لقد صدق حدس الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروس (Claude Levi Strauss) عندما أشار إلى أن اللسانيات بحكم توجهها العلمي، ستصبح جسراً حقيقيًّا أمام باقي العلوم الإنسانية بجميع فروعها (علم اجتماع، وتاريخ، وفلسفة، وأدب...)، وتسعى إليها جميع الاختصاصات في محاولة لتحصين مواقعها ونتائجها. وهذا ما حصل بالفعل، في الغرب، حيث غدت اللسانيات رائدة العلوم الإنسانية بإطلاق، وهي تحقق لنفسها طابع الشمول، والتفرد، والخصوصية. حتى أصبح من «فضول القول لدى ذوي العلم والرجحان أن يتحدث المرء اليوم عن منزلة اللسانيات ووجاهة شأنها، فلو فعل لكان شأنه لديهم شأن من ينوه بالرياضيات الحديثة، بين أهل العلوم الدقيقة، أو شأن من يمتدح قيمة التحاليل العضوية وكشوف الأشعة في حقل العلوم الطبية»[1].
لقد أربكت اللسانيات كل حسابات وافتراضات الرافضين لعلمية العلوم الإنسانية، بل وأعادت النظر في الكثير من المفاهيم المتداولة، ومن ذلك مفهوم العلم وشروط تحققه[2].
وعلى طرف نقيض يلاحظ المتتبع لخريطة البحث اللساني في المجال التداولي العربي، أن اللسانيات ما تزال «ذلك المجهول الذي يثير فينا ريباً وشكًّا، وتوجُّساً وخوفاً، أكثر مما يثير فينا نزعة -ولو فضولية- لمعرفة موقفنا من واقع الثقافة، والعلم، والمعرفة في العالم»[3]. فعلم اللسانيات لم
يحظَ بعدُ بالأهمية التي حظي بها في الغرب؛ إذ على الرغم من «مرور نصف قرن، على معرفته، والعلم به، والبحث فيه، وتدريسه في الجامعات العربية، ما زال علماً غريباً على جمهور المثقفين في الوطن العربي، ناهيك بجمع غفير من القائمين على تعليم اللغة العربية في المدارس والمعاهد، وتلك -لا شك- آفة من آفات انفصال الجامعات العربية عن مجتمعها»[4].
إن الواقع الراهن للسانيات في ثقافتنا العربية أثار، وما يزال يثير، أسئلة كثيرة عن الأسباب الكامنة وراءه؛ في زمن أصبحت فيه اللسانيات رائدة العلوم الإنسانية، وإليها يسند دور قيادتها. وهذا ما قاد مجموعة من الباحثين -لسانين وغير لسانيين- إلى القول بوجود أزمة في البحث اللساني العربي، «وتتمثل هذه الأزمة في مجالاته النظرية، والمنهج والموضوعات البحثية، والجوانب المؤسسية المتصلة بأقسام تدريس اللسانيات، وبالأستاذ، وبتدريب الطلاب. كما نجد أن هذا العلم لا يزال هامشيًّا مقارنة مع العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى بالرغم من الازدياد المطرد للمتخصصين فيه، وبالرغم من الأهمية المركزية لموضوعه: اللغة في المجتمع»[5].
إن الأزمة شملت كل مجالات البحث اللساني وكل القطاعات المرتبطة به، وهذا ما يعبر عنه أحد الباحثين بالقول: «إننا نشكو من أزمة لغوية حادة تلطخ جبيننا الحضاري، أزمة على جميع الصعد تنظيراً وتعليماً، نحواً ومعجماً، استخداماً وتوثيقاً، إبداعاً ونقداً»[6]. إنها أزمة تطول أعلى
المؤسسات في البلدان العربية، أعني المؤسسة الجامعية، والمسؤولين عنها؛ وهذا ما يعمق الإشكال أكثر ويزيد من حدته، ويجعلنا نحس بنوع من التناقض الصارخ بين واقع البحث اللساني العربي ونظيره في الغرب.
غير أن الإجماع على وجود أزمة في البحث اللساني العربي لا يوازيه تصور واضح لطبيعتها ومسبباتها، ومن ثم اجتراح حلول ناجعة لتجاوزها.
-1-
اللسانيات العربية: من الأزمة إلى إشكالات التلقي
يرتبط مفهوم الأزمة في مجال البحث العلمي وتحديداً عند توماس كون[7
] بأمرين اثنين:
أ - بلوغ العلم حدًّا من التراكم.
ب- سيادة أنموذج إرشادي[8].
يتصور توماس كون أن «العلم في فترة من الفترات يحقق ارتباطاً كليًّا بين نظرياته المختلفة؛ بمعنى أن هذه النظريات تؤلِّف كلًّا متماسكاً هو ما يطلق عليه النموذج Paradigme. والعلماء في هذه الفترة يسيرون في أبحاثهم العلمية وفق هذا النموذج، ويعملون من خلاله، إلا أنه يحدث أثناء وجود هذا النموذج، والتزام العلماء به، أن يأتي أحد العلماء ويضع يديه، بطريقة أو بأخرى، على كشف علمي هام يخالف الآراء السائدة في النموذج العلمي المعمول به فعلاً فتتغير نظريات العلماء المعمول بها في ظل النموذج السائد لتحل مكانها نظريات جديدة، ترتبت على الكشف الجديد، ويبدأ العلم مسيرة أخرى وفق أفكار وآراء جديدة من خلال نموذج جديد مخالف تماماً للنموذج الذي ألفه العلماء فيما مضى»[9].
إن نظريات العلم ونماذجه قائمة على التجاوز والإقصاء، لا تثبت الصورة ظرفاً حتى يتراءى تفككها فتبرز معطيات جديدة، وتحدث الأزمة. والعالِم دائماً ينتظر هذه الأزمات ويطرب لها، بل يبحث عنها ويخلقها لأنه لا يستمر إلا بها، وإلى هذا يشير كون: «إن رجل العلم الذي يعيش في أزمة سوف يحاول في دأب ومثابرة تصور نظريات تأملية يمكن لها، إذا ما نجحت، أن تميط اللثام عن الطريق إلى أنموذج إرشادي جديد، وإذا ما فشلت أسقطها من حسابه في سهولة ويسر نسبيًّا لتفسح الطريق لغيرها»[10].
وينبغي ألَّا يفهم التجاوز هنا بالمعنى السلبي للكلمة، لأنه خصيصة علمية؛ إذ يفترض في كل معرفة علمية أن يتجدد بناؤها باستمرار، لأن التوصل إلى العلم معناه، روحانيًّا، التجدد والقبول بطفرة مباغتة يفترض فيها أن تناقض ماضياً، وأن يتجدد بناؤها في كل لحظة؛ لأن استدلالاتها الإبستيمولوجية سيكون أمامها المجال الكافي لكي تتطور، على مستوى الأمور الخاصة، دون اهتمام بالمحافظة على النسق التاريخي، وهذا ما يؤكد عليه غاستون باشلار[11].
إن مفهوم الأزمة في مجال العلم، إذن، يبقى مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بحدوث تراكم أولاً، وبسيادة النموذج الأكفى ثانياً. وعطفاً على ما سبق، فإن الصيغة الثورية التطورية عند كون تخضع لمراحل محددة ومضبوطة:
1- النموذج الناجح.
2- مرحلة الشذوذ التي تقتضي:
- التساؤل.
- عدم التأكد.
- الشك.
3- الأزمات.
4- سقوط النموذج الناجح لذلك النموذج.
5- النموذج الجديد.
وعليه فالأزمة تتنزل منزلة وسطى بين مراحل سابقة وأخرى لاحقة، وهذا يقودنا إلى التساؤلات التالية:
هل بلغت اللسانيات العربية مرحلة الأزمة حقًّا؟ وهل هي أزمة بالمعنى الذي تحدثنا عنه آنفاً؟ وإذا كان الأمر كذلك فإننا نتساءل أيضاً بمعية مازن الوعر: «أين يقف علم اللسانيات الحديث في الوطن العربي في ضوء البعد الفلسفي الذي اقترحه توماس كون<[12]، وما هو النموذج الإرشادي
السائد حاليًّا؟
إن الحديث عن أزمة يقتضي أن تكون اللسانيات العربية قد قطعت أشواطاً بعيدة في كل المجالات، وبلغت حدًّا من التراكم، ثم عجزت عن بلوغ مرحلة أخرى تفك المأزق الذي بلغته. والواقع أن اللسانيات في ثقافتنا ما زالت تبحث عن نفسها وتتلمس طريق الانطلاق؛ وحتى وإن انطلقت في كثير من الأحيان، فقد كان ذلك في اتجاه غير مرغوب فيه[13
]. كما أن اللسانيات في ثقافتنا «كميدان بحث علمي لم تثبت أقدامها بعد
بالقدر الكافي، ولا تزال تفصل بينها وبين المستوى الذي بلغته في جامعات الغرب مسافات كبيرة، اللهم إلا ومضات تلمع بين الحين والحين، ترتفع إلى ذلك المستوى، ولكنها في الأعم نتاج جهد فردي خالص»[14]. صحيح أننا لا نعدم وجود بعض المحاولات التي تشكِّل
استثناءً، لكن الحالات الاستثنائية لا يمكن إلا أن تثبت ما هو عام، ومن ثم فإن «هذا الضرب من الكتابات اللغوية المتميزة غالباً ما يضيع في وسط التراكم الموجود من الكتابات التي تفتقر، في معظم الحالات، إلى حدٍّ أدنى من مقومات العمل اللساني السليم»[15].
إن النظرة السائدة هي انعدام بحث لساني عربي يضاهي نظيره في الغرب، وهذا يُعزى إلى غياب تراكم فعلي، وحتى إن وجدنا من الباحثين من يقر بوجود هذا التراكم، فإنه يعتبره تراكماً سلبيًّا لا يختلف في شيء عن الفقر المعرفي؛ إذ «يُشكِّل ما تراكم حتى الآن من التأليف في اللغة وحولها القديم والحديث في مختلف اللغات الأكثر انتشاراً في عالمنا العربي عقبة لا تقل حدتها عن صعاب الفقر المعرفي في نفس الميدان. إذ كلاهما يشكِّل عائقاً يحدُّ من وتيرة نمو العلم في الاتجاه السليم، ويُعرقل بناء معرفة تشكِّل حقًّا موضوع الدراسة»[16].
فالتراكم، إذن، اصطلاح إبستمولوجي يفترض الاستمرارية في الزمن أكثر مما يفترض القطيعة، إذ القطيعة عنوان البداية لنهاية نموذج إرشادي قائم وسائد. غير أن مفهوم التراكم في اللسانيات العربية يبقى بعيداً عن جوهره، فبدل أن يكون عاملاً أساساً في الدفع بالدراسات اللسانية وتقدمها، يتحول إلى عقبة كأداء تحدُّ من كل تطور، ليصبح من عوائق البحث اللساني؛ وعلى هذا الأساس نتساءل: كيف يصبح التراكم عائقاً أمام تطور النظرية اللسانية؟
ليكون التراكم عائقاً يكفي أن تجتمع فيه مواصفات من قبيل:
«1- أن يعتبر، عند بحث الظاهرة اللغوية، كل ما خلَّفه النُّظَّار في اللغة من أعمال تعبر عنها وتصفها. بصرف النظر عن اللغة المدروسة ولغة البحث أو عصرهما. فلا يهمل من تلك الأعمال ما يكون في متناول اليد تحت أي علة أو حجة، لأنه بوسع أي فريق من اللسانيين تلفيق مبررات واختلاق أسباب من أجل إبعاد تصورات غيرهم.
2- أن ينبعث من فحص البعض من تلك التآليف تعارض قوي بين عدد غير قليل من التصورات المختلفة التي كوَّنها النُّظَّار حول أي مسألة لغوية (...).
3- أن ينشأ حول موضوع الدراسة الواحد المتعين بذاته أكثر من نظريتين متغايرتين، يصل اختلافهما إلى درجة التضاد. لأن تعدد النظريات والنماذج المتنافسة وكثرة الآراء والتصورات المتزاحمة، مع وحدة موضوع البحث ووحدة هدف علمه كاللغة واللسانيات بالتوالي؛ ليفوتان إمكان الاهتداء في أقصر وقت وبأقل جهد، إلى أنسب النظريتين الواقعتين على طرفي النقيض حتى امتنع أن تقوم معهما نظرية ثالثة.
4- أن تُفتعل الشهرة لنظرية لغوية في حقبة معينة، ويُصطنع لها التفوق العلمي أو التقني على غيرها، بحيث ينجذب إليها عدد كبير من المهتمين بالمسألة اللغوية رغبة في تحقيق منفعة خاصة، ولا يكون التفاهم حولها لمبلغ مستوى علميتها كما يزعم أصحابها ويدعيه أعوانهم<[17].
أمام هذه الأسباب يصعب الحديث عن تراكم على مستوى الدراسات اللسانية في الثقافة العربية، وموازاة مع ذلك، نسجل غياباً للنموذج الأكفى، فإلى حدود اليوم نجد الواقع اللساني العربي واقعاً تياريًّا، وليس واقعاً هادئاً متوحداً. إذ لا يُجمع اللسانيون على نموذج واحد ووحيد، يمكن أن نعتبره نموذجاً إرشاديًّا، بتعبير توماس كون، بل نجد كمًّا هائلاً من النظريات والنماذج، تدعي كلها امتلاك أعلى مستويات الكفاية، وحجية النظر. إن وضعاً من هذا القبيل يمكن أن يكون مفيداً، ولكن شريطة أن يوظف بطريقة علمية تنبذ الاختلافات والصراعات المذهبية الضيقة التي تحد من فاعلية المعرفة.
تقودنا الملاحظات السابقة إلى وجود اختلاف بين الوضع الذي تعيشه اللسانيات في الثقافة العربية، وبين مفهوم الأزمة في النظريات العلمية. وعليه فإن الوضع الحالي للسانيات العربية يدفعنا إلى البحث عن تفسيرات جديدة لما تعيشه من نكوص، تلك التفسيرات هي ما وجدناه فعلاً فيما نعبر عنه بـ(إشكالات التلقي)، وهي إشكالات سابقة عن حدوث الأزمة كما يتحدث عنها؛ إذ ليس من المعقول أن نتحدث عن أزمة علم ما ومآله، بالقفز عن مراحل تشكُّله الأولى وما ينتج عنها من إشكالات، فالأزمة عادةً ما تكون نتيجةً لا سبباً، وحتى إن صح الحديث عن أزمة، فإن إدراك حقيقتها لا يمكن أن يكون إلا بجعلها أزمة انطلاق لا أزمة نمو[18]؛ أي أن نتصورها في سياق النهايات لا في سياق البدايات، وهذه
هي الحلقة المفقودة في اللسانيات العربية.
-2-
اللسانيات في الثقافة العربية وإشكالات التلقي
يظهر لمتتبع واقع البحث اللساني في الثقافة العربية، أن أغلب الإشكالات المثارة لا تخرج، في عمومها، عن المحددات العامة التي واكبت مراحل التلقي وخصوصيات كل مرحلة على حدة، الأمر الذي شكَّل لدى المتلقي العربي ريبة على هيئة صراع نفسي حضاري، تعبر عن مظهر من مظاهر التلقي تلك، ونتيجة من نتائجه المباشرة.
وقد زاد من تعميق الإشكالات المثارة التقاعس الذي ظل يطبع البحث اللساني العربي في المراحل الموالية، وهذا يفرض ضرورة التمييز في عوائق البحث اللساني في الثقافة العربية الحديثة بين نوعين اثنين من العوائق:
- عوائق موضوعية ذات أبعاد نفسية حضارية.
- عوائق ذاتية مرتبطة بطبيعة البحث اللساني في الثقافة العربية.
1, 2- العوائق الموضوعية: عوائق التلقي، عواملها النفسية الحضارية
يمكن أن نُجمل أهم العوائق المطروحة على هذا المستوى فيما يلي:
1,1, 2- صورة الغرب في المتخيل العربي
يرجع هذا الصنف من العوائق إلى سبب مباشر يكمن في الصورة التي ترسخت في متخيل المتلقي العربي عن الغرب، وما تولد عنها من ردود فعل متشنجة زكَّت حضور بعض الأعراف اللغوية المترسخة في الثقافة العربية. وللكشف عن تجليات هذه الصورة لابد من التوقف أولاً عند مقصدية هذا العنوان، وتفكيك الدوال المُشكِّلة لنسيجه:
أ - صورة: الصورة «تعبير أو تعابير ذات دلالات معينة ومقصودة نرسم بواسطتها صفات فرد أو شعب، أو مجموعة شعوب، حيث تترك انطباعاً سلبيًّا أو إيجابيًّا لدى القارئ أو متلقي هذه التعابير.
ب- الصورة المقولبة (Stéréotype) إنها التعبير اللفظي لاقتناع موجه إلى جماعة اجتماعية أو إلى فرد من أفرادها. ومن ناحية الشكل المنطقي تبدو حكماً تمنح طبقة من الأشخاص، أو تمنع عنها صفات محدودة أو طرقاً مسلكية معينة بطريقة مبسطة تعميمية غير مسوغة ومغلفة بقيم عاطفية»[19].
وقد تعني الصورة أيضاً:
ج- الحكم المسبق (Préconception) موقف أو مواقف سلبية أو رافضة تتخذ تجاه شخص أو جماعة من الأشخاص، حيث تحصل هذه الجماعة بسبب المواقف المقولبة على صفات محددة أصلاً، يصعب جدًّا تصحيحها بسبب الجمود والعناء والشحنات الانفعالية.
د- الموقف: هو تعبير كلامي أو سلوكي فعلي يوحي برأي صاحبه، ويعكس تصرفاته تجاه شخص ما أو مجموعة ما، أو وحدة معنوية (دولة، وطن...).وكما يقول إيرل ديفيس (Earl Davis): «إن الأحكام المسبقة، والصورة المقولبة، والتشبيهات ليست إلا جوانب جزئية من مصطلح أساسي أكثر شمولاً هو المواقف، سواء أكانت هذه المواقف في حالة الإدراك، أو في حالة الانفعال، أو في حالة النزوع»[20].
هـ- الغرب: كتب عبد الله العروي يقول: «منذ ثلاثة أرباع القرن يطرح العرب على أنفسهم سؤالاً واحداً، يظل هو نفسه: «من هو الآخر، ومن أنا» في شباط/ فبراير من عام 1952 وضع سلامة موسى لأحد مقالاته هذا العنوان «لماذا هم أقوياء؟» والـ«هم» لم تكن بأية حاجة للتحديد. «إنهم» «هم» الآخرون الذين هم دائماً إلى جانبنا، وفي ذواتنا، حاضرون. التفكير هو، بادئ ذي بدء، التفكير بالآخر: هذه القضية، الصحيحة أو الخاطئة بالنسبة للفرد، نستوثق من صحتها كل لحظة في حياتنا الجماعية، وبها بالضبط ينبغي البدء.
من هو الآخر بالنسبة للعرب؟ إنه بعد أن سُمِّي خلال زمن طويل مسيحية وأوروبا، يحمل اليوم اسماً غامضاً ودقيقاً في الوقت نفسه، وهو الغرب»[21].
إن ما يدفعنا لإدراج نص العروي هنا هو تمثله العميق للعلاقة بين العرب والغرب، هذه العلاقة التي طبعت فكر العربي، وأصبحت مكوِّناً من مكونات شخصيته، بل المكوِّن الذي يجب أن نبدأ منه.
وإذا كان الآخر في ثقافتنا المعاصرة، هو الغرب، فإن مفهوم «الآخر» اتخذ صوراً مختلفة عبر مراحل تاريخية متباينة، ويبدو أن «الصدمة الاستعمارية» هي التي جعلت الآخر في الثقافة العربية غرباً بعد أن كان متعدداً.
و- المتخيل - المخيال: يقصد بالمتخيل عادة مجموعة من التصورات المشتركة لدى شعب ما أو فئة اجتماعية ما تجاه فئة أخرى أو شعب آخر، وهي تصورات تنقل بواسطة الثقافة. ويحدد محمد أركون المتخيل بقوله:
«1- إنه ملكة استحضار شيء ما كنا قد رأيناه سابقاً.
2- إنه ملكة خلق صور لأشياء غير واقعية، أو لم تُرَ أبداً في السابق، أو ملكة التركيب، لصور معروفة سابقة ولكن بطريقة جديدة.
3- إنه الملكة التي تمكننا من بلورة المفاهيم والتصورات والنظريات الجديدة، وإيجاد تجارب عملية في كل المناسبات.
4- إنه عبارة عن العقائد الخاطئة التي تتصورها النفس وتجسدها في المخيال خارج كل رقابة أو سيطرة للعقل»[22].
نروم من هذه التحديدات الكشف عن بعض التمثلات التي تحدد أفق انتظار المتلقي العربي (متلقي اللسانيات)، وعلاقتها بالتلقي العام، وبأشكال المثاقفة، حتى إذا ربطناها بتلقي اللسانيات كانت الصورة أجلى وأعمق رؤية وتفسيراً. وتجدر الإشارة إلى أن استعمالنا لفظ «صورة» بصيغة المفرد، لا نعني به مطلقاً أن هذه الصورة واحدة مؤتلفة، بل هي جمع بصيغة المفرد، وهي كذلك لأنها، في الواقع، مركبة ومتغيرة، ولأنها لا تكون هي هي في كل مناسبات التلقي.
وما ينبغي أن نؤكده أيضاً أن الكشف عن بعض تجليات هذه «الصورة»، لا يعطينا فكرة واضحة عن علاقتنا بالغرب فقط، بل يُمكِّننا من استجلاء -أولاً و قبل كل شيء- بعض محددات بنية الفكر العربي؛ لأن الصورة تعبير عن أوضاع المجتمع التي ترسخها الثقافة السائدة؛ وهذا ما عبر عنه تودوروف (T. Todorov) بقوله: «من المهم (...) إدراك أن صورة الآخر تحيل إلى واقع من يبنيها وتعبر عنه، أكثر مما تحيل إلى واقع مَنْ بُنيت صورته»[23]. ويقول في موضع آخر: «إن معرفة الآخر ترتبط بهويتي
الخاصة بي، والمعرفة بالآخر تحدد معرفتي بذاتي، وكل إضافة في معرفة الآخر هي إضافة إلى معرفة الذات»[24]، وهذا ما نروم الوصول إليه.
إن صورة الغرب، إذن، على الرغم من تعقدها وتركيبيتها واختلافها، تأتلف وتتوحد لتشكل «صورة واحدة في العقل العربي تتراوح بين اللاوعي الجماعي، والتحليل الحضاري أو الأنثروبولوجي، غير أن الجامع أو المنطلق هو الجرح العربي الذي لم يندمل»[25]. فكيف ساهمت
هذه الصورة في التأثير على تلقي اللسانيات في الثقافة العربية؟
2, 1, 2- صورة الغرب الفكري في المتخيل العربي، وتأثيرها في تلقي اللسانيات:
تأخذ صورة الغرب الفكري في المتخيل العربي كل أشكال التعريف التي حددناها آنفاً. حيث تُرسِّخ في هذا المتخيل وشعوره «أن الغرب غازٍ في طبيعته أو في تاريخه، وهذا الشعور يتأسس على أن الغرب اقتحم دار الإسلام التي كتب الله لها الفتح والنصر (...) الشعور العربي المعاصر يرى في هذا حرباً كولونيالية استيطانية في دنيا العرب»[26]. فالغرب هو
المغتصب والمستعمر، والناهب لخيرات الأمة، وبذلك فهو القرية الظالم أهلها التي يعيش فيها الطاغوت. فلم يكن بالإمكان الفصل بين قمع الغرب وأهدافه العسكرية، وبين ثقافته وإنتاجه الفكري، التي لا يمكن أن تكون إلا ثقافة غطرسة واعتداء. وعلى هذا الأساس فإن «الغرب الحالي يبدو في آن واحد استغلالاً اقتصاديًّا وهيمنةً سياسيةً ومنهجاً فكريًّا وسلوكاً أخلاقيًّا. والمثقفون العرب الذين ينتهجون سلوكه ويستعملون منطقه يعتبرون متحالفين معه»[27]. زد على ذلك أن علاقتنا بالغرب قائمة على
تبادل المواقع، ومن ثمة فكل أخذ عنه أو استعظام لإنتاجه الفكري هو حكم بالضياع على ثقافتنا واستمرار لحصارها، ومن هنا وجب الرفض المطلق لكل ما هو غربي لأن ذلك يُعجِّل بانتهائه، ويفسح المجال لمنتوجنا الثقافي ليكتمل في إطار تبادل الأدوار[28].
لقد شكَّلت هذه المعطيات أسباباً كافية للحد من أهمية كل منتوج ثقافي غربي..فكري أو مادي، ومقاومته مقاومة غريزية، وهذا النوع من المقاومة أعمق تأثيراً بسبب تفوُّق الغريزة على العقل بتعبير نيتشه (Nietzsche).
أ- اللسانيات علماً غربيًّا
اللسانيات علم انبثق عن الحوض المعرفي الغربي؛ إذ «لا يمكننا -نحن العرب- معرفة هذا العلم الجديد إلا من خلال نافذة اللغات الأجنبية الإنكليزية أو الفرنسية؛ ذلك أنه للحق وللتاريخ، وإنصافاً للعلم والعلماء، لا يمكننا إلا أن نعترف بأن اللسانيات الحديثة هي محض العقلية الغربية التي أنتجتها»[29]. وعلى هذا الأساس فإن البحث اللساني لا يمت بصلة
إلى اللغة والثقافة العربية واللغة العربية؛ لأنه «بحث أوجدته ظروف اللغات الأوروبية التي تختلف في انتماءاتها وتكوينها وبيئاتها وشعوبها المتكلمة بها وتأريخها عن العربية وظروفها، اختلافاً كبيراً، يجعلنا في موقف رافض لكل ما يراد من الباحثين المعاصرين العرب أن يسلكوه، أو يتعاملوا به مع العربية»[30].
ولهذا كانت اللسانيات معنية بشكل مباشر بهذا الصراع وبهذه المقاومة، فكان من الطبيعي أن تقاوم مقاومة أشرس. فقد اعتبرت شكلاً من أشكال الإمبريالية العالمية لأنها «تسعى جاهدة إلى تشجيع كل صوت يضرب على وتر الانسلاخ عن اللغة العربية الواحدة، والثقافة العربية الأصيلة بشتى الأشكال الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والعلمية (اللسانية)»[31].
تعبر عن هذه النظرة الكثير من الكتابات العربية سواء كانت لسانية أو غير لسانية. فاللسانيات علم غير نافع، بالنظر إلى أهدافه الاستعمارية التي يتوحد معها ويخدم غاياتها؛ لأن «في نشأة الدراسة اللغوية في «أوروبا» ما يدل على أن للاستعمار، وحملات التبشير المسيحية دوراً رئيساً ساعد على ظهورها وانتشارها، وتطورها، للوصول إلى شعوب العالم التي يقصدونها. ويرجون من ورائها السيطرة والنفوذ»[32].
ويربط محمد محمد حسين بين الصوتيات، أحد فروع البحث اللساني، وبين الاستشراق وأهدافه الاستعمارية بقوله: «اقترنت الدراسات اللغوية الحديثة على الطريقة الغربية -والصوتية منها بنوع خاص- بالدعوة إلى العناية باللهجات العامية وآدابها، أو ما يسمونه «الأدب الشعبي»، والدعوة بشكلها هذا جديدة على الدراسات العربية، لم يسمع لداع بها صوت قبل القرن الأخير، وقد نشأت أول ما نشأت باقتراح بعض المستشرقين من رجال الاستعمار»[33].
إن الحفاظ على اللغة العربية لا يمكن أن يكون إلا بإبعادها عن مناهج اللسانيين المحدثين التي تتسم بالتناحر والتناقض: «إن العربية، مع ما وصل إلينا من دراسات في اللسان العربي، وقوامة هذه الدراسات، وإيفائها بما يحتاجه البحث المعاصر من معرفة، وفهم، وإدراك لما كانت عليه، وما آلت إليه الدراسة اللغوية الحديثة -ولا سيما الأوروبية- ينبغي لها أن تكون بمنأى عن أن يقحمها الباحثون العرب في تلك المآزق والمجاهل التي لا تخرج منها إلا بتناحرات وتناقضات مذهبية، ليست العربية بحاجة إليها، ولا هي بماتّة بصلة إليها، فكيان العربية وشخصيتها، وأصولها، وضوابطها، ونصوصها الأصلية وآثارها الواصلة إلينا، قد اكتسبت درجة الاكتفاء الذاتي، وحملت معها عناصر بقائها وديمومتها واستمرار قوتها، وسر حيويتها وحركتها وإنعاشها، ببقاء كتاب الله العزيز، وبهذا التراث العظيم الواصل إلى أبنائها مدوناً ومحفوظاً ومدروساً، مكوّناً زاداً ثرًّا ومَعيناً لا ينضب، يستمد منه أبناؤها ما هم بحاجة إليه من التغذية والتوعية والتثقيف»[34].
وقد وجدت مثل هذه الدعوات من يدعمها من اللسانيين دون تمحيص أو تدقيق. يقول منذر عياشي: «لقد وجد البحث اللغوي العربي نفسه تبعاً لعدد من الممارسات الاستشراقية، التي أرادت فرض سيطرتها عليه، والانحراف به عن النهج العلمي، بغية التشكيك في الجدوى التاريخية للإنتاج المعرفي في الحضارة العربية الإسلامية. كما وجد نفسه أيضاً تبعاً لعدد كبير من النظريات والمناهج والمدارس الغربية. وذلك لأنه لا يملك نظرية خاصة به مستوحاة من الحضارة التي يريد أن ينطق باسمها»[35]،
وهذه واحدة من المشكلات التي أرَّقت البحث اللغوي في ثقافتنا وحالت دون أخذه لموقعه الصحيح بحسب الباحث، ويؤكد هذا من خلال الربط بين الاستشراق والاستعمار وبين اللسانيات. يقول: «أما البعثات التبشيرية فقد تجلَّى دورها في الإلحاح على قطع صلة الشعوب المستعمرة بماضيها الحضاري، وأما حركة الاستشراق، فقد سعت حثيثاً لتحريف وتشويه تاريخ الفكر العربي والتشكيك فيه. كما أنها ركزت جهوداً جبّارة للتقليل من أهمية اللغة العربية ودورها الحضاري حتى بدت في عيون بعض (المثقفين) العرب لغة ميتة لا علاقة لها بالعصر الحاضر، ولا تفي بحاجات التطور العلمي»[36].
وإلى الطرح نفسه يميل عبد السلام المسدي، عندما يربط بين أهداف الاستشراق وبين الدراسات اللسانية ممثلة بدراسة اللهجات؛ يقول: «لا مهرب لنا من الإقرار موضوعيًّا بأن بعضهم [يقصد المستشرقين] قد عمل على ازدهار علم اللهجات العربية بباعث إما سياسي غايته استعمارية، وإما عقائدي يهدف إلى تقليص البعد الديني والوزن الروحي الذي للعربية عند أهلها، وإما مذهبي يرمي إلى نقض التركيب الهرمي في المجتمع انطلاقاً من دكّ بنيته الفكرية»[37]؛ وهذا يعني أن العناية
بدراسة اللهجات كان لأهداف مبيَّتة، والحال أن هذا الاهتمام أملته طبيعة البحث التي كانت سائدة في تلك الفترة بالدرجة الأولى. ويربط عبد الله بوخلخال بين العناية باللهجات وبين الأطماع الاستعمارية بقوله: «ولكن لما ظهرت ملامح أطماع الأوروبيين في استعمار العالم العربي، والبحث عن كل الوسائل والأساليب التي تُسهِّل لهم التسلل بين الجماهير العربية، تبينت لهم ضرورة الاهتمام باللهجات العربية العامية وتعليمها، فأدخلوا تدريس العربية في مدارسهم وجامعاتهم مستعينين في ذلك ببعض العرب، الذين كانوا يعملون في بلادهم أو يزورونها من حين إلى آخر، والمستشرقين الذين كانت لهم معرفة دقيقة باللهجات العربية، وكان هدفهم تعليم القناصل والمبشرين والجواسيس الأوروبيين المرسلين إلى البلاد العربية»[38].
إن مثل هذه الدعوات ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا؛ إذ نجد من يربط بين الاستشراق واللسانيات ربطاً آليًّا، ويعتبر اللسانيات لباساً جديداً للاستعمار، وهذا ما يعبر عنه محمد حسين الأعرجي بقوله: «علينا أن نُفرِّق بين مدرستين في الاستشراق: مدرسة أوروبا الغربية، ومدرسة أوروبا الشرقية. فإذ نجد أن المدرسة الغربية لا تخلو من أهداف استعمارية، بقيت عالقة بها إلى اليوم، ولكن بلبوس آخر، يُسمَّى لسانيات، تركَّز على دراسة اللهجات المحلية، وبنيوية تنتهي إلى قتل حاسة تذوق الجمال الأدبي حيناً آخر»[39].
إن اهتمام اللسانيات بدراسة اللهجات، ودراسة الأصوات جرَّ عليها تبعات كثيرة بالنظر إلى الدور السلبي الذي كرَّسه الاستعمار في اهتمامه بهذا النوع من الدراسة، ومن ثم فالنظرة السائدة هي أن كل دراسة تهتم بهذه الجوانب هي دراسة استعمارية؛ وعلى هذا الأساس فإن هذا النوع من الآراء يربط بشكل عفوي وآلي بين الاستشراق والاستعمار، وبين البحث اللساني، دون الانتباه إلى ما يقوم عليه هذا الربط من مغالطات.
كما رفضت اللسانيات بذرائع أخرى، منها أنها منهج بحثي خاص بلغات أخرى؛ ولذلك من العسر والتعذر أن يطبق هذا المنهج الذي وضع مناسباً للغة -أو لغات ذوات سمات خاصة- على لغة امتلكت في ذواتها قوة خلودها وبقائها راسخة على خصائصها[40]. وأي تطبيق من هذا القبيل
يُشكِّل انصرافاً عن البحث اللغوي العربي الأصيل، وهذا رأي العبيدي الذي يقول: «ولعلني لا أبالغ إذا قلت: إن ثمة غلوًّا محموماً ينهد به نفر من المغرمين بالبحث الألسني الأوروبي في هذا القرن، يهدف إلى الانصراف عن البحث العربي الأصيل إلى الألسنية الحديثة، ولا سيما المعنيين بالعربية، ممن تعلموا شيئاً عند الغربيين، أو اطَّلعوا على ما جاءت به الترجمات من كتب البحث اللساني في فرنسا وغيرها من أقطار أوروبا بعد سوسير (1913م) وهو بحث مقحم على العربية، بعيد عن أنفاسها وخصائصها، وإدخال أهلها في ميدان غير مناسب لها، ولا متلائم مع طبيعتها، في الوقت الذي كانت الدراسات العربية الأصيلة قد آتت أكلها، وخدمت الحرف العربي خدمة لا مثيل لها، وأبرزت خصائص هذه اللغة إبرازاً متكاملاً، لا يحتاج معه أبناؤها إلى مزيد من المداخلات والتعقيدات التي يتسم بها البحث الأوروبي الحديث»[41].
ب- اللسانيات رمزاً للحداثة
إذا كانت اللسانيات معرفة غربية، فإنها علاوة على ذلك تدخل في دائرة المعارف الحديثة؛ ولهذا لم تسلم من دائرة الصراع بين القدامة والحداثة، أو ما عبر عنه بالأصالة والمعاصرة، قضية الفكر العربي الأولى والأساسية على حد تعبير محمد عابد الجابري[42]. وترجع جذور هذا
الصراع -كما هو معروف- إلى بداية عصر النهضة؛ وقد كانت الدراسات اللغوية معنية بشكل أكبر بهذا الصراع لاعتبارات كثيرة ترتبط بالدين، واللغة، والقومية...، فكان من الطبيعي أن ينخرط اللغويون في هذه الدائرة كل من موقفه الخاص.
إن البيان العربي كله مؤسس على سحر الكلمة ووقعها، وإذا كان الأمر كذلك فلا نستغرب إذا وجدنا الموقف الحضاري بارزاً في كل قضايا اللغة، فقد اعتبر الكثير من اللسانيين العرب الدراسة اللسانية أساساً للبرهنة على صحة التراث ونفوذه وقوته، وهذا ما تعبِّر عنه الكتابات اللسانية العربية التي حاولت الربط بين اللسانيات والتراث اللغوي العربي ربطاً آليًّا (لسانيات التراث)[43]، فلم تخرج بذلك في مجملها عن دعوات
مماثلة أطَّرت الفكر العربي في كليته.
وعلى طرف نقيض، نجد من اللسانيين من يرفض الرجوع إلى الماضي، فالمعرفة اللسانية معرفة حديثة، شأنها في ذلك شأن كل العلوم الإنسانية، ولذلك يجب أن نجردها من أي تاريخية ممكنة، لأن ذلك مما يسيء إلى الفهم، ويبعدنا عن الانخراط في منجزات العصر، فالطريق الأمثل لتفادي الاستلاب التراثي، هو الخضوع للوعي التاريخي الذي سيفتح أعيننا على الواقع لأول مرة، ويمكننا أن ننظر إلى اللغة والتراث وتاريخنا الخاص مواد منفصلة عنا لا نستطيع أن نتصل بها إلا عن طريق التحليل والتركيب العقلي.
لقد انخرط اللسانيون العرب في قضايا الفكر العربي بشكل مباشر، لا يختلف في شيء عن باقي أشكال الفكر الأخرى، وبذلك ظلت القضايا المرتبطة بأسئلة النهضة هي نفسها موضوع نقاش بين اللسانيين؛ إذ على الرغم من مرور سنوات عديدة على الأسئلة المثارة، فإن استخلاص جواب نهائي يعجل بحل الإشكال المطروح ظل بعيد المنال، وبخاصة في ظل المتغيرات المتلاحقة التي تمثلت مؤخراً في العولمة وما تطرحه من قضايا فكرية وثقافية «وتتحكم في رقاب هذا الموضوع أسئلة عديدة من قبيل: بأي وضع لغوي نستقبل ما يسمى بعصر العولمة؟ وبأي وعي لساني نلج هذا العصر؟ أهو وضع (ووعي) لغوي متأخر أم متقدم؟ وهل يسمح أو لا يسمح بالتحديث؟ وما دور اللغة (ات) في التحديث ؟ وبأية لغة (ات) ننجز هذا التحديث؟ وكيف حال اللغة (ات) التي يراد لها أن تحدثنا؟ وهل عمل كل ذلك التراكم اللساني العربي (...) على بدء لبنات التحديث»[44].
لا شك أن هذه الأسئلة تضمر الإجابة عن سؤال إشكالي واحد: أي لسانيات عربية لعصر العولمة؟ غير أن تلك الأسئلة لا يمكن أن تخفي عنا حقيقة أساسية وهي إعادة صياغتها للأسئلة التي طرحت إبان عصر النهضة، وهذا يعني أن الذي تغيَّر هو سياق السؤال لا غير.
يفهم من ذلك أن الأسئلة التي طرحت سابقاً هي نفسها ستعاود الظهور بقشيب جديد، يخضع لمتغيرات القول لا لجوهره.فعن أي وضع لساني سنتحدث في عصر العولمة وماذا أعددنا لذلك؟
الأكيد أننا سنجتر أسئلة الماضي، وسنركن إلى إطلاق الأحكام الجزافية، وسنربط العولمة بانتشار الثقافة الأوروبية وبالاستيطان والاستعمار والمحاكاة الثقافية[45]؛ وهذا غير جديد على ثقافتنا، ما دامت هذه
الأطروحات قد ترسخت في متخيلنا، ونقشت بحبر يصعب محوه.
فما هي المنزلة التي سيتنزلها اهتمام اللسانيين العرب بالتراث أو الحداثة؟ وما هي الطريقة التي سيفكرون بها في ذلك؟ وما هي أبرز تجليات هذا التفكير؟
لقد ولدت العوامل السابقة إحساساً عند المتلقي العربي بضرورة الاعتماد على المعطيات الحضارية التي ترسخت عبر التاريخ، وهو إحساس سيجد له في ذاكرته الفردية والجماعية ترسبات تدعمه، فكانت أولى الاهتمامات، تلك التي همت الجانب البياني العربي متمثلاً في مكانة اللغة العربية ومنزلة النحو العربي.
مكانة اللغة العربية
ارتباطاً بالأسباب النفسية والحضارية، نشير إلى «المهابة والتقديس اللذين يباشر العربي -ولا سيما اللغوي- بهما لغته والتراث البياني الذي نشأ حولها؛ فمن المسلم به أن علوم البيان تشكل في الفكر العربي الأساس المتين الذي وازى الفترة التأسيسية لعلوم العرب، فقد اغتذى البيان من كل معارف العرب وأخصبها؛ فلذلك تأسس حيال علوم العربية من الاعتداد ما لا يعادله إلا تقديس العربية ذاتها»[46]. في هذا السياق يقول
المسدي: «فعن هذا الواقع الحضاري المعرفي نشأت لدى العربي رؤية من القداسة تجاه لغته النوعية وتجاه علمنة اللغة ذاتها، كما نشأ سياج من المحظورات ترسَّخت بموجبه عقدة الاستغناء»[47]. فأين تظهر هذه
القداسة؟ وكيف أثَّرت سلباً في تلقي اللسانيات؟
إذا كانت اللغة وسيلتنا لإدراك العالم، فإن المعادلة تنقلب هنا ليصبح إدراكنا للعالم هو ما يتحكم بشكل أو بآخر في قضايا لغتنا ونظرتنا إليها ويحدد أفق انتظارنا. فاللغة العربية ترتبط بكيان المتلقي العربي ارتباطاً لا يُضاهى، هذا الارتباط نابع من اعتبارات دينية، وحضارية، ونفسية.
إن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم المعجزة الربانية الخالدة؛ التي شرَّف الله بها أمة العرب، وكرَّمها لما أنزل آخر كتاب سماوي -وهو كتاب ناسخ للكتب السماوية السابقة- بلسانها[48].
إن التشريف الذي حظيت به اللغة العربية، باعتبارها لغة القرآن الكريم؛ جعل قدسيتها من قدسية القرآن ومكانتها من مكانته، فكان من الطبيعي أن يربط العرب بين اللسان العربي والأعمال الإيمانية، كما هو الحال عند الإمام الشافعي الذي يقول: «على كل مسلم أن يتعلم لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك»[49].ويشير ابن فارس إلى ضرورة تعلم اللغة
العربية لارتباط ذلك بتعلم القرآن والسنة بقوله: «إن العلم بلغة العرب واجب على كل متعلق من العلم بالقرآن والسنة والفتيا بسبب حتى لا غنى بأحد منهم عنه، وذلك أن القرآن نازل بلغة العرب، ورسول الله عربي. فمن أراد معرفة ما في كتاب الله... وما في سنة رسوله... من كل كلمة عربية أو نظم عجيب، لم يجد باللغة بداً»[50].
وهذا يفرض بالضرورة الحفاظ على هذه اللغة، والاعتناء بها لأن حب العربية من حب القرآن، وحبهما من حب الله «إن من أحب الله أحب رسوله المصطفى، ومن أحب الرسول أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العرب و العجم، ومن أحب العربية عُني بها وثابر عليها وصرف عليها همته»[51].
وتستمد اللغة العربية المناعة التي حظيت بها من مجموعة مقومات.فهي:
أ- لغة القرآن الكريم: تكفَّل الله سبحانه باللغة العربية وبرعايتها وحفظها، فكان في حفظ القرآن حفظ للغة العربية، وكل من «يؤمن بأن القرآن حقيقة خالدة مجبر على أن يؤمن بأن لغة القرآن -وهي العربية الفصحى- هي أيضاً حقيقة خالدة، لأن خلودها مرتبط بخلوده وبقاءها ببقائه»[52]. يشهد على ذلك كون العربية هي اللغة «الوحيدة بين
المجموعة السامية التي ثبتت على مر العصور في حين لم تثبت تلك اللغات»[53] التي عاصرتها أو تكوَّنت بعدها.
ب- رمز العروبة و الإسلام: فتعلم اللغة العربية أمر واجب على كل مسلم، إذ «لا عروبة ولا إسلام لمن لا يحسن اللغة العربية يوقرها من أبناء العرب، وإذا حييت اللغة العربية حيي معها الاعتزاز بالشخصية العربية، والتعلق بكتب التراث، وعلى رأسها القرآن والحديث وسير الأبطال والصالحين»[54]. وهذا الارتباط بين «العروبة والإسلام من أروع ما تفتقت عنه عبقرية الإسلام وهو وجه من وجوه إعجازه»[55].
ج- لغة الحضارة والقومية: فحضارة العرب في كليتها مبنية على الكلمة وسحرها وبيانها، أو لنقل بالكلمة الواحدة: إنها حضارة لغو، لغو لا قدح فيه، فلما كانت العربية شاملة لكل ميادين الحياة أخذت اللغة أيضاً هذا الطابع الشمولي، وهي ميزة أخرى لا تعدلها فيها لغات أخرى، وإلى هذا يذهب صاحب كتاب (دفاعاً عن العربية) حيث يقول: «أما الحضارة العربية - الإسلامية التي تحملها وتحويها اللغة العربية فإنها عنيت بنواحي الحياة كلها. فإنها عنيت بأسمى معاني الإنسانية، فهي أولاً حضارة روحية وأخلاقية، ثم إنها حضارة تشريع، ثم إنها حضارة فلسفة وفكر متفتح، ثم إنها حضارة علمية درست الطبيعة والإنسان دراسة تجريبية، ثم إنها حضارة آداب وفنون جميلة، ثم إنها حضارة صناعة وتجارة. فاللغة العربية تحمل ثروة من الثقافة الإنسانية لا تنضب»[56].
إن الارتباط مكين بين لغة العرب وحضارتهم، وكل منهما مبني على الآخر؛ وعليه فإن «الحضارة لا تتأتى لأحد إلا عن طريق اللغة... الحضارة في نوع من التعريف الموجز، هي لغة، وعن طريق اللغة يكون التفكير كله، ويكون التفاهم كله، ويكون التواصل كله، ويكون التفاعل بين العقول والأفكار، اللغة هي أضخم عملية حضارية، تنشئ الحضارة وتتمثلها وتعبِّر عنها، وهي ذات رصيد حضاري لا حدود له، ولهذا فإن نمو لغتنا وازدهارها وقيامها بدورها الفكري هو معلَم من معالم حياتنا الحاضرة، وطريق أساسي من طرق بناء المستقبل»[57].
للاعتبارات السابقة تكون الوحدة اللغوية للأمة هي السبيل لوحدتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وهي أساس تميزها الحضاري «فليس تتم الوحدة السياسية، وتستقيم النظم الاجتماعية في شعب من الشعوب إلا على أساس الوحدة اللغوية التي تصبح للشعب بمثابة رباط سحري يجذب أفراده بعضهم إلى بعض، ويوثق الصلة بينهم فيفكرون في عقل واحد، ويشتركون في مشاعر وأحاسيس موحدة، ويتعاونون على ما فيه خيرهم، وما يكفل لهم الأمن والاستقرار والرخاء»[58]، فكانت اللغة بكل ذلك «أسّ الأساس في كل قومية»[59].
باعتبار ما سبق «يتبين لنا أن العربية، مع ما وصل إلينا من دراسات في اللسان العربي، وقوامة هذه الدراسات، وإيفائها بما يحتاجه البحث المعاصر من معرفة، وفهم، وإدراك لما كانت عليه، وما آلت إليه الدراسة اللغوية الحديثة -ولا سيما الأوروبية- ينبغي لها أن تكون بمنأى عن أن يقحمها الباحثون العرب في تلك المآزق والمجاهل التي لا تخرج منها إلا بتناحرات وتناقضات مذهبية، ليست العربية بحاجة إليها، ولا هي بماتّة بصلة إليها، فكيان العربية وشخصيتها، وأصولها، وضوابطها، ونصوصها الأصلية وآثارها الواصلة إلينا، قد اكتسبت درجة الاكتفاء الذاتي، وحملت معها عناصر بقائها وديمومتها واستمرار قوَّتها، وسر حيويتها وحركتها وإنعاشها، ببقاء كتاب الله العزيز، وبهذا التراث العظيم الواصل إلى أبنائها مدوناً ومحفوظاً ومدروساً، مكوناً زاداً ثرًّا ومعيناً لا ينضب، يستمد منه أبناؤها ما هم بحاجة إليه من التغذية والتوعية والتثقيف»[60].
على هذا الأساس تكون المكانة التي تحظى بها العربية ذات أسباب نفسية ترتبط بالحظوة التي نالتها من القرآن الكريم. كما أن هذا الاهتمام له جذوره في التراث العربي، ومن ثمة يمكننا أن نفهم أن آراء بعض المحدثين هي استمرار لآراء القدامى وتمسك بها.
إن غايتنا من النصوص التي سقناها أعلاه الربطُ بين الأسباب ومسبباتها. فلا شك أن ما تصدح به تلك النصوص يعطينا فكرة واضحة عن علاقة العربي بلغته، وهي علاقة تشمل كل جوانب الحياة، فكان من الطبيعي، أن ينظر العربي إلى لغته نظرة خاصة، ويبحث لها عن كل أشكال التميز، وأن يغدق عليها أجمل الأوصاف وأجلها، فهي «لغة ذات عبقرية»[61]. وهي «سيدة لغات العالم القديم» [62] بل هي «أبرز ملامح
ثقافتنا العربية، وهي أكثر اللغات الإنسانية ارتباطاً بالهوية، وهي اللغة الإنسانية الوحيدة التي صمدت سبعة عشر (17) قرناً سجلاً أميناً لحضارة أمتها»[63]. فهل من المعقول أن يفرط العرب في لغتهم «الرابط الذي بقي لهم بعد أن خسروا أكثر المعارك؟»[64]. وهل من الموضوعي أن نقارن
ونساوي بين اللغة العربية ولغات أخرى في ضوء مستجدات البحث
اللساني؟ وهل تصح المقارنة في ضوء التفاوت الحاصل بين لغة العرب ولغات غيرهم ؟... هذه الأسئلة وغيرها كثير تلخّص جوانب من إشكالات تلقي اللسانيات في الثقافة العربية؛ وهي الإشكالات التي ظلت المحدد الأول لأفق انتظار المتلقي العربي في علاقته باللسانيات.
منزلة النحو العربي:
يحتل التراث النحوي العربي مكانة متميزة في الثقافة العربية، لحجمه الهائل، وكثرة العلماء الذين أقبلوا على دراسته والتأليف فيه، ثم خاصة لحضوره الدائم في ذاكرتنا الجماعية وتوجيهه لكثير من اختياراتنا وسلوكاتنا مهما تنوعت أشكال هذا الحضور والتوجيه[65]، فقد نبت هذا النحو «عند العرب كما تنبت الشجرة في أرضها»[66]، كما أنه «أنقى العلوم العربية عروبة»[67]؛ ويكفي هذا النحو فخراً أن ينعت كتاب سيبويه، وهو أول كتاب نحوي بـ>قرآن النحو»[68]؛ ففي هذا الوصف
إشارة واضحة إلى القداسة والاحترام اللذين يحظى بهما النحو في ثقافة العرب.
وقد زاد من مناعة النحو وقوة حضوره في ثقافة العرب ارتباطه المكين باللغة العربية، وبقضاياها، لذا كانت أهمية النحو من أهمية اللغة، وقداسته من قداستها. تشير إلى هذه اللحمة القوية تلك الروايات الكثيرة التي تربط نشأة النحو العربي بصون القرآن الكريم من اللحن، بعد اختلاط العرب بالأعاجم وفساد الألسنة.
لقد كانت نشأة النحو، لأجل هذا الغرض الديني الذي يروم الحفاظ على الكتاب المنزل، المعجزة الخالدة، وهذا تحديداً ما جعل من الدراسات النحوية واللغوية عموماً أثقل مظهر عقلاني عربي، ودفع علي حرب إلى وصل الحضارة العربية في كليتها بالدراسات اللغوية مبيناً أنه: «إذا كانت الحضارة العربية قد انطلقت مما سمي «الأعجوبة اليونانية» التي قفزت بالفكر من المستوى الخرافي إلى المستوى العقلي، فإن الأعجوبة اللغوية هي التي صنعت الحضارة العربية»[69].
إن المكانة التي يحظى بها التراث النحوي في الحضارة العربية لا تبعث على الدهشة بالنظر إلى حضورها القوي في ذاكرتنا الجماعية، فحسب، بل بالنظر أيضاً لمقاومتها القوية لكثير من التيارات الجارفة، وهي مقاومة لم تبدها الثقافة العربية في مجالات أخرى عديدة، فقد اصطدم العرب بالغرب وبمنتجاته الفكرية في مجالات شتى، مادية ونظرية، ولكن ما يلاحظ هو أن العرب استسلموا أمام الغرب بعد أن «انهزموا أمام علمه المادي، فنسوا طبيعيات ابن سينا وغيره، و انهزموا أمام علم اجتماعه، فأصبح ابن خلدون وغيره في ذمة الدين التاريخي، وانهزموا أمام علم نفسه، فنسوا علم النفس لابن باجة، ولكن جزءاً كبيراً منهم لم ينهزم أمام علم اللغة الغربي»[70].
إن أسباب هذا الصمود ليست طبيعية، ولا شك، لأنها لو كانت كذلك لتلاشت بسرعة، ولكان الانهزام كما حصل في مجالات أخرى عديدة، إن هذه المقاومة لا يمكن أن تفسر إلا بالعوامل التالية:
«1- ضخامة التراث اللغوي العربي، وارتباطه في الذهن باللغة العربية؛ فالتخلي عنه تخلٍّ عن العربية (...).
2- سوء تقويم الوافد الغربي (...).
3- الحساسيات القومية التي يظهر مفعولها في الموضوع اللغوي ويختفي مع الموضوعات الأخرى»[71].
إن هذه الأسباب ترتبط بما أسلفنا الحديث عنه في الفقرات التي خصصناها للحديث عن أهمية اللغة العربية، كما تجد تفسيرها في الأهمية التي حظي بها النحو أيضاً، غير أن أسباباً أخرى لهذه المناعة التي حظي بها النحو العربي تبقى واردة، ومن ذلك ما يرتبط بالجانب النفسي على الخصوص. فقد كان لظهور النبوة في المجتمع العربي آثار بسيكوسوسيولوجية بتعبير الأستاذ أحمد العلوي[72]، ومن تلك الآثار ما
يفسر مناعة النحو في الثقافة العربية. فالذهنية الإسلامية تميل إلى تقسيم الاختصاصات بين الأمم، وعلى هذا الأساس ربطت الفلسفة بفروعها بالمجتمع اليوناني، والحكمة والحساب بالهند... والشعر والآداب بالعربية، فلما كان ظهور النحو وعلوم الدين كان من المفروض ربطهما بأمة العرب، وإلى هذا يشير أحمد العلوي بقوله: «ليست العربية في صورتها النحوية أو المعجمية نظاماً محللاً له مثيل عند الأمم الأخرى، ولكنه علم عربي يصنف بجانب العلوم الأخرى التي تشترك في إقامتها الشعوب والأجناس (...)، إن الشعب العربي، في ذهن المجتمع الإسلامي، قد حمل معه علمين هو الحقيق بأن يؤخذا عنه هما علم الدين و علم العربية، وهما علمان يضافان إلى العلوم الأخرى التي عرفتها الإنسانية من قبل»[73]، لقد كانت هذه الأسباب كافية لجعل الوجود اللغوي
والوجود القرآني حقيقتين متوازيتين قائمتين في ضمير المجتمع الإسلامي، بحسب العلوي، دائماً.
كان من الطبيعي إذن، أن تفرض هذه الأسباب مجتمعة، نفسها وحضورها على الذهنية العربية، وأن تحضر، بهذا الشكل أو ذاك، كلما تعلق الأمر بدراسة تنحو منحى الدراسات النحوية كما هو الحال بالنسبة إلى اللسانيات. لقد كان لكل ذلك بالغ التأثير في توجيه عملية التلقي.
إن اللسانيات هي نتاج غربي محض، فلم يكن من المستساغ، ولا من المقبول أن يسلم العربي أموره اللغوية إلى اللسانيات بعدما ظل تراثه اللغوي صامداً قائماً لقرون عديدة حتى بلغ درجة النضج والاكتمال، فقد «نضج النحو العربي حتى احترق»، وكل تفريط في هذا الإرث الزاخر يعد طمساً لمقوماته الحضارية وتفريطاً في نصيبه من تركة العلوم بعد تقسيم الاختصاصات بين الأمم.
2, 2- العوائق الذاتية: اللسانيات واللسانيون وتكريس الوضع القائم
نقصد بالعوائق الذاتية مختلف الأشكال المرتبطة بتلقي اللسانيات في الثقافة العربية في علاقتها باللسانيات واللسانيين، وهدفنا من ذلك الاستدلال على أن الوضع الراهن للسانيات في الثقافة العربية اليوم لا يرتبط بالإشكالات المطروحة على صعيد الفكر فحسب، بل يتعدى ذلك إلى اللسانيات نفسها. ويمكن أن نميز -على مستوى العوائق الذاتية- بين نوعين من العوائق: بعضها يتصل باللسانيات، وبعضها الآخر يرتبط باللسانيين.
1, 2, 2- اللسانيات وعوائق التلقي[74]
يمكن أن نجمل أهم العوائق التي تطرحها اللسانيات العربية، وتساهم من خلالها في تكريس الوضع القائم فيما يلي:
1, 1, 2, 2- غياب اهتمام واضح بقضايا المجتمع
مما يعاب على العلوم الإنسانية عامة في الثقافة العربية، علاقتها المضطربة بالمجتمع العربي، مما وسمها بوضع غير مطمئن من حيث المصداقية ومن حيث المردودية التنموية، وهذا ما طبع مسيرتها بملامح الضعف على مستوى الإبداع والإنتاج وعدم الفعالية في الحصيلة والتراكم. ويبدو أن اللسانيات لم تشذ عن هذا الواقع، على الرغم من المكانة التي تحظى بها، مقارنة مع باقي العلوم الإنسانية الأخرى.
ومن هنا لا يمكن أن نفصل بين راهن اللسانيات في الثقافة العربية، وبين إشكالات التلقي الناجمة عنها؛ فهناك منطق يجمعها، حتى وإن ظهرت لنا أنها مختلفة.
تبدو اللسانيات عاجزة عن المساهمة في حل المشكلات اللغوية ذات الارتباط الوثيق بموضوعها، فالمجتمعات العربية، كما هو معروف، غنية بتنوعها الثقافي وتعددها اللغوي، مما قاد إلى مجموعة من المشكلات اللغوية المتداخلة على مستويات مختلفة منها: المستوى التعليمي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي... والملاحظ أن اللسانيات ظلت غير آبهة بهذه المشكلات، وكأنها لا تمت بصلة إلى مجالات اهتماماتها، وهذا ما قد يفسر بعجز اللسانيات عن الانخراط في القضايا العامة للمجتمع، وعدم امتلاك الآليات والأدوات الكفيلة بإيجاد مخرج للكثير من المشاكل المطروحة؛ وكل ادعاء من هذا القبيل يبقى مفتقداً لحجج تسنده على المستوى العملي، ومن هنا لا تجد المشكلات اللغوية «الاهتمام اللازم من علم اللسانيات كما هو ممارس من العالم العربي، هذه المشكلات تتصل بمجالات الحياة العامة في القانون (...)، وفي الطب (...)، والصناعة (...)، والإدارة (...)، والإعلام (...)... إلخ وهذه مشكلات قد لا نجد لها وعياً مباشراً بها، ولكن هذا لا يعني أنها غير موجودة، أو أنها لا أثر لها، أو أنها لا ضرورة لإثارتها في غياب الوعي الشعبي بها كمشكلات. بل مهم تماماً أن يتدخل اللسانيون وأن يُعملوا المعرفة اللسانية التخطيطية لدراسة هذه المشكلات، وتفسيرها والتقدم بحلول عملية لها»[75].
2, 1, 2, 2- هامشية اللسانيات ومحدوديتها في القضايا والتحديات التي تواجه الأمة
تبقى القضايا والتحديات التي تواجه الأمة العربية الإسلامية أقل وطئاً، إذا ما قورنت بتحديات أكبر «تتصل بقضايا الوحدة والتجزئة، على المستويين القومي والقطري، وبقضايا الاحتلال الإسرائيلي، ونقل التكنولوجيا، وكذلك بقضايا الشرعية وحقوق الإنسان، وتنطوي كل واحدة من هذه القضايا على بعد لغوي يكون خصيصة لازمة لها أو ناتجاً سلبيًّا منها، أو عاملاً جوهريًّا في فهمها وتفسيرها، بل وفي تغييرها.
فبينما تفرض هذه الإشكالات حضورها يوماً عن يوم، تسجل اللسانيات غياباً يكاد يكون شبه كامل عن هذه القضايا. ولا تمثل الجوانب اللغوية في هذه القضايا موضوعات بحثية قارة في جدول الأبحاث اللسانية. لا تتوافر في هذا العلم أصولية معرفية لإدراك وتفسير تعقيدات البعد اللغوي في تداخله مع تلك القضايا»[76].
إذا كان الوضع اللغوي هو أول ما يجب أن يطرح بصفته إشكالية للبحث، فإنه يظل هامشاً، بل لا يناقش على الإطلاق وكأن واقعنا وحدة متجانسة لغويًّا. ويمكن أن يفسر غياب الاهتمام اللازم بالقضايا الكبرى للمجتمع بالحساسيات التي تثيرها بعض القضايا المطروحة؛ كما هو الحال بالنسبة إلى تدريس اللهجات، هذا الموضوع الذي ظل دائماً «غائباً في أجندة البحث اللساني في العالم العربي. ولكن لا تزال مشروعية وجوده محدودة. وليست محدودية هذه المشروعية بسبب التصورات حول الاستعمار والمستشرقين، وتآمرهم ضد الفصحى فحسب، ولكن لأن الدراسات اللهجية اقتصرت في أغلبها على البنية اللغوية: الأصوات، النحو والمعجم، وأهملت، نسبياً، الجوانب الاجتماعية»[77]. وهذا يؤكد ما
ذهبنا إليه آنفاً عندما ألمحنا إلى تأثر العديد من اللسانيين بالوعي «الشعبي» السائد.
3, 1, 2, 2- عجز اللسانيات عن حل مشاكلها الخاصة
إذا كانت اللسانيات العربية عاجزة عن إيجاد حلول ممكنة للكثير من إشكالات وقضايا المجتمع، فإنها تبدو عاجزة أيضاً عن حل الكثير من الإشكالات المرتبطة بموضوعها، ومن ذلك إشكالية المصطلح اللساني، وإشكالية تعريب المفاهيم اللسانية، وهما إشكاليتان غير منفصلتين من جهة النظر، حتى وإن بدا لنا ذلك. فما هي أهم الإشكالات المثارة على هذا المستوى؟
أ- إشكالية المصطلح اللساني في الثقافة العربية
تبقى قضية المصطلح من القضايا التي أولتها اللسانيات أهمية خاصة، بالنظر إلى أهميتها في تيسير العلوم وبناء صرحها، وخلق نوع من التقارب بين العلماء وتوفير الجهد على الباحثين وتقليص مجالات الاختلاف بينهم. وكل نجاح للعلم يتوقف في جانب منه على تحديد وضبط جهازه المصطلحي؛ لأن «مفاتيح العلوم مصطلحاتها، ومصطلحات العلوم ثمارها القصوى، فهي مجمع حقائقها المعرفية، وعنوان ما يتميز به كل واحد عما سواه. وليس من مسلك يتوسل به الإنسان إلى منطق العلم غير ألفاظه الاصطلاحية، حتى كأنها تقوم من كل علم مقام جهاز من الدوال ليست مدلولاته إلا محاور العلم ذاته ومضامين قدره من يقين المعارف وحقائق الأقوال»[78].
وبالنظر إلى الرصيد الفني للسانيات العربية في مجال الدراسة المصطلحية، نجد أنه ما زال يشكو من عقبات حقيقية؛ لغياب رصيد اصطلاحي مشترك يوحد اللسانيين ويؤلف بينهم. فرصيدنا المصطلحي في مجال اللسانيات هو ضرب من الأهواء النابعة من الميول والابتكار الشخصي الذي لا يتقيد بمنهجية علمية دقيقة.
إن اللساني الذي يضطلع بمسؤولية تطويع ومواكبة وتوليد اللغة -في جميع الحقول المعرفية- يبقى عاجزاً عن البدء بالمجال الأقرب إليه والمعني به بشكل مباشر، وهذا يولد شعوراً بالإحباط وإحساسا بالخيبة.
ب- إشكالية التعريب
ليست قضية التعريب قضية حديثة، كما قد يعتقد البعض، بل هي واحدة من القضايا والمباحث المتشعبة التي ظلت تلقي بعبئها الثقيل على الثقافة العربية. وقد ظهرت ملامح تشكلها منذ بداية القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من ذلك فإننا لا نجد إلى حدود اليوم إجماعاً حول دواعي التعريب ودوافعه، فهذه القضية «مرتبطة بجوهر اللغة وفلسفتها عند فريق، وهي مرتبطة بوفاء مسايرة العصر وتقنينه عند فريق. ثم، هي دواعٍ وظيفية، أقلها طبيعة العمل الخاص، عند نفر قليل منهم»[79].
إلى جانب الاختلاف الحاصل على صعيد الرؤية، نسجل اختلافات أخرى لا تقل أهمية، وهي ذات ارتباط بالجانب المنهجي. وقبل أن نمضي في الكشف عن أهم تجليات إشكالات التلقي المطروحة على هذا المستوى (المنهجي)، نشير بدءاً إلى أن العوائق المثارة، بخصوص قضية التعريب، تبقى مرتبطة في جوانب كثيرة منها بالعامل النفسي والبنية الفكرية.
بالنظر إلى هذه الصعوبات، ظلت القضايا الكبرى، المطروحة على مستوى التعريب، بعيدة عن كل الحلول الممكنة، على الرغم من الجهود المبذولة، وحتى لا ندخل في متاهات التفاصيل سنقصر الحديث على القضايا الأكثر ارتباطاً باللسانيات.
يتخذ مصطلح التعريب في الثقافة العربية دلالات كثيرة منها:
أ- هو عند العرب اقتراب، وعمل على إصهار المقترب ليصبح من صميم النظام العربي.
ب- في معناه اللساني الاجتماعي (Sociolinguistique) قد يعني إحلال اللغة العربية محل لغة أخرى غير العربية (وهذا يدخل في إطار التخطيط اللغوي وخطط التدخل).
ج- تهيئة اللغة وتنميتها وتطويعها لتصير بنظامها قادرة على أن تقوم بالوظائف التعبيرية التي تقوم بها لغات أخرى.
د- نقل النصوص أو مصطلحات من لغة غير عربية إلى اللغة العربية، وهذا ضرب من الترجمة. ويدخل في هذا الباب أيضاً تعريب الأدوات التكنولوجية كالبرامج الحاسوبية، مثلاً، لتصير قابلة لاستقبال العربية أو تحليلها.
هـ- إدخال اللغة العربية في قطاع تهيمن فيه اللغة الأجنبية دون أن يكون للعربية حظ في هذا المحيط. فيجعل العربية حاضرة إلى جانب لغات أخرى لا شك أنه يدخل ضمن تحسين مكانتها وتطوير نشرها[80].
فهذه التحديدات تعطينا فكرة واضحة عن المقصود بالتعريب من الوجهة اللسانية، كما تحدد الأهداف المتوخاة منه، وهي ما يمكن أن نلخصه استناداً إلى رأي الفاسي الفهري في: «تطويع وضع اللغة الداخلي، وإعادة النظر في وضع اللغة المحيطي أو الخارجي»[81].
غير أن تحديد الأهداف وتوجيهها لم يواز في الثقافة العربية باتفاق بين اللسانيين، بالنظر إلى تباين الاقتراحات الكفيلة بتحقيق تلك الأهداف، وهذا ما تسبب في نوع من الخلط والاضطراب.
2, 2، 2- اللسانيون العرب و تكريس الوضع القائم
إلى جانب العوائق السالفة الذكر، يساهم العديد من اللسانيين العرب في تكريس تأخر ركب البحث اللساني العربي وتعميق إشكالاته؛ ويتبدى ذلك في:
1، 2، 2، 2- الموقف السلبي من واقع اللسانيات:
تكشف الملاحظات التي سقناها سابقاً عن الواقع المتردي للبحث اللساني في الثقافة العربية لكن، وعلى الرغم من ذلك، نجد أن العديد من اللسانين لا يأبهون لهذا الوضع، وكأن الأمر لا يعنيهم في شيء.
إن وضعاً من هذا القبيل أساء إلى اللسانيات، وإلى اللسانيين أنفسهم مما فسح المجال لتداول الكثير من المغالطات في الساحة اللسانية العربية، والأكيد أن اللسانيين العرب «لو امتثلوا لوصايا العلم الكلي لبان لهم أن من أشد ما يقترن بوظائفهم تعقب الطرق التي تقدم بها معارفهم إلى من يعرفها من الناس ومن لا يعرفها»[82]، وهذا ما لا نجد وعياً به.
2، 2، 2، 2- التراث والحداثة اللسانية[83]
لم يستطع الكثير من اللسانيين التخلص من وهم الصراع بين القدامة والحداثة، وهو صراع نفسي بالدرجة الأولى، إلى هذا يومئ مازن الوعر بقوله: «إن أساس الصراع بين الأصالة اللغوية والمعاصرة اللسانية ليس صراعاً بين الأعمال اللغوية التراثية التي وضعها العرب القدماء، وبين الأعمال اللسانية المعاصرة التي وضعها علماء اللسانيات المحدثون في الغرب. إن الصراع في جوهره يكمن بين الباحثين العرب أنفسهم، (امتداداً للأزمة النفسية الفردية، التي يعاني منها إنساننا العربي)، بين الباحثين الذين يشدهم التاريخ القديم إلى أقصى مسافات اليمين، وبين الباحثين الذين يشدهم التاريخ الحديث والمعاصر إلى أقصى مسافات اليسار، وبهذا فإن المعادلة الثقافية ستكون عرضة للاهتزاز والتفكك، وستحقق معاناة إقامة التوازن بين الأصالة والمعاصرة»[84]، وبهذا يغدو
الصراع بين القديم والحديث من الإشكالات التي تؤرق البحث اللساني العربي، شأنه في ذلك شأن الثقافة العربية برمتها، وعلى هذا الأساس فإن أحد أشكال المشكلة العلمية للسانيات في العالم العربي هو التجزئة على محور القديم التراثي والحديث، وليست المشكلة في وجود التجزئة في ذاتها، ولكن في مصاحباتها ونواتجها المؤسساتية، من صراعات بين اللسانيين ليست كلها علمية، ومن إهدار للطاقات، وإذ يكون للقديم، كما للحديث، موضوعاته البحثية المفصلة ونظرياته ومناهجه، فقد ظهرت محاولات للتوليف والدمج. ولكن هذه المحاولات قليلة وتكتنف تعزيزها صعوبات ومعوقات تتصل بالتثبت المؤسسي للسانيين[85].
إن الصراع بين التراث والحداثة يلقي بثقله على توحد اللسانيين وتقليص المسافات بينهم، ويشهد على ذلك تجدده بتجدد اللقاءات والندوات العلمية، وفي ذلك خير تعبير عن عمق امتداده، إذ «يلاحظ المرء أنه في كل مؤتمر أو دورة لسانية كثيراً ما تدور الأحاديث والمناقشات حول التراث اللغوي العربي المتمثل بالأعمال التي وضعها الصوتيون والنحاة والبلاغيون العرب القدامى، وحول اللسانيات الحديثة كعلم قائم برأسه والمتمثل بالأعمال اللسانية التي وضعها وطوَّرها الصوتيون والنحاة والدلاليون الغربيون في الولايات المتحدة أو في أوربة»[86]، وهذا ينم
عن تجذّر الصراع واستفحاله.
3، 2، 2، 2- عدم تكامل البحوث اللسانية العربية
مهما يحاول اللساني سبر أغوار الظاهرة اللغوية، فإنه لن يتوصل إلا إلى حقيقة ما هو جزئي؛ نظراً إلى التشعب الكبير لقضايا اللغة، وهذا يقتضي توحُّد الجهود وتقسيم الاختصاصات بين الباحثين للتغلب على العقبات المثارة، ولنا في عمل اللسانيين الغربيين أسوة حسنة؛ فالمعروف أن تشومسكي، مثلاً، استطاع تطوير نماذجه التوليدية اعتماداً على آراء منتقديه ومعاونيه، كما استند في الوقت ذاته إلى أطروحات علماء من تخصصات أخرى محاقلة أو غير محاقلة، مما أكسب النحو التوليدي قدرة فائقة على تطوير نماذجه واستمرار تجددها.
وعلى طرف نقيض نجد الصراع على أشده بين اللسانيين العرب، وهو صراع ابتعد في كثير من الأحيان عن حدود اللياقة وتجاوز اللسانيات إلى التلاسن[87]. وقد ترتب على هذا عزوف اللسانيين عن كتابات بعضهم،
وحتى إن حصل نوع من الإقبال أحياناً فإنه لا يكون إلا بنوايا مبيتة تهدف النيل من الكاتب ومن قدراته العلمية والمعرفية لا غير. وقد لا يحصل ذلك بين اتجاهات لسانية مختلفة بل كثيراً ما نجده داخل الاتجاه اللساني الواحد.
4، 2، 2، 2- العجز عن مواكبة مستجدات البحث اللساني
يرتبط هذا الإشكال بـ«المستوى المعرفي لكثير من اللسانيين العرب الذين لا يواكبون ما يطرأ على الدرس اللساني من تطورات نظرية هامة. اتضح ذلك مثلاً في الندوة التي عقدتها منظمة اليونسكو بالرباط سنة 1987 حول (تطور اللسانيات في البلدان العربية) حيث إن كثيراً من اللسانيين العرب المشاركين في هذه الندوة لم يتمكنوا من متابعة بعض البحوث اللسانية لا سيما بحوث المغاربة. وللإشارة فإن المشاركين في هذه الندوة يُعدُّون من صفوة اللغويين العرب المحدثين وأكثرهم تأليفاً»[88]
. وقد عبَّر أحمد المتوكل عن هذه المسألة بوضوح بقوله: «شعرت من خلال العرض الذي ألقيته حول ما أنجزته في إطار النحو الوظيفي أن الجسر اللساني بيننا وبين إخواننا العرب لم يوجد بعد، وكان ذلك واضحاً من خلال الأسئلة التي ألقيت عليَّ بعدما انتهيت من العرض»[89].
وتعبر بعض الكتابات اللسانية عن هذا العجز الواضح عن مسايرة مستجدات البحث اللساني، كما هو الحال في بعض المؤلفات اللسانية التمهيدية[90]. فالكثير من مؤلفي هذا النمط من الكتابة يرددون الكثير من
مبادئ الدرس اللساني التي تُجُووزت منذ زمن بعيد.
- 3 -
تلقي اللسانيات في الثقافة العربية: محاولة للتقويم
حاولنا في الفقرات السابقة، تتبع مختلف الإشكالات التي تعوق تلقي اللسانيات في الثقافة العربية، وأبرزنا أهم تجليات ذلك، كما حاولنا الكشف عن أبرز أشكال العلاقة بين الفكر العربي وتلقي اللسانيات. إن الخلاصة التي يمكن أن ننتهي إليها من كل ذلك هي أن أشكال التلقي التي وقفنا على أهم تجلياتها قائمة في كثير من جوانبها على سوء الفهم والمغالطة. و يمكن أن نبرز أهم أشكال المغالطة تلك في الجوانب الآتية:
1، 3- نحن والآخر: من أجل مراجعة الذات
كشفنا سابقاً عن صورة الغرب في المتخيل العربي وتصورنا للغرب بصفته استشراقاً واستعماراً وحداثة فكرية، وهي مستويات من النظر غير منفصلة في متخيل العربي؛ لأن كل مقاربة لتصورات الآخر في ثقافتنا مبنية على الامتدادات الحضارية ومستتبعاتها النفسية؛ ذلك أن صورة الغرب ماثلة في أذهاننا بهذه الترسيمة التي تسند له حصيلة المساوئ المتراكمة بناء على أحكام مسبقة.
إن تحديث الثقافة العربية لا يمكن أن يكون إلا في ظل حوار بنَّاء، بعيداً عن كل أشكال الصراع مع النفس، التي تأخذ صورة صراع مع الغرب. إننا نتساءل هنا: هل تتعارض اللسانيات مع التراث اللغوي العربي؟ وهل الغرب واحد متوحد، ومن ثم نقول إن اللسانيات تستمد أهدافها وتوجهاتها من مخططاته، وهل كانت المعرفة اللسانية في مراحل تشكلها الأولى قائمة على خدمة المصالح الغربية (الاستعمارية) كما يعتقد؟
يفند علي أومليل الافتراض الأول بقوله: «كثيراً ما تطرح مسألة التراث طرحاً يقوم على العاطفية والمغالطة، وكأن المسألة تؤول إلى هذا السؤال: هل تريدون أيها الناس أن تكونوا بغير جذور، لا هوية لكم، ضائعين في الغرب الذي لن يتوانى، بعد أن نهب خيراتكم واستتبعكم اقتصاديًّا وسياسيًّا، عن أن يمحو كل شخصية لكم ثقافية وتاريخية؟ طبعاً إذا طُرح السؤال هكذا فلن يكون الجواب سوى كلا! وحتى الذين ليسوا تراثيين على نحو مطلق سيجيبون نفس الجواب، إذ من هو هذا الذي يرغب في أن يفقد هويته عن سبق إصرار؟»[91].
كما أن ربط اللسانيات بالغرب والاستعمار ينم عن موقف خاطئ؛ لأن اللسانيات، شأنها شأن كل العلوم، علم إنساني، ومن الصعب أن نقول: إن الغرب هو من أوجد هذا العلم بشكل مطلق، لأن ترسُّخ العلم مبني على تراكمات، وعليه فإن البحث اللساني، على غرار ما هو متحصل اليوم لا يمكن أن يكون دون تلك التراكمات. «صحيح أن اللسانيات هي نظرية غربية ولكن منطلقها الفلسفي وهدفها النفعي البراغماتي لا ينتميان إلى الغرب، وإنما هما ملك حضارة الإنسان المعاصر الخارج عن نطاق الجنس والهوية والعرق. إن الاختلاف الواحد بين الأمم يكمن في كيفية استخدام «نتائج» علم من العلوم وتوظيفها في ناحية معينة. وهكذا فإن اختلاف الاستخدامات لنتائج العلم تتبع اختلافات الإيديولوجيات في العالم. أما قضية استخدام الوسائل والأساليب والتقنيات العلمية والتوصل إلى هدف أو غاية علمية معينة، فإنها مسألة مشتركة بين جميع الحضارات الحديثة»[92]، وهو الاعتبار الذي يجب مراعاته في كل عمليات المثاقفة.
2، 3- نظرة غير موضوعية إلى اللغة العربية
إن عوائق التلقي السابقة يحركها هاجس أساس يتمثل في الخوف على اللغة العربية وعلى النحو العربي من اللسانيات، ومن التغيرات التي قد تطرأ عليهما، وما قد ينجم عن ذلك من فساد للسان العربي. فلأي شيء نأخذ باللسانيات وفي تراثنا ما يكفي لوصف اللغة العربية ودراستها؟ وهل من المعقول أن نترك تراثنا الزاخر ونستبدله بهذه الدراسات الحديثة العهد؟
ليس هناك داع لذلك ما دامت «اللغة العربية -بحمد الله- غنية بهذه الدراسات عريقة فيها، وقياسها على الدراسات اللغوية في أوروبا، التي لا يزيد عمرها عن ثلاثة قرون، والتي ليس لها مثيل هذا التراث العريق الممعن في العراقة طولاً وعرضاً خطأ فادح لا يكون إلا عن جهل أو سوء قصد<[93]. مفاد هذا القول ارتباط نشأة الدراسات اللغوية في أوروبا
بلغات لا ترقى إلى مستوى اللغة العربية ومكانتها، وهذا أمر لا يستقيم؛ ما دامت القواعد المستخلصة في مجال اللسانيات صالحة لوصف اللغات الأوروبية، وعليه، فإنه من غير المقبول أن نطبقها على اللغة العربية؛ لأنها تختلف في طبيعتها وفي ظروفها التاريخية والاجتماعية اختلافاً أساسيًّا عن هذه اللغات، وكل تطبيق من هذا القبيل هو بدع شاذ قليل الجدوى، بل هو إفساد مضر وقلب للأوضاع، لأنه لا يصدر عن حاجة في واقع الأمر تدعو إليه، ولأنه يحاول أن يفرض قواعد نابعة من خارج اللغة العربية على طبيعتها اللغوية بدل أن يستنبط من واقعها اللغوي وطبيعتها المستقرة[94].
وتتخذ المسألة بُعداً أخطر عندما يتم الجمع بين تطبيق اللسانيات على اللغة العربية، وبين مخالفة سنن الله في الكون؛ ولأن اللسانيات من مخططات الصهيونية فـ«الدعوى التي ينادي بها دعاة التطوير على نمط الدراسات اللغوية الحديثة عند الغربيين باطلة (...) لأنها تتجاهل سنة الله حين خلق الناس شعوباً وقبائل، وكان من آياته وسننه فيهم اختلاف ألسنتهم. وطبيعي حين تختلف الألسنة أن تختلف قواعدها، لأن القواعد التي تنظم كل لغة -بل كل مجتمع- تنبع من واقعها وتلائم طبيعتها ونظامها. ومحاولة توحيد القواعد و النظم في اللغات أو في الجماعات البشرية على وجه العموم -من حيث يعلم الداعون بها أو لا يعلمون- فرع من محاولات متعددة تتجه كلها إلى هدف واحد هو طمس الفوارق المميزة بين الأجناس والجماعات البشرية، دينية كانت هذه الفوارق أو فنية جمالية أو لغوية، مما تسعى إليه الصهيونية العالمية، حتى تنحل الروابط التي تقوم عليها المجتمعات البشرية المختلفة فلا يبقى على وجه الأرض مجتمع متماسك غير المجتمع الإسرائيلي»[95].
إن أعز ما يطلب هو البحث عن وجوه للتشابه والتوافق بين العربية ومبادئ اللسانيات، وكل محاولة من هذا القبيل محكوم عليها بالفشل من البداية، لأنها لا تقود إلا إلى لغة غريبة، فـ«كلما رجع الدارس المهتم بالبحث اللغوي من أحد النحويين، العربي والغربي إلى الآخر، تقوى إحساسه الأولي بكون لغة الوصف المستعملة في كلا النحوين غير متطابقة. فما يجوِّزه نحو سيبويه قد يمنعه نحو تشومسكي مثلاً، وبالعكس. وأغلب ما يقدمه تشومسكي من القواعد والمبادئ التي يصفها نحوه بالكلية ليس له من العربية مثال إلا بإدخال ذلك التركيب عليها. ولإجمال القول في الموضوع، فإن توظيف نحو تشومسكي من أجل إنتاج عبارات من العربية أو وصفها سيخلق لغة غريبة عن عربية سيبويه وما وصف»[96].
معنى هذا الكلام أن اللسانيات التوليدية بشكل خاص، واللسانيات بشكل عام لا تصلح للغة العربية، وأي وصف أو تطبيق من هذا القبيل هو تشويه وتحريف للعربية. فهل هذه الأحكام المسبقة صحيحة؟ وهل هناك ما يُسوِّغها في نظر أصحابها؟
لا أحد يمكن أن يجادل في المكانة التي تحظى بها اللغة العربية في ثقافتنا، وهي مكانة تستمد مشروعيتها من اعتبارات دينية، وقومية، وحضارية، ونفسية. ومن هذا المنطلق كان التحفظ من اللسانيات، شأنها في ذلك شأن كل وافد جديد «خوفاً من تغريب اللغة في حال إخضاع دراستها لأساليب لم يكن القدماء منا أصحابها»[97].
إن اعتقاداً من هذا القبيل اعتقاد مغلوط؛ لعدم تمثُّله الصحيح لمبادئ التراث التي اعتمدها بعض المحدثين منطلقاً وسنداً نظريًّا لتبرير ادعاءاتهم بشأن قدسية اللغة العربية وأفضليتها على باقي اللغات الأخرى؛ فالآيات القرآنية التي يتم الاستناد إليها، والتي تؤكد على عربية القرآن لم تشر أي واحدة منها إلى أفضلية اللغة العربية على اللغات الأخرى، كيف يمكن أن يكون ذلك والقرآن الكريم يعتبر اختلاف الألسنة من آيات الله... لقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}[98].
إن التقديس الذي يُعطى اللغة العربية ينمُّ عن فهم مغلوط للكثير من أقوال علماء العربية، وتجاهل بعضها أحياناً، فالكثير من نصوص التراث تشير إلى عدم تفضيل لغة على أخرى، وهذا ما أشار إليه ابن حزم بقوله: «وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات، وهذا لا معنى له لأن وجوه الفضل معروفة، وإنما هي بعمل أو اختصاص، ولا عمل للغة ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}، وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}. فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه ﷺ لا غير ذلك. وقد غلط في ذلك جالينوس فقال عن لغة اليونانيين: إنها أفضل اللغات، لأن سائر اللغات إنما هي تشبه نباح الكلاب، أو نقيق الضفادع. وهذا جهل شديد، لأن كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها فهي عنده في النصاب الذي ذكر جالينوس ولا فرق. وقال قوم: العربية أفضل اللغات لأنه بها كلام الله تعالى، وهذا لا معنى له، لأن الله... قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولاً إلا بلسان قومه»[99].كما
نستنتج أن التعامل مع النصوص التي تتحدث عن تميُّز اللغة العربية وأفضليتها لم تفهم حق فهمها، فالكثير من النصوص التي تتحدث عن هذا النوع من التمييز إنما تثبت تفوُّق العربية على بعض اللهجات، وهذا التمييز ظل غائباً عن أفهام البعض؛ فمما يجب التأكيد عليه أن العرب القدماء لم يميزوا تمييزاً واضحاً بين اللغة واللهجة، «وكثيراً ما عبروا باللهجة عن اللغة واللسان»[100].
إلى جانب عدم القدرة على التمييز بدقة بين عبارات بعض القدماء، يظهر بعض الاضطراب في فهم مقاصد اللسانيات؛ فمن المعروف أن من أعمق مؤاخذات اللسانيات على الدراسات اللغوية التقليدية تمييزها ومفاضلتها بين اللغات.
إن البحث اللساني الحديث، لا يُقيم فرقاُ بين هذه اللغة وتلك، وكل ما يؤدي التواصل فهو لغة بغض النظر عن القيم الحضارية والتاريخية لهذا اللسان أو ذاك.ومن هذا المنطلق لا يصح النظر إلى اللغة العربية باعتبارها لغة متميزة عن باقي اللغات الأخرى؛ لأن كل اللغات متساوية فـ«ليست العربية، كما يدَّعي بعض اللغويين العرب، لغة متميزة تنفرد بخصائص لا توجد في لغات أخرى، ومن ثمة لا يمكن وصفها بالاعتماد على النظريات «الغربية» التي بُنيت لوصف لغات أوروبية، بل العربية لغة كسائر اللغات البشرية. فاللغة العربية بصفتها «لغة» تنتمي إلى مجموعة اللغات الطبيعية وتشترك معها في عدد من الخصائص (الصوتية والتركيبية والدلالية)، وتضبطها قيود ومبادئ تضبط غيرها من اللغات، وبصفتها «عربية» تختص بمجموعة من الخصائص التي لا توجد في كل اللغات. وإنما توجد في بعض اللغات. وكونها «عربية» لا يعني أنها تنفرد بخصائص لا توجد في أية لغة من اللغات. بل لا نكاد نجد ظاهرة في اللغة العربية إلا ونجد لها مثيلاً في لغة أو لغات أخرى، هندوأوروبية كانت أو غير هندوأوروبية»[101].
وليس الاحتجاج بارتباط العربية بالمقدس بمُتَوجِّهٍ في هذا السياق؛ لأن «العربية لغة القرآن والإسلام، فهذا حق لا مراء فيه، غير أن علاقة العربية بالقرآن والإسلام لا ينفي عنها أنها لغة مثل أية لغة أخرى، إذا ما احتكمنا إلى المعايير اللغوية الخالصة، لا إلى المعايير الدينية أو الحضارية، لأن اللغات الإنسانية، طبقاً للمعايير اللغوية لا تتفاضل»[102].
لا نريد أن ننكر هنا التشريف الذي حظيت به اللغة العربية، غير أن التمييز واجب بين «دراسة اللغة بوصفها نموذجاً معيناً، (...) ودراسة اللغة من حيث هي معطى بشري وظاهرة كونية، وهو منطلق البحث الأساسي فيما يسمى باللسانيات النظرية أو العامة»[103]. فمثل هذه
التمييزات نعتبرها ضرورية لتفادي كل ما يؤدي إلى فهم مغلوط.
3، 3- في علاقة النحو باللسانيات
ينجم عن الخلط المفاهيمي بين بعض المفاهيم التراثية والمفاهيم اللسانية علاقات وهمية تبعد المفهوم عن المقصود وتحرفه عن مواضعه، فكل مقارنة من هذا القبيل تتم في إغفال شبه تام للخصوصية الإبستيمولوجية للمفاهيم ولأبعادها الخاصة، ومن ذلك ما نلاحظه من خلط بين النحو واللسانيات.
تنطلق أغلب الأبحاث، التي تناصر السلطة النحوية في الثقافة العربية، من اعتبار أساس، وهو أن كل انفتاح على الدرس اللساني هو حكم بالضياع على النحو العربي[104]؛ للتعارض القائم بين مبادئ النحو
ومبادئ اللسانيات. والواقع «أن النحو واللسانيات ليسا ضدين بالمعنى المبدئي للتضاد، كيف والنحو نفسه منذ القديم مفهوم مزدوج، إذ هو يعني في نفس الوقت جملة النواميس الخفية المحركة للظاهرة اللغوية، كما يعني عملية تفسير الإنسان لنظام اللغة بمعطيات المنطق من العلل والأسباب والقرائن، ويتجلى هذا الفرق المفهومي في الصياغة المزدوجة تبعاً لقولك: نحو العربية أو نحو الفرنسية... فأنت تعني نظامها، أو لقولك: النحو العربي أو النحو الفرنسي؛ فالمقصود عندئذ عملية استخراج النظام الداخلي في تلك اللغة»[105].
إن اللسانيات يمكن أن تساهم في تطوير قضايا النحو وتحديثها، ومن ثمة لا تعارض بين اللسانيات والنحو، ومن الأمور التي يمكن أن تقدمها اللسانيات للنحو:
«- المبادئ العامة التي تقوم عليها البنيات الذهنية للغات الطبيعية؛ أي الآليات المعرفية والإدراكية للغة (...).
- الأرضية المنهجية لبناء الأنحاء، وتبرير اختيارها من حيث صياغتها وأشكالها وعلاقتها باللغات انطلاقاً من الشروط الداخلية والخارجية اللازمة في الأنحاء مثل التعميم والبساطة والوضوح(...).
- اللسانيات تساعد في الكشف عن حقيقة البنيات النحوية بشكل أعم وأوضح وأبسط وبالتالي يمكن للنحو إعادة صياغة القواعد المعيارية صياغة تتحقق فيها درجات عالية من التعميم والشمول والبساطة والدقة والوضوح.
- فهم أعمق للغة ذاتها مما يُمكِّن من إعادة النظر في كثير من الأفكار الموروثة مثل تركيب اللغة...»[106].
إن ما تم التنصيص عليه سابقاً من خلال حديثنا عن العوائق الموضوعية ينطلق من «اعتبار اللسانيات علماً دخيلاً على الثقافة العربية، ومن ثم بدأ الترويج لجملة من الأحكام المسبقة الزائفة والمغلوطة في مجملها والمتعلقة بطبيعة البحث اللساني وأهدافه»[107]. فهل تسيء اللسانيات فعلاً
إلى النحو العربي؟
يكتنف القول بتعارض النحو واللسانيات الغموض والتسرع؛ لأنه يتغافل عن أهمية تحديد المفاهيم وضبطها، ومن ذلك مفهوم النحو واللسانيات، كما أنه يربط بشكل مباشر بين المفاهيم النحوية القديمة والمفاهيم اللسانية الحديثة؛ والحال أن لكل مفهوم خصوصياته الإبستيمولوجية وأبعاده الخاصة به. إن المفهوم ليس معطى ولكنه بناء نظري، إنه جزء من شبكة تصورية عامة. وبذلك نلمس وجود فرق جوهري بين هوية النحو وهوية اللسانيات لاختلاف مناهجهما؛ غير أن هذا الاختلاف لا ينفي التعاون والتكامل بينهما[108].
لقد حاولنا من خلال ما سبق أن نكشف عن أهم خصوصيات علاقة اللسانيات بالثقافة العربية، وأن نبين سياق تلقيها لهذا العلم الوافد (= اللسانيات)، وأن نرصد في الوقت نفسه أشكال الممانعة الحائلة دون تطوره ونضجه. وقد تبدى لنا أن أهم الإشكالات المطروحة، قائمة في معظمها على وعي مغلوط بالكثير من مبادئ وأهداف اللسانيات.
إن البحث اللساني في ثقافتنا لا يمكن أن يتطور إذا لم يتخلص من الأحكام المسبقة التي تطبع جلّ مناحي الفكر العربي، وبالتالي فإن الإشكالات المطروحة، ليست إشكالات لسانيات فحسب، بل هي إشكالات محددات ورؤى فكرية تحتاج إلى إعادة التشكيل بطريقة صحيحة تساير وتواكب تقدم الحضارة الإنسانية في مناحيها المتعددة.
مصادر البحث:
- أومليل، علي: في التراث والتجاوز، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى1990.
- بدران، إبراهيم والخماش سلوى: دراسات في العقلية العربية، الخرافة، دار الحقيقة، بيروت1979.
- بوخلخال، عبد الله: الدعوة إلى العامية أصولها وأهدافها، مجلة الآداب، الجزائر، العدد1، السنة1994.
- حسان، تمام: اللغة العربية، معناها ومبناها، دار الثقافة، الدار البيضاء (د.ت).
+ مناهج البحث في اللغة، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1955.
+ اللغة بين المعيارية والوصفية، دار الثقافة، الدار البيضاء 1980.
+ اللغة العربية والحداثة، مجلة فصول (الحداثة في اللغة والأدب) الجزء الأول، المجلد 4، العدد 3، أبريل - يونيو 1984.
- الجابري، محمد عابد: مدخل على فلسفة العلوم، الجزء الأول، تطور الفكر الرياضي والعقلانية المعاصرة، مطبعة دار النشر المغربية (د. ت).
+ لأن العقلانية ضرورة (حوار)، مجلة الثقافة الجديدة، المحمدية، العدد 21، السنة 1981.
+ إشكالية الفكر العربي المعاصر، المركز الثقافي العربي 1989.
+ الخطاب العربي المعاصر، دراسة تحليلية نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الخامسة، 1994.
- الجمالي، فاضل: دفاعاً عن العربية، نشر وتوزيع مؤسسة عبد الكريم ابن عبد الله، الجزائر 1996.
- حسين، محمد محمد: مقالات في الأدب واللغة، مؤسسة الرسالة، بيروت 1986.
- الحمزاوي، رشاد: العربية والحداثة، المعهد القومي للتربية، تونس، 1982.
- حنون، مبارك: اللسانيات والعولمة، مجلة فكر ونقد (المغرب)، العدد 24، ديسمبر 1999.
- الراجحي، عبده: النحو العربي واللسانيات المعاصرة، أعمال ندوة البحث اللساني والسيميائي، منشورات كلية الآداب الرباط 1984.
+ النحو العربي والدرس الحديث، بحث في المنهج، دار النهضة العربية، 1406/ 1986.
- زكريا، ميشال: الألسنية التوليدية والتحويلية وقواعد اللغة العربية (الجملة البسيطة)، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1403/ 1983.
+ الألسنية (علم اللغة الحديث)، المبادئ والأعلام، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1407/ 1987.
- طحان، ريمون: الألسنية العربية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الثانية1981.
- حسين، عادل: النظريات الاجتماعية قاصرة ومعادية، ضمن كتاب إشكالية العلوم الاجتماعية في الوطن العربي، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى 1984.
- عبده، داود: دراسات في علم أصوات اللغة العربية، مؤسسة الصباح الكويت 1979.
- عشاري، محمود أحمد: أزمة اللسانيات في العالم العربي، بحث ألقي في ندوة اللسانيات وتطورها في الوطن العربي، الرباط، أبريل 1987.
- العلوي، أحمد: الطبيعة والتمثال، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الرباط، 1988.
- علي، نبيل: الثقافة العربية وعصر المعلومات، رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 265، السنة 2001.
- غلفان، مصطفى: اللسانيات العربية الحديثة، دراسات نقدية في المصادر والأسس النظرية والمنهجية، جامعة الحسن الثاني عين الشق، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سلسلة رسائل وأطروحات رقم 4.
+ لسانيات الأداة ولسانيات التراث، أنوال الثقافي، عدد 24، 1986.
+ اللسانيات العربية في الثقافة العربية الحديثة (قيد الطبع).
+ نحن واللسانيات، قراءة أولية في الفكر اللساني العربي الحديث (قيد الطبع).
+ النحو العربي واللسانيات، أية علاقة؟، مجلة فكر ونقد، العدد 72/ 2005.
- الفاسي الفهري، عبد القادر: ملاحظات حول الكتابة اللسانية، مجلة تكامل المعرفة، العدد 9، 1984.
+ اللسانيات واللغة العربية (في جزأين). دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة 1993.
- فريحة، نمر: صورة الغرب في الكتب المدرسية اللبنانية، ضمن كتاب باحثات، إصدار تجمع الباحثات اللبنانيات، الكتاب 5، الغرب في المجتمعات العربية: تمثلات وتفاعلات، 1998 - 1999.
- المجدوب، عز الدين: المنوال النحوي العربي، قراءة لسانية جديدة كلية الآداب - سوسة، دار محمد علي الحامي، الطبعة الأولى 1998.
- المسدي، عبد السلام: التفكير اللساني في الحضارة العربية، الدار العربية للكتاب، تونس 1981.
+ اللسانيات وأسسها المعرفية، الدار الوطنية للنشر، الجزائر - تونس1997.
+ مباحث تأسيسية في اللسانيات، مؤسسة عبد الكريم بن عبد الله للنشر والتوزيع، تونس 1997.
- الودغيري، عبد العلي: اللغة والدين والهوية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى1420/ 2000.
- الوعر، مازن: نحو نظرية لسانية عربية حديثة لتحليل التراكيب الأساسية في اللغة العربية، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى 1987.
+ قضايا أساسية في علم اللسان الحديث، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى 1988.
+ دراسات لسانية تطبيقية، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى 1989.
- J.C. Milner, Introduction à une science du langage. Paris, Seuil, 1989.
- N. Chomsky, Règles et Représentations, Ed. Propositions, 1981
- S.Auroux, La place de la science de la linguistique parmi les sciences empirique.Fondement de la linguistique. Perspectives épistémologiques.Ed.par M.Mahmoudian.Cahiers de l’I L S L.N° 6.1995.
[1]* أستاذ النحو واللسانيات بكلية الآداب/ جامعة ابن زهر أكادير - المملكة المغربية.
عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية، الدار التونسية للنشر والمؤسسة الوطنية للكتاب 1986، تونس ص7.
[2] إن علمية اللسانيات أصبحت من المسلمات، بالنظر إلى التداخل الكبير بين اللسانيات والعلوم الطبيعية، وهو تداخل يمكن أن
نُرجع بداياته إلى المراحل الأولى من القرن التاسع عشر مع شلايشر، ولا سيما بعد ظهور كتاب داروين (أصل الأنواع)، سنة 1859. فتشبُّع شلايشر بمبادئ الداروينية قاده إلى اعتبار اللسانيات من العلوم الطبيعية، واعتبر اللغة جهازاً عضويًّا لا يختلف عن الكائنات الحية، فهي (اللغة): تنشأ وتترعرع ثم تكبر وتشيخ وتموت. (للمزيد من الاطلاع على آراء شلايشر انظر ميلكا إفيتش، اتجاهات البحث اللساني، ترجمه عن الإنجليزية سعد عبدالعزيز مصلوح ووفاء كامل فايد، المجلس الأعلى للثقافة، مصر. ص ص57 - 64.
وقد تقوَّت العلاقة بين اللسانيات والعلوم الطبيعية أكثر في عصرنا الحديث، فقد اعتبر مونطاكيو (Montague) الدراسة اللسانية جزءاً من الرياضيات، وهذا ما عبر عنه طوماسون (Thomason) في تقديمه لمقالات مونطاكيو يقول: «كثير من اللسانيين لا يدركون مدى اختلاف تحليل مونطاكيو جوهريًّا عن التصورات اللسانية الحالية [...] ففي رأي مونطاكيو أن التركيب والدلالة والذريعيات في اللغات الطبيعية جزء من الرياضيات لا من علم النفس» (انظر: عبدالقادر الفاسي الفهري، اللسانيات واللغة العربية، الجزء1/ 42). فاللغات البشرية تقوم على علاقات معقدة ومجردة، وعلى معايير تفاعلية، ومن ثم فإن «الهدف الأخير لهذه المعايير التفاعلية هو وصف الخواص والمميزات اللسانية للغات البشرية في أطر وأنظمة رياضية دقيقة (...) كلما اقترب العلماء في نظرياتهم من الدقة والموضوعية المتناهية كان من الممكن تقدير المنهج الرياضي الذي يجعل النظرية أكثر علمية، وهذا يعني أنه ينبغي علينا أن نقوِّم النظرية اللسانية من وجهة نظر تجريدية رياضية بحتة» مازن الوعر، قضايا أساسية في علم اللسان، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، الطبعة الأولى 1988 ص 369.
وقد ظهرت ملامح التأثير واضحة بين اللسانيات والعلوم الطبيعية بصفة خاصة في أعمال تشومسكي الذي بنى نماذجه على أساس علمي محض، وهذا ما سعى إليه لينبيرغ أيضاً فقد «دعا هذان العالمان إلى أنه ينبغي على علم اللسانيات أن يكون فرعاً من العلوم الطبيعية، وبالخصوص فرعاً من علم البيولوجيا يدرس دراسة علمية تشريحية» مازن الوعر، المرجع السابق، ص 369.
وتجد هذه الدعوة عبارتها الصريحة في قول تشومسكي: «يجب ألَّا نستغرب من أنه لا يمكن تطوير مفهوم دال للغة بوصفها موضوع بحث عقلاني، إلا على أساس التجريد الضارب في العمق، واتباع أسلوب غاليلي في البحث اللغوي».
N. Chomsky, Règles et Représentations, Ed. Propositions, 1981, p 19.
(للمزيد من التفصيل حول الأسلوب الغاليلي في النظرية التوليدية ينظر مقالنا: الأسلوب الغاليلي في النظرية التوليدية، مقارنة إبستيمولوجية بين غاليلي وتشومسكي، مجلة فكر ونقد، العدد30، السنة 2000.
ولمعرفة المزيد عن علمية اللسانيات يمكن الرجوع إلى:
- J.C. Milner, Introduction à une science du langage. Paris, Seuil, 1989.
- S.Auroux, La place de la science de la linguistique parmi les sciences empirique.Fondement de la linguistique. Perspectives épistémologiques.Ed.par M.Mahmoudian.Cahiers de l’I L S L.N° 6.1995.
[3] منذر عياشي، قضايا لسانية وحضارية، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، الطبعة الأولى 1991ص 11.
[4] حلمي خليل، دراسات في اللسانيات التطبيقية، دار المعرفة لجامعية 2000، ص9.
[5] أحمد محمود عشاري، أزمة اللسانيات في العالم العربي، بحث أُلقي في ندوة اللسانيات وتطورها في العالم العربي، الرباط،
أبريل1987. ص9.
[6] نبيل علي، الثقافة العربية وعصر المعلومات، سلسلة عالم المعرفة، العدد 265، ديسمبر 2001. ص 236.
[7] نتحدث هنا عن الأزمة بالمعنى الذي نجده عند توماس كون دون أن يعني ذلك عدم وجود معاني أخرى لهذا المفهوم.
[8] كل الإشارات إلى مفهوم الأزمة استقيناها من كتاب توماس كون: The Structures of Scientific Revolutions. وقد
استعنَّا بالترجمتين العربيتين لكل من شوقي جلال بعنوان: بنية الثورات العلمية، وماهر عبد القادر محمد علي. وقد صدرت الأولى ضمن سلسلة عالم المعرفة. العدد 168، 1992. في حين صدرت الثانية بعنوان فلسفة العلوم، تركيب الثورات العلمية عن دار النهضة العربية 1988.
[9] توماس كون، فلسفة العلوم (المشكلات المعرفية) الجزء الثاني، ترجمة ماهر عبد القادر محمد علي، دار النهضة العربية
للطباعة والنشر، بيروت 1982، ص76 - 77.
[10] توماس كون، بنية الثورات العلمية، ص13.
[11] G.Bachelard Formation de L’esprit Scientifique, Contribution à une Psychanalyse de la
Connaissance Objective, Librairie J.Vrin, 8° éd. 1972,Préface
[12] مازن الوعر، قضايا أساسية في علم اللسان، ص387.
[13] عبد القادر الفاسي الفهري، لسانيات الظواهر وباب التعليق، ندوة البحث اللساني والسيميائي، منشورات كلية الآداب،
الرباط، 1984، ص31.
[14] مبروك سعيد عبد الوارث، في إصلاح النحو العربي، دراسة نقدية، ط 1985، دار القلم الكويت، ص 17.
[15] مصطفى غلفان، اللسانيات العربية الحديثة، ص11.
[16] محمد الأوراغي، الوسائط اللغوية 1 - أفول اللسانيات الكلية، دار الأمان، الرباط، ط 1، 2001، ص31.
[17] نفسه، ص3. ونشير إلى أننا عندما نسوق حجج الباحث، فذلك لا يعني أننا نتبناها في سياقها الذي يرومه، بل نسوقها في
إطارها العام بعيداً عن كل مذهبية أو تشنيع بنظرية من النظريات، فنقد النظريات والمفاضلة بينها ليس غاية من غاياتنا هنا، على الأقل.
[18] هذه الملاحظة يمكن تعديتها إلى كل العلوم الإنسانية في الثقافة العربية بإطلاق النظر إلى الشكل الذي تُتداول به.
[19] نمر فريحة، صورة الغرب في الكتب المدرسية اللبنانية، ضمن كتاب الغرب في المجتمعات العربية، تمثلات وتفاعلات،
سلسلة كتاب باحثات الذي يصدره تجمع الباحثات اللبنانيات، الكتاب الخامس 1998 - 1999، ص287.
[20] نمر فريحة، صورة الغرب في الكتب المدرسية اللبنانية، ص ص 287 - 288.
[21] عبد الله العروي، الإيديولوجية العربية المعاصرة، دار الحقيقة، بيروت، الطبعة الثالثة 1979، ص ص 28 - 29.
[22] محمد أركون، الإسلام عالم وسياسة، ترجمة هاشم صالح، مجلة الفكر العربي العاصر، العدد 47، السنة 1987، ص ص16 - 17.
[23] Todorov.Tzevetan, Nous et les Autres, La réflexion Française sur la Diversité Huma ; ed Seuil ; Paris ; 1989 ; p:32
[25] المطران جورج خضر، صورة الغرب في المجتمعات العربية، ضمن كتاب «باحثات» ص ص 256 - 257.
[26] نفسه، ص25.
[27] عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص 7.
[28] هذا ما يعبر عنه الطاهر لبيب بقوله: «إذا كانت دورة الأنا في القمة تكون دورة الآخر في القاعدة، و إذا كانت دورة الأنا
فالقاعدة تكون دورة الآخر في القمة» الآخر في ثقافة مقهورة، ضمن باحثات، ص ص 262 - 268.
[29] مازن الوعر، قضايا أساسية في علم اللسانيات الحديث، ص21.
[30] رشيد عبد الرحمن العبيدي، «الألسنية المعاصرة والعربية»، مجلة الذخائر، العدد الأول - السنة الأولى، شتاء 1420/
2000م. ص31.
[31] مازن الوعر، قضايا أساسية في علم اللسانيات الحديث، ص379.
[32] عبد الغفار حامد هلال، علم اللغة بين القديم والحديث، الطبعة الثالثة 1989، ص70.
[33] محمد محمد حسين، مقالات في الأدب واللغة، مؤسسة الرسالة بيروت ط 1، 1407/ 1986، ص48.
[34] رشيد عبد الرحمن العبيدي، الألسنية المعاصرة والعربية، ص25.
[35] منذر عياشي، قضايا لسانية وحضارية، ص15.
[36] نفسه، ص33.
[37] عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية، ص 16.
[38] عبد الله بوخلخال، الدعوة إلى العامية، أصولها وأهدافها، مجلة الآداب، الجزائر، العدد1، السنة 1994، ص165 - 166.
[39] محمد حسين الأعرجي، أهداف الاستشراق ما لها وما عليها مجلة المدى. (سوريا) العدد 31، السنة 9/ 2001، ص 17.
(التشديد من عندنا).
[40] رشيد عبد الرحمن العبيدي، الألسنية المعاصرة والعربية، ص22.
[41] نفسه، الصفحة نفسها.
[42] محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ط 1982، دار الطليعة بيروت، ص34.
[43] «يتخذ هذا الصنف من الكتابة اللسانية التراث اللغوي العربي القديم في شموليته موضوعاً لدراساته المتنوعة. أما المنهج
الذي يصدر عنه أصحاب هذه الكتابة فهو ما يعرف عادة بمنهج القراءة أو إعادة القراءة. ومن غايات لسانيات التراث وأهدافها قراءة التصورات اللغوية القديمة وتأويلها وفق ما وصل إليه البحث اللساني الحديث والتوفيق بين نتائج الفكر اللغوي القديم والنظريات اللسانية الحديثة، وبالتالي إخراجها في حلة جديدة تبيِّن قيمتها التاريخية والحضارية» مصطفى غلفان، اللسانيات العربية الحديثة، ص92. وقد حاولنا الكشف عن أهم تجليات هذا الاتجاه في دراسة مطولة بعنوان، اللسانيات والتراث اللغوي العربي.
[44] مبارك حنون، اللسانيات والعولمة، مجلة فكر ونقد، المغرب، العدد 24، ديسمبر 1999، ص 112.
[45] نفسه، ص 144.
[46] حسين السوداني، أثر فرديناند دي سوسير في البحث اللغوي العربي، ص 30.
[47] عبد السلام المسدي، الفكر العربي والألسنية، ص12.
[48] - {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف/2).
- {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} (الرعد/37).
- {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل/103).
- {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء /193-195).
- {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (طه/ 113).
- {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (الزمر/ 28).
- {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت/ 3).
- {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الشورى/ 7).
- {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف/ 3).
- {وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} (الأحقاف/ .12).
[49] الإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي: الرسالة، تحقيق وشرح أحمد شاكر. المكتبة العلمية بيروت (د. ت): 50
[50] ابن فارس، الصاحبي في فقه اللغة وسنن العربية في كلامها، ط 1382/1964 بيروت، ص 64.
[51] أبو منصور الثعالبي، فقه اللغة وأسرار العربية، دار مكتبة الحياة بيروت.
[52] عبد العلي الودغيري، اللغة والدين والهوية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء. ط /2000، ص20.
[53] إبراهيم السامرائي، اللغة والحضارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1/1977، ص 149.
[54] محمد محمد حسين، مقالات في الأدب واللغة، ص13.
[55] شكري فيصل، قضايا اللغة العربية، بحث في الإطار العام للموضوع، مجلة اللسان العربي، إصدار مكتب تنسيق التعريب،
الرباط، السنة 1407/ 1986، العدد 26، ص16.
[56] فاضل الجمالي، دفاعاً عن العربية، نشر وتوزيع مؤسسات عبد الكريم بن عبدالله 1996، ص23.
[57] شكري فيصل، قضايا اللغة العربية، بحث في الإطار العام للموضوع، ص10.
[58] إبراهيم أنيس، اللغة بين القومية والعالمية، دار المعارف بمصر، ط 1970، ص7.
[59] نفسه، 8.
[60] رشيد عبد الرحمن العبيدي، الألسنية المعاصرة والعربية، ص25.
[61] إبراهيم السامرائي، اللغة والحضارة، ص149.
[62] نفسه، ص149.
[63] نبيل علي، الثقافة العربية وعصر المعلومات، ص 229
[64] شكري فيصل، قضايا اللغة العربية بحث في الإطار العام، ص 18.
[65] عز الدين المجدوب، المنوال النحوي العربي، نشر كلية الآداب بسوسة ودار علي الحامي، الطبعة الأولى 1998، ص 11.
[66] عبده الراجحي، النحو العربي والدرس الحديث، بحث في المنهج، دار النهضة العربية، بيروت1986، 90.
[67] نفسه، ص9.
[68] نفسه، الصفحة نفسها.
[69] علي حرب، الحقيقة والمجاز، نظرية لغوية في العقل والدولة، مجلة دراسات عربية، العدد 6، أبريل 1986ص41.
[70] لطيفة حليم، الاتجاه البراكماتي، مجلة عالم الفكر، المجلد السابع عشر -العدد الأول- أبريل - مايو - يونيو 1986، ص243.
[71] المرجع السابق، ص 243.
[72] يقول أحمد العلوي: «نحن اليوم ندرس ظاهرة النبوة و ظهورها في الحجاز بشيء من الموضوعية والهدوء، ونستعظم، مع
ذلك، الانقلاب الذي أحدثته في بقاع من العالم من الناحية التاريخية - الاجتماعية، و لكننا نتناسى الآثار البسيكوسوسيولوجية التي تكون قد تركتها في المجتمع الناشئ، مجتمع المسلمين وغيرهم ممن استظل بظل الدولة الإسلامية» ينظر مقاله، «أسس منهج البحث في اللغويات العربية»، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد بن عبد الله فاس، العدد 1/ 1979، ص36.
[73] أحمد العلوي، أسس منهج البحث في اللغويات العربية، ص38.
[74] اعتمدنا في استخلاص هذه المعطيات مقال أحمد عشاري، «أزمة اللسانيات في العالم العربي»، بحث ألقي في ندوة
اللسانيات وتطورها في الوطن العربي، الرباط، أبريل 1987، ص13.
[75] نفسه، الصفحة نفسها.
[76] المرجع السابق، ص14.
[77] نفسه، ص26.
[78] عبد السلام المسدي، قاموس اللسانيات، الدار العربية للكتاب، تونس طرابلس 1984، ص11.
[79] - رياض قاسم، اتجاهات البحث اللغوي الحديث في العالم العربي، 2/153. ينظر تفصيل هذه الاتجاهات في الصفحات: 153 - 156.
[80] عبد القادر الفاسي الفهري: المقارنة والتخطيط في البحث اللساني العربي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى
1998، ص158.
[81] نفسه، ص15.
[82] عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية، 18.
[83] عرض الدكتور مصطفى غلفان لجوانب من هذا الإشكال في كتابه اللسانيات العربية الحديثة، ونضيف إلى المعطيات التي
ساقها معطيات أخرى لها ارتباط وثيق بالموضوع.
[84] مازن الوعر، قضايا أساسية في علم اللسان، ص ص354 - 355.
[85] نفسه، ص359، وما بعدها.
[86] نفسه، ص ص 352 - 353.
[87] من العبارات التي تعبر عن هذا: اللسانيات السريعة، لسانيات هبل، لسانيات الاشرئباب إلى المناصب... وقد تحاشينا ذكر
الواصف والموصوق درءاً لكل أشكال الصراع.
[88] مصطفى غلفان، اللسانيات العربية الحديثة، ص 40.
[89] حوار مع أحمد المتوكل في جريدة المحور الثقافي، العدد 7، ديسمبر 1987، نقلاً عن، مصطفى غلفان، اللسانيات العربية الحديثة، ص41.
[90] عالجنا هذا الإشكال في دراسة مستقلة بعنوان، اللسانيات في الثقافة العربية وإشكالات التلقي (اللسانيات التمهيدية نموذجاً)،
مجلة فكر ونقد، العدد 58/ 2004.
[91] علي أومليل، التراث والتجاوز، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - القاهرة، ص15.
[92] مازن الوعر، دراسات لسانية تطبيقية، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، ط1، 1989، ص39.
[93] محمد محمد حسين، مقالات في الأدب واللغة، ص 48.
[94] نفسه، الصفحة نفسها.
[95] نفسه، ص ص 43 - 44.
[96] محمد الأوراغي، الوسائط اللغوية: 1- أفول اللسانيات الكلية، ص 9.
[97] عبد الفتاح الزين، قضايا لغوية في ضوء الألسنية، الشركة العامة للكتاب، ط1، 1987، ص5.
[98] الروم: 22.
[99] ابن حزم الظاهري، الإحكام في أصول الأحكام. (د ت) مطبعة الإمام، القاهرة، 1/32.
[100] نادية رمضان النجار، قضايا في الدرس اللغوي، الدار المصرية للنشر والتوزيع، ط 1999، ص ص 127 - 128.
[101] عبد القادر الفاسي الفهري، اللسانيات واللغة العربية، الكتاب الأول، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط3، 1993، ص56.
[102] حلمي خليل، دراسات في اللسانيات التطبيقية، ص10.
[103] عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية، 13.
[104] يمكن الرجوع إلى الفقرات السابقة حيث أثبتنا بعض النصوص التي تعبر عن هذا الموقف.
[105] عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية، ص15.
[106] مصطفى غلفان، «النحو واللسانيات أية علاقة؟» مجلة فكر ونقد (المغرب) العدد 72/ 2005، والدراسة عرض مفصل
لأوجه يمكن أن تقوم بين اللسانيات والنحو على أساس تكاملي، ص 9.
[107] نفسه، الصفحة نفسها.
[108] نفسه، ص3.