه - الغزالي - (بيروت، إحياء التراث العربي، طبعة أولى من دون تاريخ) ج1 ص222 وما بعدها.

 

[20] انظر: المنثور في القواعد - تحقيق فائق محمود (الكويت، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة، طبعة ثانية 1985م) وسواه من كتب القواعد الفقهيّة القديمة والحديثة، كالمدخل العام إلى الفقه الإسلامي للشيخ المحقق مصطفى الزرقاء، وكتب الزميل العزيز الدكتور علي الندوي، وكتب فضيلة الدكتور حسين بافقيه.