- رســالة مـاجستير فـي الفلسفة
- إعداد الباحث: عــلي المحمــداوي
- إشراف الدكتور نبيل رشــاد سعيد
- الموسم الجامعي 2006 - 2007م
- جــامعة بغــداد - كلـــية الآداب
* ملخص الرسالة
يسعى هذا البحث إلى التأكيد على فكرة «تعارف الحضارات»، إذ إنها تعدُّ من النظريات التي فسَّرت وشرحت واستشرفت شكل العلاقة بين الحضارات وأسسها.
و «تعارف الحضارات» إحدى المحاولات التي تبعث الأمل وتبث النشاط داخل الوعي والفكر الإسلامي، الذي عانى من جمود وتقولب حول مفاهيم صاغها غيره (زماناً أو مكاناً) ممن ينتمون في أفكارهم إلى العصور الوسطى (الأصوليون) أو من آخرين ينتمون إلى خارج المنظومة الفكرية الإسلامية (الغرب)، فكانت كتابات العرب والإسلاميين تدور حول رد فعلهم عن قضية ما في الفكر الغربي سواء كانت ثقافيةًً أو (اقتصادية وعلمية)، أو ممارسة دور الشارح للآراء التي مازالت تنتمي إلى قرون ماضية، في حين أنه يجب التعبير عن حاجة المجتمع الإسلامي والعربي وما يحتاجه للخلاص من مآزقه ومشكلاته، ولرسم صورة أفضل له تجاه الآخر.
مرت فكرة «تعارف الحضارات» بمرحلة تأصيل فكري إسلامي تزامنت مع نحت المفهوم من قبل «زكي الميلاد» والتراكمات المعرفية من النقاشات والمراجعات لمفكرين آخرين، جعلها تتمحور حول النصوص القرآنية منبعاً وتهتم بمعالجة الفكر الأصولي الذي استشرى في الواقع الإسلامي والعربي، وأخذ مأخذه، وراح يرسم العلاقة مع الآخر الحضاري على أنها عبارة عن رفض له وإلغاء لوجوده، وذلك بشتى الوسائل، وأبرز تلك الوسائل ما مورس من العنف والقتل والحروب والتفجيرات باسم الجهاد والدين الإسلامي، وكأنهم الوارثون الشرعيون للإسلام دونما مشارك أو منافس.
«تعارف الحضارات» جاءت لتصحح تلك الانحرافات التي لحقت مسيرة الفكر الإسلامي، وجاءت لكي تعمل من جديد على خط «المنهج الاعتدالي والتسامحي» للتعامل مع الآخر (الحضاري)، ولعل فكرة أن تكون الحضارات محوراً للتعارف كانت من أهم ما فيها، فضلاً عن كونها قد تطرقت إلى نقد فكرة «صدام الحضارات» التي يرى فيها «هنتنغتون - صاحب النظرية» أن العلاقات بين الدول والجماعات من حضارات مختلفة، لن تكون وثيقة، وغالباً ما ستكون علاقات عدائية، علاوة على ذلك، أن العلاقات الحضارية المتداخلة ستكون عرضة للصراع أكثر من الأخرى، وأكثر خطوط الصراع عنفاً عندما تكون بين الإسلام وجيرانه.
والصدامات الخطيرة في المستقبل تنبع من التفاعل بين الغرور والتكبر الغربيين، وتسامح الدين الإسلامي، وفكرة التحدي والإصرار الصيني؛ وهنالك محاور أخرى وصيغ مختلفة للصراع ولا يمكن اختزال كل الحروب والصراعات التي نشبت بين الغرب والإسلام على أنها حروب حضارية ليس إلا، كما حاول أن يصفها هنتنغتون، إذ إن الغالب في الصراعات هو المصالح وما دار حولها، كما بيَّنا ما لدور الهوية في إثارة الصراع وقولبته وجعل الانتماء هو المحرك للصراع مع الآخر ورفضه، وهذا هو واقع مختلف الصراعات التاريخية، وهو ما سيتسمر إذا لم تعالج مسألة التنوع والقبول باختلاف الهويات وتعددها.
وهنالك عدد من النظريات الأخرى التي طرحت لتفسر أو تتنبأ بشكل العلاقات وما يفترض أن تكون عليه، ومن أبرزها؛ نظرية «حوار الحضارات»، والتي ظهرت مقترنة مع الفكر الغربي الأوروبي ولا سيما مع غارودي وما تفتقر إليه من فقدان مرحلة سابقة لها وهي مرحلة (التعارف والاعتراف) فلا حوار حقيقي ومنتج بلا اعتراف بين المتحاورين، وفي حين يمثل التعارف تلك الحلقة الوسيطة التي يجب أن تتوافر لتتم عملية الحوار، إلا أن التعارف لا يُختزل بهذا المعنى فقط أي من جانب كونه مرحلة وسيطة وسابقة للحوار وإن كان ذلك دوراً مهمًّا، إلا أنه ارتفع عن كونه مرحلة انتقالية إلى مستوى المنهج الموازي للنظريتين سابقتي الذكر «الصدام والحوار»؛ إذ انتهج «زكي الميلاد» منهجاً تأصيليًّا هدف إلى دعم النظرية بالمبررات والخطوات الكفيلة بتطبيق الأطروحة على أرض الواقع، كما عمل على طرح العوائق والمشاكل التي قد تعتريها وما أعاق تلك النظرية واهم سبل تحقيقها، وبعض المعالجات التي جاءت كمكمل للنظرية.
تناولت في رسالتي وفي (فصلها الأول) مفهوم الحضارة ومعناه والتباسات ذلك المفهوم وتداخلاته مع مفاهيم أخرى مثل الثقافة والمدنية، وحاولت أن أميِّز بينها من خلال انتهاج منهج اللاجينالوجيا أو قطع السلسلة للجذور التاريخية والتطورية للمفهوم، وبالتالي فنقض تلك المنهجية المتعارفة التي تتسلسل من أصل المفهوم، ومن جذوره التاريخية، والتسلسل بها إلى عصرنا الراهن (وهو منهج الجينالوجيا) جعل المفاهيم تختلط وتلتبس، وعليه فقد قصدت هذه الطريقة لمعالجة المنهجيات المعتادة، والتي لا يخلو البحث منها، ولكنها جاءت على سبيل العرض والمقارنة مع المنهج اللاجينالوجي، وبعده بيَّنت ما قصدته من مصطلح الحضارة والذي يمكن وصفه بأنه أوسع مستويات الهوية الدينية والثقافية والاجتماعية والجغرافية التي تمتلكها أمة أو مجتمع من المجتمعات.
وعلى ذلك فقضية الحضارة برزت في بحثنا بصورة الانتماء للمشتركات الأكبر في المجتمعات والشعوب والأمم، وتبيَّن لنا أن مسألة الحضارة بمفهومها التداولي اللاجينالوجي لا يمكن أن تأتي بلا إضافة، فترانا نقول: الحضارة الإسلامية أو الحضارة الغربية أو الكنفوشيوسية... وذلك جعل من الكلمة تتجرد عن معناها السابق الذي كان يعني ما يقابل البدو أو الهمجية أو معنى حياة المدينة أو الترف وارتباطها بالانتماء والهوية..
وبعد التركيز على هذا المعنى واعتماداً عليه حاولنا أن نبيِّن في (المبحث الثاني من الفصل الأول) عرض بعض النماذج من فلسفات الحضارة، وانتقينا النماذج على أساس معيارين:
الأول: كان معيار الأسبقية التاريخية؛ فكان اختيار فكر ابن خلدون وما قدمه في فلسفة الحضارة.
والثاني: معيار المقارنة بين إنتاج الفكر الغربي والفكر الإسلامي من المعاصرين في فلسفة الحضارة فكان كل من الفلاسفة والمفكرين؛ (شبنجلر، توينبي، اشفستير، المدرسي، خاتمي).
وبعد أن أوضحنا في هذا المبحث أهم الأفكار التي تناولها المفكرون (موضوع البحث) يتبين لنا أهم ما ركّزت عليه فلسفة الحضارة من قبيل المراحل التي تمر بها وأسباب نشوئها وأهم مقوماتها و أسباب انهيارها وانحلالها؟
وقد تناولنا في (المبحث الثالث من الفصل الأول) الكلام عن «علم المستقبليات» وربطه بفكرة الحضارة من خلال انضواء فكرة المشروع الحضاري والإصلاح أو التغيير المطلوب في المجتمعات الإسلامية والعربية في سبيل تقويمها وإعادتها إلى مستوى الحضارات الأخرى من خلال تبيان أهم مشروعين قُدِّما لمعالجة القضية الحضارية الإسلامية والعربية، أولهما اتسم (بالقومية) فدعا إلى مشروع قومي عربي كان صاحب الدعوة إليه «محمد عابد الجابري» وأسس له عدة أسس.
وثانيهما المشروع (الديني) الذي ركّزنا فيه على مقولات «زكي الميلاد»، بعد أن يتبين أن الرؤية نحو التغيير الحضاري تستدعي أن تكون لدينا نظرة إلى الآخر في التعامل، توجب البحث في مسألة نماذج من نظريات التعامل الحضاري فتطرقنا إلى بعض تلك النماذج وعرضنا في بدايتها نظرية صدام الحضارات وذلك في (الفصل الثاني بمبحثه الأول) والتي تدور حول وصف شكل الصراع القائم بين نماذج من الدول على أنه صراع حضاري يستهدف الحضارة والهوية بما هي في تلك المجتمعات. وحاولت تسليط الضوء على بعض الآراء المخالفة لهذه الرؤية من قبيل آراء إسلاميين وعرب. كما تطرقنا إلى عرض ردود الأفعال من بعض المفكرين الصينيين تجاه نظرية هنتنغتون التي وضعت الإسلام والصين في خانة الحليفين ضد الغرب في حربه الحضارية، وحاول أن يؤسس للعلاقة بين الطرفين على أنها تحالف كنفشيوسي - إسلامي ضد الحضارة الغربية ويستهدف مصالحها، وبعد أن بينَّا أن صيغة الصراع الدائر اليوم بين الدول، وبأي مسمى كان، لا يخلو من ثلاث صفات أو صيغ صراعية، أولها الصراع من أجل المصالح، وثانيها الصراع من أجل القيم، وثالثها الصراع لإثبات الهوية. وبيَّنا أن لكل منها مبرراً خاصًّا.
ثم تطرقت في (المبحث الثاني من الفصل الثاني) إلى نظرية «حوار الحضارات» واهم ما قيل فيها واخترت النموذجين البارزين في تبنيهما لهذه النظرية وهما: روجيه غارودي ومحمد خاتمي، وبيَّنت بشكل موجز أهم ما ارتكزت عليه رؤية كل منهما حول النظرية، ثم بيَّنت أهم السبل لتحقيق النظرية وما هي العوائق التي من شأنها أن تقف بوجه تطبيق النظرية وبعد أن أوضحنا أن التعارف والاعتراف هو المحور الذي تفتقر إليه نظرية الحوار.
جاء (المبحث الثالث من الفصل الثاني) بعنوان (نظريات أخرى في التعامل بين الحضارات)، تطرقت فيه إلى نظرية سباق الحضارات، وتفاعل الحضارات، وتحالف الحضارات، وتعاون الحضارات، وصدام الهمجيات، وتحقيق مصالح الحضارات.
ومن ثم كان من الحري بنا أن نبدأ بعد كل تلك المقدمات المنهجية والعلمية بمحور الرسالة وهو (الفصل الثالث)، والذي تضمن عنوان (تعارف الحضارات البديل الإسلامي)، وتناولت فيه عدة محاور منها صياغة المفهوم ونحته وارتباطه بالمفكر السعودي «زكي الميلاد» كما عملت على صياغة مقارنة بين منهج التواصل عند «هابرماس» ومنهج التعارف عند «الميلاد»، ثم عرضت لأغلب الآراء المساندة لفكرة تعارف الحضارات، ثم العمل على التمييز بين التعارف والحوار بين الحضارات، وبعدها عمدت إلى التأسيس لبعض المبررات التي دعت إلى ظهور وقيام النظرية، ثم ما هي مرتكزات هذه النظرية؟ وما هي الأسس المستوحاة من آية التعارف لدعم وإسناد نظرية التعارف الحضاري.
وبعدها بينت ما هي أهم الأهداف المتوخاة من نظرية تعارف الحضارات، وفي مقصد الانتقال بالنظرية من الفكر إلى التطبيق توضح أن هنالك عدة معوقات للنظرية، أو تقف بالضد من مشروع التعارف، وأبرزها الأصولية والعولمة بشكل من أشكالها، فليس صحيحاً رفض العولمة بشتى جوانبها، ولكننا أوضحنا أن هنالك نوعاً من العولمة وهو ما أسميناه بعولمة الانتماء والهوية، هو ما يقف بالضد من مشروع تعارف الحضارات؛ لأن النظرية تهدف إلى الاعتراف بالتنوع وإثرائه وإغنائه، في حين أن العولمة من هذا النوع (عولمة الهوية والحضارة) تهدف إلى جعل العالم يتشكل بأنموذج واحد ليس فيه إلا هوية واحدة هي هوية الأقوى.
وهذا ما عالجته وتطرقت إليه في (المبحث الثاني من الفصل الثالث)، وبعد أن أبيِّن أن العولمة نوعاً من الأصولية، لأنها لا تقبل الآخر وتعتقد بامتلاكها للفكر الواحد والنموذج المطلق للحق أو الحقيقة، وهو ما حاول الفكر الغربي المؤسس لفكرة العولمة استخدامه منهجاً مضادًّا لفكرة التعارف الحضاري أو التنوع الحضاري وتعدده عموماً، و من أجل حل إشكالية الفكر الواحد ونموذجه كانت «فكرة التسامح» هي المعالجة الضرورية لمسألة الأصولية = العولمية، والتي كانت دعوةً للاعتراف بالآخر المختلف والتعرف إليه والقبول بتنوعه وتعدده.
أما (المبحث الثالث) من الفصل الأخير فتضمن تبياناً لمفهوم التسامح وفكرة السماح المتبادل، فقد أوضحت فيه المعنى اللاجينالوجي للتسامح، وبيَّنت كذلك أهم مبررات الحاجة إلى التسامح وربطه بنظرية تعارف الحضارات لكونه أحد الأدوات التي يجب تفعيلها في منهجية التعارف والتي تمثل المعالجة لكثير من عوائق التعارف الحضاري، الذي هو دعوة حقيقية وإسلامية وإنسانية.