الثقافة كلمة عربية كانت معروفة عند العرب في عصر ما قبل ظهور الإسلام وما بعد ظهوره، ومتداولة في اللسان العربي الفصيح. ولسنا بحاجة لأن نبرهن على ذلك، فقد وردت وتكررت في الشعر العربي القديم، وهو ديوان العرب، وتطرقت إليها معظم وأشهر معاجم اللغة العربية القديمة والحديثة، مثل (لسان العرب) لابن منظور، و(معجم مقاييس اللغة) لابن زكريا، و(أساس البلاغة) للزمخشري، وصولاً إلى (المعجم الوسيط) الذي أصدره مجمع اللغة العربية في القاهرة.
ومنذ أن عرفت الثقافة في اللغة العربية ظلت على الحال الذي كانت عليه مجرد كلمة لغوية، ولم تتجاوز نطاق وحدود دائرة الكلمة الضيق والمحدود، كما يتحدد بدقة وصرامة في معاجم اللغة. والسؤال المعرفي الذي يطرح في هذا المجال، وكان ينبغي أن يطرح منذ زمن قديم داخل الثقافة الإسلامية هو لماذا لم تتحول الثقافة من كلمة إلى مفهوم؟
أي من مجرد كلمة تعرف في اللغة بكلمة أو كلمتين وبحسب موازين اللغة العربية لا غير، إلى مفهوم يتجاوز نطاق اللغة الضيق، والمعنى الحرفي المحدود، ويتعالى على الدلالات الحسية المباشرة والقريبة، ليعبر عن خبرة اجتماعية ثقافية، ويستند على بنية برهانية مركبة، وتتحدد له هوية يعرف بها، وتكون دالة عليه، ومتلازمه معه.
والتحول من الكلمة إلى المفهوم، هو تحول من الحسي إلى الذهني، ومن البسيط إلى المركب، ومن البياني إلى البرهاني، ومن الفردي إلى الاجتماعي، ومن الثابت إلى المتحرك، وجماع القول هو التحول من عالم اللغة وقوانينها إلى عالم الاجتماع وقوانينه.
وعدم طرح مثل هذا السؤال منذ وقت مبكر يكشف عن ضآلة مستويات النظر والتفكير في داخل الثقافة الإسلامية حول مسألة الثقافة التي ما زالت في طور الكلمة ولم تتحول إلى طور المفهوم. لهذا كان من الضروري اكتشاف هذا السؤال لتطوير مستويات النظر إلى الثقافة، وتغيير منحى التفكير بها، ووجه الصعوبة في هذا الأمر هو عدم وجود تراكمات معرفية في نطاق الثقافة الإسلامية يمكن البناء عليها، والانطلاق منها، وتلمس الطريق من خلالها، أو حتى الاستئناس بها. فقد اكتفت الكتابات العربية أو معظمها بالحديث عن المعاني والدلالات اللغوية للثقافة كما تحددت ووصلت إلينا في معاجم اللغة العربية، أما الدلالات الاصطلاحية والمفهومية فيرجع فيها إلى الكتابات الغربية، وهذا يؤكد على صحة مقولتنا أن الثقافة لم تتطور من عالم الكلمة إلى عالم المفهوم كما حصل في الثقافة الأوروبية، ولهذا يرجع إليها عربياً في معاجم اللغة العربية، ومفهومياً يرجع إليها في الدراسات الأوروبية.
وفي وقت سابق طرح مالك بن نبي سؤالاً بصيغة أخرى وهو يبحث عن كلمة الثقافة في اللغة العربية، فقد تساءل في كتابه (مشكلة الثقافة) من أين جاءت كلمة الثقافة، ومنذ متى استخدمت في اللغة العربية؟(1) وفي تقديري أن هذه ليست هي المشكلة لأن كلمة الثقافة من الكلمات العربية المعروفة والمتداولة عند العرب، ولسنا بحاجة لمعرفة من أين جاءت ومتى استخدمت، وقد شرحت لنا معاجم اللغة استعمالات هذه الكلمة بالشكل الذي يغنينا عن الحديث من أين جاءت ومتى استخدمت! لكن الذي بحاجة إلى بحث مستفيض ليس الكلمة وإنما المفهوم. ولهذا فإن السؤال عن لماذا بقيت كلمة الثقافة على حالها ولم تتحول إلى مفهوم عندنا وفي ثقافتنا، وكيف تطورت وتحولت إلى مفهوم في الثقافة الأوروبية؟ هو أنضج من ذلك السؤال الذي طرحه مالك بن نبي.
والسؤال الذي يرتبط بالثقافة الإسلامية هو سؤال لماذا؟ والسؤال الذي يرتبط بالثقافة الأوروبية هو سؤال كيف؟
وإذا أردنا أن نفسر لماذا لم تتطور الثقافة من كلمة إلى مفهوم في إطار الثقافة الإسلامية، يمكن التوصل إلى الأسباب التالية:
أولاً: لم تكن الثقافة من الكلمات التي حظيت باهتمام لافت أو مميز في الثقافة الإسلامية، ولم ترتبط بقضايا أو بخبرات أو حتى بمجالات أو معارف تستدعي الانتباه والاهتمام بها. وظلت الثقافة على هذا الحال الجامد والهامشي الذي لم يكن يساعد على اكتشاف هذه الكلمة والتعرف عليها، أو التوقف عندها بطريقة تحرض على التأمل فيها، واستحضارها في مجال التداول الفكري والعلمي، لهذا فقدت كلمة الثقافة الشروط والمقتضيات المعرفية والاجتماعية التي كان بإمكانها أن تساهم في تحريكها والدفع بها نحو تطورات وانتقالات مفاهيمية.
فقد جاء الإسلام بطائفة من الكلمات والتسميات التي تواترت في نصوصه وخطاباته، وحظيت بمنزلة هامة ومتعاظمة، وترسخت في اللسان العربي، وفي مجال التداول الاجتماعي العام، وظلت حاضرة في الأذهان، وارتبطت بها المعارف والعلوم الإسلامية. ومن هذه الكلمات الفقه والعلم والعقل والحكمة والجهاد والاجتهاد والأمة.. وغيرها ولم تكن الثقافة من بين هذه الكلمات، فكلمة الفقه تحولت إلى علم هو من أشهر العلوم الإسلامية، والعلم أصبح فريضة على كل مسلم ومسلمة، والعقل أصبح حجة ودليلاً وتخصص له علم هو علم أصول الفقه الذي وصفه ابن خلدون بأنه (من أعظم العلوم الشرعية، وأجلها قدراً، وأكثرها فائدة)(2)، والحكمة اقترنت في القرآن الكريم بالكتاب في عشر آيات، منها قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة)(3)، وقوله تعالى: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً)(4) وقوله تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة)(5)، وهكذا هو الحال مع الكلمات الأخرى التي كانت لها منزلة شريفة، وارتبطت بعلوم شريفة.
وليس فقط الإسلام الذي جاء بطائفة خاصة من الكلمات والتسميات التي عظمها وشرفها، وحدد لها دلالاتها ومكوناتها، وكانت الأقرب إلى روح الدين وجوهره، وإنما يصدق هذا على جميع الديانات الأخرى، فكل ديانة انفردت بطائفة خاصة من الكلمات والتسميات المشرفة والمعظمة، وهكذا أيضاً الفلسفات والمذاهب الاجتماعية الكبرى.
ثانياً: إن الفعل (ثقف) الذي هو مصدر كلمة الثقافة، ورد في النص القرآني، وتطرقت إليه بعض معاجم ألفاظ وكلمات القرآن الكريم مثل كتاب (المفردات في غريب القرآن) للراغب الأصفهاني، هذا الفعل جاء في سياق لا يلفت الانتباه إليه، أو التأمل فيه بصورة تساعد على اكتشافه والتعرف عليه، وبالتالي إمكانية تطويره وتحويله إلى مفهوم يعبر عن فكرة محددة لها قابلية التجدد والنمو متى ما اتصلت بتراكمات معرفية وخبرات اجتماعية. فقد ارتبط هذا الفعل في جميع استعمالاته بسياق واحد وتحدد بمعنى واحد أيضاً، حيث جاء في سياق الحديث عن الحرب والقتال، وتحدد بمعنى الإدراك والظفر، والمقصود بالإدراك هنا الوصول إلى الشيء بالمعنى الحسي والوجودي وليس بالمعنى الذهني.
وهذه الاستعمالات التي وردت في النص القرآني هي:
قال تعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل)(6).
وقال تعالى: (فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبينا)(7).
وقال تعالى: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلكم يذكرون)(8).
وقال تعالى: (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون)(9).
وقال تعالى: (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس)(10).
وقال تعالى: (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا)(11).
وأول ما يستوقف الانتباه في هذه الآيات هو الربط الذي تكرر في جميعها بين الفعل (ثقف) وبين الحرب والقتال، ولعل هذه الملاحظة يمكن تفسيرها بأمرين احتماليين:
الأول: ذهني لغوي، والثاني: حسي خارجي.
الأمر الأول: إن الكلمات والألفاظ التي تستعمل في مجال الحرب والقتال غالباً ما يراد منها إعطاء معاني مضاعفة الجهد وبذل أقصى الطاقة، وهذا ما يتناسب ومقتضيات الحرب والقتال. فالثقافة في اللغة كما يقول الأصفهاني هو الحذق في إدراك الشيء وفعله؛ إذ يقال ثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر(12)، وبهذا المعنى يكون الفعل (ثقف) الذي تكرر في تلك الآيات هو بمعنى الحذق أي مضاعفة الجهد بالانتباه والنظر في إدراك العدو، لأن الحرب تؤخذ بالمباغتة، وثقفتموهم أي وجدتموهم فينبغي الحذق ومضاعفة الانتباه والنظر.
الأمر الثاني: إن الثقافة بكسر الثاء هي من الكلمات التي لها علاقة بقضايا الحرب والقتال، فالثقاف والثقافة تعنيان العمل بالسيف، والثقاف أداة من خشب أو حديد تثقف بها الرماح لتستوي وتعتدل، وثاقفه، مثاقفة، وثقافاً: خاصمه وجالده بالسلاح ولاعبه إظهاراً للمهارة والحذق(13).
لهذا فالاقتران الذي تكرر في الآيات المذكورة بين الفعل ثقف وبين الحرب والقتال لا يعد غريباً، كما أن هذا الاقتران يمكن ملاحظته أيضاً في أشعار العرب، فقد استشهد فارس بن زكريا في معجمه (مقاييس اللغة) ببعض تلك الأشعار، كقول عدي بن الرقاع:
نَظَرَ المثقَّفِ في كُعوب قناتِهِ
حتى يقيم ثِقافُهُ منآدها
وفي بيت آخر يقول:
فإما تَثْقَفوني فاقتلوني
وإن أُثْقَفْ فسوف ترون بالي(14)
وفي بيت لحسان بن ثابت يقول فيه:
فإما تَثْقَفُنَّ بنو لؤيٍّ
جذيمةَ إن قتلهم شفاء
ومن الملاحظات البلاغية في تلك الآيات أن الفعل (ثقف) تواتر بصيغة الجمع لأن موضوعه هو الحرب والقتال بين جماعات، ويمكن أن تكون صيغة الجمع هي أكثر استعمالاته، ويمكن أن تكون الجماعة هي حقله الرئيسي. وتواتر أيضاً بصيغة الفعل ولم يرد بصيغة الاسم الأمر الذي يلفت إلى المعنى اللغوي بصورة أساسية، لهذا لا يمكن القياس على هذا الاقتران خارج مجال اللغة والمعنى اللغوي.
والمحصلة في هذا الشأن أن الفعل (ثقف) الذي ورد في النص القرآني، لم يكن يستوقف الانتباه أو يلفت النظر إلى مفهوم الثقافة، أو يقود إلى اكتشاف هذا المفهوم والتعرف عليه. والالتفاتات التي حصلت تحددت في الجانب اللغوي لا غير، كالتفاتة الفضل بن الحسن الطبرسي في تفسيره الشهير (مجمع البيان في تفسير القرآن) حيث توقف أمام أول آية وردت فيها كلمة ثقف في سورة البقرة (واقتلوهم حيث ثقفتموهم)(15) حيث قال (ثقفته أثقفه ثقفاً وثقافة أي وجدته، ومنهم قولهم رجل ثقف لقف أي يجد ما يطلبه، وثقف الرجل ثقافة فهو ثقف، وثقف ثقفا بالتحريك فهو ثقف إذا كان سريع التعلم، والثِقاف حديدة تقوّم بها الرماح المعوجة، والتثقيف القويم)(16).
ثالثاً: إن المعاني والدلالات اللغوية التي تحددت في معاجم اللغة العربية لكلمة الثقافة ظلت جامدة وساكنة ولم تبرح مجال اختصاصها. فقد تحددت تلك المعاني والدلالات بهذا المجال اللغوي، وتضيقت به، وبات الرجوع إليها يكاد ينحصر بهذا المجال اللغوي. واللغة من هذه الناحية أدت وظيفتها الاختصاصية، ولم يكن بإمكانها تجاوز هذه الوظيفة إلى ما هو أكثر من ذلك. ولم يكن بإمكان اللغة تطوير هذه الكلمة والارتقاء بها إلى مرحلة المفهوم، وليس هذا من اختصاصها أيضاً.
والذي يذكر في هذا الشأن أن المعاني والدلالات اللغوية لكلمة الثقافة التي أعطيت لها في معاجم اللغة العربية كانت هامة وقيمة وثرية، وكان بإمكانها أن تساهم في تحريك هذه الكلمة وصناعتها مفهومياً، لو تجاوزت هذه الكلمة مجالها اللغوي واتصلت بنسق آخر من المعارف الاجتماعية بحيث تضيف إلى تلك الكلمة دلالات ثقافية واجتماعية وتربوية، وهذه الإضافة هي التي يتوقف عليها انتقال الثقافة من طور الكلمة إلى طور المفهوم. وهذا الذي لم يحدث في نطاق الثقافة الإسلامية، فقد ظلت كلمة الثقافة منحصرة في المجال اللغوي ولم تتصل بنسق آخر من المعارف الاجتماعية.
رابعاً: إن عدم تبلور العلوم الاجتماعية في إطار الثقافة الإسلامية ما قبل عصر ابن خلدون وما بعده كان سبباً منهجياً ومعرفياً في عدم اكتشاف وبناء مفهوم الثقافة التي عرفت وتحددت وتطورت في نطاق هذه العلوم، وأصبحت وثيقة الارتباط بها، وظلت تحتفظ بهذا الارتباط بدون توقف أو انقطاع، وتتزود منه في إثراء دلالاتها ومكوناتها ووظائفها. ومن شدّة هذا الارتباط اعتبرت هذه العلوم بأنها علوم الثقافة، أو أنها تمثل مجالاتها، فالثقافة التي لم تتحول إلى علم تتحدد به، ولم تستقل بعلم خاص بها، أصبحت هذه العلوم الاجتماعية هي علومها ومجالاتها.
وهذا يلفت نظرنا إلى قضية معرفية شديدة الأهمية، وهي لماذا لم تنشأ العلوم الاجتماعية في إطار الثقافة الإسلامية! مناقشة هذه القضية بحاجة إلى بحث مستفيض، وبإجمال عام يمكن القول بأن أزمة فكرية ظهرت منذ وقت مبكر في حركة الثقافة الإسلامية، وكان من أبرز ملامح وصور هذه الأزمة الصدام الذي حصل مع أفكار المعتزلة وأدى إلى اضمحلالها، وانبعاث ظاهرة الخوارج وتحولها إلى ظاهرة فكرية قشرية ومتطرفة، والانتهاء إلى ضرورة إغلاق باب الاجتهاد المطلق، إلى جانب الموقف العنيف من الفلسفة والمنطق إلى غير ذلك. هذه الأزمة الفكرية أعاقت إمكانية تبلور وتشكل العلوم الاجتماعية في فضاء الثقافة الإسلامية، وهي العلوم التي كان للعقل والفكر والفلسفة والمنطق دور أساسي في تشكلها وتطورها.
هذه لعلها الأسباب المنهجية والمعرفية التي أعاقت تحول وتطور الثقافة من طور الكلمة إلى طور المفهوم في فضاء الثقافة الإسلامية.
بقي أن نتساءل وماذا عن مقدمة ابن خلدون الشهيرة فهل ساهمت في اكتشاف مفهوم الثقافة والتعرف عليه؟
لقد طالعت مقدمة ابن خلدون لهذه المهمة تحديداً، متتبعاً وفاحصاً عما إذا كانت قد وردت فيها كلمة الثقافة كتسمية تنتسب إلى مفردات اللغة العربية، أو كمفهوم ينتسب إلى نسق من المعارف الاجتماعية. واختيار مقدمة ابن خلدون لهذه الغاية باعتبار أن هذه المقدمة هي أنضج محاولة منهجية في نطاق الثقافة الإسلامية سعت لبناء نظرية اجتماعية، ولتأسيس علم للاجتماع ينتسب إلى الإطار المرجعي الإسلامي، وإلى التجربة التاريخية الإسلامية الممتدة من العصر الأول إلى العصر الوسيط.
ولأن الثقافة كما تحددت ووصلت إلينا قد ارتبطت وتفاعلت في تكونها وتطورها بعلم الاجتماع، والتقدم الذي حصل في الأفكار الاجتماعية هو الذي ساهم في بلورة التأملات الواسعة والناضجة حول الثقافة، وأصبح النظر لها يتحدد باعتبارها ظاهرة ثقافية - اجتماعية، بمعنى أن النظر إلى الثقافة لا ينفصل أو يستقل عن النظر إلى المجتمع، والنظر إلى المجتمع هو الآخر لا ينفصل أو يستقل عن النظر إلى الثقافة، فهناك تلازم وتشابك في النظر والتحليل بين الظواهر الثقافية والظواهر الاجتماعية، ولذلك أصبحت الثقافة من المسائل المهمة في علم الاجتماع.
وقد اعتبر ابن خلدون نفسه بأنه مكتشف علم الاجتماع حيث نظر إليه كعلم مستقل بنفسه، وأن موضوعه هو العمران البشري والاجتماع الإنساني، ومسائله هي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أو عقلياً، وهو الذي استوفى مسائله،وحسب قوله (اعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، عزيز الفائدة، أعثر عليه البحث، وأدى إليه الغوص.. وكأنه علم مستنبط النشأة، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة، ما أدري ألغفلتهم عن ذلك، وليس الظن بهم، أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا. فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون، وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل.. ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاماً، وأعثرنا على علم، فإني كنت قد استوفيت مسائله، وميزت عن سائر الصنائع أنظاره وأنحاءه، ولي الفضل لأني نهجت له السبيل، وأوضحت له الطريق، والله يهدي بنوره من يشاء)(17).
وشرح ابن خلدون في المقدمة كما يقول ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة، وتندفع بها الأوهام والشكوك.
فابن خلدون الذي تحدث عن العمران البشري، والعمران الحضري، والعمران البدوي، وعن الاجتماع الإنساني، وعن الحضارة والمدنية والتمدن والمدينة، وعن الصنائع والعلوم، وجميع هذه التسميات وردت وتكررت مراراً في المقدمة، فهل تحدث ابن خلدن أيضاً عن الثقافة وقدم حولها فكرة أو رؤية أو تعريفاً مستقلاً أو موصولاً مع تلك التسميات؟..
لقد تحدث ابن خلدون عن الثقافة، وهذا ما لم يلتفت إليه مالك بن نبي، والتفت إليه قبله سلامة موسى، فحين يتساءل مالك بن نبي في كتابه (مشكلة الثقافة) عن من أين جاءت كلمة الثقافة ومنذ متى استخدمت في اللغة العربية؟ يجيب بن نبي: (فإذا ما رجعنا قليلاً في مجال هذا البحث لم نجد أثراً لتلك الكلمة في لغة ابن خلدون، الذي يعد على أية حال المرجع الأول لعلم الاجتماع العربي في العصر الوسيط)(18).
وهناك تدارك في هامش الكتاب لهذا الاشتباه، ويظهر أن هذا التدارك هو من مترجم الكتاب أو من الذي راجعه، وليس من المؤلف الذي عاد وكرر الملاحظة مرة أخرى وهو يتحدث عن فكرة الثقافة.. ولعل هذا يكشف عن أن مالك بن نبي لم يطلع على كامل مقدمة ابن خلدون.. أما سلامة موسى ففي مقالة له حول الثقافة والحضارة، نشرها في مجلة الهلال المصرية سنة 1927م، حيث اعتبر نفسه أول من أفشى لفظ الثقافة، وحسب قوله: (كنت أول من أفشى لفظة الثقافة في الأدب العربي الحديث، ولم أكن أنا الذي سكها بنفسه فإني انتحلتها من ابن خلدون، وإذ وجدته يستعملها في معنى شبيه بلفظ (Culture) الشائعة في الأدب الأوروبي).
والملاحظ أن حديث ابن خلدون عن الثقافة في مقدمته لم يكن على نسق واحد من حيث الاستعمال، وإنما كان باشتقاقات مختلفة، بحيث كانت الكلمة تتبدل وتتغير في كل مرة بتصريفات وصيغ متباينة، وأول استعمال لها كان بلفظ (الثقافة)، وجاء في سياق حديث ابن خلدون عن إذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم، وأوضح ذلك ابن خلدون من ثلاثة وجوه، وفي الوجه الثالث، اعتبر (أن طبيعة الملك تقتضي الدعة كما ذكرناه، وإذا اتخذوا الدعة والراحة مألفاً وخلقاً صار لهم ذلك طبيعة وجبلة شأن العوائد كلها.. وينقلب خلق التوحش، وينسون عوائد البداوة، التي كان بها الملك من شدة البأس، وتعوّد الافتراس، وركوب البيداء، وهداية القفر، فلا يفرق بينهم وبين السُّوقة من الحضر إلا في (الثقافة) والشارة)(19)، وفي هذا الاستعمال كانت الثقافة بوجود الفتحة والشدة على الثاء.
وفي الاستعمال الثاني وردت (الثقافة) بكسر الثاء مع وجود الشدة، وجاءت في سياق الحديث عن أن الدولة لها أعمار طبيعية كما الأشخاص. واعتبر ابن خلدون أن عمر الدولة في الغالب لا يعدو أعمار ثلاثة أجيال، وفي الجيل الثالث من عمر الدولة يقول: (أما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته بما تبنقوه من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عيالاً على الدولة.. وتسقط العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة، ويلبسون على الناس في الشارة والزي، وركوب الخيل، وحسن (الثقافة) يموهون بها، وهم في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورها)(20).
والاستعمال الثالث كان بصيغة (الثِقاف) بكسر الثاء، وجاءت في سياق الحديث عن ديوان الرسائل والكتابة وعن الشروط المعتبرة في صاحب هذه المرتبة، حيث اعتبر ابن خلدون أن أحسن من تحدث في هذا الشأن هو عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكتاب، وجاء في هذه الرسالة التي نشرها ابن خلدون كاملة في مقدمته (فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين، وابدأوا بعلم كتاب الله عز جل والفرائض ثم العربية، فإنها (ثِقاف) ألسنتكم)(21).
والاستعمال الرابع كان بصيغ (ثقافته) بكسر الثاء،وتكررت ثلاث مرات في مقطع واحد، وجاءت في سياق الحديث عن قيادة الأساطيل البحرية وكيف أن العرب لم تكن لهم دراية في ركوبه والجهاد على أعواده، ويشرح ابن خلدون السبب في ذلك ويقول: (أن العرب لبداوتهم لم يكونوا مهرة في (ثِقافته) وركوبه، والروم والإفرنجة لممارستهم أحواله، ومرباهم في التقلب على أعواده مرنوا عليه، وأحكموا الدراية (بثِقافته) فلما استقر الملك للعرب، وشمخ سلطانهم.. وتقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته، واستخدموا من النّواتية في حاجاتهم البحرية أمماً، وتكررت ممارستهم للبحر و(ثِقافته) واستحدثوا بصراء بها، فشرهوا إلى الجهاد فيه)(22).
والاستعمال الخامس كان بصيغة (تثقيف)، وجاءت في سياق الحديث عن التفاوت في مراتب السيف والقلم في الدول، وكيف أن الدولة تحتاج إلى السيف في أول الدولة، ويستغنى عنه بعض الشيء في وسطها، والقلم هو المعين لها في هذا الطور، فتكون أرباب الأقلام كما يقول ابن خلدون (في هذه الحاجة أوسع جاهاً، وأعلى رتبة، وأعظم نعمة وثروة، وأقرب من السلطان مجلساً، وأكثر إليه تردداً، وفي خلواته نجياً، لأنه حينئذ آلته التي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه، والنظر إلى أعطافه، و(تَثقيف) أطرافه، والمباهاة بأحواله)(23).
والاستعمال السادس والأخير كان بصيغة (تثقيفاً)، وجاءت في سياق الحديث عن صناعة النظم والنثر، وأن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ، وكيف أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية في منثورهم ومنظومهم، والسبب في ذلك حسب رأي ابن خلدون: (أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام وسمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث - اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما-، لكونها ولجت في قلوبهم، ونشأت على أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم، وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية، ممن لم يسمع هذه الطبقة، ولا نشأ عليها، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة، وأصفى رونقاً من أولئك، وأرصف مبنى، وأعدل (تثقيفاً) بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة)(24).
والذي يستفاد من هذه الاستعمالات لكلمة الثقافة بصيغها وهيئاتها المختلفة، هو أن ابن خلدون تعامل مع هذه الكلمة باعتبارها مفردة لغوية متعارفاً عليها في مفردات وقاموس اللغة العربية، ولم يتعامل معها كمفهوم له من المعاني والدلالات المعنوية والسلوكية والاجتماعية بحيث يكون متطابقاً أو قريباً من الفهم والإدراك الذي يتحدد اليوم حول الثقافة. فالثقافة بفتح الثاء في الاستعمال الأول كانت بمعنى الحذق والفطن، والثقافة بكسر الثاء في الاستعمال الثاني كانت بمعنى الملاعبة بالسيف لإظهار الحذق والمهارة، والثقاف بكسر الثاء في الاستعمال الثالث كان بمعنى الاستواء والتهذيب، وثقافته في الاستعمال الرابع كانت بمعنى الظفر والحذق، وتثقيف بتسكين الثاء في الاستعمال الخامس كان بمعنى التعديل والتقويم، وتثقيفاً بتسكين الثاء في الاستعمال السادس كان بمعنى التقويم والتهذيب.
لذلك يمكن القول بأن مقدمة ابن خلدون لم تساهم في بلورة واكتشاف مفهوم الثقافة، واكتفت باستعمالات هذه الكلمة باعتبارها مفردة لغوية شائعة في اللغة العربية، هذامن حيث التوصيف، ومن حيث التقويم فإن نقطة الضعف أو البعد الغائب في نظرية ابن خلدون الاجتماعية، وفي تحليله لأطوار التحول من البداوة إلى الحضارة، هو غياب مفهوم الثقافة عند ابن خلدون، ولهذا فنحن اليوم نفهم تلك الأفكار والنظريات التي شرحها ابن خلدون بطريقة مغايرة عن رؤيته وتحليله. وهناك اتفاق معه في جانب واختلاف معه في جانب آخر، اتفاق معه في جانب ما بات يعرف بقانون الدورات التاريخية، فالمجتمعات والأمم والدول والحضارات لا تبقى على حالة واحدة وإنما تمر بأطوار ودورات من التطور والتكامل والهرم والسقوط، واختلاف معه في رؤيته للحضارة التي يرى فيها نهاية العمران، وغاية الفساد، والبعد عن الخير، وتمجيده ومبالغته للبداوة.
وليس صائباً ودقيقاً ما ذكره الدكتور حسين مؤنس في كتابه (الحضارة) حين اعتبر أن ابن خلدون قد أدرك الفرق بين الثقافة والحضارة بتمييزه وتفريقه بين العمران والحضارة، وأن ما يقصده من العمران هو الثقافة. وعدم الصواب في هذا الرأي من جهتين:
أولاً: إن ما يقصده ابن خلدون من العمران ليس هو الثقافة قطعاً، وإنما هو الاجتماع البشري القائم على مفهوم العصبية.
ثانياً: إن نظرية ابن خلدون كانت تدور حول الدولة وليس حول الحضارة، وهذا ما التفت إليه مالك بن نبي، وبه تميزت نظريته التي تحددت حول الحضارة، عن نظرية ابن خلدون التي تحددت حول الدولة.
كما ليس صائباً ودقيقاً ما ذهب إليه عمر عودة الخطيب في كتابه (لمحات في الثقافة الإسلامية) في أن ابن خلدون كان يعني بلفظ (الملكة) ما تدل عليه لفظة الثقافة، واستشهد على ذلك بقول ابن خلدون في مقدمته أن (نوع المحفوظ يقرر اتجاه صاحبه في الأدب أو العلم، فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر، وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والترسل، والعلمية بمخالطة العلوم والإدراكات والأبحاث والأنظار، والفقهية بمخالطة الفقه.. الخ).
وعدم الدقة والصواب في هذا الرأي من ثلاثة وجوه:
أولاً: لقد أوضح ابن خلدون ما يقصده من لفظ الملكة الذي تكرر استعماله كثيراً، وبصيغ مختلفة في مقدمته بحيث يكون من الصعب ومن المستبعد جداً أن يكون معنى هذا اللفظ ما تدل عليه كلمة الثقافة. فحين يشرح ابن خلدون كيف تحصل الملكات يقول (الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال، لأن الفعل يقع أولاً وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالاً، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يتزايد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة)(25). وفي مكان آخر من المقدمة يعتبر ابن خلدون أن الملكة هي غير الفهم والوعي بقوله: (إن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده، والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله، وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلاً. وهذه الملكة هي غير الفهم والوعي، لأنا نجد منهم المسألة الواحدة من الفن الواحد ووعيها مشتركاً بين من شدا في ذلك الفن، وبين من هو مبتدئ فيه، وبين العامي الذي لم يعرف علماً وبين العالم النحرير، والملكة إنما هي للعالم أو الشادي في الفنون دون سواهما، فدل على أن هذه الملكة غير الفهم والوعي)(26).
ثانياً: إن ما ذهب إليه الخطيب كان على خلفية أن ابن خلدون لم يأت على ذكر كلمة الثقافة في مقدمته، اعتماداً على رأي مالك بن نبي في هذا الشأن، الذي كان رأيه ملتبساً كما أوضحت ذلك فيما سبق. وحسب رأي الخطيب يقول (وإذا كان من غير الميسور أن يحصي الباحث كل ألفاظ ابن خلدون في المقدمة ليرى إن كان قد استعمل هذا اللفظ أم لا؟ فإن الحقيقة أن ابن خلدون قد تناول في الباب السادس من المقدمة الكلام على كل أنواع العلوم وأصنافها، والتعليم وطرقه، وقد عقد واحداً وستين فصلاً عالج فيها البحث في مختلف أنواع الثقافة في عصره، وإن لم يستعمل لفظة الثقافة نفسها كما سلف)(27)، وأحال ذلك في الهامش على كتاب (مشكلة الثقافة) لمالك بن نبي.
ثالثاً: إن الملكة تسمية معروفة ومتداولة في اللسان العربي، وأكثر استعمالاتها في مجالات المعارف والعلوم كالفقه وأصول الفقه والفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وحتى في الأدب والشعر واللغة العربية، ويعرضها الجرجاني في كتابه (التعريفات) بقوله (الملكة هي صفة راسخة في النفس، وتحقيقه أنه تحصل للنفس هيئة بسبب فعل من الأفعال، ويقال لتلك الهيئة كيفية نفسانية، وتسمى حالة ما دامت سريعة الزوال، فإذا تكررت ومارستها النفس حتى رسخت تلك الكيفية فيها وصارت بطيئة الزوال فتصير ملكة)(28). وهذا المعنى لكلمة الملكة هو ما يقصده ابن خلدون تحديداً في مقدمته. وقد كشفت هذه الآراء عن حالة الإرباك والاضطراب في الكتابات والدراسات العربية والإسلامية، في التعامل مع مفهوم الثقافة، وصعوبة تكوين المعرفة بهذا المفهوم، وتقعيده على نحو دقيق، كما كشفت عن ضعف ومحدودية الخبرة في التعاطي مع هذا المفهوم الملتبس والذي لا يخلو من غموض وتعقيد.
والحقيقة أن ابن خلدون لو كان على دراية بمفهوم الثقافة كما هي معروفة لدينا اليوم لأصبحت أفكاره وتفسيراته ونظرياته حول العمران البشري والاجتماع الإنساني، وحول الحضارة والبداوة مختلفة بعض الشيء، ولعلها كانت مغايرة لما توصل إليه كلياً أو جزئياً.
وهذا الرأي لا يعني على الإطلاق عدم الحاجة إلى مقدمة ابن خلدون، وعدم الاستفادة منها في موضوعنا، فالحاجة إليها ملحة لأنها من أهم كتب التراث قرباً واتصالاً بحديثنا عن المسألة الثقافية، ومحاولة اكتشاف أو بناء نظرية وفكرة حول الثقافة.
ذلك كان عن الأمس ما قبل ابن خلدون وما بعده، فماذا عن اليوم بعد أن تعرفنا على الثقافة وعظمتها وتجلياتها ونسقها الدلالي، فهل ظهرت وتبلورت محاولات وإسهامات جادة ومتميزة على مستوى الكتابات العربية والإسلامية في تطوير وبناء مفهوم الثقافة؟
لا أدري هل من المستغرب أو غير المستغرب القول بأن الكتابات العربية الحديثة والمعاصرة لم يكن لها إسهامات جادة ومتميزة في تطوير وبناء مفهوم الثقافة. وليس هناك من يصف هذه الكتابات بالتميز فهي على قلتها ومحدوديتها لا تمثل إضافة مهمة، ولا تلفت النظر إليها في هذا الشأن على الإطلاق، فقد جعلت من الكتابات الغربية إطاراً مرجعياً لها في هذا المجال، تدور في فلكه، وتجتر منه، وتبني عليه، ولا تكاد تتجاوزه وتخرج عليه. وهذه إشكالية حقيقية بحاجة إلى تفسير، فهل المشكلة في الثقافة نفسها وما يكتنفها من غموض وإبهام وتعقيد، أم في ضعفنا وعجزنا عن الإبداع والاكتشاف والتجديد، وتقاعسنا وتكاسلنا وخضوعنا للتبعية والتقليد أم في اعتبار أن الثقافة هي اكتشاف أوروبي وهو امتياز لهم بحيث لا يقارن أو يضاهى بغيره من إسهامات الآخرين!.
أمام هذه الإشكالية هناك تفسيران:
التفسير الأول: ويطرحه مالك بن نبي الذي يعد إسهامه في هذا المجال الأكثر أهمية على مستوى الكتابات العربية والإسلامية، حيث يرى بأن المشكلة هي في الثقافة نفسها التي لم تكتسب قوة التحديد في اللغة العربية. وحسب رأيه (إننا نجد فيما كتب حديثاً عن هذا الموضوع في البلاد العربية، أن الكتاب يقرنون دائماً كلمة الثقافة بكلمة Culture مكتوبة بحروف لاتينية، كأنما يبتغون بهذا أن يقولوا: إن كلمة ثقافة لا تكتب إلا بهذا الوضع. وهؤلاء المؤلفون يعلمون دون ريب ما يفعلون، حين يقرنون الكلمة العربية بنظيرتها الأجنبية.. أو بعبارة أخرى إنها كلمة لا تزال في اللغة العربية تحتاج إلى عكاز أجنبي مثل كلمة Culture كي تنتشر)(29)، ويعطي ابن نبي صفة الاضطرار لهذا الاقتران، وأنه بمثابة دعامة لشد أزر الكلمة العربية في عالم المفاهيم.
التفسير الثاني: ويذهب إليه نصر محمد عارف الذي يربط المشكلة بحركة الترجمة التي حصلت حسب رأيه مع بداية الاتصال الفكري والمعرفي الذي حدث في طور انحطاط العالم الإسلامي، خصوصاً في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، حيث حدثت حركة ترجمة واسعة تم فيها اختيار كلمات عربية، نزعت من جذورها وسياقها لتعبر عن ألفاظ أجنبية جاءت بعد ذلك بكل دلالاتها وجذورها، وجوانبها المنظورة وغير المنظورة لتزيح المعنى العربي جانباً وتحل محله تماماً، فلا يبقى منه غير الوعاء الخارجي، وقد أدى ذلك كما يضيف نصر عارف إلى طمس الدلالات الحقيقية للمفهوم العربي، واستبدال دلالات أوروبية بها، بحيث لم يعد من المفهوم العربي غير لفظه، فرغم استخدام لفظ الثقافة العربي إلا أن المعاني والدلالات المقصودة من وراء اللفظ كلها نفس معاني دلالات مفهوم Culture، وكأن هذا المفهوم الأجنبي قد نسخ كل المعاني العربية للثقافة أو حل محلها(30).
ولعل منشأ الاختلاف في هذين التفسيرين ناشئ من اختلاف زاوية النظر للثقافة وهل هي تعبر عن مفهوم مكتمل أم لا؟ فمالك بن نبي ينظر للثقافة على أنها لم تتحول إلى مفهوم مكتمل له قوة التحديد في اللغة العربية، لذلك كانت الضرورة حسب رأيه اقترانه بالمفهوم الأوروبي الذي اكتسب قوة التحديد وتحول إلى مفهوم مكتمل من حيث شروط بناء المفهوم، في حين أن نصر عارف نظر إلى الثقافة باعتبارها تعبر عن مفهوم له تحديد مكتمل لكنه تعرض إلى طمس وانزياح وتغريب.
والذي أراه أن الثقافة لم تكتسب قوة التحديد ولا تعبر عن مفهوم مكتمل في اللغة العربية، ومن هذه الجهة نتفق مع مالك بن نبي، ووجه الاختلاف أو النقاش معه في ضرورة اقتران الكلمة العربية للثقافة بالمفهوم الأوروبي للثقافة، وذلك من ثلاثة وجوه:
أولاً: قد ينشأ هذا الاقتران بدافع الضرورة، لكن كيف نتحكم بهذه الضرورة أمام ثقافة تستند على منطق القوة والهيمنة. وكيف نتحصن من هذا الاقتران في أن لا يتحول إلى تغريب واستلاب، في ظل اختلال التوازن الحضاري بين العالمين الإسلامي والأوروبي، واختلال توازنات القوة بين الثقافتين الإسلامية والأوروبية.
ثانياً: إن قوة التحديد للثقافة في اللغة العربية هل هي ممكنة أم ممتنعة؟ فإذا كانت ممتنعة جاز القول بالاقتران بحكم الضرورة، وأما إذا كانت ممكنة فتنتفي ضرورة الاقتران وتبرز ضرورة السعي، وإنما بالسعي العلمي والمعرفي نحو إنجاز قوة التحديد للثقافة.
ثالثاً: إن هذا الاقتران ليس ناشئاً بحكم الضرورة، وإنما لأننا لم نبذل جهداً معرفياً، ولم نستفرغ ما لدينا من طاقة في تحصيل قوة التحديد للثقافة في اللغة العربية والمنظومة الإسلامية. ولقد تأخرنا في إنجاز مثل هذه المهمة المعرفية، وأظهرنا ضعفاً في إمكانية تحقيق ذلك، ولجأنا في المقابل إلى الكتابات الغربية وركنا إليها تبعية وتقليداً. فغاية ما يذكره معن زيادة وهو يتحدث عن ماهية الثقافة، هذا القدر الذي يقول فيه (أما مصطلح الثقافة فيرتد بالعربية إلى المصدر ثَقَفَ وهو يحمل معاني التحويل والإصلاح والتهذيب، وهذا يجعله قريباً من المعنى الأصلي لكلمة Culture اللاتينية)(31).
وأما التفسير الذي يذهب إليه نصر عارف، فمن حيث الإجمال نتفق مع رأيه في وجود محاولات وحتى مخططات لطمس المفاهيم الإسلامية والإطاحة بها، وتغليب المفاهيم الغربية والارتقاء بها، ولكن وجه الاختلاف معه في التعامل مع الثقافة باعتبارها تمثل مفهوماً متشكلاً في اللغة العربية، في حين أنه ليس كذلك، وما زال في وضعية ما قبل بناء المفهوم، وبحسب الاصطلاح الفلسفي فإننا ما زلنا في مرحلة القوة وليس مرحلة الفعل بالنسبة إلى مفهوم الثقافة في اللغة العربية والمنظومة الإسلامية، ونحتاج إلى الحركة التي تقوم بعملية نقل المفهوم من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل بطريقة تدريجية في بناء واكتمال المفهوم ليكون ناضجاً ومتماسكاً، وهذه الحركة لم ننهض بها بالمستوى الكمي والكيفي الذي يجعل من الممكن إنجاز هذه العملية.
ومنذ التعرف على الثقافة بمفهومها الأوروبي وبنسقها الدلالي المتشكل في منظومة الثقافة الأوروبية، هيمن هذا المفهوم بقوة على الكتابات والدراسات العربية والإسلامية، فهل ساهم هذا التعرف على تطوير وبناء مفهوم الثقافة في المجال العربي والإسلامي؟ أمام هذا السؤال لا ينبغي التسرع في الإجابة عليه، كما لا ينبغي التعامل معه بمنطق الانقسام الفكري والحضاري، ولا بذهنية التحيز الذاتي والتاريخي، وإنما التعاطي معه بالمنطق القرآني في قوله تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا)(32).
والذي يمكن قوله في الإجابة على ذلك السؤال، أنه لولا التعرف على مفهوم الثقافة كما وصل إلينا من منظومة الثقافة الأوروبية لما التفتنا إلى كلمة الثقافة بنظرة جديدة بعد أن كانت مجرد كلمة عادية كغيرها من كلمات اللسان العربي التي لم يكن لها تخلق أو لمعان قبل التعرف عليها، ولما تولد لدينا الحافز لضرورة بناء مفهوم مستقل للثقافة ويكون بحسب الدلالات التي تعطى له في اللغة العربية، لهذا فإن المفهوم الأوروبي هو الذي نبهنا إلى مثل هذه الحاجة والضرورة، ولا أعلم أنه لولا ذلك المفهوم لكنا نلتفت إلى كلمة ومفهوم الثقافة عندنا أم لا!
وقد اعتبر مالك بن نبي أن الثقافة هي من ابتكار العبقرية الأوروبية، ومن نتاج الأعمال الأدبية الجليلة التي تحققت هناك، وأنها حسب قوله (فكرة حديثة جاءتنا من أوروبا، والكلمة التي أطلقت عليها هي نفسها صورة حقيقية للعبقرية الأوروبية، فمفهوم الثقافة ثمرة من ثمار عصر النهضة، عندما شهدت أوروبا في القرن السادس عشر انبثاق مجموعة من الأعمال الجليلة في الفن والأدب والفكر)(33)، وبن نبي الذي يقول هذا الكلام هو من أكثر المفكرين المسلمين استفادة من المفهوم الأوروبي للثقافة، وكتاباته في هذا المجال كشفت عن خبرة عالية في التعاطي مع مسألة الثقافة في الفكر الإسلامي.
من جهة أخرى وبعد أن وصل إلينا مفهوم الثقافة كما تحدد في الفكر الأوروبي ولفت انتباهنا لكلمة الثقافة في لغتنا وتراثنا وتاريخنا، فإننا لم نتمكن من أن نبدع لنا مفهوماً مستقلاً عن الثقافة، ولم نساهم بإضافة معرفية خلاقة تلفت الانتباه على مستوى الفكر الإنساني الذي ظل يساءل نفسه باستمرار حول ما هي الثقافة؟ وإلى اليوم والسؤال ما زال يطرح، ولم تظهر الإجابة التي يمكن وصفها بالنهائية والمكتملة، وهناك بعض الشكوك في إمكانية الوصول لمثل هذه الإجابة النهائية والمكتملة، أو الحاجة إليها أساساً. وعدم الاكتمال هو الذي يدفعنا نحو إدراك الحاجة المستمرة للثقافة، وعدم التوقف عن استنطاقها ومساءلتها والإصغاء لها، كلما تجددت الحياة، وتغيرت أحوال الاجتماع الإنساني. كما أن هذه الحاجة بطبيعتها تستجيب لمتطلبات المجتمعات الإنسانية على اختلاف مستوياتها المدنية والحضارية، المتقدمة منها، ومن هي في طريق النمو، وحتى المتخلفة منها.
وأما لماذا لم نبدع لنا مفهوماً مستقلاً للثقافة؟ ولم يسجل لنا إضافة خلاقة في مجالها؟
لقد كان مفهوم الثقافة كما وصل إلينا من الثقافة الأوروبية جديداً علينا، ولافتاً ومميزاً في نفس الوقت، ولم نكن نحن على دراية وخبرة بهذا المفهوم، لا بطرائق فهمه، ولا بطرائق التعامل معه، فأخذنا بهذا المفهوم الذي وصل إلينا، وركنا إليه، واعتمدنا عليه بصورة كبيرة أو كرسنا بهذه الطريقة كما أشرنا سابقاً حالة من التبعية والتقاعس التي لا تتيح لنا حوافز وإمكانيات الإبداع والاكتشاف. هذه من جهة، ومن جهة أخرى فإن المحاولات التي تطمح إلى الإبداع والتجديد لا تنال حقها من الأهمية، من جهات عديدة، لا من جهة كسب الاعتبار والثقة بها، ولا من جهة المتابعة والنقد، ولا من جهة البناء والتراكم عليها. وتظل هذه المحاولات خارج دائرة الاهتمام، ولا يكون لها تلك الفاعلية المفترضة منها في تحريك الأجواء، وبعث الرغبة نحو المزيد من البحث والاكتشاف. وهذه معضلة حقيقية لها تأثيراتها النفسية والمعرفية، وما لم نتخلص منها، ونعيد النظر في رؤيتنا لأنفسنا، فلن نتقدم خطوات إلى الأمام، إلا بصورة بطيئة ومحدودة جداً.
وقد اعتبر الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت في القرن التاسع عشر أن مهمة التنوير هي التخلص من تلك الذهنية، ومن الشعور الذاتي بالقصور، فبعد أن تساءل ما هو التنوير أجاب بقوله في نص شهير له، أنه (خروج الإنسان عن حالة قصوره، ذلك القصور الذي يكون الإنسان ذاته مسؤولاً عنه. وأعني بالقصور عجز الإنسان عن استخدام فهمه دون توجيه الآخرين، كما أقول بأن الإنسان ذاته هو المسؤول عن ذلك القصور، لأن السبب فيه لا يعود إلى عيب في الفهم، وإنما يرجع إلى غياب القدرة على اتخاذ الموقف والشجاعة في استخدام الفهم دون قيادة الآخرين، إن الكسل والجبن هما السببان اللذان يفسران لنا كون عدد هائل من الناس بالرغم من أن الطبيعة قد حررته منذ أمد بعيد من كل توجيه خارجي، فهو يظل قاصراً بقية حياته وعن طواعية منه، فما أسهل أن يكون الإنسان قاصراً)(34).
هذه الرؤية هي التي حررت العقل الأوروبي من القصور، ومن إحساسه بالقصور، وألهمته الإرادة والشجاعة في التأمل والتفكير، وبعثت فيه يقظة الإبداع والاكتشاف، حيث أصبحت الأفكار والفلسفات الجديدة هناك هي أعظم مصدر استلهام في نهضة وتقدم المجتمعات الأوروبية.
ونحن ما لم نتخلص من إحساسنا بالقصور وبعقدة النقص، ومن ذهنية التبعية والتقليد، فلن نظهر ثقة وشجاعة في التعبير عن أفكارنا، وفي التعامل معها. وبإمكاننا أن نكتشف لأنفسنا فكرة عن الثقافة انطلاقاً من منظومتنا الإسلامية، إذا نحن بذلنا جهداً معرفياً، وتواصلنا مع هذا الجهد بطريقة بنائية وتراكمية، وتعاملنا معه بثقة عالية، وبخلفية الإصرار على الاكتشاف، والتمسك بنزعة استقلالية تتخلص من التبعية والتقليد.
الهوامش:
(1) مشكلة الثقافة: مالك بن نبي، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دمشق - دار الفكر، 2000م، ص19.
(2) مقدمة ابن خلدون: ضبط وتقديم: محمد الإسكندراني، بيروت - دار الكتاب العربي، 1998م، ص418.
(3) سورة البقرة: آية 231.
(4) سورة النساء: آية 113.
(5) سورة البقرة: آية 129.
(6) سورة البقرة: آية 191.
(7) سورة النساء: آية 91.
(8) سورة الأنفال: آية 57.
(9) سورة الممتحنة: آية 2.
(10) سورة آل عمران: آية 112.
(11) سورة الأحزاب: آية 61.
(12) المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصفهاني، ضبط ومراجعة: محمد خليل عيتاني، بيروت - دار المعرفة، 2001م، ص85.
(13) المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية، استانبول - دار الدعوة، ص98.
(14) معجم مقاييس اللغة: أحمد بن فارس بن زكريا، بيروت - دار إحياء التراث العربي، 2001م، ص169.
(15) سورة البقرة: آية 191.
(16) مجمع البيان في تفسير القرآن: الفضل بن الحسن الطبرسي، بيروت - دار إحياء التراث العربي، 1968م، ج1، ص369.
(17) مقدمة ابن خلدون: مصدر سابق، ص24-46.
(18) مشكلة الثقافة: مصدر سابق، ص20.
(19) مقدمة ابن خلدون: ص166.
(20) المصدر نفسه: ص168.
(21) المصدر نفسه: ص235.
(22) المصدر نفسه: ص239.
(23) المصدر نفسه: ص243.
(24) المصدر نفسه: ص531.
(25) المصدر نفسه: ص508.
(26) المصدر نفسه: ص398.
(27) لمحات في الثقافة الإسلامية: عمر عودة الخطيب، بيروت - مؤسسة الرسالة، 1991م، ص25.
(28) التعريفات: على بن محمد الحسيني الجرجاني، تحقيق وتعليق: عبد الرحمن عميرة، بيروت - عالم الكتب، 1987م، ص284.
(29) مشكلة الثقافة: ص24-25.
(30) انظر كتاب: الحضارة - الثقافة - المدنية دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم، نصر محمد عارف، عمان: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1994م، ص26.
(31) معالم على طريق تحديث الفكر العربي: د. معن زيادة، الكويت - المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1987م، ص48.
(32) سورة الأنعام: آية 152.
(33) مشكلة الثقافة: ص25.
(34) الفلسفة الحديثة: نصوص مختارة، اختيار وترجمة: محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، الدار البيضاء - أفريقيا الشرق، 2000م، ص287.