ﷺ مداخل
«معلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسببٍ من بعض، والكلم ثلاث: اسم، وفعل، وحرف. وللتعلق فيما بينهما طرقٌ معلومة، وهو لا يعدو ثلاثة أقسام: تعلق اسم باسم، وتعلق اسم بفعل، وتعلق حرف بهما»[1].
عبد القاهر الجرجاني
كلامنا لفظ مفيد كـ«استقم» واسم وفعل ثم حرف الكلم[2]
أبو عبد الله جمال الدين بن مالك
«أسلافنا كانوا يقرؤون ويؤولون لا للمتعة وحدها ولا لإثبات مهاراتهم في استنباط القراءات اللامتناهية، وإنما كانوا يهدفون بقراءاتهم وتأويلاتهم إلى توجيه التاريخ والمساهمة في صنعه»[3].
محمد مفتاح
ﷺ مفاهيم وتحديدات أساسية
إن البلاغة هي البيان، ومراعاة الكلام لمقتضى الحال؛ أي توظيف العبارات التي تتلاءم مع ما تقتضيه المناسبة، وسحر البلاغة لا تخفى عذوبته على إنسان ولا ينكر خطورته على التفكير أحد، والدليل على ذلك أن الله تعالى خص نبيه الكريم بمعجزة البيان، المعجزة التي ظلت تتردد في تسبيحة الدهر {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي}[4].
إذن، فالبلاغة هي إقناع المخاطب بخطاب محكم البناء ليقبله العقل، منسجم اللفظ ليقبله الذوق، عميق الدلالة لتقبله الروح، مفعم بالحس الإنساني لتذوب فيه العاطفة. ولا يمكن لأحد أن يصدر عنه خطاب تتوافر فيه هذه الشروط إلا إذا أَلَمَّ بشخصية المخاطب وخصائصها النفسية والاجتماعية والتاريخية، وشروطها التربوبة والبيداغوجية، وأنماط تفكيرها، وحدود اتفاقها واختلافها مع الآخر؛ لذلك فلا عجب أن نجد كبار المتكلمين والبلاغيين علماء موسوعيين خبروا الثقافة الأصيلة وانفتحوا على التفكير العالمي، وفلاسفة ينظرون للمذاهب الفكرية والاجتماعية والنفسية، ويكفي أن نذكر من بينهم ابن سينا وابن رشد والفارابي وابن خلدون... وغيرهم كثير.
فالبلاغة -إذا توافرت في الخطاب- تؤدي إلى الاتصال الذي يفضي بدوره إلى التواصل، لأن «التواصل مقولة كبرى تشمل الوصل الذي هو نقل الخبر، والإيصال الذي هو نقل الخبر مع اعتبار المخبر، والاتصال الذي هو نقل الخبر مع اعتبار المخبر والمخبَر إليه»[5]، فالاتصال يكون من طرف واحد يرسل الرسالة إلى الطرف الثاني ولا يقتضي الجواب، أما التواصل -فكما تدل صيغته الصرفية- يعني التفاعل والمشاركة بين الطرفين، كما يحصل في العملية التعليمية - التعلمية. ويمكن أن نُمثِّل للفرق بين الاتصال والتواصل بالترسيمتين التاليتين:
الاتصال: أ ب
التواصل: أ ب
ففي التواصل يكون الحوار، والحوار في لسان العرب هو تبادل الكلام «يتحاورون أي يتراجعون الكلام»[6]، كما يقتضي التواصل التفاهم بما يعنيه من تقبُّل الآخر وعدم إصدار الأحكام المسبقة عنه، وتقبُّل التغيير الإيجابي، ومن ثم يكون التفاعل الذي يعني تبادل دور المثير والاستجابة بين طرفين أو أكثر بطريقة يشكل فيها كل طرف بداية ونهاية في الآن ذاته، ويمكن توضيح ذلك بالترسيمة التالية:
ويمكن أن تتخذ الأسهم الدالة على اتجاه الرسالة وضعيات مختلفة يقتضيها السياق ويستلزمها الغرض.
والذي يهمنا، بالأساس في هذا الموضوع، هو التواصل التربوي والبيداغوجي، الذي يتضمن «الوسائل التواصلية والمجال والزمان. وهو يهدف إلى تبادل أو تبليغ ونقل الخبرات والمعارف والتجارب والمواقف، مثلما يهدف إلى التأثير في سلوك المتلقي»[7]. ذلك أن الفاعلية التواصلية هي مبنية على الاقتناع بجدوى الهدف من الانخراط في دينامية الجماعة، والإقناع بأهمية العمل الجماعي لتحقيق تنمية ما {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[8]، «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة»[9]؛ مما يساعد الفرد على تقبل شرط الاندماج والتضامن الذي تقتضيه جماعة متماسكة. وبالتالي فإن الفرد ينخرط في حركية الجماعة بشكل تلقائي، فيكون التواصل معرفيًّا وثقافيًّا مثمراً مختلفاً عن التبادل التجاري الذي يفقد فيه الطرف الأول شيئاً مما يمتلك في مقابل أخذ شيء من الطرف الثاني، الذي يفقد بدوره بعض ما يمتلك من أجل الحصول على مقابل من الطرف الأول[10]. فالتواصل التربوي الذي نقصده يؤدي إلى الكفاية التواصلية بما تعنيه من تواصل وتبادل الخبرات الفردية لتشكيل صرح متكامل اللبنات، وهو مفهوم متصل بمفهوم الكفاية التواصلية هذه «وهي مجموع القدرات التي يستطيع بواسطتها شخص ما أن يدخل في سيرورة تواصلية مع الآخرين»[11]، ولتحقيق ذلك لابد له من التحكم في بنيات اللغة ومعرفة الاستعمال اللغوي للجماعة اللغوية التي يخاطبها، وهذه الجماعة قد تضيق أو تتسع، ثم أن يكون ممتلكاً لقدرة استراتيجية «تتعلق باستعمال اللغة من أجل بلوغ أهداف معينة»[12].
إن مفهوم الكفاية التواصلية ينسجم مع تصور الفرد في نظرية التنمية البشرية؛ ذلك أنها تقوم على اعتبار الإنسان وسيلة التنمية وغايتها ومقصديتها، كما تستند إلى ثلاث حقائق ومؤشرات رئيسة هي:
* أمد الحياة والصحة، أي العيش بصحة جيدة ولأمد أطول.
* التعليم ومدى الاستفادة من العلم والمعرفة في الشغل والحياة اليومية والممارسة الاجتماعية.
* الناتج الاجتماعي للفرد، بما يتضمنه من دخل فردي محقق للكفاية وطيب العيش.
وهي مؤشرات تعتمدها الأمم المتحدة لقياس مستوى التنمية الذي وصلت إليه الدول.
ﷺ البلاغة والواقع
إن التحولات المتسارعة التي عرفتها المجتمعات -التي وصلت ذروتها في العقدين الأخيرين الذين تميزا بالانتشار الهائل لوسائل الاتصال التي كانت أداة من أدوات العولمة- قد جعلت الشعوب تنفتح على خطابات متنوعة من حيث مرجعياتها، مما أثر في تصوراتها ومواقفها من الوجود. وهذا أدى إلى ظهور مجموعة من الظواهر، مما طرح تحدياً بلاغيًّا -إذا جاز التعبير- لم يكن مطروحاً من قبل؛ ذلك أن الخطيب في السابق كان يلقي الكلمة في جمهور ذي ثقافة نمطية توحدت مراجعها وتطابقت خلفياتها الفكرية والسوسيوتربوية. أما اليوم فإن الجمهور تنوَّعت ثقافته وتعدَّدت تجاربه بتنوُّع وتعدُّد مصادر المعلومة، ومن ثم وجب على الخطيب والمؤطر والمربي الإلمام بهذا التعدد والتنوع، والانفتاح على المستجدات بعد أن يكون مستوعباً للثقافة الأصيلة متمثلاً لها.
ﷺ التواصل التربوي والواقع
إذا كان التواصل التربوي يجعل المدرس والتلميذ طرفين رئيسين، والمدرسة فضاء للتفاعل والتبادل...، فإن التنمية البشرية تقتضي أن يتجاوز التواصل التربوي المدرس والتلميذ لينفتح على مختلف مكونات المجتمع، وانفتاح المجتمع على غيره من المجتمعات. وفي ظل انتشار الأمية في مجتمعات العالم الثالث وعدم تعميم الاستفادة من علاقة المدرس/ التلميذ، فإن الحل هو استغلال الفضاءات الأخرى، مثل:
أ- الـســــوق
تُعدُّ السوق رمزاً للتواصل يمكن توظيفه لتمرير مجموعة من الرسائل، كما أن السوق هو فضاء لتبادل نتاج النشاط الفردي أو الجماعي وتقييم الدخل الفردي، وهو ما تركِّز عليه التنمية البشرية التي تهدف إلى الرفع من استثمار الرأسمال البشري، كما أن السوق يعتبر فضاء لبعض مظاهر الفرجة الشعبية، مثل «الحلقة» التي تلعب دوراً مهمًّا في تكوين المُخيِّلة الجماعية والإقناع -غير المباشر- بأفكار يمكـن أن تكـون صالحة أو طالحة...
ب- الجمـعـية
وهي تنظيم يؤدي دوراً رئيساً في التنمية البشرية، ذلك أن الجمعية تكون قريبة من السكان وتعرف حاجاتهم فيكون خطابها أقرب إلى أذهانهم وقلوبهم، كما تساعد الفرد على تجاوز العمل الفردي إلى الانخراط في العمل الجماعي المنظم لتحقيق أهداف مسطَّرة.
ج- تجمعات أخرى
إن الإنسان كائن اجتماعي، فالتواصل لديه حياة، واللاتواصل موت، فهو أينما حلَّ وارتحل يحتاج التواصل ويرغب فيه، ومن ثم كانت «المواسم» في القرى، و«المهرجانات» في المدن تستقطب عدداً هائلاً من الناس، وبالتالي فهي تجمعات مناسبة لإشاعة ثقافة التنمية البشرية، وتعليم الناس مهارات العمل الجماعي، وتوعيتهم بقيم الحق والواجب... وتنفرد المدينة والقرية بتجمعات خاصة بهما، مثل المناسبات العائلية في التجمعات القبلية، والمقاهي في المدن. وهنا أعطي مثالاً لقيمة من القيم ساهم المقهى في التحسيس بها وهي مخاطر التدخين، فمنعت عدة مقاهٍ التدخين بفضائها، وقد تعوَّد روادها على الامتناع عن التدخين أثناء دخولهم لها، ويمكن أن نقيس على هذا تمرير قيم أخرى من خلال استغلال التواصل التربوي لهذه الفضاءات، لأن غياب هذا التواصل يفسح المجال لظواهر تضر بالفرد والمجتمع.
ﷺ خلاصة
فالبلاغة بما أنها «مراعاة الكلام لمقتضى الحال»، تشترك مع التواصل التربوي في «تبليغ ونقل وتبادل الخبرات والمعارف والتجارب والمواقف»، فإن هذا التبليغ حين يتطور إلى مهارات وكفايات فردية متكاملة في إطار الجماعة يصبح منطلقاً وغاية للتنمية البشرية في الآن ذاته. وذلك على اعتبار أن هذه التنمية هي، كما أسلفنا، استثمار عقلاني تكاملي رشيد للرأسمال البشري، ورعايته في مختلف جوانبه المادية والروحية ضماناً لجودة إنتاجيته واستدامتها، ومساهمته -كأثمن رأسمال- في التنمية الاجتماعية والحضارية الشاملة[13].
[1]* باحث في علوم التربية / الرباط.
عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز في علم المعاني، شرح يس الأيوبي، المكتبة العصرية، صيدا ـ بيروت، 2002، ص 57.
[2] شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، (د ت)، ط 2، ص 13.
[3] محمد مفتاح، التلقي والتأويل - مقاربة نسقية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، ط1، 1994، ص 8.
[4] سورة طه، الآيات: 24 - 27.
[5] طه عبد الرحمن، الحجاج والتواصل، منشورات كلية الآداب بأگادير، سلسلة الدروس الافتتاحية، الدرس العاشر، الموسم
الجامعي 1994 - 1993، ص50.
[6] أبـو الفضل محمد جمال الدين بن مكرم بن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، (د ت)، مادة (حور).
[7] عبد الكريم غريب وآخرون، معجم علوم التربية، سلسلة علوم التربية، ع 10 - 9، منشورات عالم التربية، الطبعة الثانية،
1998، ص 44.
[8] سورة المائدة، الآية: 3.
[9] صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، رقم الحديث: 2262. صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، رقم الحديث: 4677.
[10] العربي اسليماني، التواصل التربوي مدخل لجودة التعليم، منشورات مجلة علوم التربية ع 5، الطبعة الأولى، 2005، ص
38.
[11] عبد الكريم غريب، معجم علوم التربية، ص 44.
[12] المرجع نفسه.
[13] انظر للتوسع في علاقة التربية بالتنمية:
- مصطفى محسن: التربية وتحولات عصر العولمة: مداخل للنقد والاستشراف، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، ط 1، 2005.