شعار الموقع

في ظاهرة الإسلاموفوبيا المواجهة الآنية والمستقبليّة

قطب مصطفى سانو 2008-09-17
عدد القراءات « 985 »

 

* أستاذ أصول الفقه والفقه المقارن بالجامعة الإسلاميّة العالميّة بماليزيا، وكيل الجامعة لشؤون الابتكارات العلمية والعلاقات الدولية، نائب رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي.

«.. إنّ الإسلاموفوبيا كعَرَضٍ هي.. من نوع العصاب الذي يمكن علاجه عكس الذّهان كمرَضٍ نفسيٍّ.. وهي ضرب من ضروب الضلال الأيديولوجيّ الضابط لإيقاع فكرنا وعصرنا والمحتوم زواله باجتهاد الإبداع والتنوير.. إنّ هذا الخوف المرضيّ من الإسلام قد تمّ استخراجه من دهاليز تاريخ غابر لتوظيفه في الحاضر.. وكما وقع تأسيس وإشاعة الإسلاموفوبيا ضمن عمل مؤسّساتيّ مبرمج، ومناهج، تم تشكيلها عبر القنوات والمسارب والآليات الأحدث والأكثر حضورًا وفعاليّة ونفوذًا في الغرب المتعدد.. فإنّ عمليّة التفكير والتخطيط البنويّ والعقلاني الشمولي للحدّ من تأثيرها ثم الشروع في معالجتها..لا بدّ أن يخضع للشروط نفسها، وبروح العمل المؤسّساتي المقنّن نفسها..».

حوار الحضارات: تحليل نقديّ لظاهرة الإسلاموفوبيا.

إنّ مواجهة الإسلاموفوبيا في نظرنا لا تكون بالغربوفوبيا، فالتطرف لا يواجه بالتطرف في شرعنا، وإنما يواجه بالتنوير والإقناع، كما أنّ التعصب لا يقابل بالتعصب في عقيدتنا، وإنّما يقابل بالانفتاح، وليس ثمة تنوير أو إقناع أو انفتاح إذا لم تكن هنالك معرفة منهجيّة وموضوعيّة يقوم عليها التنوير ويستمدّ منها الإقناع ويرتكز عليها الانفتاح؛ فتلك المعرفة المنهجيّة الموضوعيّة الأصلية غير المغشوشة هي السلاح الأحدّ القادر على القضاء المبرم على جميع أشكال التطرف والغلو إن في التفكير أو في السلوك أو في الممارسة.. ومن ثمّ، فإنّ غربولوجيا (علم الغرب) بحسبانه تخصصًا معرفيًّا نعدّه اليوم الوسيلة المثلى لتحقيق تلك المعرفة المنهجيّة الموضوعيّة القادرة على مكافحة الإسلاموفوبيا والمسلموفوبيا على حدّ سواء!

في تقديم الدراسة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبي الرحمة ونور الهدى محمد المجتبى، وعلى آله الطاهرين المصطفين، وصحبه الأبرار الأخيار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

ليس من ريب في أنّ العالم الإسلاميّ أصبح اليوم هدفًا واضحًا لدعاة الصدام والصراع بين الحضارات، كما أمسى المسلمون -أينما حلّوا وارتحلوا- هدفًا سهلًا لجميع أشكال التهم والإدانة سواء اقترفوا جريمة أم لم يقترفوا جريمةً إمعانًا في تعميق الكراهيّة والبغضاء بين العالم الإسلاميّ والعالم الغربيّ، وسعيًا إلى إشعال مزيد من الحروب الهالكة والفتن الحالكة والقلاقل المفنية بين أبناء العالمين.

لئن كان الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم السلم، ولئن كان الإسلام دين الرحمة والمودّة والسماحة، ولئن كان الإسلام دينًا يقوم على الانفتاح على الآخر والاعتراف به وبدينه وثقافته ومنهج حياته، وأسلوب تفكيره، ولئن كان كل ذلك كذلك، فإنّ الخوف منه أو من أتباعه لا يعدو أن يكون خوفًا مرضيًّا لا بدّ من مواجهته وإزالته.

إنّ ما أضحى يُعرف اليوم في أروقة الباحثين بإسلاموفوبيا لا يعدو أن يكون عرضًا لمرض طالما جاهد دعاة نظريات صدام الحضارات والديانات من أجل تقريره وتثبيته، وهو تعذر التعايش بين الديانات وخاصّة بين الديانات (=الشرائع) السماويّة الثلاثة، فاليهوديّة والمسيحيّة والإسلام تعود جذورها إلى الحنيفيّة السمحاء، غير أنّ التعايش بين أتباع هذه الديانات (الشرائع) يراه منظّرو السياسات ومهندسو الحروب والأزمات أمرًا مستحيلًا وغير مستساغ.

ولئن كان السواد الأعظم من أبناء العالمين/ الإسلامي والغربيّ لا يعرفون كثيرًا عن بعضهم بعضًا، وعن دياناتهم، ومناهج حياتهم، وأساليب تفكيرهم، فإنّ هذا الجهل نعدّه سببًا من الأسباب الوجيهة التي جعلت ظاهرة الإسلاموفوبيا تشق طريقها في أوساط العامّة والخاصّة.

إنّ تنامي هذه الظاهرة في الآونة الأخيرة، يتطلب من المحقّقين والمخلصين تقديم الرؤى والأفكار التي من شأنها إيقاف ذلك التنامي بصورة منتظمة وواعية، كما أنّ ذلك يتطلب تضافر الجهود الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وسواها من أجل وضع حدّ لتناميها وتفاقمها حتى لا يعمّ بها البلوى في الديار الغربيّة.

وسعيًا إلى مكافحة منهجيّة موضوعيّة متماسكة لهذه الظاهرة، عُنينا بإعداد هذه الصفحات المتواضعة مبرزين البعد المعرفيّ في نشأتها، ومقدّمين أشكال المواجهة الآنية والمستقبليّة. وقد انتظمت الدراسة ثلاثة مباحث، تصدّى أولها لنظرة إبستمولوجيّة في نشأة الظاهرة، وأما المبحث الثاني، فقد أودعناه أشكال المواجهة الآنية العاجلة، وتناول المبحث الثالث المواجهة المستقبليّة المستديمة، واحتضنت الخاتمة أهم النتائج التي توصلنا إليها في هذه الدراسة.

والله المسؤول أن يرينا الحقّ حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، إنّه ولي ذلك وعليه قدير.

المبحث الأول

نظرة إبستمولوجيّة لنشأة وتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا

1- ما أن وضعت الحرب العالميّة الثالثة الموسومة بالحرب الباردة أوزارها بين المعسكر الغربيّ والمعسكر الشرقيّ في نهاية 1989م تقريبًا، وما أن تنفس الغرب الصعداء مبتهجًا بانتصاره الباهر على الدبّ الأحمر الذي نازعه ونافسه وجاحده عقودًا عديدة، وما أن انهارت أسوار برلين، وافرنقعت جيوش رجال الطابور الخامس، فإذا بالأنظار الحاقدة والأفكار الماكرة تلهث -بعمق ودقة متناهيين- باحثة عن عدوّ جديد قديم قادم، وعن خطر وشيك داهم لا يقلّ -في خلدهم وظنّهم- ضراوة وشراسة عن ذلك العدوّ الأحمر الذي انتصروا عليه عشية الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفياتي، وغداة استسلامه التامّ لتوجيهات المعسكر الغربيّ المنتصر، كما لا يقلّ ذلك العدوّ الجديد وما يحمله من قيم ومبادئ وأفكار خطورة عن ذلك الخطر الأحمر الذي زال من دنياهم إلى الأبد[1].

2- أما العدوّ الجديد القديم، فإنّه الإسلام الذي احتكّوا به منذ قرون عديدة، وأما الخطر الذي يحمله هذا العدوّ، فإنّه يتمثّل في تلك القيم الناجعة والمبادئ المنافسة التي يتمسك بها، ولا يقبل التنازل عنها بأي حالٍ من الأحوال، ولهذا العدوّ الجديد شعار جديد، وهو الهلال الأخضر، وهذا الهلال بديل حضاريّ وجيه للصليب الأحمر!

3- أجل، لئن تساوى العدوّان (=الشيوعيّ والإسلاميّ) في خطورتهما وتهديدهما لمنهج حياة أهل الغرب في حسّ أولئك المنظّرين ومهندسي الأفكار في الديار الغربيّة، فإنّ السواد الأعظم من عامّة أهل الغرب كانوا -ولا يزالون- يجهلون جهلًا مركّبًا حقيقة دين العدوّ الجديد (=الإسلام)، كما لا يعرفون شيئًا ذا بالٍ عن قيم ذلك الدين ومبادئه وتعاليمه، بل إنّهم -والحقّ يقال- لا يتذكرون شيئًا من المواقف العدائيّة بينهم وبين ذلك العدوّ الجديد (=المسلمين)، إذ إنّهم قد رحّبوا بجموع غفيرة من أبناء ذلك الدين في ديارهم، ووفّروا لهم كلّ ما احتاجوا إليه من وسائل الراحة والاستقرار والأمان، كما أنّهم عايشوا عددًا لا يستهان به من جميع طبقاتهم عقودًا مديدة من الزمن، ولم يروا فيهم عدوًّا لدودًا لدينهم، ولم يحسّوا منهم تهديدًا ولا خطورةً على منهج حياتهم، ولم يلمسوا من أغلبهم نفورًا أو تمردًا على أسلوب حياتهم، بل جاوروهم، وساكنوهم، وصاهروهم، وتاجروهم، وفتحوا لهم أبواب ديارهم، وجنّسوا العديد منهم؛ فكيف يتحوّل هذا الصديق (=المسلمين) الذي وفّر له الغرب كلّ ما طلبه تلك العقود الغابرة إلى عدوّ لدين الغرب ومبادئه ومنهج حياته؟ ولماذا قلب هذا الصديق (=المسلمين) لصديقه (الغرب) ظهر المجن في هذه الآونة الأخيرة؟ إنّ في الأمر لغموضًا!!

وبناءً على هذا كلّه؛ فإنّه ليس بالأمر الهيّن على الغالبيّة العظمى من أهل الغرب تصديق القائلين بالتحوّل الفجائيّ لذلك الجارّ العتيد المعروف لديهم إلى عدوّ جديدٍ ماكرٍ خصومٍ، وخطرٍ أخضر داهمٍ على مستقبلهم، ومستقبل حضارتهم، ومستقبل الإنسانيّة بشكل عامّ!

4- وأما كون دين العدوّ الجديد خطرًا وتهديدًا لدينهم أو لثقافتهم أو لتقاليدهم، فإنّ إدراك الغالبيّة الساحقة لتلك الخطورة المنسوبة إلى ذلك الدين -كما أسلفنا- أمرٌ يكاد أن يكون ضربًا من المستحيل، وأقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة، ذلك لأنّ قلّة قليلة جدًّا من أهل الغرب -وهم خاصّة الخاصّة- هم الذين يعرفون بصيصًا ضحلًا وقدرًا يسيرًا جدًّا عن حقيقة ذلك الدين، وذلك عبر قراءات سطحيّة عابرة، وليس أدلّ على هذا الأمر من وجود جهلٍ عارمٍ بالأديان عامّة وبهذا الدين خاصّة، بل إنّ دين المسيح C الذي ينتمي إليه كثير من أهل الغرب انتماءً صوريًّا يجهلون مبادئه، ويكاد الجهل المطبق بتعاليمه أن يكون أمرًا تعمُّ به البلوى، ولذلك، فلا غرو ولا عجب أن يكون الجهل بمبادئ الدين الإسلاميّ فاشيًا وشائعًا بين العامّة والخاصّة في تلك الديار.

5- ومع الجهل المطبق بمبادئ دين ذلك العدوّ الجديد وتعاليمه، فأنّى لهم
-والحال كذلك- أن يقتنعوا بعداوته، وكراهيّته لأساليب حياتهم؟ بل أنّى لهم -والحال كذلك أيضًا- أن يدركوا اشتمال ذلك الدين على مبادئ وتعاليم تنشر الكراهيّة والبغضاء، وترى فيهم قومًا جديرين بالزوال والفناء؟!

6- أمام هذه المعضلات الفكريّة والموضوعيّة، وجد مهندسو الأفكار وصانعو السياسات الخارجيّة أنفسهم أمام مهمّة تصحيحيّة عويصة، إذ إنّهم أدركوا أنّ تصحيح تلك الصورة النمطيّة البريئة التي استقرت في مخايل العامّة وأذهان كثير من الخاصّة عن الإسلام والمسلمين بشكل عامّ، يحتاج إلى جهود فكريّة مؤسّساتيّة منظّمة وعميقة لا مجال فيها للارتجاليّة أو التسرع، بل لا بدّ من خطط علميّة مرسومة وممنهجة ومرتّبة، يتم من خلالها تغيير تلك الصورة البريئة التي ترى في العدوّ الجديد أصدقاء، وتجد صعوبة بالغة في اعتبار دينهم دينًا عدوًّا، ودينًا مهدّدًا بقيمه ومبادئه قيمهم ومبادئهم وثقافتهم!

7- لقد أدرك أولئك المهندسون والمنظّرون ضخامة المهمّة وجسامتها، وصعوبتها، كما أدركوا أنّ مهمّة تصحيحيّة بهذه الضخامة والجسامة والصعوبة تتطلب استنفارًا شاملًا ومنظّمًا في جميع الأوساط العلميّة والفكريّة والإعلاميّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة بغية تفهيم العامة والخاصّة حقيقة العدوّ الجديد، والخطر الذي يمثّله على أسلوب حياة أهل الغرب!

8- لئن كانت المؤسّسات الاستشراقيّة الأولى[2] مهّدت قديمًا للقوى الاستعماريّة الاستيلاء على الدول، حيث إنّ تلك الحركات تفانت في تقديم المبرّرات الفكريّة والعقديّة لقوى الاحتلال والاستعباد لاستعمار العديد من الدول والأقطار، ولئن كانت مراكز الدراسات الاستيراتيجيّة والمستقبليّة الملاذ الذي يلوذ بها صنّاع القرارات في الديار الغربيّة، فإنّه كان لا بدّ -والحال كذلك- من الاستعانة الرشيدة بالمؤسّسات والمراكز الاستيراتيجيّة ذاتها لتقوم بالدور ذاته الذي قام به آباؤهم الأوّلون في تصحيح المفاهيم، وتأجيج روح العداء والخصام بين الأديان والحضارات، فالولد -كما يقال- سرّ أبيه دومًا وأبدًا!

9- وتحقيقًا لهذا الهمّ التصحيحيّ، استيقظ العالم غداة انتصار الرأسماليّة على الاشتراكيّة على أطروحات ونظريّات فكريّة جديدة ذات مرجعيّاتٍ علميّةٍ معتبرةٍ وهامّة تؤصّل لنظرية صدام الحضارات وصراع الديانات ومواجهة الثقافات، وكانت أطروحة صامويل هنتنغتون في مقال له عام 1993م من أكثر تلك الأطروحات والنظريّات جرأة وصراحة ووضوحًا، حيث استفاض -بصورة مملّة- في التأصيل لنظرية صدام الحضارات وضرورة وقوعها في الأيام القادمة بين الحضارة الغربيّة المتصاعدة والمتنفذة والحضارة الإسلاميّة الآفلة والقابلة للنهوض والانطلاقة المتجددة. وقد بدأ هنتنغتون في نسج خيوط هذه النظرية في شكل مقالات عام 1993م[3]، ثم جمع تلك المقالات وزاد فيها ونقّحها في كتاب مستقلّ شهير سمّاه صدام الحضارات وذلك عام 1996م[4].

10- ولعله من صدف القدر أن يكون فرانسيس فوكوياما قد سبق هنتنغتون عام 1992م[5] بطرح أطروحته المشبوهة والموسومة بنهاية التاريخ. والناظر المتأمل في هذه الأطروحة يجدها لا تختلف في محصلتها النهائيّة عما باح به هنتنغتون، وهو التأصيل والتأكيد على ضرورة صدام الحضارات اعتبارًا بما توصل إليه من أنّ التاريخ ينتهي في نظره بانتصار الليبيراليّة الديموقراطية الغربيّة وسيادتها على العالم أجمع، ومعلوم أنّ انتصارًا كهذا لا يمكن أن يتحقق لذلك النظام دون أن يسبقه صدام وصراع مع الحضارات المتنافسة، وعلى رأسها الحضارة الإسلاميّة الآفلة والطامعة في الاستنهاض والتجدد!

11- وأما ليون هادار صاحب «أي خطر أخضر هذا؟» فقد تزامن صدور كتابه عام 1993م[6] مع صدور مقالات هنتنغتون حول صراع الحضارات، وأما بنيامين باربر، فقد أصدر هو الآخر عام 1995م[7] كتابه المعنون: الجهاد ضد السوق الكونيّة منتهيًا في المحصّلة النهائيّة إلى ما انتهى إليه هنتنغتون وليون في نظرتيهما التشاؤمية المغرضة لطبيعة العلاقة الثاوية بين الحضارات والديانات والثقافات.

12- وإضافة إلى هذا السيل العارم من الدراسات الاستيراتيجيّة والمقالات المختلفة الداعمة لنظريّة صدام الحضارات، فإنّ العالم شهد ركامًا هائلًا من المؤتمرات والندوات الفكريّة المفتوحة والمغلقة صبيحة الهزيمة النكراء لحضارة الدبّ الأحمر، وقد تمركز الاهتمام -كما قرّرنا مرارًا- حول طبيعة العدوّ الجديد وحجم ذلك الخطر الأخضر القادم، وكيفيّة ضمان هزيمته ودحره والتنكيل به تنكيلًا!

13- وتحقيقًا لذلك الهمّ التصحيحيّ للمفاهيم والقناعات، عهدت إلى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة مهمّة الإسراع في تحقيق تلك المهمّة العاجلة، ولتكن البداية كلّ البداية حثّ جميع طبقات الناس عبر مختلف الوسائل والوسائط على قراءة تلك المصنّفات والمقالات والنشرات التي صدرت مؤصّلة لنظرية الصدام والصراع، وفعلًا تصدّت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لهذه المهمّة الجلل، فلم تتوانَ -لحظة من الليل أو النهار- في الإكبار من شأن نظرية هنتنغتون وأتباعه من المفكّرين والمنظّرين هادفة من وراء ذلك الإكبار والاحتفاء بتلك النظريّة إلى تغيير تلك النظرة الإيجابيّة النسبيّة القارّة لدى شريحة واسعة عن العدوّ الجديد والخطر الوشيك!

14- وهكذا مضت السنون والمؤسّسات الفكريّة المسؤولة عن رسم السياسات الخارجيّة والمستقبليّة تزوّد وسائل التأثير والتغيير بالمزيد والمزيد من النشرات والمؤلّفات والمعلومات التي تشوّه حقائق الإسلام بشكل عامّ، وتركّز على التصرفات والسلوكات غير المسؤولة الصادرة عن بعض سفهاء المسلمين وجهالهم في الديار الغربيّة بشكل خاصّ، وما هي إلا بضع سنين، فإذا بوسائل الإعلام والتأثير تحقّق ما خطّطت له المؤسّسات الفكريّة من تأثير جليّ في نظرة العامّة إلى الإسلام حينًا وإلى المسلمين طورًا، وتدريجيًّا أخذ رأي عامّ غربيّ آخر يتشكّل، وبدا في الأفق بوادر تغيير محتوم في المفاهيم الساذجة والمواقف الإيجابيّة والانطباعات الشاردة عن حقيقة ذلك الدين المجهول (=الإسلام)، وأصدقاء الأمس (=المسلمين)!

15- وعلى العموم، لئن أكبرت وسائل الإعلام المختلفة -كما قرّرنا قبلُ- من قيمة تلك الدراسات والنشرات واللقاءات الاستيراتيجيّة بين مهندسي الأفكار وصانعي النظريّات، ولئن تنافست دور النشر والطباعة في طباعة تلك الدراسات وترجمتها إلى أهمّ اللغات الغربيّة، بل لئن تفانت مراكز صنع القرار في الرجوع إليها عند الهمّ باتخاذ قرار أو موقف إزاء القضايا الإسلاميّة المتصاعدة، فإنّ صيف عام 2001م[8] كانت القاصمة التي قصمت ظهر البعير، إذ استيقظ العالم عشية ذلك اليوم المشؤوم على دوي تلك الانفجارات البشعة والمروّعة والمحيّرة في مدينة نيوروك بالولايات المتحدّة، إنّها حادثة سبتمبر المفجعة، تلك الحادثة المشينة المخالفة لكلّ الأعراف والتقاليد والمبادئ والقيم والمُثُل أتت لتحدث تغييرًا جذريًّا في المواقف الإيجابيّة التي كانت تكنّها تلك الغالبيّة العظمى من بسطاء الغرب وبلهائهم إزاء التهم التي طالما سعت مراكز صناعة نظرية صدام الحضارات إلى إثباتها وتقريرها قبلُ[9]!!

16- فلئن صعب على أولئك البسطاء تصديق ما قاله أصحاب نظرية صدام الحضارات قبلُ، فإنّ هذه الحادثة الأليمة غيّرت نظرتهم إلى تلك المقولات، كما أثّرت في قناعاتهم تجاه أصدقاء الأمس، وخاصّة أنّ مراكز صنع القرار المتنفذة، ووسائل الإعلام المتلهفة إلى دعم نظرية الصدام سارعت -دون أدنى تحقيق وإثبات- عشية وقوع تلك الحادثة المروّعة إلى التأكيد والتقرير بأنّ المسؤولين عن تلك الحادثة الشنيعة هم الأعداء الجدد (=المسلمون) دون سواهم لأنّهم -حسب نظرية الصدام- هم أولئكم الذين لا يروق لهم أسلوب الحياة الغربيّة، ولا يرتاحون -بأي حالٍ من الأحوال- من مكتسبات ومنجزات الحضارة الغربيّة المتنفذة، ويكرهون المنهج الغربيّ والتفوق الغربيّ!

17- وفضلًا عن ذلك، فإنّ زمرة من أبناء الأمة من السفهاء ضعاف النفوس المغرضين والمغرَّر بهم والخارجين على قيم الإسلام السامية ومُثُله العليا ومبادئه الخالدة في نظرته إلى الآخر، هؤلاء الشرذمة المتطرفة الغلاة زادوا الطين بلّة، وصبّوا الزيت على النار عندما تسارعوا إلى إصدار تلك البيانات الحائرة الخائرة البائرة معبّرين فيها -على غير استحياء وخجل- عن فرحتهم المشؤومة وسرورهم المقيت بتلك الجريمة النكراء التي أتت على اليابس والأخضر، وحصدت الأرواج البريئة، ودمّرت الممتلكات، ووضعت الإسلام والمسلمين -منذئذٍ- في قفص الاتهام والهجمات!

18- ولئن كان من مقررات الإسلام الأصيلة، ويقينيات مبادئه الخالدة تحريم سفك الدماء والاعتداء على الآمنين بأمان الدين أو أمان الدار، فإنّ هؤلاء الشرذمة تجاهلوا تلك المقرّرات والمبادئ الثابتة، فأخذوا ينقّبون عن نصوص تبرّر هذه الجريمة البشعة الشنيعة، وضربوا -في خضم ذلك- عرض الحائط تلك القيم الرحيمة والمُثُل العليا التي يدعو إليها الإسلام والمتمثّلة في تحريم سفك الدماء البريئة، وهتك الأعراض المصونة، وإبادة الأموال المحترمة!

19- وتتابعت الأحداث والأزمات، وتقدمت الجحافل العسكريّة الغربيّة إلى العديد من المناطق الإسلاميّة، وأمست تلك العلاقة التقليديّة المتميّزة التي كانت بالأمس القريب من أميز العلاقات تسوء يومًا بعد يومٍ، وغدت الثقة كلّ الثقة شبه معدومة أو مهزوزة بين أصدقاء الأمس، وحلّت الكراهيّة والاتهامات محلّ الترحيب والمحبّة والمودّة والثقة والأمان! كما أضحت نظرية المؤمرات والمكائد التفسير الأوحد لكلّ ما يحدث في العالمين: الغربيّ والإسلاميّ!!

20- وصفوة القول، أنّ المؤسّسات الفكريّة للدراسات الاستيراتيجيّة والمستقبليّة ذات الأغراض المشبوهة والماكرة تمكنت من تحقيق ما كانت تصبو إليه من إحداث تلك النقلة النوعيّة في تغيير تلك النظرة الإيجابيّة النسبيّة القارة لدى السواد الأعظم من الغربيّين إلى الإسلام، حيث تمكنوا من إقناع أولئك البسطاء بكون الإسلام والمسلمين العدوّ الجديد الذي حلّ محلّ العدوّ الأحمر! كما أنّ التصرفات اللاإسلاميّة وغير المسؤولة الصادرة عن سفهاء المسلمين في ديار الغرب وخارجها أسهمت بصورة باهرة في التعجيل بإحداث ذلك التغيير النوعيّ الذي قصدته المؤسّسات الفكريّة منذ عقود، فلم يكن من عجبٍ أن تمضي تلك المؤسّسات في إثارة المزيد من القلاقل والأزمات والمواقف التاريخيّة البائدة بين العالمين من خلال رسم سياسات وخطط تزيد الفجوة والجفوة بين الغرب والشرق، كما لم يكن من غريب أن يتسلل -بالمقابل- سفهاء المسلمين إلى عقول البسطاء للتأثير فيهم وفي موقفهم الإيجابيّ من الغرب عامّة والزجّ بهم وبفلذات الأكباد في أتون صراعات دمويّة أليمة مع الغرب وكلّ ما هو غربيّ!!

21- وهكذا تلاقى المتطرفون والغلاة من كلا المعسكرين: الغربيّ والإسلاميّ، وكوّنوا لأنفسهم جموعًا من الأتباع يتسمّون بانطماس البصائر، وخور الضمائر وإفلاس المبادئ، وضحالة الأفكار وقصر النظرات والتحليلات، وأما الغالبيّة الصامتة المتفرجة، فإنّ أولئك المتطرفين تمكنوا من جلب بعض شبابهم إلى حظائرهم المحمومة، كما تمكنوا من إقناع كثير من الخاصّة والعامّة على أنّ الخلاف الناشب بين المعسكرين خلاف عقديّ ودينيّ موروث بحت لا يحتمل أيّ تفسير غير ذلك؛ وليس أدلّ على هذا عندهم مما يحمله التاريخ بين طياته من أحداث مؤلمة ومفجعة بين الديانات الثلاث، وذلك خير شاهد على زعم هؤلاء المتطرفين الغلاة من المعسكرين؛ وعليه، فإنّه لا تلاقي -في نظر هؤلاء المتطرفين- بين الحضارتين، ولا اعتراف صحيحًا بتعايش الديانات، وتعارف الشعوب، وتكامل الأمم[10]!!

22- وبناءً على هذه الأحداث والأزمات والقلاقل والمواقف المتطرفة المخالفة لقيم ومُثُل كلّ الشرائع السماويّة، لم يكن من عجب أن تغدو الإسلاموفوبيا والغربوفوبيا (=كراهيّة الإسلام وكراهيّة الغرب) ظاهرتين واضحتين وحاضرتين، ولم يكن من غرابة أن ينشط المتطرفون والغلاة -المحسوبون على الأديان والحضارات- في تأجيج الصدام والصراع بين الحضارات والديانات والثقافات، ولا يزال العالم يعيش اليوم حالة من القلق والاضطراب والذعر والخوف من أطروحات هؤلاء المتطرفين وتصرفاتهم، وإلى الله المشتكى!!

23- وتأسيسًا على ما سبق، فإنّنا نخلص إلى تقرير القول بأنّ تنامي ظاهرة كراهيّة الإسلام والمسلمين (إسلاموفوبيا) المتجددة في الديار الغربيّة في العصر الراهن نابع من ذلك العمل الفكريّ المؤسّسي المنظّم والمبرمج الذي قامت به مؤسّسات فكريّة للدراسات الاستيراتيجيّة والمستقبليّة مدعومةً من جهات مشبوهة ماكرة حاقدة على كلّ الديانات والحضارات والثقافات، كما أنّ تنامي تلك الظاهرة وتصاعدها الملفت للنظر كان كذلك نابعًا من تلك التصرفات المشينة والسلوكات المقيتة الصادرة عن بعض سفهاء المسلمين وغلاتهم المتطرفين داخل وخارج الديار الغربيّة[11].

24- فكلتا هاتين الجهتين المتطرفتين مسؤولتان مسؤوليّة أساسيّة عن تنامي هذا الخوف المرَضيّ المتصاعد من الإسلام والمسلمين من جهة، ومن الغرب والغربيّين من جهة أخرى!! وليس هذا التلاقي والتوافق بين المتطرفين من العالمين بأمر غريب أو جديد، ذلك لأنّ نظرات الغلاة والمتطرفين إلى العلاقة بين العالَمين لا تختلف من حيث الجوهر، فمهما تعددت واختلفت في انتماءاتها وانتساباتها الفكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة والدينيّة، فإنّها «.. تكاد أن تشترك وتتوافق على منطق متشابه، ومتقارب فيما بينها ويكون حاكمًا على طريقتها في التفكير، ومنهجيّتها في النظر، وموجّهًا لأنظمته المعرفيّة، ومؤثّرًا في تشكيل ملامحها واتجاهاتها العامّة؛ وهو منطقٌ يتصف بالصرامة التي لا تقبل المرونة، وبالنهائيّة التي لا تقبل المراجعة، وباليقين الذي لا يقبل الشكّ. ولا مجال في هذا المنطق إلى المساءلة والتعدد والاختلاف.. وغالبًا ما يحاول هذا المنطق وبنوع من الاعتزاز والكبرياء والتعالي في أن يظهر نفسه بامتلاك الحقيقة المطلقة، وحرمان الآخرين منها، أو انكشاف هذه الحقيقة لأصحاب هذا المنطق وانسدادها عن الآخرين، أو الادعاء بالأفضليّة والأحقيّة في فهم هذه الحقيقة، وامتلاك ناصيتها. وبالتالي، فإنّ أصحاب هذا المنطق هم الذين يمثّلون الطريق المستقيم، والآخرون في نظرهم يمثّلون الطرق غير المستقيمة، وأنّهم على هدى وغيرهم في ضلال مبين؛ ويترتب على ذلك أن يكون هذا المنطق مشبعًا بالإكراهات وبالمواعظ السخيّة، والتظاهر بنوع من الاكتمال، والسعي نحو هداية الناس وإعادتهم إلى الصواب وإلى جادة الحقّ..»[12].

25- لئن خلصنا إلى اعتبار أولئك المتطرفين والغلاة في العالَمين مسؤولين مسؤوليّة واضحة عن التنامي المتجدّد لظاهرة كراهيّة الإسلام والمسلمين في العصر الراهن، ولئن انتهينا إلى اعتبارهم مسؤولين مسؤوليّة مباشرة عن إشعال الحروب والفتن والقلاقل من خلال تأجيج مشاعر الكراهيّة والبغضاء والحقد بين أتباع الحضارات والديانات، فإنّنا نستعجل إلى تقرير القول بأنّنا لا ننكر -بأي حال من الأحوال- تلك الجذور التاريخيّة القديمة لظاهرة الكراهيّة، حيث إنّ نصوص الكتاب الكريم والسيرة النبويّة تحمل سجلًا حافلًا من المواقف العدائيّة والكراهية المستأصلة لتعاليم الإسلام والمسلمين، فتلك الكراهيّة التاريخيّة لا يشك فيها أحدٌ، ولا يمكن لأحد إنكارها، فمواقف صناديد قريش وما جاورهم في عصر الجاهليّة الأولى لا تحتاج إلى تذكير أو تقرير، كما أنّ الكراهيّات التي صاحبت الفتوحات الإسلاميّة في العراق وفارس والأندلس والقسطنطينية وسواها لا تخفى على أحد من المطلّعين على التاريخ الإسلاميّ، وفضلًا عن ذلك، فإنّ الحروب الموسومة بالحروب الصليبيّة أو الحروب المقدّسة التي قامت بين المسلمين والغربيّين في قرون غابرة، كانت هي الأخرى مصدرًا من مصادر الكراهيّة بين المسلمين وغيرهم.

26- وعليه، فإنّ هذه المواقف والأحداث التاريخية الغابرة لا يمكن لامرئ إنكارها أو التقليل من شأنها في نشأة ظاهرة كراهيّة الإسلام والمسلمين، بيْدَ أنّ تلك الأحداث التاريخيّة لا نراها جديرة لأن تغدو مرجعيّة مطلقة نعيد إليها كلّ ما يستجد في الساحة من أنماط متجددة لظاهرة كراهية الإسلام والمسلمين؛ وذلك انطلاقًا من إيماننا بأنّ ثمة أحداثًا ومواقف تاريخيّة متعددة تؤكّد وتقرّر أنّ المسلمين تعايشوا مع الآخرين تعايشًا سلميًّا هانئًا وهادئًا خلال فترات تاريخيّة مختلفة، ولم يكن لظاهرة الكراهيّة حضور يذكر في تلك المراحل التاريخيّة تأكيدًا وتقريرًا لإمكانيّة التعايش السلميّ بين الحضارات والديانات والثقافات، ولعلّ الواقع الأندلسيّ يعدّ من أوضح الأمثلة والنماذج التي تعايشت فيها الحضارات والديانات والثقافات يوم أن كانت السيطرة والغلبة للحضارة الإسلاميّة![13]

27- وبناءً عليه، فإنّ تركيز الغلاة والمتطرفين على استصحاب جانب واحدٍ من تلك الأحداث التاريخيّة الأليمة من الحروب والمعارك والمواقف لا يعدو أن يكون رغبةً عارمةً وغاية عليلةً مشبوهةً لديهم في تأجيج مزيد من الحروب والفتن والقلاقل والأزمات بين أتباع الحضارات والديانات والثقافات سعيًا إلى فرض نموذجهم الفكريّ الضيّق المتحجر المتصلب، وأملًا في مزيد من سفك الدماء وهتك الأعراض وإبادة الممتلكات.

28- ومهما يكن من شيء، فإنّنا نخلص من هذا التحليل الإبستمولوجيّ المركّز لتنامي ظاهرة كراهية الإسلام في العالم المعاصر إلى القول بأنّ الجهل العارم بحقائق الإسلام ومبادئه السامية يعدّ أهمّ سببٍ من أسباب التنامي المتجدد لظاهرة كراهيّة الإسلام والمسلمين؛ فالمتطرفون والغلاة من كلا المعسكرين يتقاسمون
-
سواسية- ذلك الجهل وآثاره، ويتحرّكون في إطار إملاءاته وتوجيهاته، وبتعبير آخر، إنّ الجهل المشترك بحقائق الدين وقيمه ومُثُله ومبادئه هو الأساس الذي يحرّك المتطرفين والغلاة من المعسكرين: الإسلاميّ والغربيّ إلى الدعوة إلى الصدام والصراع بين الحضارتين!

29- وبطبيعة الحال، إنّ هذا التحليل المعرفيّ لأهمّ سبب لتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا قد يبدو عاديًّا بالنسبة للمتطرفين في العالم الغربيّ، إذ إنّ جهلهم بحقائق الدين ومُثُله ومبادئه أمر متوقع، ولا يستغرب منه أحدٌ انطلاقًا من ضحالة معرفتهم بالعلوم والوسائل العلميّة المعينة لهم على تفهم تلك الحقائق والمُثُل والمبادئ.

30- وأما بالنسبة لأولئك المتطرفين والغلاة في عالمنا الإسلاميّ، فإنّ اعتبار جهلهم سببًا من أسباب تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب ربما بدا تفسير كهذا غريبًا وغير مقنع، بيْد أنّ هذه الغرابة تزول بالتأمل العميق في تلك السلوكات الشاذة والتصرفات الخاطئة والممارسات المشينة[14] التي تصدر عن أولئك المتطرفين داخل وخارج العالم الإسلاميّ تجاه دولهم حينًا وتجاه رعايا العالم الغربيّ في دولهم حينًا آخر، وتجاه العالم الغربيّ في ديارهم طورًا، فإنّ تلك السلوكات المتطرفة والممارسات المتعصبة والتصرفات المتحجرة والأفهام الضيّقة لا تفسير لها سوى الجهل الفادح بحقائق الدين ومُثُله وقيمه ومبادئه، إذ إنّهم لو كانوا عالِمين بتلك الحقائق لما سفكوا دمًا، ولا هتكوا عرضًا، ولا أبادوا مالًا، بل لو كانوا عالِمين بالقيم السامية والمُثُل العليا التي يقوم عليها هذا الدين بحسبانه دين السماحة والرحمة للعالَمين لما شوّهوا صورته ومكانته بتلك التصرفات المشينة التي ينسبونها إلى الإسلام، والإسلام منها براء براءة الذئب من دم ابن يعقوب.

31- وفضلًا عن هذا، فإنّه من المقطوع به يقينًا أنّ الشرع الحنيف يحرّم جميع أشكال التنطع والغلو والتطرف والعدوان على الأنفس والأعراض والأموال، وقد وردت في ذلك آيات قرآنية وأحاديث نبويّة متعددة، ولكن مع ذلك، نجد تجاهلًا تامًّا لتلك الآيات المحكمات والأحاديث الواضحات، كما نجد مصادرة مقصودة للمعاني الجليّات التي تدلّ عليها تلك النصوص، مما يؤكّد تأكيدًا واضحًا على كون الجهل من أَوْجَهِ أسباب التشبث بتلك السلوكات المتطرفة والمغالية مكابرةً ومعاندة ومجاحدة لتعاليم هذا الدين الحنيف. وبتعبير آخر، ليس ثمة تفسير لتلك الممارسات الجائرة والتصرفات المخالفة للقيم والمُثُل والمبادئ الإسلاميّة سوى أنّها نابعة من جهلٍ وسوء فهم لتلك القيم والمبادئ والمُثُل العليا.

32- وعليه، فإنّ الجهل بحقائق الدين وقيمه ومُثُله ومبادئه يعدّ سببًا مشتركًا يتقاسمه المتطرفون الداعون إلى صراع الديانات وصدام الحضارات ومواجهة الثقافات في المعسكرين: الإسلاميّ والغربيّ.

33- ولئن تبدى لنا كون الجهل بحقائق الدين الإسلاميّ ومُثُله ومبادئه وقيمه شأنًا مشتركًا بين المتطرفين في المعسكرين، فإنّه حريٌّ بنا أن نقرّر في هذا المقام أنّ ذلك الجهل لا ينحصر في الجهل بحقائق الإسلام ومُثُله وقيمه ومبادئه، بل إنّه يشمل الجهل بحقائق الديانتين: اليهوديّة والمسيحيّة، فالمتطرفون في كلا المعسكرين يتقاسمون أيضًا جهلًا مطبقًا بحقائق هاتين الديانتين وقيمهما ومبادئهما ومُثُلهما، إذ إنّهم لو كانوا واعين بتلك الحقائق والمُثُل والقيم والمبادئ التي تقوم عليها تلكما الديانتان لما اتخذوا الصراع والصدام أساسًا في النظر إلى بعضهم البعض، لأنّ تلك الحقائق والمُثُل والقيم والمبادئ تتفق على تحريم سفك الدماء، وهتك الأعراض وإبادة الأموال، مما يجعل دعوتهم إلى تلك الأفعال الشنيعة والتصرفات الممقوتة تحديًّا وخروجًا على تعاليم هاتين الديانتين!

34- وبطبيعة الحال، ليس ثمة غرابة في جهل المتطرفين في المعسكر الإسلاميّ بحقائق تلكما الديانتين وقيمهما ومُثُلهما، ولكنّ الغرابة أن يكون ثمة جهل للمتطرفين في المعسكر الغربيّ بتلك الحقائق والمُثُل والقيم والمبادئ، ويمكن إزالة هذه الغرابة بما أزلنا بها الغرابة الأولى، وهي أنّ سلوكات المتطرفين في المعسكر الغربيّ تتناقض مع حقائق دياناتهم وقيمها ومُثُلها ومبادئها، كما أنّ دعوتهم إلى الصدام والصراع مع الديانات والحضارات والثقافات الأخرى يعدّ ذلك خروجًا سافرًا على تلك الحقائق والمبادئ والمُثُل، مما يعني جهلهم بها، وابتعادهم عن تمثلها وتطبيقها في واقع حياتهم!

35- وزبدة القول، ثمة جهل عارم وشبه عامّ بحقائق كلّ الديانات والحضارات والثقافات، وهذا الجهل نخاله -كما أسلفنا- السبب الأجلّ والأعظم للتنامي المتجدّد لظاهرة الإسلاموفوبيا والغربوفوبيا على حدّ سواء!

36- على أنّه لئن كان ما أسلفناه حديثًا عن الجهل بحقائق الديانات ومُثُلها، وقيمها، ومبادئها، فإنّه ينضاف إلى ذلك الجهل المطبق جهلٌ آخرُ يتمثّل في الجهل المتبادل بين المتطرفين بمناهج حياة أتباع تلك الديانات وأساليب تفكيرهم.

37- فالسواد الأعظم من المعسكر الغربيّ يجهلون تمامًا مناهج حياة المسلمين، ولا يعرفون شيئًا عن تقاليدهم وعاداتهم وأعرافهم وأساليب تفكيرهم فضلًا عن مداخل التأثير في نفوسهم، كما أنّ السواد الأعظم من المعسكر الإسلاميّ يجهلون أيضًا مناهج حياة الغربيّين، ولا يعرفون شيئًا عن عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم وأساليب تفكيرهم ومداخل التأثير في نفوسهم؛ ولئن عرف أيٌّ من الطرفين شيئًا عن الآخر، فإنّه لا يعدو ما يعرفه أن يكون شذرات ومعلومات سطحيّة يغلب عليها التشويه والتشويش والتجريح، وذلك انطلاقًا من أنّ عامّة الغربيّين يشتقّون ويتلقون تلك المعلومات السحطيّة (المشوّهة) عن تلك المؤسّسات والمراكز التي تنشر ثقافة الصدام، وتعظّم من عقليّة الصراع والمواجهة.

38- إنّ هذه المؤسّسات تستغل وسائل الإعلام والتأثير المتاحة تحت سيطرتها من أجل تقديم صور مشوّهة عن المسلمين ومناهج حياتهم وأساليب تفكيرهم، كما أنّها لا تخجل من تزوير الحقائق التاريخيّة، وتلفيق التهم الفكريّة، ووصف الإسلام والمسلمين بأبشع الأوصاف وأعمقها في الفجور والدجل سعيًا إلى تعميق ثقافة الكراهيّة وترسيخ نظرة العداء والخصام بين العالمين: الإسلاميّ والغربيّ.

39- كما أنّ كثيرًا من عامّة المسلمين وخاصّتهم في العالم الإسلاميّ لا يعرفون شيئًا ذا بال عن مناهج حياة الغربيّين، وعاداتهم، وتقاليدهم، وأساليب تفكيرهم، ولئن عرفوا عنهم شيئًا، فإنّه لا يعدو أن تكون تلك المعلومات معلومات ضحلة باهتة لا يمكن الاستناد إليها لتكوين موقف من الآخر، فضلًا عن أنّ مصدر جلّ تلك المعلومات عن الغرب والغربيّين هم أولئك المتطرفون الغلاة الذين يصوّرون الغرب للعامة والخاصّة بوصفه نموذجًا ومثالًا للانحلال الخلقيّ العارم، والوحشيّة المتغطرسة، والجبروت المتعالي، والاستكبار والإفساد في الأرض، كما يقدّمون مناهج حياة الغربيّين بوصفها مناهج خالية من القيم والمُثُل والمبادئ!

40- وأمام هذا الجهل العارم المطبق بمناهج الحياة وأساليب التفكير ومداخل التأثير في المعسكرين، يجد المتطرفون من كلا المعسكرين مناخًا خصبًا ومرتعًا أمينًا لبثّ أطروحاتهم الصداميّة، والزجّ بالمجتمعات في أتون الحروب والقلاقل والأزمات، فضلًا عن تعزيز وعي العامة والخاصّة في كلا المعسكرين باستحالة التعايش السلميّ، وتعذر إمكانيّة الحوار البنّاء بين الديانات والحضارات!

41- وصفوة القول، بناء على هذا، أنّه يحقّ لنا أن نقرّر -في اطمئنان وثقة- أنّ المتطرفين والغلاة من المعسكرين يجهلون جميعًا حقائق دياناتهم، كما يجهلون مبادئ تلك الديانات العليا، ولا يتمثّلون -بأيّ حالٍ من الأحوال- مُثُل وقيم تلك الديانات السامية، كما أنّهم -بالإضافة إلى ذلك- يجهلون حقائق بعضهم البعض، ويخلطون بين الديانات وتصرفات أتباع تلك الديانات، مما يجعل عقلية الصراع والصدام مسيطرة على طروحاتهم وتفكيرهم وسلوكاتهم، كما يجعل تبادل الاتهامات وانعدام الثقة والأمان أساس العلاقة بينهم في كلّ زمان ومكان.

42- وإذ الأمر كذلك، وهو كذلك، فإنّه يمكننا الانتهاء إلى تقرير القول بأنّه مادام الجهل يمثّل المنطلق والأساس الذي يتكئ عليه المتطرفون في العالمين لنشر ثقافة الصراع والصدام، وتأجيج الصراعات والفتن والصدامات في كلّ حين، فإنّ مكافحة ظاهرة الكراهيّة بشقيها: الإسلاموفوبيا والغربوفوبيا، ينبغي أن تتمحور حول مكافحة هذا الداء الآخذ في الانتشار والتوسع على مختلف المستويات والجبهات.

43- على أنّه من الجدير ذكره أنّ الجهل المستشري بين الغلاة والمتطرفين من المعسكرين لا يتوقف عند الجهل بحقائق الديانات ومبادئها ومُثُلها، ولكنّه يشمل الجهل بثقافات وتقاليد وعادات بعضهم البعض، مما يتعذر معه كل فرص سبل التواصل والتكامل والانفتاح على بعضهم البعض.

44- وبطبيعة الحال، حريّ بنا أن نستعجل إلى القول بأنّ هذا الجهل الفكريّ والثقافيّ الذي أوسعناه تأصيلًا وتحريرًا وتحقيقًا لا يقتصر على الغلاة والمتطرفين في المعسكرين فحسب، ولكن يشمل السواد الأعظم من العالَمين: الإسلاميّ والغربيّ، فالغالبيّة العظمى من كلا المعسكرين -كما أسلفنا- يجهلون حقائق دياناتهم ومُثُلها، وقيمها، ومبادئها، كما يجهلون مناهج حياة بعضهم البعض وأساليب تفكيرهم ومداخل التأثير في النفوس، ولئن علموا شيئًا من الثقافات والتقاليد والعادات، فإنّها لا تعدو أن تكون معلومات مبتسرة ومختزلة لا تتوافر فيها في الغالب الأعم الموضوعيّة ولا العلميّة اعتبارًا بأنّ المعلومات التي توردها المناهج التعليميّة في كلا العالَمين تشكو ضعفًا وضحالة وضيقًا، وربما كانت مصدرًا لجهل أكبر بالواقع الحقيقيّ الذي يعيشون فيه.

45- وبتعبير أدقّ، إنّ المناهج التعليميّة التي يفترض فيها أن تكون منارات للتعريف بالآخر: الإسلاميّ والغربيّ لم تصمّم في كلا العالَمين من أجل تعريف موضوعيّ علميّ منهجيّ منضبط بحقائق الديانات والثقافات والعادات والتقاليد، كما أنّ تلك المناهج تشتمل -في كثير من الأحيان- على معلومات مغلوطة وملفّقة سواء عن الآخر الإسلاميّ أو الآخر الغربيّ، مما أورث أبناء العالَمين قابليّة الاندفاع والوقوع في مشاريع الغلاة والمتطرفين في العالَمين.

46- جَيْرِ، إنّ جلّ المعارف والمعلومات التي يحملونها عن بعضهم البعض معلومات جرائديّة مجتزأة ومبتسرة يغلب عليها الارتجال والاختزال وعدم الموضوعيّة. وقد استغل الغلاة والمتطرفون من كلا المعسكرين هذا الجهل المستشري بالديانات والثقافات والحضارات بملء الساحة الفكريّة والإعلاميّة بأطاريحهم المشبوهة الداعية إلى مزيد من الصدام الأليم، والصراع المحتوم بين أتباع الديانات والحضارات والثقافات متغافلين ومتجاهلين بأنّ السلم والتعايش والتكامل والتواصل والتعارف يعدّ كل أولئك قيمًا أخلاقيّة سامية، ومبادئ إنسانيّة مشتركة تدعو إليها كل الديانات والحضارات والثقافات!!

47- وعلى العموم، بهذا يتبدى لنا ما جناه الجهل الفكريّ والعمى الثقافيّ من جناية عظيمة على العلاقات المثاليّة المفترضة بين الديانات والحضارات والثقافات، وحريّ بنا أن نبرح هذا التحليل الإبستمولوجيّ للسبب الأساس والرئيس للتنامي المتجدد لظاهرتي الإسلاموفوبيا والغربوفوبيا إلى تقديم جملة من الحلول العلميّة التي نخالها قادرة على مكافحة ذلك الجهل بشقيه الفكريّ والثقافيّ أملًا في إحلال المحبة محلّ الكراهيّة، وإحلال التعايش السلميّ محلّ التحارب والتنازع، وإحلال التواصل الحكيم محل المقاطعة. وتتمثل تلك الحلول المتواضعة التي نخالها قادرة على التخفيف من غلواء ذلك الجهل، والحيلولة دون توسع ذلك العمى الثقافيّ في مواجهة ذلك التنامي المشؤوم والمتجدّد لظاهرة الإسلاموفوبيا والغربوفوبيا (=كراهية الإسلام والمسلمين، وكراهيّة الغرب والغربيّين) على مرحلتين مختلفتين: إحداهما آنية وعاجلة، والأخرى بعيدة المدى.

المبحث الثاني

في المواجهة الآنية لظاهرة الإسلاموفوبيا

نروم بهذه المواجهة الآنية مواجهة الخوف المرضيّ من الإسلام والمسلمين المتنامي مواجهة شاملة على مختلف المستويات، وأهمها المستوى السياسيّ، والاجتماعيّ، والثقافيّ، والاقتصاديّ، وهذا عرض مقتضب لكيفية تحقيق هذه المواجهة على المستويات المذكورة:

أولًا: مواجهة الظاهرة على المستوى السياسيّ[15]

1- نروم في هذه المرحلة الأولى أن تكون ثمة مواجهة سياسيّة رشيدة تتخذّ من الوجود الدبلوماسيّ الإسلاميّ المكثّف في كثير من أنحاء العالم الغربيّ منفذًا لتصحيح ما يقدّم من صور مشوّهة عن الإسلام والمسلمين عبر الوسائل الدبلوماسيّة المعهودة في شكل احتجاجات أو خطابات.. ولا بدّ في هذا المقام من الإشادة بما كان لسفراء كثير من دول العالم الإسلاميّ من تحرك رشيد لمواجهة تلك الصور المسيئة إلى أعظم إنسان عرفته البشريّة نزاهةً وصدقًا ورحمةً ومحبةً للسلام والأمان والاستقرار. فقد كان لتحرك أولئك السفراء دور في توجيه رسالة مباشرة إلى المؤسّسات والمراكز التي تروّج ثقافة الصدام والصراع بأنّ الاستفزازات الفكريّة لا يمكن لها أن تمضي بلا حساب.

2- على أنّ المواجهة السياسيّة في المرحلة الراهنة لظاهرة الإسلاموفوبيا لا تتوقف على هذا المستوى، بل لا بدّ لها أن تقتحم المجالس والمحافل الدوليّة المسؤولة عن حماية الديانات والثقافات والحضارات، وذلك بغية استصدار قرارات تضع حدًّا لطموحات مهندسي نظريات الصدام والصراع، فمن شأن تلك القرارات المجرّمة لجميع أشكال الإساءة والإهانة للمشاعر والديانات أن توقف أولئك المتطرفين عند حدّهم، كما أنّه من شأنه أن يفضح تلك الجهات الداعمة لأولئك المتطرفين في مساعيهم المشبوهة الحالكة الهالكة. فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن!

3- وثمة صور أخرى للمواجهة السياسيّة الفاعلة في مواجهة هذه الظاهرة المسؤولة عن الحروب الطاحنة والأزمات المتتابعة في أرجاء العالم، ولا يتسع المقام لعرضها كلها.

ثانيًا: مواجهة الظاهرة على المستوى الاقتصاديّ

4- وأما بالنسبة للمواجهة الاقتصاديّة لهذه الظاهرة، فإنّ لها دورًا بارزًا في التخفيف من سيطرة الغلاة والمتطرفين على عقول العامّة والخاصّة في العالم الغربيّ، ونحسب أنّ تلك المواجهة لا ينبغي لها أن تصبّ في المقاطعات الاقتصاديّة المرتجلة الثائرة لبضائع بضع دول أو شركات أو محلات محدودة، بل ينبغي أن تكون تلك المقاطعات مقاطعاتٍ علميّة مدروسة واعية ومنسّقة ومركّّزة وذات أهداف واضحة تؤتي أكلها بصورة جليّة ومتسلسلة.

5- وليتحقق في المقاطعات الاقتصاديّة هذا البعد، لا بدّ لها من أن تتجاوز الارتجالات والتعميمات والتجزيئات، كما لا بدّ لها أن تضع لنفسها سقفًا زمنيًّا تجنبًا من ملل العامّة وعدم تحملهم تبعات المقاطعات الطويلة. فمن المشاهد أنّ المقاطعات التي لا تصدر عن دراسات موضوعيّة واعية لا تحقّق الأهداف المرجوّة منها في أكثر الأحيان. ولهذا، فإنّ المواجهة الاقتصاديّة لهذه الظاهرة ينبغي لها أن تنبثق عن دراسة واعية للآثار والنتائج المتوخاة!

6- وثمة أشكال أخرى للمواجهة الاقتصاديّة، تناولتها الندوات والمؤتمرات العلميّة والثقافيّة والاقتصادية المختلفة، ينبغي الرجوع إليها.

ثالثًا: مواجهة الظاهرة على المستوى الثقافي

7- بالنسبة للمواجهة الثقافيّة لظاهرة الإسلاموفوبيا، فإنّ لها أشكالًا متعددةً بدءًا بالمؤتمرات والندوات التي تكشف للعامة زيف التهم والأكاذيب التي تلصق بالإسلام والمسلمين، وعروجًا على الزيارات العلمية للمراكز والمؤسّسات العلميّة المعتدلة والراغبة في التزام الحياد والنصفة، ومرورًا بدعم المشاريع الثقافيّة المتمثلة في المسرحيّات والأفلام والقصص وسواها توظيفًا لها في مواجهة الظاهرة، وفضح ما تنطوي عليه من أكاذيب وتلفيقات.

8- وفضلًا عن هذا، فإنّه لا بدّ للمواجهة الثقافيّة من أن تتضمن دعم تلك البرامج والتخصصات التي تقدّمها الأقسام والكليات العلميّة المنصفة التي تروّج لثقافة التعايش والتواصل، وتكافح ادعاءات دعاة الصدام والصراع بين الديانات والثقافات والحضارات، فدعم تلك البرامج من شأنه تمكين تلك المؤسّسات من تقديم الصورة الصحيحة عن الإسلام والمسلمين. وبطبيعة الحال، هذه المواجهة تتطلب دعمًا ماديًّا سخيًّا موجَّهًا.

9- وإضافة إلى ما سبق، فإنّه لا بدّ للمواجهة الثقافيّة أن تتضمن زيادة مجالات التمثيل الثقافي للعالم الإسلاميّ في دوائر العلم والمعرفة والثقافة في الغرب.. وزيادة مجالات التبادل الثقافي المؤسّسيّ بين المؤسّسات الأكاديميّة الغربيّة والإسلاميّة، بل للمواجهة الثقافية أن تشمل تأسيس مرصد علميّ لمتابعة الكتب والمنشورات التي تنشر عن الإسلام والمسلمين بغية التصدّي لصور التشويه والتضليل التي يروّجها المتطرفون والغلاة عن الإسلام والمسلمين بشكل عامّ.

10- وثمة وسائل أخرى للمواجهة الثقافيّة الآنية الراقية، ويمكن الرجوع إلى العديد من المؤتمرات والندوات الثقافيّة التي تضنمت قرارات داعية إلى هذه المواجهة بصورة علميّة مدروسة[16]!

رابعًا: مواجهة الظاهرة على المستوى الاجتماعيّ

11- وأما المواجهة الاجتماعيّة المنشودة لظاهرة الإسلاموفوبيا المتنامية، فإنّها تتمثّل في نظرنا في ذلك الدور الكبير الذي ينبغي على أولئك المسلمين القاطنين في الديار الغربيّة أن يقوموا به في الغرب، ومن أهمّ ما يجب عليهم القيام به أن يتمثّلوا الإسلام ومبادئه وقيمه ومثله في تصرفاتهم وأخلاقهم، فكل ما يصدر عنهم من تصرفات، فإنّها لا تخلو أن تحسب للإسلام أو عليه، مما يعني أنّهم يتحملون شطرًا كبيرًا من التهم التي تلصق بالإسلام والمسلمين، فتصرفات السفهاء منهم يتخذها المتطرفون والغلاة من أجل تأجيج ثقافة الصدام والصراع، كما أنّ سلوكات المتشدّدين والمتنطعين والمتعنتين تسهم هي الأخرى في تنامي تلك الظاهرة وتصاعدها.

12- ولذلك، فإنّ على الغيارى والمخلصين من المسلمين في تلك الديار أن يأخذوا بأيدي أتباع المتطرفين والغلاة المندسين في صفوفهم، ويصحّحوا لهم ما ران على قلوبهم من غبش في الرؤية، وشحّ في الفهم، وضعف في النظر، فدفعتهم كل تلك الآفات إلى ارتكاب الحماقات والشذوذات، وحقّقوا للمتطرفين والغلاة ما تمنوه وعملوا من أجله.

13- إنّ على المسلمين الذين يعيشون في تلك الديار أو أولئك الذين يزورونها بين الفينة والأخرى ألَّا يحملوا إليها نزاعات عالمهم المبتلى بالنزاعات الطائفية، والخلافات المذهبيّة، فالواقع الغربيّ يسعه الإسلام الواسع الذي يجمع ولا يفرّق، ويوحّد ولا يشتّت، كما يسعه الإسلام الذي يصحّ به الإسلام، ولا يطيق بأي حال من الأحوال خلافيات المذاهب العقديّة والفقهيّة والتربويّة، إذ إنّ الانشغال بتلك الخلافيات والنزاعات يفتح المجال واسعًا للمتطرفين والغلاة ليسمّموا الأفكار، ويعمّقوا الشقاق بين الأشقاء سعيًا منهم إلى تأكيد كون الإسلام دين الصراعات والنزاعات والطائفيّات.

14- ولهذا، فلا بدّ للمسلمين أن يتجاوزوا خلافياتهم وأن ينفتحوا على بعضهم البعض، كما لا بدّ للمسلمين الذين يزورونهم أن يغلّبوا مبدأ العمل في المتفق عليه، والإعذار في المختلف فيه سواء أكان ذلك المختلف فيه مختلفًا في العقيدة أم في الفقه أم في التربية.

15- وفضلًا عن هذا الجانب من المواجهة الاجتماعيّة لظاهرة الإسلاموفوبيا، لا بدّ للمسلمين من الانخراط الرشيد الهادئ في المجتمعات الغربيّة عبر المتاجرات أو المصاهرات أو المجاورات، فليس من الإسلام في شيء الانعزال والابتعاد عن الناس وخاصّة إذا كان أولئك الناس في أمسّ الحاجة إلى الدعوة إلى الله إن بالحال أو المقال، فممّا يزيد اليوم من الكراهية المتنامية للمسلمين في الديار الغربيّة أنّ كثيرًا من المسلمين في تلك الديار لا يخالطون الغربيّين، ويحملون عنهم أفكارًا مغلوطة، وآراء اجتهاديّة ظرفيّة غير صالحة للنظر والتطبيق في العصر الحاضر، كما يفضلون العيش في تكتلات عرقيّة تكون الأولويّة فيها للأوطان والجنسيات والعرقيّات وليست للأخوة الإسلاميّة، فمن السهل جدًّا أن يجد المرء المسلمين الآسيويين يعيشون في مناطق خاصة بهم، كما يجد المسلمين العرب يختارون لأنفسهم العيش في مناطق خاصّة، وكذا بقية العرقيات، ولا شكّ أنّ هذه التجمعات العرقيّة تعدّ من الفرص التي يستغلها المتطرفون والغلاة لوصف المسلمين بكونهم جماعات لا تروق لهم مناهج حياة الغربيّين، ولا أساليب تفكيرهم.

16- وإنّنا لنعتقد أنّ المسلمين بحاجة إلى إعادة النظر في هذه التكتلات العرقيّة، ولا بدّ لهم من الانخراط في المجتمعات التي يعيشون فيها ليقدّموا النموذج الصالح الذي يكذّب بسلوكه ما يلفّق حوله من تهم وأكاذيب.

17- بهذا يتبين لنا أهميّة المواجهة الاجتماعيّة الرشيدة لظاهرة الإسلاموفوبيا، كما تبدت لها قبلُ المواجهة الثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة. وكما أسلفنا لا يعدو أن تكون هذه المواجهات كلها وسيلة من الوسائل الهامّة التي ينبغي توظيفها اليوم لمكافحة تلك الظاهرة والحيلولة دون تناميها المتصاعد.

18- ولئن اختزلنا واختصرنا أشكال المواجهة الموضوعيّة الآنية الممكنة على المدى الآني القريب في تلك الصور السابقة، فإنّنا نتبع هذا بتأصيل القول في شكل آخر من أشكال المواجهة الموضوعيّة العلميّة الممكنة على المدى البعيد، ويتمثل ذلك في تمكين أجيال من المفكّرين القادرين على المواجهة العلميّة الموضوعيّة المنهجيّة للظاهرة من خلال استئصال أمين وهادئ للسبب الأساس للتنامي المتجدد للظاهرة والمتمثل في الجهل، وبتعبير آخر، إنّ الحاجة تمسّ إلى مواجهة علميّة موضوعيّة هادئة متمثلة في تأسيس علمٍ متكامل يأتي على الجهل المتفشي بالديانات والحضارات والثقافات بالإبطال والزوال والنقض.

19- إنّ مكافحة ذلك الجهل الفاشي والمنتشر بين أتباع الديانات والحضارات والثقافات تكون بإحلال المعرفة الموضوعيّة والمنهجيّة المنصفة محلّ المعرفة السطحيّة العاطفيّة المرتجلة، إذ من خلال تلك المعرفة يتحقق تواصل مستديم بين المعسكرين، ويُقضى على تلك المشاريع المشبوهة التي يحملها دعاة نظرية الصدام والصراع قضاء مبرمًا إنقاذًا من الغالبيّة العظمى من النجش المعرفيّ والرهق الفكريّ والتيه الذهنيّ حول الآخر الإسلاميّ والآخر الغربيّ.

20- ولئن كنّا قد أصّلنا القول من قبل بأنّ استشراء الجهل بحقائق الديانات وقيمها ومُثُلها ومبادئها، والجهل بمناهج الحياة وأساليب التفكير ومداخل التأثير في النفوس، يمثّل ذانكما الجهلان السببين الأعظمين لتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا والغربوفوبيا، ولئن كنّا قد استهللنا تحليلنا الإبستمولوجيّ للتنامي المتجدد لظاهرة الإسلاموفوبيا بتحرير القول في ذلك الدور الاستراتيجيّ الذي قامت -وتقوم- به المؤسّسات والمراكز المتخصّصة في الدراسات الاستراتيجّية والمستقبليّة، ولئن أبدينا في أثناء ذلك وجود عمل علميّ منهجيّ مؤسّسيّ ومنظّم ومتكامل، فإنّ مقتضى ذلك أن يكون ثمة عملٌ علميّ منهجيّ مؤسّسيّ متكامل لا يقلّ صرامة وانضباطًا في تعامله مع الظاهرة، بل يجب اللواذ بالعمل العلميّ المنهجيّ المؤسّسيّ لمواجهة تلك الظاهرة الآخذة بالتنامي والتوسع والانتشار.

21- ومردّ هذا كلّه إلى أنّ الإسلاموفوبيا بوصفه عرضًا يعدّ «.. من نوع العصاب الذي يمكن علاجه عكس الذّهان كمرَضٍ نفسيٍّ.. وهي ضرب من ضروب الضلال الأيديولوجيّ الضابط لإيقاع فكرنا وعصرنا والمحتوم زواله باجتهاد الإبداع والتنوير.. إنّ هذا الخوف المرضيّ من الإسلام قد تمّ استخراجه من دهاليز تاريخ غابر لتوظيفه في الحاضر.. وكما وقع تأسيس وإشاعة الإسلاموفوبيا ضمن عمل مؤسّساتيّ مبرمج، ومناهج، تم تشكيلها عبر القنوات والمسارب والآليات الأحدث والأكثر حضورًا وفعاليّةً ونفوذًا في الغرب المتعدد.. فإنّ عمليّة التفكير والتخطيط البنويّ والعقلاني الشمولي للحدّ من تأثيرها ثم الشروع في معالجتها.. لا بدّ أن يخضع لنفس الشروط، وبنفس روح العمل المؤسّساتي المقنّن..»[17]

22- بناء على هذا، فهلمّ بنا لنؤصّل القول في ذلك العلم الذي نحسبه مدخلًا لمواجهة علميّة مؤسّسيّة منهجيّة وموضوعيّة مستديمة لظاهرة الإسلاموفوبيا، وهذا العلم هو ما نصطلح عليه في هذه الدراسة بغربولوجيا أو علم الغرب أو دراسة الغرب.

23- وموضوع هذا العلم المقترح -كما سيأتي معنا مزيد بيان- يتناول بالدراسة والتحقيق والتحرير والتوضيح الغرب بدياناته، وقيمه، ومبادئه، ومثله، وأنظمته، وتاريخه، ومصالحه، ومناهج حياته، وأساليب تفكيره.. أملًا في تكوين معرفة وعلم موضوعيّين عن الغرب وكل ما يتصل به!

24- إنّ هذه المعرفة العلميّة الشاملة بالغرب معرفة موضوعيّة وعلميّة شاملة، تتجاوز الانطباعات غير المؤصّلة، وترفض الحماسات الزائدة، وتجعل المبادئ الإسلامية السامية، كمبدأ {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ}، ومبدأ {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، ومبدأ {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}، ومبدأ {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}، وغيرها مبادئ حاضرة بالقوة والفعل عند الهمّ بالحكم على أيّ تصرف من التصرفات الصادرة عن الآخر تجاه المسلمين أو سواهم.

25- إنّ هذه المعرفة في حالة تحققها ستخفف من غلواء المتطرفين في المعسكر الإسلاميّ في نظرتهم التشاؤمية العاطفية الحماسيّة إلى الآخر دون تمييز بين الآخر السياسيّ، والآخر المصلحيّ، والآخر الدينيّ، والآخر ذي المبادئ والقيم، بل يسوّون بينهم، ويعدّونهم آخر واحدًا لا تعدّدية فيه البتة! فهذه المعرفة ستكشف لأولئك المتطرفين أنّ الآخر لم يعد مدلولًا جغرافيًّا، ولا موقعًا تاريخيًّا، بل منظومة من الديانات والثقافات والمبادئ والقيم والمُثُل والمصالح، وستجلّي هذه المعرفة لأولئك الغلاة ما لمناهج حياة الآخر وأساليب تفكيرهم من إيجابيات وسلبيات تمكينًا لهم من التمييز بين الطيّب والرديء من تلك المناهج والأساليب! وفضلًا عن هذا، فإنّ هذه المعرفة ستمكّن الخاصّة والعامّة من التعرف على مداخل التأثير في نفوس الآخر سعيًا إلى كسبهم وكسب تعاطفهم لقضايانا وأزماتنا القائمة والقادمة!

26- إنّ تلك المعرفة العلميّة الموضوعيّة نخالها الأمل القادر على الصمود والوقوف في وجه تسلل المتطرفين من المعسكرين إلى عقول الناس وضمائرهم وأفكارهم، فليس أشدّ على الجهل من العلم، وليس أقدر على الحلّ من التفكير العلميّ الجادّ المنظّم.

27- أجل، إنّ مواجهة الإسلاموفوبيا في نظرنا لا تكون بالغربوفوبيا، فالتطرف لا يواجه بالتطرف في شرعنا، والتعصب لا يقابل بالتعصب في عقيدتنا، وإنّما يواجه التطرف بالتنوير والإقناع، كما يواجه التعصب بالانفتاح، وليس ثمة تنوير أو إقناع أو انفتاح إذا لم يكن هنالك علم منهجيّ مؤصّل يستند إليه في تحقيق التنوير والإقناع والانفتاح، فالمعرفة الأصلية الدقيقة غير المغشوشة هي السلاح الأحدّ القادر على القضاء على جميع أشكال التطرف والغلو إن في التفكير أو في السلوك أو في الممارسة.

28- ورغبة في صيرورة تلك المعرفة في متناول الخاصّة والعامّة بدرجات متفاوتة، نرى ضرورة الشروع في تأسيس ذلك العلم الذي سمّيناه علم الغرب (=غربولوجيا) سعيًا من خلاله إلى تعريف أبناء الأمّة بذلك الآخر/ الغرب تعريفًا موضوعيًّا علميًّا بعيدًا عن كلّ التعميمات والأفكار المسبقة، والقناعات الموروثة، والمعلومات المبتسرة والمغلوطة، وليكن المقصد الأجلّ من هذا العلم المقترح مواجهة ظاهرة تنامى ذلك الخوف المرضي من الإسلام والمسلمين (=الإسلاموفوبيا والمسلموفوبيا).

29- فعسى أن يتم توظيف هذا العلم من أجل رسم استراتيجيات تعامل رصينة ورشيدة، يسترشد بها صناع القرار في عالمنا الإسلاميّ، وبذلك نحول دون استئثار تلك المؤسّسات والمراكز الغربيّة المتطرفة التي تدعو إلى الصدام والصراع بين الديانات والحضارات والثقافات على حدّ سواء.

30- على أنّه من الحريّ بالتقرير في هذا المقام أنّ اقتراحنا لهذا العلم المنهجيّ والموضوعيّ ليس استسلامًا مهينًا -وحاشانا- للواقع المرزي الذي تعيش فيه الأمة، وليس تحاملًا مقتصرًا على الغلاة والمتطرفين في العالم الإسلاميّ، ولكنّه -والله شهيدنا- التزام بالمنهج الإسلاميّ الرشيد في تعامله مع مختلف القضايا والأحداث والمواقف، ذلك المنهج الذي يُملي علينا التزام الموضوعيّة والإنصاف والتجرد في النظر والحكم والتحليل، كما يوجب علينا ذلك المنهج التزام التوازن والاعتدال والشمول والانفتاح عند التعامل مع الذات أو الآخر، ولا تحقيق لهذا المنهج الإسلاميّ الخالد ما لم يغد ثمة علم ضابط لنظراتنا وأحكامنا وطرق تعاملنا مع أنفسنا من جهة، ومع العالم الآخر من جهة أخرى، ولذلك، فإنّ هذا العلم مرشّح -على الأقلّ- بأن يكون علمًا قادرًا على مكافحة ثقافة التطرف المتنامي في كثير من أقطارنا الإسلاميّة، كما أنّ هذا العلم مرشّح لتمكين المخلصين والجادّين من أبناء الأمة من رسم الاستراتيجيات والخطط العلميّة الكفيلة بالمواجهة العلميّة الرصينة لتلك الاعتداءات الفكريّة والاستفزازات النفسيّة التي يشنّها المتطرفون والغلاة بين الفينة والأخرى بعيدًا عن جميع أشكال ردود الأفعال غير المؤصّلة لتلك الاعتداءات والاستفزازات، بل إنّنا نعتقد أنّ هذا العلم قادر على نسف ما نسجته مؤسسات ومراكز نظريات الصدام والصراع من أفكار ملفقة ومعلومات مغلوطة عن الإسلام والمسلمين من جهة، وعن طبيعة العلاقة الثاوية بين الديانات والحضارات والثقافات من جهة أخرى.

31- والأمل معقود أن يحذو العقلاء ومحبّو السلام والأمان والأمن والاستقرار في العالم الغربيّ حذو العالم الإسلاميّ في تبني مثل هذه المشاريع الفكريّة الهادفة والقادرة على استئصال ثقافة الصدام، واجتثاث عقلية الصراع، ونقض نفسيّة المؤامرات، ليغدو في مؤسساتهم الفكريّة ومراكزهم العلميّة تخصّصات مخلصة تُعنى بدراسة الإسلام والمسلمين دراسة علميّة وموضوعيّة منصفة، فلتكثر عنهم أقسام الإسلامولوجيا، والمسلمولوجيا، ويوم أن يتحقق هذا الأمر، فإنّ ذلك سيكون محاصرة وقضاءً مبرمًا على أطروحات الصراع ونظريات الصدام التي يتبناها المتطرفون من كلا المعسكرين!

المبحث الثالث

في المواجهة المستقبلية لظاهرة الإسلاموفوبيا:
علم الغرب «غربولوجيا» مدخلًا لمواجهة علميّة مستديمة

1- تظلّ المعالجات الجزئيّة والنظرات الانفعاليّة محدودة الأجل، وقليلة المردود الحضاريّ المتماسك، ذلك لأنّ التصورات الجزئيّة لا تحيط بالموضوع إحاطة شموليّة تعين المرء على بلورة استراتيجيّة عمل متكاملة مترابطة متماسكة.

2- ومن ثمّ، فإنّ النظر المتفحِّص فيما جادت به الساحة الفكريّة الإسلاميّة المعاصرة من دراساتٍ وأبحاث وأطاريح ومؤلفات وكتب حول المسألة الغربيّة، يهدي المرء إلى أنّ المعالجات الجزئية كانت حاضرة بالقوة وبالفعل، كما كانت النظرات العاطفيّة والتحليلات الانفعاليّة والتعليقات الانبهارية في تلك الأعمال والاجتهادات الفكريَّة هي الأخرى ذات حظوظ وبروز باهرين في معظم تلك الدراسات والأبحاث والأطاريح.

3- وأما القرارات (المؤتمراتيّة) والتوصيات (الندواتيّة) التي أصدرها السادة المؤتمرون في أصقاع العالم حول المسألة الغربيّة، فإنّها هي الأخرى لم تخل من أن تكون من بنات ردود الفعل لما يقوم به الغرب بين الفينة والأخرى من استفزازات فكريّة لمشاعر الأمة، ونظرات استعلائيّة إلى ثقافة الأمة وحضارتها، وممارسات استخفافيّة تجاه قضايا الأمة، واعتداءات ثقافيّة على ثوابت الأمة، وشماتات حضاريّة لتخلف الأمة في مختلف ميادين العلم والمعرفة، مما جعل معظم تلك القرارات والتوصيات -إن لم يكن كلها- تذهب مع أدراج الأرياح؛ وتغدو -بفعل من البشر- شأنًا على ذمة التاريخ، إذ إنّ الغرب بقي غربًا فكرًا وسلوكًا ومنهج حياة وثقافة، كما أنّ الشرق بقي شرقًا فكرًا وسلوكًا ومنهج حياة.

4- واعتبارًا بوجود تناقض في الرؤى وتضارب في الأفكار إزاء المسألة الغربيّة في الذهنية الإسلاميّة منذ أمدٍ غير قصير، بل اعتدادًا بوجود التناقض والتضارب ذاتهما لدى السواد الأعظم في الديار الغربيّة عن المسألة الإسلاميّة، لذلك، فلا غرو أن يظهر مفكّر متشائم كهنتنغتون ومن على شاكلته ليعلن على الملأ أنّ حرب الحضارات وشيكة وقادمة ولا محالة، ليقنع نفسه وغيره -ممن لا معرفة لهم بالقواسم المشتركة بين الغرب والشرق عقيدة ومنهج حياة- بأنّه لا تلاقي بين الغرب والإسلام، فكلاهما عدوّ يتربض بعضهم لبعض. ولا عجب أن ينهض جمع غفير من الباحثين والمفكّرين للردّ على النظرة الهنتنغتونية التشاؤميّة الصداميّة مقرّرين ومؤصّلين أنّ القادم المنتظر هو حوار الحضارات لا صراعها، وأنّ الجو الذي يسود هو جوّ حوار الأديان، لا تصادم الأديان، وأنّ الثقافة التي ستخيّم على الساحة هي ثقافة التعايش لا ثقافة التنافي والتناحر.

5- وفي خضم تلاحم الرؤى وتناقض الاستنتاجات، تظل النظرات والأطاريح حول المسألة الغربيّة متجاذبة بين مختلف الأطراف والأطياف، ولا نخال الزمان سيجود في العاجل القريب برؤية واضحة يقبلها السواد الأعظم من الناس في العالم[18].

6- وانطلاقًا مما للنظرات المنهجيّة الموضوعيّة من أهميّة بالغة في رسم الخطى وصياغة الاستراتيجيات المتكاملة والشاملة، بل اعتبارًا بما تقوم به المؤسسات التربوية والتعليميّة من أدوار ناجعة في إعداد الأجيال، وتسليحهم بمختلف أسلحة المعرفة، مما يجعل نظراتهم إلى الحياة والوجود والإنسان متسمة بالموضوعيّة والواقعيّة والمنهجيّة، كما يجعل سلوكاتهم إزاء الأحداث وردودهم للأفعال منبثقة عن رؤية واضحة ونظرة فاحصة لا مكان فيها للانفعالات العابرة والعواطف الغامرة، لهذا كله ولغيره، فإنّنا نرى أنّه قد حان الأوان للانتقال بالأبحاث والدراسات والمؤلفات التي نُسجت ولا تزال تُنسج حول المسألة الغربيّة إلى رحاب المؤسسات التعليميّة الأكاديميّة المنظّمة، بحيث يغدو ثمة برنامج دراسيّ أكاديميّ يعرف بـ«غربولوجيا» (علم الغرب) يتم من خلاله دراسة الغرب دراسة أكاديميّة متخصصة، كما يتمّ من خلاله تمكين الأجيال الصاعدة من أبناء الأمة من معرفة الغرب معرفة علميّة موضوعيّة لديانته وثقافته ومنهج حياته، ونظامه، ومبادئه، وقواننيه، ومصالحه، وتاريخه وواقعه.

7- وبطبيعة الحال، إننا نهرع إلى تقرير القول بأنّ ما عرفته الساحة الفكرية الإسلاميّة في الآونة الأخيرة من دعوات ونداءات إلى دراسات استغرابية لا تعدو أن تكون هذه الدعوات والنداءات ردّةَ فعل لما جنت الدراسات الاستشراقيّة على الأمّة، مما يجعل الشأن في الدعوة إلى الدراسات الاستغرابية واقعة في الدائرة ذاتها التي تقع فيها سائر الدعوات المنبثقة عن ردود فعل لما تعاني منه الأمة من ابتلاءات حضاريّة في المرحلة الراهنة.

8- وأما المشروع الذي ندعو إليه فإنّه يتجاوز ردود الفعل، وينطلق من قناعة راسخة بضرورة معرفة الغرب معرفة موضوعيّة أصيلة بعيدًا عن الانفعالات والانبهارات والتهجمات، كما ينطلق المشروع من الإيمان العميق بضرورة البحث عن سبل التفاعل الإيجابي والتعاون المثمر بين المسلم فردًا ومجتمعًا والآخر فردًا ومجتمعًا، ومعلوم أنّ معرفة الغرب معرفة دقيقة تمثل مقدِّمة ضروريّة للتفاعل الإيجابي المنشود، كما أنّ الجهل بالغرب من شأنه تعذر التفاعل والتعاون.

9- وفضلًا عن هذا، فإنّه من الحريِّ بالتقرير أنّ جملة حسنة من العلوم التي نشأت عبر تاريخنا تلبية للحاجات الموضوعيّة الملحة المتعددة، فعلم القراءات، وعلم الحديث، وعلم الفقه، وعلم الأصول، وعلم الخلاف، وعلم العقيدة، علم اللغة وسواها، نشأت كل هذه العلوم تلبية لحاجة المجتمع في تلك الأزمنة الغابرة إلى معرفة الموضوعات التي تعالجها هذه العلوم معرفة عميقة رشيدة رصينة رشيقة.

10- بل إنّ مجموع العلوم المسماة بالعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة من علم نفس، وعلم إنسان، وعلم اجتماع، وعلم اقتصاد، وعلم سياسة وسواها، نشأت هي الأخرى تلبية لحاجة الناس إلى تعميق الفهم بالموضوعات التي تعالجها تلك العلوم. وقد غدا ثمة توجّه رشيد في أروقة المفكّرين الجادِّين إلى تحويل الموضوعات المتعددة الجوانب إلى علوم وفنون مستقلّة، بل إنّ عددًا من مفكّري الغرب -وخاصّة الفرنسيّين منهم- أسّسوا في جامعاتهم أقسامًا بعنوان إسلامولوجيا (علم الإسلام)، وتستقبل تلك الأقسام العلميّة أولئك المهتمين بدراسة الإسلام دراسة موضوعيّة شاملة لمختلف الأغراض. وهذه الأقسام تغلب على توجهها الموضوعيّة والعلميّة خلافًا للأقسام الموسومة بالدراسات الاستشراقيّة التي تمثّل مراكز بحث تُعنى بتقديم المشورة والاستشارة للجهات الراغبة في التأثير في العالم الإسلاميِّ، وتمكين الهيمنة الغربيّة على توجهاته وسياساته ومواقفه.

11- ولهذا، فلقد فضلنا أن نصطلح -غير مسبوقين- على هذا العلم الجديد المقترح علم غربولوجيا (علم الغرب لا علم الاستغراب) انطلاقًا من إيماننا بأنّ الغرب غدا اليوم موضوعًا واسعًا لا يمكن الإحاطة بجوانبه المتشعبة المتداخلة المعقّدة إلا من خلال دراسة موضوعيّة منهجيّة متسلسلة مترابطة تتخذ من الأصالة الأكاديميّة والرصانة المنهجيّة أساسًا لتقديم الرؤى والآراء والأفكار.

12- فالغرب اليوم لم يعد مدلولًا مختزلًا في موقع جغرافي ضيِّق أو واسع، بل غدا الغرب مدلولًا علميًّا ومنظومةً فكريّةً واجتماعيّةً وسياسيةً واقتصاديّةً وثقافيةً وتربويةً، وتاريخيّةً، وأمست معرفة هذه المنظومة المتكاملة متوقفة على صيرورتها مادةً علميّةً وبرنامجًا أكاديميًّا يتطلب فهمه الدراسة العلميّة الموضوعيّة الشاملة.

13- إنّنا نزعم اليوم أنّ ثمة حاجة موضوعية ومنهجية إلى تأسيس هذا العلم الجديد في أروقة الجامعات والمعاهدات والكليات في أنحاء المعمورة، ذلك لأنّ فهم السواد الأعظم من أبناء الأمة للمسألة الغربيّة تعوزه الموضوعية والمنهجيّة والواقعيّة، كما تفتقر في كثير من الأحيان إلى الموضوعيّة في الطرح والتحليل، والمنهجيّة في الفهم، والواقعيّة في التعامل، والاستشرافيّة في التخطيط، مما أدّى إلى وجود تصورات متعددة متناقضة للغرب في الذهنية الإسلاميّة المعاصرة. فالغرب عند كثير من المسلمين صورة لعالم مغمور بنزعة السيطرة والتفوق والمركزية الذاتية، والغرب عند مسلمين هو ذلك العالم الأكثر إنسانيّة وتحضرًا، وهو معقل الحرية والعقلانية والإبداع.. والغرب عند طائفة ثالثة من أبناء الأمة عالم كله مصالح، فحيثما المصلحة فثمة الغرب، ولا وجود في ذلك العالم لشيء اسمه القيم والمبادئ والقوانين، بل المصالح ثم المصالح، فهي التي تحكم كل شيء!

14- ومحاولة لحصر الصور المتناقضة عن الغرب، حاول بعض الباحثين المعاصرين الجادين استقراء أهمّ تلك الصور القارة للغرب في الذهنية الإسلاميّة المعاصرة، فقال -موفقًا في تحليله- ما نصّه: «.. أما الغرب، فقد تغير مفهومه.. بشكل لا يمكن اختراله في مدلول جغرافي وحيد أي أوروبا الغربية دون أمريكا، ولا حتى أوروبا وأمريكا الشماليّة، فلا هو غرب أيديولوجيا التنوير والعولمة والحداثة وما بعد الحداثة، وسيادة القانون، والمساواة، والحريات المطلقة النابضة بشتى حقوق الإنسان، ولا هو غرب الجنس الآري المتفوق، أو الدم الأزرق، أو النازية، أو الفاشية، أو الوجودية، أو حتى النزعة الإنسانية الطاوية في جوفها لمقاصد عامرة بالتفوق والاستعلاء. إن الجذر الأساسي للغرب هو مزيج من الجغرافيا والديانات اليهودية والمسيحية وكذا الأيديولوجيات، وحركات النهضة والتجديد والتنوير.. هو الغرب الموغل في الثقافة الهيلينية أي مزيج الحضارات والفلسفات الإغريقية والرومانية والمذاهب المسيحية الكاثوليكية والبروتستانية والقبطية إضافة إلى اليهوديّة التي جاءت وفي جوفها الأطروحة الصهيونية بأساطيرها واستراتيجيتها العنصرية الدموية وعقدها وبرامجها الدينية والدنيوية.. فالغرب الحالي هو المزيج من أهمّ وأحدث الاكتشافات التقنية لتنمية وتطوير ملكات ومجتمع ودولة الإنسان الفرد.. وهو المزيج المركّب من الشركات الكبرى القابضة والعابرة للقارات وكذا المؤسسات المالية والإعلامية والاقتصادية العملاقة ذات الشبكات المتطورة والمتعددة.. وهو أيضًا (الغرب) ذلك المزيج المركب من أحدث صيحات وفنون الآداب والإبداع المحمولة عبر الوسائط الإعلامية والاكتشافات التكنولوجية القادرة على توصيل المعلومات وتشكيل الصور والرؤى والأفكار مادامت تتمتع بجملة مسميات وتمظهرات.. وهو أيضًا غرب الجمعيات الخيرية الإنسانية (المسيحية) والتطوعية والمواقف النضالية المتعاطفة مع الفقراء ضد نزعات الاستنساخ وتحديد النسل والإجهاض. وهو غرب التفوق الرياضي والفني الذي أصبح صنعة كما تقول الأعراب وفي جوفه الهواية والاحتراف ونزوع التفوق والإبداع وتكسير الحواجز والأرقام الدالة على قوة عزيمة ذلك الإنسان..»[19].

15- إنّ هذا التحليل الوافي والضبط الدقيق لعدد من صور الغرب عند المسلمين يعدّ في مغزاه ومعناه تقريرًا وتأكيدًا على ضرورة صيرورة المسألة الغربية (الغرب) موضوعًا دراسيًّا جديرًا بالتخصص فيه تخصصًا أكاديميًّا، وذلك بغية إعداد جيلٍ كفءٍ قديرٍ ومتمكنٍ من فهم الغرب فهمًا موضوعيًّا رصينًا رزينًا.

16- وصفوة القول، يحدونا أمل فسيح في أن يجد هذا المقترح دعمًا فكريًّا وتشجيعًا معنويًّا وماديًّا من أولئك الغيارى المهتمين بمسألة التواصل الإيجابيّ مع الغرب على كافة الأصعدة تخفيفًا على الذهنية الإسلاميّة تبعات التناقضات المفاهيمية والتصوريّة عن الغرب. وإنّنا لعلى ثقة أنّه يوم أن يغدو هذا المشروع واقعًا ملموسًا، فإنّ على العالم الإسلاميّ أن يسعد -يومئذٍ- بجيل يفرض على الغرب احترامه وتقديره والتعامل معه بنديّة. على أنّه من الجدير ذكره أنّه من الممكن البدء في تنفيذ هذا المقترح على مستوى الدبلومات، فالدراسات العليا، ثم الدراسات الجامعيّة.

خاتمة الدراسة

التزامًا بمنهجيّة الأكاديميّين الجادّين في تضمين الخاتمة أهم النتائج التي يتوصل إليها الباحث، أراني ملتزمًا بتلك المنهجيّة الرشيدة في البحث، وذلك بتلخيص أهم نتائج هذه الدراسة المتواضعة في النقاط التالية:

أولًا: إنّ لظاهرة الإسلاموفوبيا جذورًا تاريخيّة ضاربة بظلالها الكثيفة في أعماق التاريخ، بيْد أنّ القيم السامية والمُثُل العليا التي تتضمنها تعاليم الإسلام تمكنت عبر التاريخ من تحويل ذلك الخوف المَرضيّ إلى الأمان والأمن والاستقرار، إذ عمّت السعادة والرخاء والهناء والمحبة والأمان جميع أتباع الديانات والحضارات والثقافات يوم أن كانت شمس الحضارة الإسلاميّة ساطعة. وسيرة الإسلام والمسلمين في الأرجاء خير شاهد على ذلك الانفتاح وتلك الرحمة والسماحة التي تميّزت بها الحضارة الإسلاميّة عبر التاريخ الإنسانيّ.

ثانيًا: إنّ الانتصار المفاجئ للمعسكر الغربيّ على خصمه اللدود المتمثّل في المعسكر الشرقيّ عشية انهيار الاتحاد السوفياتيّ كان فرصة لدعاة صدام الحضارات وصراع الديانات للبحث عن عدوّ جديد بديل للعدوّ المنهزم، ولم يكن ثمة عدوّ يتوافر على المخزونات العقديّة والموروثات الفكريّة والمنجزات التاريخيّة أكثر من الإسلام والمسلمين، ولذلك، كان طبيعيًّا أن يتوجه صوبه أولئك الدعاة ليعدّوه العدوّ الأوحد الذي يجب إزالته من الوجود أسوة بالدبّ الأحمر الذي استسلم لقدره، وأخلى الجوّ للمعسكر الغربيّ المنتصر ليبيض ويصفر كيفما يشاء!

ثالثًا: لقد استغل دعاة نظريات الصدام والصراع الفراغ الفكريّ والخلاء العلميّ المتمثل في الجهل المستشري بحقائق الديانات والحضارات والثقافات، فملؤوا العقول والأفهام بمعلومات مغلوطة وملفقة عن الديانات والحضارات والثقافات، وسمّموا الأذواق، وأظهروا أصدقاء الأمس أعداءً تمهيدًا لتأجيج نار الفتن الدينيّة والقلاقل العرقيّة، ولم يكن من عجبٍ أن تتحوّل المحبة والمودّة بين المعسكرين إلى كراهية وبغضاء، بل تحوّل الأمان والاستقرار الذي كان قائمًا بين المعسكرين إلى خوف واضطراب وقلق.

رابعًا: إنّ الجهل بحقائق الديانات والحضارات وخاصّة الديانة الإسلاميّة والحضارة الإسلاميّة لا يتوقف على أولئك المتطرفين والغلاة دعاة الصدام، بل إنّ المتطرفين والغلاة في الديار الإسلاميّة يتقاسمون مع نظرائهم الجهل نفسه، إذ إنّهم لا يقيمون لتلك الحقائق والمثل والقيم وزنًا، بل يرمون بها عرض الحائط، مما يدفعهم إلى ارتكاب متن الشطط والغلو، فيرتكبون الكبائر بسفك الدماء البريئة، وهتك الأعراض المصونة، وإبادة الأموال المحترمة باسم الإسلام والإسلام منهم براء، ويعدّ جهل هؤلاء وأولئك سببًا وجيهًا للتنامي المتجدد لظاهرة الإسلاموفوبيا والغربوفوبيا.

خامسًا: إنّ مواجهة التنامي المتصاعد لظاهرة الإسلاموفوبيا يمكن أن تتم على مرحلتين، أولاهما المواجهة الآنية العاجلة، وتتمثّل في المواجهة السياسيّة الرشيدة التي تستفيد من الثقل الدبلوماسيّ والحضور السياسيّ للعالم الإسلاميّ في المحافل الدوليّة من أجل صياغة قرارات وقوانين تجرّم الاعتداء على الأديان والحضارات والثقافات، كما تتمثّل في المواجهة الاقتصاديّة الرصينة التي تتخذ من المقاطعات الاقتصاديّة المدروسة وسيلة من وسائل الضغط على صنّاع القرار في الغرب من أجل صدّ سفهائهم عن إهانة المعتقدات والثقافات.

سادسًا: أما المواجهة الثقافيّة الرشيقة، فإنّها تتمثّل في دعم المؤسّسات والمراكز المناهضة لنظريات الصدام والصراع، كما تتمثّل في تصحيح الصور المشوّهة من خلال المسرحيات والأفلام ووسائل الإعلام والتأثير المختلفة. وأما المواجهة الاجتماعيّة، فإنّها تتمثّل في تذكير المسلمين في الديار الغربيّة بضرورة القيام بدورهم الحسّاس في تصحيح صورة الإسلام من خلال التزامهم وتمثّلهم مبادئ الإسلام وقيمه ومثله، كما تتمثّل في معايشة الغربييّن ومخالطتهم متاجرةً ومصاهرةً ومجاورةً أملًا في تغيير ما ران على أفكارهم وعقولهم من صور مشوّهة عن الإسلام والإنسان المسلم بشكل عامّ.

وفضلًا عن هذا، فإنّ على المسلمين سواء أكانوا مواطنين أم زائرين أن يبتعدوا عن إثارة الخلافيات التي تعمّ بها البلوى في العالم الإسلاميّ، فالوجود الإسلاميّ لا يطيق الخلافات العقديّة، والانشقاقات المذهبيّة والانقسامات التربويّة، بل يسعه الإسلام الشامل الجامع الموحّد. ولذلك، فإنّ أيّ إثارة لمواطن الفتن الطائفية أو الخلافات الفروعيّة، يصبّ ذلك لصالح تنامي ظاهرة الكراهيّة، إذ إنّ تعذر تعايش المسلمين بعضهم مع بعض آكد دليل على تعذر تعايشهم مع غيرهم الذين يخالفون في المعتقد والسلوك.

سابعًا: دعت الدراسة إلى تأسيس قسم خاصّ في الجامعات والمعاهد والكليات يُعنى بدراسة الغرب دراسة موضوعيّة منهجيّة متكاملة متوازنة أملًا في توظيف تلك المعرفة لتحقيق مواجهة علميّة موضوعيّة قادرة على وقف التنامي المتجدد لظاهرة الإسلاموفوبيا، وذلك من خلال القضاء المبرم على الأساس الذي تنطلق منه تلك الظاهرة، وهو الجهل الذي يكافحه هذا العلم المقترح، ويسعى إلى محوه وإزالته.

ثامنًا: أوضحت الدراسة أنّ الغرب الذي يُتعامل معه اليوم لم يعد مصطلحًا معبّرًا عن موقع جغرافيّ أو كيان عقديّ، بل أمسى مصطلحًا دالًا على منظومة متكاملة تنتظم ديانات وثقافات وقيمًا ومصالح، ومناهج حياة، وأساليب تفكير، وكل واحد من هذه الأبعاد في المسألة الغربيّة يحتاج إلى دراسة ووعي وتفهم سعيًا إلى حسن فهم للغرب، فحسن ضبط للأساليب المثلى للتعامل والتواصل معه. وبطبيعة الحال، لا يعدو هذا العلم المقترح تأسيسه من أن يكون دعوة إلى تجاوز تلك الانطباعات غير المدروسة، والنظرات الموسميّة العابرة، والاجتهادات الظرفية المضطربة في الشأن الغربيّ، والحال أنّ هذا الشأن ضليع في التعقيد والتشابك، مما يقتضي التعامل معه بموضوعيّة صارمة ومنهجيّة ضابطة.

أخيرًا: لا سبيل موضوعيّ منهجيّ إلى القضاء المستديم المبرم على ظاهرة الإسلاموفوبيا ما لم يستأصل جذره ويجتث من الأرض، ونخال غربولوجيا (علم الغرب) ذلك العلم الأقدر على تحقيق ذلك القضاء بصورة موضوعيّة ومستديمة.

هذه بعض النتائج الهامّة التي توصلنا إليها، وبهذا نصل إلى نهاية هذه الدراسة المتواضعة، وأملنا أن نكون قد وفقنا فيها إلى تقديم وجهة نظر يجري عليها ما يجري على غيرها من اجتهادات البشر من نقص وقصور، والله المسؤول أن يوفقنا إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، إن نريد إلا الإصلاح ما استطعنا، وما توفيقنا إلا بالله العليّ العظيم.

 

 



[1] لمزيد من التحليلات العلميّة الرائعة لهذا الموضوع، يراجع:

Muhammad Arif Zakaullah: Cross and the Crescent: The Rise of American Evangelicalism and the Future of Muslims (Kuala Lumpur, The Other Press 2004) pp55-71

 

[2]  انظر: حوار الحضارات: تحليل نقدي لظاهرة الإسلاموفوبيا، عبد الله صالح أبو بكر (طبعة هيئة الأعمال الفكريّة، طبعة عام

2002م) ص95 - 107 بتصرف واختصار. 

 

[3]  انظر:

Huntington: The Clash of Civilization ( Foreign Affairs, Summer 1993)

 

[4]

Huntington: The Clash of Civilization and the Remaking of World Order ( Simon & Schuster, New York 1996)

 

[5]  انظر:

Fukuyama, F: The End of History and the Last Man (New York, Free Press, 1992).

 

[6]  انظر:

Hadar L: What Green Feril? (Foreign Affairs, Spring 1993)

 

[7]  انظر:

Barber B: Jihad Vs Mc World (New York, Times Books 1995)

 

[8] بطبيعة الحال، ليس من الموضوعيّة ولا من المنطق إدانة المسلمين أو غيرهم بارتكاب هذه الجريمة، ولكنّه في كل الأحوال،

يجب إدانتها سواء أكان مرتكبوها مسلمين -لا قدر الله- أم كانوا غير مسلمين. فهذه الجريمة لا تقرها الأديان ولا الأعراف ولا التقاليد، ولا ينبغي لامرئ أن يفرح بها أو يفتخر بها كما فعل بعض سفهاء الأمة!

 

[9] لمزيد من المعلومات الضافية عن الآثار الوخيمة التي نجمت عن هذه الحادثة المفجعة، ينظر: العالم الإسلامي وتحدّيات 11

 سبتمبر 2001م: الواقع والمآل - محمد بشاري - (دمشق، دار الفكر، طبعة أولى لعام 2006م) 

 

[10] لمزيد من المعلومات الضافية حول هذا الموضوع، يراجع: الاستشراق - إدوار سعيد - ترجمة كمال أبو ديب (بيروت، طبعة

أولى لعام 1981م).

 

[11] لمزيد من المعلومات حول هذه الأدوار المختلفة للمراكز الاستراتيجيّة، ينظر: الصراعات الأصوليّة والحداثة - محمد سبيلا

- (الرباط، سلسلة المعرفة للمجتمع، طبعة عام 2000م). كما ينظر: الاستشراق والخلفية الفكريّة - محمود حمدي زقزوق - (الدوحة، كتاب الأمة..).

 

[12]  انظر: نحن والعالم - زكي الميلاد - (الرياض، مؤسسة اليمامة الصحفية، طبعة أولى عام 2005م) ص12 - 13 باختصار

وتصرف.

 

[13] لمزيد من المعلومات حول هذا التاريخ الوافي والوافر يراجع: صور من تسامح الحضارة الإسلامية مع غير المسلمين -

سلامة محمد الهرفي البلوي - (الشارقة، مكتبة الصحابة، طبعة أولى لعام 2003م)

 

[14] الإشارة هنا إلى تلك المجموعات المتطرفة الشاذة التي غدت اليوم تفجّر نفسها، وتهلك الحرث والنسل، وتزرع الرعب

والخوف في الأنفس والآفاق، وتروّع الآمنين بأمان الدين أو بأمان الدار داخل العالم الإسلاميّ وخارجه استنادًا إلى تأويلات جائرة للنصوص القرآنية والحديثيّة، وانطلاقًا من أفهام مريضة عليلة لمبادئ الإسلام العليا وقيمه السامية ومثله السمحة، ومن المؤسف اليوم أن هؤلاء الشرذمة الخارجة على الشرع والعقل تدعي -بصنيعها- نصرة الإسلام الذي جعله الله رحمة للعالمين، ولا يشكّنّ أحد أنّ هذا الإسلام الرحيم الرؤوف منهم براء، كما لا تعدو تصرفاتهم أن تكون سلوكات زمرة من أولئك المفتونين الذين يسيئون يومًا بعد يوم إلى سمعة هذا الدين الحنيف الذي حرّم تحريمًا قاطعًا سفك الدماء البريئة، وهتك الأعراض المصونة، وإبادة الأموال المحترمة مصداقًا لقوله K في الحديث الصحيح: «إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا!».

 

[15] لمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع، ينظر: الإسلام والحوار مع الحضارات المعاصرة - محمد خليفة حسن - (

القاهرة، مركز الدراسات الحضاريّة ، العدد الأول).

 

[16] انظر على سبيل المثال: الندوة الدوليّة في موضوع القيم الإسلامية ومناهج التربية و التعليم (مجلة البصيرة التربويّة، عدد

خاص، العدد الأول أكتوبر لعام 2006م) ص196 وما بعدها.

 

[17]  انظر: حوار الحضارات - مرجع سابق - ص158.

 

[18]  انظر: العلاقة مع الغرب: الموضوع، الإشكالية، المنهج، عبد الله إبراهيم (المركز الثقافي العربي، طبعة 2000م) 23 وما

بعدها.

 

[19]  انظر: حوار الحضارات - مرجع سابق - ص91 - 92 بتصرف واختصار.