شعار الموقع

الجامعة والتنمية المحلية

علال ركوك 2008-09-16
عدد القراءات « 725 »

 

أوليات حول الوظائف والأدوار المنتظرة

د. علال ركوك*

منذ بداية التسعينات ظهرت بوادر التغيير على مستوى مؤسسات الدولة بشكل عام، ويتجسد ذلك في تغيير التوجهات والخطابات والاختيارات وغيرها، والذي عمل على خلق جوٍّ من الدمقرطة والحوار والتضامن والتشارك في أفق تحقيق تنمية شاملة. ويدخل هذا التغيير كذلك في خضم العولمة والنظام الكوني الجديد.

ولكي نواكب هذا العالم لابد من تطوير الأشخاص والمؤسسات. ونقارب هنا دور مؤسسة كالجامعة بمعناها الحديث[1] في خلق بوادر إقلاع اقتصادي محلي وجهوي. لذلك نتتبع ماهية تدخل مؤسسة الجامعة مساهمة منها في تحقيق الإقلاع الاقتصادي والمحافظة على التوازن المجالي. لأجل ذلك ننطلق بتحديد مفهوم التنمية والتعريف بمؤسسة الجامعة وميادين تدخلها اعتماداً على ما شهدته من إصلاحات على مستوى مختلف الهياكل، ونخلص إلى بعض النتائج المرتقبة أو المحتملة من خلال تدخلات الجامعة وموازاة مع كل هذا نستحضر بين الفينة والأخرى تصورات المواثيق الحكومية حول هذه المؤسسة مثل «الميثاق الوطني للتربية والتكوين»، ونظام الجامعات، والحوار الوطني حول إعداد التراب الوطني، إلى غير ذلك.

مفهوم التنمية

لقد تعددت الدراسات التي اهتمت بتحديد مفهوم التنمية، إلا أن جُلَّها لم يرقَ إلى ملامسة مفهوم التنمية في بعده الشمولي، مما جعل كل واحدة من تلك الدراسات تحصر التنمية في جانب واحد من جوانبها المختلفة وأبعادها المتعددة.

ففي البداية عجزت المقاربة الاقتصادية والإدارية عن تحقيق التنمية الفعلية، فظهرت المقاربة السياسية بوصفها مرحلة انتقالية تدمج عوامل اقتصادية بجرعات أكثر أهمية، وتخوِّل الجهات سلطةً تقديريةً واختصاصات مهمة[2].

وخلافاً لهذه الطروحات يرى بعض الباحثين أنه ليس هناك تنمية حقيقية مستديمة إن لم توفر للأفراد والجماعات حرية العمل، وحرية الحركة، وحرية الاقتناع السياسي، وحق الشعور بالأمن في أوسع معانيه... والعيش في كرامة[3].

أما التنمية في مفهومها الشمولي «فهي ذلك الاستنهاض الواعي المتكامل لكل المقوِّمات المادية والروحية للمجتمع/ الأمة وتوظيفها لمجابهة التحديات التي تفرضها اللحظة الحضارية الراهنة، وتحقيق الحاجيات والمتطلبات، وتوفير الشروط الضرورية التي تجعل المجتمع المعني متملكاً، بنوع من الجدارة والاستحقاق، للقدرة على اختراق أزمنة الحداثة والانتماء إليها، والتواصل والتبادل المتكافئ معها، والتأثير فيها كطرف فاعل مبدع، وليس كتابع هامشي مستقبل ومنفعل فقط»[4].

يتضح من التعريف أعلاه أن التنمية تستوجب تجنيد كل مقومات المجتمع مادية أو روحية، أي تفعيل الأشخاص والمؤسسات في سبيل خلق التواصل بين كل الأطراف الفاعلة. وفي هذا الإطار تدخل الجامعة بوصفها مؤسسة ضمن الأطراف المعنية في هذه المنظومة.

وإذا نظرنا إلى مفهوم التنمية في المغرب نلاحظ أن المسلسلات التنموية لا تأخذ بعين الاعتبار في منظومتها العناصر الإيجابية من تاريخنا الثقافي والقيم التي تُغني الثقافة والاتصال وغيرها[5].

وعلى العكس من ذلك كانت الأهمية البالغة تُولى لكل المشاريع الاقتصادية اعتقاداً بأن التنمية تتصل بشكل وثيق ومباشر بالاقتصاد، وبالمقابل لا تُعطى أهمية لما هو اجتماعي وثقافي. ومن هنا نتساءل عن دور مؤسسة الجامعة في مسار التنمية الشاملة.

الجامعة والتنمية

في هذا السياق تطرح مجموعة أسئلة:

ما هي آفاق انفتاح الجامعة على محيطها الاقتصادي والاجتماعي في أفق القيام بأدوار ووظائف جديدة؟

ما هو التصور الجديد الذي يقوم عليه تأسيس الجامعات في ظل الإصلاح الجديد[6] الذي يقضي بإحداث هياكل جديدة تهدف تحقيق الاندماج الفعلي للجامعة في محيطها للمساهمة في التنمية المحلية وترشيد استثمار الموارد البشرية وفق الأهداف والمرسومة؟

والحديث عن دور الجامعة في التنمية طبيعي أن يختلف حسب المجال والمحيط الجغرافي والمؤهلات الطبيعية والبشرية والتراثية أي الإمكانات الكامنة المحلية، التي تفرض تقنية معينة لتدخل مؤسسة الجامعة بوصفها فاعلاً في التنمية.

ضمن هذا الطرح كيف يمكن أن تتدخل مؤسسة مثل الجامعة لتغطية جانب من جوانب التنمية. إذن ما هي مؤسسة الجامعة؟ وما هي حال البنية الجامعية؟ وكيف؟ وما هي إيجابيات خلق مؤسسات الجامعة في دعم وتوجيه المكونات التنموية بمناطق مختلفة في ظل معطيات ومستجدات «الميثاق الوطني للتربية والتكوين»، والإصلاح الجامعي والحوار الوطني حول إعداد التراب الوطني وغيرها...؟

مسار الجامعة المغربية

منذ فجر الاستقلال تأسست الجامعة المغربية في ظل ظروف سياسية معينة كبناء الدولة الوطنية إلى غير ذلك، وانحصرت وظيفتها في توفير الأطر المختلفة للدولة الحديثة الجنينية، وبالفعل فقد ساهم هذا الدور في سد الفراغ الذي كان حاصلاً في الأطر في مجالات مختلفة.

ومنذ نهاية الثمانينات بدأت سياسة التقويم الهيكلي والترشيد التي اتسمت بفكرة التقليل من الأطر ومن المؤسسات التي تنتجها. وبهذا كانت الجامعة مقصودة في هذا التوجه، وفي هذه الفترة تم توسيع النسيج الجامعي بإحداث 14 جامعة مما ساهم في تراكم الخريجين الجامعيين. ومما أدى إلى إعادة النظر في مفهوم التعليم وعلاقته بالدولة، ومن ثم التفكير في إشراك الخواص والجماعات المحلية والمؤسسات المدنية[7].

لقد فرض التطور الاقتصادي والسياسي إعادة النظر في فكرة الجامعة التي تقوم على تكوين الأطر للدولة، وهكذا ظهرت فكرة الجامعة القائمة على ربط الجامعة بمحيطها الاقتصادي والاجتماعي[8]. ويدخل هذا في نسق هو أن الدولة أعادت النظر في وظائفها الاقتصادية والاجتماعية.

وضمن هذا التصور، وفي إطار هذا النسق، وتجسيداً للعلاقة الجديدة التي تسعى إلى خلق ارتباط وتواصل بين المؤسسات التي تتبناها الدولة ومختلف الفاعلين، نتساءل عن الدور الذي يمكن أن تلعبه مؤسسة الجامعة في التنمية والإقلاع الاقتصادي وخلق التوازن الاجتماعي، على اعتبار أن الجامعة ورش غني ورحب ينعش الاقتصاد عن طريق توسيع الأنشطة الإنتاجية وخلق وظائف جديدة في إطار التعبئة والتشارك والتضامن مع مختلف الفاعلين في الاقتصاد.

الإصلاح الجامعي

إن فكرة إدماج الجامعة في محيطها الاقتصادي والاجتماعي أصبحت تفرضها ظروف العولمة واقتصاد السوق ومحاولة تملص الدولة من مسؤوليتها عن عدة قطاعات. وهذا ما جاء ضمن «الميثاق الوطني للتربية والتكوين» في المادة 80 التي تحدد بعض تخصصات الجامعة مثل تلبية الحاجات الدقيقة وذات الأولوية في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

وكذلك المادة 78 التي تؤكد على: أن تتم إعادة هيكلة التعليم العالي ومؤسساته ومع شركائهم في مجالات العلم والثقافة والحياة المهنية في اتجاه: تجميع مختلف مكونات التعليم لما بعد البكالوريا، وأجهزته المتفرقة حاليًّا، وضم أكثر ما يمكن منها على صعيد كل جهة وتحقيق أوثق تنسيق بينها[9].

من خلال مواد «الميثاق الوطني للتربية والتكوين» المخصصة للتعليم العالي بشكل عام والجامعة على وجه التخصيص، تتجسد توجهات السياسة الليبرالية لبداية التسعينات، والتي تنص على محاولة إشراك كل الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين في عملية التربية والتكوين والتنمية، إلى جانب الدولة. كما نستشف أفقاً جديداً لمفهوم الجامعة وبناياتها، وهذا ما يتضح من خلال تتبعنا وقراءتنا لقانون (0100) المتعلق بتنظيم التعليم العالي.

حدد القانون (0100) مهام الجامعة في عدة نقاط خصوصاً المادة 3 حيث نجد من اهتمامات الجامعة التكوين الأساسي والمستمر، إعداد الشباب للاندماج في الحياة العملية خاصة بواسطة تنمية المهارات، البحث العلمي والتكنولوجي والمساهمة في التنمية الشاملة للبلاد.

والملاحظ، من خلال هذه المادة، تجسيد التوجه الجديد والطرح البديل الذي أصبحت تنحوه السياسة الوطنية في ميدان التدبير. هكذا نلاحظ أن إمكانية الخلق والابتكار والبحث والتحصيل والتكوين والتتبع قد أوكلت للجامعة مع الدفع في اتجاه انفتاحها على محيطها الاقتصادي والاجتماعي بشكل عام.

لقد جاءت مختلف المواد في هذا القانون تدفع باتجاه تجديد علاقة الجامعة بمحيطها ومفهومها الجديد، مثل المادة 7 التي تحدد العلاقة بين الجامعات والمقاولات.

وأكثر من هذا فقد حرص القانون على ضرورة تمثيلية الجماعات المحلية والجهة والفاعلين الاقتصاديين في مجلس الجامعة الذي يعتبر الهيئة العليا المقررة في شؤون الجامعة. إذن، في ظل هذه الرهانات عن مستقبل الجهة وعلاقتها بالفاعلين في مختلف حقول التنمية مثل مؤسسة الجامعة تبدو وظيفة الجامعة ملحة لتفعيل تلك الإمكانات وعقلنة التوجهات.

أجرأة الإصلاح الجامعي

على مستوى التكوين

منذ سنة 2003 شرعت الدولة في نهج سياسة تعليمية تولي الاهتمام لمجال التعليم العالي والبحث العلمي تماشياً مع الاختيارات الاستراتيجية للدولة في كسب المعرفة وتطويرها.

فعلى المستوى البيداغوجي تم وضع هندسة ترتكز على نظام المسالك، التي تعتمد على مجموعة من الوحدات المكونة من مواد متكاملة، كما اعتمد الإصلاح التركيز على وحدات اللغة والتواصل والإعلاميات والتدبير وغيرها من التخصصات التي تواكب متطلبات سوق الشغل العالمي الحديث.

كما جاء الإصلاح محدداً لتوجهات مؤسسات التعليم العالي، التي تم تقسيمها إلى نمطين: المؤسسات ذات الاستقطاب المحدود وتدخل ضمنها المعاهد والمدارس العليا، والمؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح، والتي تضم الكليات بجميع تخصصاتها، كما تم توسيع بنية النسيج الجامعي بخلق الكليات المتعددة التخصصات.

واعتمد الإصلاح الجديد أيضاً خلق Filières مسالك عامة أساسية ومسالك ممهننة.

فبخصوص المسالك الأساسية، فهي تعتمد على تكوين أكاديمي يروم متابعة الدراسات العليا بعد الإجازة، وقد بقي محصوراً في إطار التخصصات القديمة مع بعض الإضافات مثل وحدات اللغة والتواصل والإعلاميات والترجمة وغيرها.

أما الإجازة الممهننة فهي تخصصات جديدة يفترض أن تلائم سوق الشغل وتستجيب للمتطلبات الحالية خصوصاً في قطاع الخدمات وغيره.

إن نظام الإجازة المطبقة قد سبق وضعه في فرنسا في سياق توحيد الفضاء الأوروبي للتعليم بوضع هندسة موحدة للتكوين والشهادات ترتكز على مسار التكوين ما قبل الإجازة ونفسه لما بعد الإجازة، حيث يتلقى الطلبة تكويناً متنوعاً يمكنهم أو يمنحهم الفرصة لمتابعة دراسة متعددة الاختصاصات والحصول على كفايات في اللغات الحية واستعمال التكنولوجيا الجديدة للمعلومات كما أن الشواهد المحصل عليها تعادل مستوى تأهيلي يمكِّنهم من الإندماج في عالم الشغل الأوروبي.

وقد وضعت هذه الإجازة داخل الجامعات المغربية للاستجابة لمهن جديدة ظهرت في مجالات جديدة، وكذلك ظهور مناصب شغل حديثة.

هذه الإجازات تختلف عن الإجازات التقليدية وعن شهادات التكوين المهني.

وتكمن أهمية هذه الإجازات الممهننة في أنها تعتمد على الشراكة مع المقاولات أو القطاع العمومي أو غيرها، وتكون كذلك متعددة الاختصاصات، وتشارك فيها مؤسسات متعددة وكذلك قطاعات متعددة. كما أن الوحدات التي تكوِّن هذا النوع من الإجازات هي مختلفة تنتمي إلى وحدات التكوين والبحث والمدارس العليا للتكنولوجيا وغيرها.

إن التعليم العالي وحده لا يمكنه إحداث هذه الإجازات الممهننة، ولكن يجب خلق شراكة بين الجامعة والمهنيين تمكِّن من ربط الباحث والمهني، حتى يتمكن كل الخريجين من الاندماج في سوق الشغل.

وتماشياً مع سياسة الإصلاح، أقدمت الجامعات المغربية على وضعه حيز التطبيق، وذلك بخلق مجموعة من الإجازات الممهننة التي شرعت في العمل منذ انطلاق السنة الجامعية 2005 - 2006، طبقاً لدفتر ضوابط جديد يراعي الخصوصيات الوطنية، لكن رغم هذا نتساءل عن مجموعة قضايا مرتبطة بوضع هذه الإجازات، مثلاً: هناك مؤسسات أخرى تُعنى بالتكوين المهني، ووزارات أخرى كالسياحة والفلاحة والتجهيز..

هناك مشكل أخر يطرح على صعيد التمويل، فما هي حصة الجامعة وما هي حصة الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، خصوصاً إذا كانت الجهة التي توجد بها الجامعة لا تتوفر على نسيج اقتصادي قوي؟ هناك كذلك مسألة الشراكات مع القطاع الخاص والجماعات المحلية التي يجب أن ترعاها الدولة بطريقة من الطرق، نظراً لعدم ترسيخ تلك العلاقة التشاركية بين القطاعات والجامعة. ثم هناك أيضاً عدم وجود المؤسسات المتعددة التخصصات في كل المدن الجامعية حتى تتمكن الإجازات الممهننة الجديدة من الاستفادة من التخصصات المختلفة كالمعاهد العليا للتكنولوجيا والكليات المتعددة الاختصاصات وغيرها.

وعلى مستوى المسلك الثالث، فقد وضع بالمؤسسات الجامعية دفتر ضوابط لاقتراح شهادة الماستر الممهنن والذي يتكون من أربعة فصول و 16 وحدة، منها وحدات أساسية وأخرى تكميلية ووحدات التقوية والمنهجية، إضافة إلى التداريب وبحوث التخرج.

إن النوع الأول من الماستر الخاص بالدراسات المعمقة يمكن وضعه في الكليات العادية، ولكنه يطرح دائماً مشكل التكامل التكويني مع المؤسسات الأخرى، ثم مشكل الشراكات مع القطاعات الأخرى. أما النوع الثاني، أي الماستر الممهنن، فهو يعاني من المعوقات التي ذكرناها نفسه، إضافة إلى متطلبات سوق الشغل.

وأما بخصوص مستوى البحث، فقد تم إرساء قواعد جديدة لما يُسمى بمدارس الدكتوراه، والتي من المحتمل أن تنطلق مع موسم 2007 - 2008 وهي أول تجربة على المستوى الوطني تروم مسايرة هياكل البحث الأكاديمي على المستوى العالمي.

نخلص في النهاية إلى أن هذا الإصلاح التربوي يمس مستويات متعددة ويتميز بقدر كبير من الابتكار، مما يتطلب وسائل لوجيستيكية هامة، ولذلك فلعل الصعوبة الكبرى في تطبيقه تكمن في مستوى الاعتمادات المالية المرصودة، إذ من العسير تطبيق هذا النوع من الإصلاح اعتماداً على الموارد القارة وحدها[10]. نظراً للفرق الصارخ بين طموحات الإصلاح والبنيات التحتية اللازمة والموارد المادية والبشرية الضرورية. من ثمة فإن من الضروري ربط الإصلاح التربوي باستراتيجية وطنية للتنمية الشاملة اقتصاديًّا واجتماعيًّا.

على مستوى البحث العلمي

رغم المجهودات المبذولة في قطاع البحث العلمي، فإن النظام الوطني للبحث العلمي لا يزال يعاني من انعدام رؤية واضحة. ولعل إعادة هيكلة البحث العلمي تعدُّ من بين الاهتمامات الأولية للجامعة المغربية. وهذا يبدو مطابقاً لروح القانون (0100) واعتماد نظام LMD الذي يؤجرأ بواسطة البحث العلمي ولأجله. ومن هذا المنطلق فقد وُضع دفتر قواعد وتدبير البحث العلمي في جميع المؤسسات يتوخى مجموعة أهداف، من بينها وضع استراتيجية للبحث العلمي للجامعة تأخذ بعين الاعتبار الأولويات السوسيواقتصادية الجهوية والوطنية. وبالتالي فإن التأسيس لقواعد البحث العلمي يعد ضرورة ملحة. من هنا بات من الضروري العمل على وضع مجموعة من اللبنات، وتفعيل عدة إجراءات استجابة للتوجهات العامة للوزارة وفي أفق تحقيق هذه المتطلبات. ذلك أن توجهات الجامعة تعمل على دعم كل المراكز والمجموعات بالوسائل العلمية اللازمة والتجهيزات، وتشجيعها على الانخراط في برامج البحث العلمي وطلبات العروض الخاصة بإنجاز بعض برامج البحث لدى بعض المؤسسات أو الهيئات الدولية، مثل اليونسكو وغيرها. كما يتم الدفع بالأساتذة إلى الانخراط في برنامج البحث والتنمية الذي طورته الوزارة، والذي يهدف إلى تحويل الكليات إلى مؤسسات للخبرة. كما يظهر هذا على مستوى الميزانيات التي ترصدها الجامعات للبحث العلمي، والتي يتم رفعها تدريجيًّا. يظهر الاهتمام كذلك على مستوى الهيكلة الذي وضع بنيات جديدة تتجلى في فرق البحث والمختبرات ومعاهد البحث.

وإذا كنا نسجل الخطوات الإيجابية بفضل مجهودات الأساتذة ووعي واقتناع المسؤولين الحكوميين بضرورة مواكبة التعليم العالي والبحث العلمي، فإنه يبقى هناك الكثير مما يجب فعله للنهوض بهذا القطاع.

الجامعة والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية

المبادرة الوطنية للتنمية البشرية هي مشروع شمولي ومندمج يرمي إلى تعبئة واسعة تمكِّن الطبقات الاجتماعية المختلفة والمناطق المهمشة من تحقيق التنمية البشرية المستدامة، كما ترمي هذه المبادرة إلى الرفع من الخدمات الاجتماعية وتقوية البنيات التحتية وخلق مناصب شغل...

وهذه المبادرة التي ينخرط فيها القطاع العام والجماعات المحلية ومؤسسات المجتمع المدني تروم أيضاً اعتماد المقاربة التشاركية: قطاع خاص/ قطاع عام. كما أن مشاركة الأحزاب السياسية ضرورية في هذه التعبئة، حيث وضعت الأحزاب في برامجها مشاريع جاهزة للتطبيق خاصة بدوائرها الانتخابية لسنة 2007. وبذلك تكون هذه البرامج جاهزة للتفعيل والأجرأة في إطار تدخلات المبادرة الوطنية للتنمية البشربة. وبذلك نلاحظ تضافر جهود الجميع لإنجاح هذا المشروع، الذي هو جزء من المشروع المجتمعي الديموقراطي الحداثي الذي نطمح إليه.

إن المطمح الكبير للمبادرة يتلخص في مجموعة من التدخلات، منها وضع الأفراد وسط كل مبادرات التنمية، وتقسيم الثروات، وتدبير محكم للمصالح العمومية. إضافة إلى إدماج كل المبادرات التنموية المتدخلة. كل هذه الخطوات تشكل المبادئ الأساسية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية.

ينطلق تطبيق هذه المبادرة من خلال مجموعة مداخل، نخص بالذكر منها مدخل التكوين، الذي يعني إعطاء المرشدين أو المؤطرين تكويناً قصيراً في تدبير شأن هيئات ومؤسسات المجتمع المدني.

وارتباطاً مع موضوع التكوين هذا، فإن إصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث تعدّ دعامة أساسية للاندماج الاجتماعي. ومن هنا يمكن أن نتساءل عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الجامعة كآلية من آليات تدخل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في جهة معينة. يلاحظ بأن الاستراتيجية الأولى لتطبيق برامج المبادرة ينحصر في عملية تكوين الأشخاص الذين سيقومون بعملية التواصل. وهنا يمكن لمؤسسة الجامعة أن تقوم بهذا الدور نظراً لتجربتها من خلال احتكاك أطرها بالمكونات البشرية عن طريق الأبحاث الميدانية التي تنجزها بعين المكان. ونظراً للتراكم الذي سجلته المؤسسة في البحث الميداني، إضافة إلى البنية المرفقية والبشرية بالمؤسسة والتي تمكِّن من القيام بهذا العمل في ظروف ملائمة.

يمكن كذلك أن تتدخل مؤسسة الجامعة لمساعدة الجماعات المحلية في تطبيق برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بتمكين موظفيها وأطرها من تكوينات معمقة ومركّزة. مثلاً في طرق التدبير أو التكوينات التواصلية والوقائية وغيرها في إطار شراكات مع وزارات أخرى أو مؤسسات المجتمع المدني... وبهذا تظهر إلى الوجود طبقة جديدة من المسيرين المحليين المؤهلين لحل مشاكل السكان.

وفي هذا الإطار نقف عند تجربة إحدى الجامعات، فقد قامت جامعة الأخوين بإفران بوضع برنامج يرمي إلى تكوين طلبة على دراية بالإشكاليات التنموية. هذا البرنامج يعطي للطلبة تكويناً لتطوير حياة المغاربة عن طريق خلق مشاريع للتنمية المستدامة بمساعدة الهيئات الوطنية والدولية.

هذه الدروس تمكن الطلبة من توسيع ميدان تدخلهم، أو قطاعات أنشطتهم، وكسب تجربة في مجالات أخرى تعينهم في مسارهم المهني. وفي إطار تفعيل هذه المبادرة وفي علاقة بما قد تلعبه الجامعة من دور في هذا السياق، فقد عهد للجامعات بتكوين مجموعة من الأطر في تخصصات لها علاقة مع الجانب الاجتماعي للسكان، أي العمل على تكوين رجال ميدان لهم علاقة بالسكان، يعرفون مشاكلهم، ويعملون على تشخيص أوضاعهم، ويرصدون تصوراتهم، ثم يقترحون حلولاً مناسبة. طبعاً هذه التكوينات الجديدة التي وضعت لتأهيل أطر متخصصة عهدها إلى الجامعة، ومن هذا المنطلق تدخل في المقاربات الجديدة التي يتوخاها الإصلاح والتي تعطي مهام جديدة للجامعة.

مجالات تدخل الجامعة في التنمية

في آخر محور للدراسة نسوق مجموعة أمثلة تكشف عن مدى فعالية تدخل مؤسسة الجامعة في مجالات مختلفة، بوصفها مكوِّناً أو موجِّهاً أو شريكاً أو خبيراً وغيرها.

الجامعة وإعداد التراب الوطني

عن الحوار الوطني حول إعداد التراب الوطني، والذي خَصَّ كل منطقة من مناطق المغرب بدراسة قيِّمة لكل مكونات المجال من عناصر طبيعية وبشرية واقتصادية، طبعاً حضيت مجموعة الجهات ببحث حول بنيات المناطق ومؤهلاتها ومكوناتها. إلا أن الملاحظ حول هذا التقرير أنه لم يُعِر أي أهمية لدور الجامعة في مسألة إعداد التراب الوطني سواء على صعيد الجهات أو على صعيد المدن. فهو لا يركّز إلا على التباينات الموجودة بين الوسطين الريفي والحضري من حيث البنيات والمكونات والمؤهلات. وفي هذا السياق فإنه لا يمكن الحديث عن إعداد التراب الوطني في سياساته المختلفة بمعزل عن سوق الشغل. وعن دور الجامعة التي يمكنها قيادة قاطرة التنمية وتأطير توجهاتها المختلفة من خلال تدخلات متعددة بهذه المناطق.

الجامعة والمقاولة

يعتبر بعض الباحثين أن هناك علاقة تنافر تاريخية بين المقاولة والجامعة، ذلك أنه إذا كان الدور الأولي للجامعة هو الاستجابة لاحتياجات المقاولات من المؤهلين علميًّا ومهنيًّا، فإن المقاولات نفسها تكون عاجزة عن معرفة احتياجاتها بالضبط في مجال الموارد البشرية[11].

إنها علاقة أساسها التكوين والتأهيل والشغل، لكن هل يكفي حضور المقاولة في مجلس الجامعة والمشاركة في البحث العلمي لتجاوز ذلك التنافر؟

لا يمكن تقدم المقاولة وتجاوز معوقاتها ومشاركتها في البحث العلمي إلا إذا شخَّصت عوامل تأخر البحث العلمي داخل مؤسساتها أي داخل المقاولة.

لقد ركّز نظام الجامعة، كما أسلفنا، على اعتبار الجهة إطار عمل تتكامل داخله مجهودات الجامعة ومجهودات الفاعلين السوسيواقتصاديين. وهكذا يمكن أن تتدخل الجامعة في المقاولات في حالات متعددة وعبر قنوات شتى من بين أهمها:

- وضع برامج لاحتياجات المقاولات في مجال التواصل، أي تمكين طاقم المقاولة من التواصل مع مؤسسات في الداخل والخارج.

- تنظيم دورات لزبناء المقاولة لإطلاعهم على منتوجات جديدة أو غير ذلك.

- التكوين، حيث يبلور الباحثون، من آفاق مختلفة، النظريات والتكوين والتجديد المتقدم لانفتاح أطر المقاولة الوطنية.

- القيام بدراسات واستطلاعات حول سوق المستهلكين لصالح المقاولة، لأن هناك علاقة وطيدة بين الجامعة ومحيطها السوسيواقتصادي.

- يمكن للجامعة أن تَضْطَلِعَ بهذه المهام في عدة مقاولات كالنسيج والصناعة الغذائية وغيرها. وذلك بتنسيق وتعاون مع جمعية الفاعلين الاقتصاديين المغاربة هذه الجمعية الفتية التي تسعى إلى مجموعة أهداف تتكامل وتطلعات الجامعة الحديثة.

الجامعة والجماعات المحلية

من المؤكد أن الجماعات المحلية منذ انطلاقتها، ونظراً لتمركزها واتساع المجالات الترابية التابعة لها، قد انطلقت بطاقم من موظفي البلديات وأعوان السلطة، الذي كان هزيلاً وضعيفاً من حيث التكوين والتأطير. ومنذ سنة 1976 انطلقت تجربة الجماعات المحلية، في تجربتها الجديدة وبرامجها الطموحة الملحة. وكان لزاماً عليها، في إطار استجابتها للمشاريع، توسيع قاعدة مواردها البشرية. وبذلك كانت حملات التوظيف في الجماعات واسعة جدًّا، مما نتج عنه بعد سنوات، وخصوصاً بعد أزمة خريجي الجامعات، اكتظاظ وفائض على مستوى الكيف، أي عدم التأهيل. وهذا ما يشكو منه التدبير في الجماعات، مما حدا بالبعض إلى الحديث عن عقلنة تدبير الموارد البشرية. ونظراً لهذه المعطيات يتضح دور الجامعة بوصفه دوراً حاسماً في هذا الوضع. بحيث يمكن أن تتدخل الجامعة بداية للتكوين والتأهيل والتأطير وإعادة التكوين والتكوين المستمر والتداريب، حتى تتمكن الجماعات من تفعيل مؤهلات واختصاصات مواردها البشرية. كما تتدخل الجامعة في جانب المشاريع التي تدخل ضمن برامج الجماعات، وذلك عن طريق الإشراك الفعلي، كالقيام بالدراسات والخبرات والأبحاث الميدانية وغيرها.

خلاصة

ختاماً بقي لنا أن نتساءل عن ثمرات الجهود التي بدأت منذ سنة 2003، فعلاً انطلقت الجامعة في تطبيق ما وضعته من برامج وخطط مستقبلية منذ التاريخ المشار إليه ويمكن لنا تتبع ما راكمته من إنجازات من خلال ما نراه الآن ميدانيًّا..

خلال سنة 2006 رفعت وزارة التعليم العالي شعار (الجامعة المغربية في تحول)؛ نظراً للتحول النوعي للجامعة من زاوية التفاعل الإيجابي مع المحيط الاقتصادي والاجتماعي. ومن هذا المنطلق تعددت الوظائف الجديدة للجامعة مثل المساهمة في بناء مجتمع المعرفة، الذي يتلخص في توسيع النسيج الجامعي ووضع برامج جديدة في حقول معرفية مختلفة تستجيب لمتطلبات المرحلة الحالية.

إضافة إلى بناء اقتصاد وطني تنافسي حيث أصبحت الجامعات المغربية توفر تكوينات جديدة تخص بالأولوية مجالات واعدة ومستقبلية وإعطاء أولويات لتكوينات مستعجلة مثل تكوين 10 آلاف مهندس في أفق سنة 2009، إضافة إلى انخراط الجامعة في إنجاز برنامج offshoring، وفي هذا الإطار تساهم الجامعة في تكوين 6000 إطار في مجالات جدُّ دقيقة مثل التقنيات والتدبير وغيرها. إضافة لهذا كان للجامعة كذلك دور في دعم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بتوفير وتكوين أطر متوسطة من نوع جديد تحلل وتوجه وتساهم في وضع برامج محلية صغيرة ومتوسطة وتساعد في تشخيص الحاجيات.

هذه التدخلات الجديدة تظهر مدى التفاعل شبه العضوي بين التحول الاقتصادي والاجتماعي والتحول الجامعي.

مع ذلك ثمة مجالات أخرى متعددة يمكن أن تفيد فيها الجامعة لا يمكن حصرها، كالجانب الثقافي والترفيهي والاجتماعي إلى غير ذلك، وفي قطاعات مختلفة سواء عمومية أم خاصة، وذلك من خلال ثلاث محاور:

- جانب التكوين والتأطير والتأهيل.

- جانب البحث والدراسات (البحث العلمي والتكنولوجي).

- جانب الإشراك والمشاورات والخبرة.

إذن يجب السعي إلى خلق وتمتين علاقة الجامعة بمحيطها الذي لا يمكن أن ينجح إلا باستغلال الإمكانات العلمية والاقتصادية المحلية. وهذا هو مفتاح نجاح هذه العلاقة خصوصاً إذا علمنا أن التنمية لا يعوقها عدم وجود الإمكانات ولكن أساليب استغلال هذه الإمكانات.

لهذا وجب تعبئة جميع الفاعلين المتدخلين في إطار التشارك والتضامن والتكامل، هذا هو التوجه الجديد وما تؤكد عليه العولمة من قيم القدرة والكفاءة والحوار والشراكة للانخراط في مراهنات هذا النظام الكوني والمشاركة فيه. ومما لا ريب فيه أن امتلاك هذه القدرة لا يتم إلا عبر شروط[12] نرى أن الاهتمام بتوسيع النسيج الجامعي وتفعيل دور الجامعة وإسناد قراراتها للجامعيين[13] ودمقرطة اختيار المشرفين عليها أحد شروط ذلك الانخراط في النظام الجديد. حتى تتمكن من تفعيل اختصاصاتها وأدوارها الطلائعية كتأهيل المقاولة والدفع بالإقلاع الاقتصادي المحلي والوطني نحو المزيد من المساهمة في التنمية البشرية والاجتماعية الشاملة.

 

 

 



[1]* أستاذ باحث في جامعة القاضي عياض - بني ملال - المغرب.

 انظر أحمد بوحسن : تساؤلات حول الجامعة المغربية: فكرة الجامعة، منشورات كلية الآداب، الرباط، 1997، ص: 13 - 15.

[2] محمد العلالي: الجهوية والعوامل غير الاقتصادية للتنمية، ص: 115.

 

[3] بورحيل : جوانب من التنمية الاجتماعية في الجهة، ص: 121.

 

[4] مصطفى محسن: التعريب والتنمية، منشورات «سلسة شراع»، عدد 56، طنجة، 1999، ص: 37.

 

[5] محمد العلالي: الجهوية والعوامل غير الاقتصادية للتنمية، مرجع سابق، ص: 100. وانظر، للمزيد من الاطلاع:

- مصطفى محسن: في ثقافة تدبير الاختلاف: ملاحظات سوسيولوجية نقدية حول «المسألة الجهوية» وقضايا التنظيم والديموقراطية والتنمية في مجتمعات العالم الثالث، المغرب نموذجاً، مجلة (دراسات عربية)، بيروت، عدد 5/ 6، السنة 35، مارس - أبريل 1999، ص: (79 - 97).

 

[6] الإصلاح الجامعي الذي حدده قانون 00.10 المنظم للتعليم العالي بالمغرب.

 

[7] أحمد بوحسن: تساؤلات حول الجامعة المغربية، مرجع سابق، ص: 22.

 

[8] نفسه. وانظر أيضاً حول دور الجامعة في التنمية:

- مصطفى محسن: الجامعة المغربية وإشكالية التنمية: تأملات سوسيولوجية في بعض عوامل الأزمة وتحولات المسار، مجلة (فكر ونقد)، الرباط، السنة 7، عدد 65، يناير 2005، ص ص: (45 - 62).

 

[9] المملكة المغربية، اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين: «الميثاق الوطني للتربية والتكوين»، الرباط، 1999، ص: 39.

 

[10] النقابة الوطنية للتعليم: الندوة الوطنية حول تقييم إصلاح التعليم العالي، الرباط، يونيو 19 - 20 فبراير 2005.

 

[11] مصطفى محسن: التعريب والتنمية، مرجع سابق، ص: 37.

 

[12] مصطفى محسن: التعريب والتنمية، مرجع سابق، ص: 11.

 

[13] هناك مجموعة تغيرات في القانون (0100) بخصوص تسيير الجامعة من مجلس الجامعة ومسيرها إلى غير ذلك. وانظر

 كذلك من أجل التوسع:

- مجموعة مؤلفين: الجامعة والشراكة (...)، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، سلسلة الندوات رقم 8، ط. الأولى، 1999.