من هو الآخر ذلك الذي نريد أن نتجاهله، والمتواري وراء استقطابات الهوية وأنانية التفرد والنرجسة ، فيولي منا موارباً بذاته ـ هو أيضاً ـ على نحو القطيعة والنفرة من آخرية لا تعنيه ، و لا تستفزه ولا تغريه بمفازة التباري والتنافس والتمثل ، بل تدفع به نحو هاوية عدم الاكتراث والتعرف على ملمح الآخر وحقيقته ، هذه الإمتثالية المفتقرة إلى نور العقل وبصيرة الوعي بالذات ، وتذكي لافاعلية الوجود الإنساني وتحيله إلى برود كل السجايا الإنسانية المتعالقة في معنى الآدمية وحركتها ، بل تسكنه في شرنقة تخنقه بذاته الكسولة ، وتحيله إلى جمود الرغبة في الحياة وعدم الأستقواء والتدافع المثمر مع الغير ؟!
هل الآخر ذلك المعرف لذاتيتنا المستترة والقابع في متن الواقع الحي، هو ما نريد إلغائه وإقصائه من إدراكنا باعتباره جحيماً،
هو ما نريد تسخيره لفعل القسوة والاستعداء والمبارزة لعلنا نظفر بتطهير الأرض منه، لنحافظ على طهرانيتنا المزعومة، ونتقرب بذلك إلى المطلق، ونحوز بذلك على الجنان والنعيم الأبدي … ؟!!
أم أن الآخر هو محض مسخ، ليس له شكل أو سمات أو كيفية أو تفاصيل تعرفه، فهو خارج الماهية والهوية والمعيارية والتاريخ والمكان والزمان، وهو بالتالي خارج الوجود ومنفياً بالضرورة منه ؟!
الآخر هو نص الوجود المشابه لوجودنا، والذي يجب قراءته بإمعان وبكل دقة، لكي يتم التعامل معه بدراية تستوفي اشتراطات معقولية علاقتنا معه، وترسيم الأفق الإنساني بيننا وبينه على نحو السواء والغيرية الآدمية، ولكي يكون مخاض التلازم العلائقي بيننا وبينه واعياً لحقيقة التباين والاختلاف وحتى التدافع والصراع.
الآخر الذي يجب أدراك مدارات حقائقه الموضوعية تاريخياً، بمسارات تطور المفهوم في الذهن والشعور والواقع البشري، هو ما يجب تدوير استزراعه في ثقافتنا العربية والإسلامية، وجعل ركائز تنمية مفهوم الآخر وإشكاليته في سلم أوليات المسألة الثقافية.
الآخر هو بداية المعرفة الوجودية، يوم خلص الإنسان إلى أنه له مثيل، ولو كان خيالياً، أو لامرئياً على مستوى الحواس، فالإنسان البدائي جعل من الطبيعة والحيوانات آخراً، وأخذ يضفي عليهما صيغ المنافس الوجودي الأقوى تارةً، فذهب يتفادى قهرها وبطشها بمزيد من أسطرتها، التي تتناغم مع خيال خصب يفسح المجال بتلقائية لتصور وجودي يحدد قدرة الإنسان المحدودة في مداها المكاني والزماني، وليفترض وجود عوالم أخرى قد تكون أقوى وأقدر في تأثيرها على الإنسان ومصيره.
من هنا جاءت فكرة < الطوطم > والذي كان بمثابة الآخر عند الإنسان البدائي، وهو الحيوان أو النبات الذي ترتبط باسمه العشيرة عند الشعوب البدائية، فيحرمون أكله على أنفسهم، لأنهم يعتبرونه جدهم الذي انحدروا منه، ويسمون أنفسهم به، ويطلقون عليه أسم < العشير >؛ وكذلك كانت ظواهر الطبيعة طوطماً؛ كما أعتقد الإنسان البدائي بأن الآخر القوي والمهيب الذي يجب الخلوص والطاعة له هي الروح أو النفس التي تحي الطبيعة، فالنفس حسب المفاهيم البدائية، حيوان مارد ومستنفر، يسكن في كل الأشياء، وهي مبدأ الحياة.
ثم سارت المجتمعات نحو التقسيم الطبقي، وصار الآخر مؤنسناً غيرياً، أي أن الإنسان أصبح آخره هو الغير الإنساني، وليس الآخر الأسطوري، وبدا وكأن الآخر قدراً طبقياً لا مفر منه في منظورها، حيث ساد التقسيم على أساس أسياد وعبيد، أغنياء وفقراء، فصار الآخر لكليهما هو نقيضه، والتمثيل الحضاري لذلك التقسيم، هو ما كان قائما في حضارتي سومر وأكاد.
وفي الحضارة البابلية انبثقت شريعة < حمورابي > لتنظم دوائر تلك العلاقة الطبقية بين فئات الناس، ولتجعل التنظيم الاجتماعي أكثر فاعلية في الحراك الفئوي والطبقي لمجتمع الحضارة البابلية، وبذلك صار الفرد قادراً على الانتقال من فئته أو طبقته صعوداً أو نزولاً بمقدار همته وكسبه أو فقده وخسارته، وصار بذلك الآخر/ الغير في الحضارة البابلية وما تبعها من حضارات قريبة العهد بها، قدراً اجتماعياً بعد أن كان قدراً طبقياً محكماً لا يمكن الفرار منه، وقبل ذلك كان قدراً طبيعياً عند الإنسان البدائي.
أما في الحضارة الفرعونية فكان مفهوم الآخر/ الغير قائماً على أساس التفاوت بين طبقة الحكام وطبقة العبيد، فرعون الطاغية من جهة، والرعية المستعبدة المستجيبة من جهة أخرى، وكانت العلاقة بين فرعون ورعيته قائمة في كل أشكالها على تكريس نظام عبودية الغير وإخضاعه.
الحضارتين الإغريقية والرومانية، وبقدر ما أنتجت من مباهج المعارف الإنسانية وأسست لها، خصوصاً عند الإغريق، الذين " أنتجوا اتجاهاً أخلاقياً جعل حب الإنسانية ( philanthropy ) والتعليم أسمى القيم الإنسانية... وفي التأكيد على نعمة أن يعيش الإنسان وسط أقرانه وكفاحه من اجل الشعور بحب الآخرين والإحساس بقيمة الحياة في وسط جماعة " ( 1 )؛ بقدر ما حافظت على تراتبية نظام الواقع الاجتماعي القائم على العبودية، والذي كان الآخر / الغير فيه مستعبداً ودونياً ومستلباً لإرادته، وكان بعض ليس بقليل من أنتاجهم الفلسفي والأدبي موظفاً ليتناغم مع ذلك الواقع السيئ، وليجعلوا من نظامهم المعرفي يوتيبياً موغلاً في مثالية مفرطة ليس لها إلا قليل من التماس مع واقعهم، وإن كانوا قد دفعوا التوجه الإنساني في أنظمة المعارف الإنسانية دفعة كبيرة نحو الأمام.
وبعد أن جاءت الديانة اليهودية لم تخترق كثيراً نظام الفهم الإنساني لمستويات العلاقة مع الآخر / الغير، إلا من حيث جعل الفقراء العبيد هم أيضاً رموزاً في مملكة الرب، وأن كانوا ليسوا أحراراً في اختيار مستوى إنسانيتهم وتقرير مصيرهم، ولتجعل النظام الاجتماعي بطركياً ( أبوياً ) بشكل مقدس، يخضع له الراعي / السيد بشكل قليل وبمقدار ما يحفظ لمملكة الرب صونها من الآخر / الغير العدو، ويخضع له الرعية بخضوعهم للراعي / السيد الذي يحفظ مملكة الرب.
وكذلك الأمر كان بالنسبة للديانة المسيحية، التي ربما قربت أكثر الرعاية الربانية للفقراء والمقهورين والبسطاء، بأن جعلتهم قادرين في البحث عن الخلاص الرهباني، بالانقطاع عن الحياة الدنيا وشؤونها وتركها للآخر / الغير، البعيد عن مملكة الرب والذي لا يستحق أن يتنافس معه المؤمنون، ومن قال بغير ذلك فهو غير خاضع للسلطة الكنسية التي لن تغفر له، ويجب طرده من مملكة الرب، بواسطة السلطة السياسية التي كانت المنفذ الأساسي للإرادة الكنسية وسلطتها، وبذلك تم تقعيد المقولة التاريخية ( المقدسة في العرف المسيحي ) ترك ما لله لله وما لقيصر لقيصر، فكان الأخر / الغير داخلياً هو من يريد أن يخرج على سلطة الكنيسة فيتم عقابه، والآخر / الغير العدو أحياناً هو من أتباع المذهب المسيحي الآخر، الذي يجب خضوعه للسلطة الكنسية الأقوى في المكان والزمان، والآخر / الغير، العدو الأكبر فيما بعد وبالذات في القرون الوسطى وفي ظل ممالك مسيحية قوية عدة وعتادً، والذي هو من أتباع الديانات الأخرى المنافسة للدين المسيحي مثل الدين الإسلامي الذي بسط نفوذه إلى الفضاء المسيحي نفسه، وبذلك كان الآخر / الغير الديني بالنسبة لهم هم أتباع الدين الإسلامي ، الذي كانت الحروب الصليبية تسميت في مهمات تحجيم امتدادات فضاءه الديني والجغرافي والذي وصل آنذاك إلى قلب الغرب المسيحي.
بمجيء الدين الإسلامي، وفي بداية تشكله التاريخي، في مدار جغرافية الجزيرة العربية وما حولها، تكونت نظرته إلى الوجود والعالم على أساس النظرة التوحيدية الكلية، التي أسس لها النص القرآني، ونموذجية المثال النبوي، وعلى أساس أن هذا الدين أنما جاء للناس كافة، المؤمنين بديانات توحيدية سابقة لهذا الدين الجديد وغيرهم من كافرين ووثنيين..، فهذا الدين هو المكمل الضمني لسيرورة المنظور التوحيدي للعالم، بل هو نهايتها من حيث هو خاتم النبوات، وعلى الآخرين أن يعوا التراتب الوظيفي لمهمات الرسالات من حيث تكاملها التاريخي في مسار الوعي الإنسان، وسعة نموذجية تصحيحاتها لمستوى الانحراف الذي يطرأ على نظارة الديانات السابقة، ولقد دعا الدين الإسلامي أتباع الديانات الأخرى تارةً إلى الدخول في هذا الدين أو لا أقل العودة إلى نموذجية تعاليم دياناتهم وتصوراتها السليمة، على أسس توحيدية لا لبس فيها، وكل تعاليم الدعوة النبوية هذه جاءت ضمن أطار الدعوة السلمية للإستقطاب بالقول الحسن والكلمة السواء والجدل الاعتباري لخصوصيتهم وهوياتهم، الأمر الذي دشن أسلوباً جديداً لمهمات الداعية الديني في مسارات الديانات وتاريخية تصوراتها، وجعل المهام الدينية تسير بموثوقية عالية نحو الإقناع والحوار الحر، وسواء كان الجدل أو الحوار بشأن خالق الكون والعالم ، أو في صلب القول العقيدي والتشريعي ، وكذلك في مدى صحة التصورات الدينية وأحقيتها التي يريد الدين الإسلامي أن يبثها بمعقولية بعيدة عن الفرض والإقناع بالقوة، وإذا كان لهذا الدين كل هذا القدرة على استيعاب الآخر والصبر عليه دون حرج، ومناظرته وجعل الحقيقة ببعديها المادي والمعنوية ، المرئي منها واللامرئي ، هي مسار التشكل النهائي لمهمات الدعاة إلى الخالق جل شأنه ، أن دين هذا هو أسلوبه الأمثل ، سيظفر بانتشار خاطف وسريع ، قوامه التصور المفتوح للآخر / الغير ، بني على أساس (( وأنا وإياكم لعلى هدىً أو في ظلال مبين )) الآية ، وعلى أن الآخرين يملكون جزء من المعقولية التاريخية في دياناتهم ، أو في ثقافاتهم وهوياتهم وأخلاقهم ، وبالتالي في المستوى الحضاري الذي يعلقون فيه بشكلٍ سليم ويخدم مصالحهم الإنسانية المتقدمة ، ولم يكن لهذا الدين أن يعيق مسار تقدم الأمم بل كان يزيل العوائق خصوصاً القيمية ، ليهديها معيارية أكثر دافعية لمهمات إنجازها ، بل كان الإنسان المسلم لا يتورع ولا يكابر بكبرياء الفاتحين أو المنتصرين ، على أن لا يأخذ من تلك المجتمعات والأمم التي راح يدعوها للدين الحنيف ، بل أخذ كل ما يراه مناسباً من معارف قيمة أكثر نضجاً وتتطوراً مما ليس في نظامه القيميي، وإذا كان لا يتعارض مع قيميه الدينية الأساسية ، وكذلك كان المسلم تلميذاً نجيباً تعلم جل معارف ومكتسبات تلك الأمم النظرية والمادية ، فكان إن تجلت صورة الآخر / الغير على نحو نموذجي ، مما مكنهم من الاستفادة منه وإفادته، وإن اختنقت هذه الصورة فيما بعد جراء أن نهجت الدولة الإسلامية القهرية في مسارها التاريخي أسلوباً توسعياً قصده الأساس توسيع دوائر الخلافة ، لا توسيع دائرة انتشار الدين الإسلامي ومهام الهداية النموذجية التي أرادتها الرسالة المحمدية، فكان ما كان من ردات فعل تلك الشعوب والأمم على ذلك النهج الحاد ، بالإضافة إلى مسوغات الحرب المضادة للأمصار والبلدان التي لم يتمكن منها المسلمون بشكل كامل من حيث الدعوة والانتشار، وكذلك الخوف من الانتشار الإسلامي عل حساب الديانات الأخرى ، فكانت حروب الأفرنجة ( الصليبية ) ، بداية لتقهقر صورة الآخر/ الغير في الذهنية والتصور الإسلامي، وجعل مهمات الانتشار الإسلامي معطلة ، بل ومتقهقرة خسر فيها المسلمون كثيراً من المواقع المتقدمة ، وبدا الآخر في ذهن الإنسان المسلم أفرنجياً أو غيره ، مشوهاً بالتسميات القادحة ، الغير مرغوب في بقائه في الوجود ، ولا سبيل إلى هدايته ، فأما إلغائه أو العزلة عنه ، وصار الآخر / الغير، البعيد قصداً ، هو الآخر / الغير القريب المختلف مشمولاً بذات التصور الذي أصبح نمطياً ضمن سيرورة الإنحباس التاريخي الذي لا تزال الذات المسلمة عالقة في شرنقته الأثيرة ، وكذلك ما سطره كتبة علم الملل والنحل التي أوعز لهم السلطان كي يصفوا الآخر منقوصاً مشوهاً يحمل دائماً صفات النبذ والطرد من الملة بما يحمله من قناعات غير منسجمة ، أما مع المذهب المهيمن ، وأما مع النظام الحاكم ، أو مع كليهما ..!
المعنى العام لمفهوم < الآخر > هو: الغير، أي المختلف؛ وكانوا يطلقونه على الأشياء، وأيضاً الحالات المعنوية؛ ان الآخر هو السوى المغاير، الذي يقابل الذاتي، والمشابه.( 2 ) < والغير > هو: أحد تصورات الفكر الأساسية، ويراد به ما سوى الشيء مما هو مختلف أو متغير منه؛ ويقابل الأنا ، ومعرفة الغير تعين على معرفة النفس .( 3 )
ويتأتى المفهوم الأولي فلسفياً لمصطلح < الآخر / الغير > من خلال الطابع الأنطلوجي للفلسفة اليونانية والتي رسمت له معنى متقابلاً لمعنى الهوهوية ، وهو المعيار المحدد لمعنى الكينونة أو ما يميزها عن غيرها ، كما قال بذلك سقراط ، والذي عززه أرسطو بصياغته المنطقية المعروفة لمبدأ الهوية ، والذي تؤكد على أما أن يكون الشيء هو هو ، وأما ان يكون مخالفاً لذلك .
الأمر الذي سارت بداية الفلسفة المعاصرة على منواليته، فأكد ديكارت على مفارقة الأنا الفردية الواعية، بعيداً عن تدخل الآخر في عمليات البحث الأنطلوجي، وحتى أن البحث عن الآخر يكون استدلالياً أيضاً بعيداً عما يقدمه هو عن نفسه، ويكون الآخر بذلك ملازماً للكوجيتو.
أما هيجل فنحى قليلاً لموضعة الآخر بالقرب من وعي الذات حينما وصل في كتابه الشهير " علم ظهور العقل " إلى النتيجة التالية:" إن الوعي بالذات هو الانعكاس المشتق عن حضور العالم الحسي والعالم المدرك؛ الوعي بالذات ماهيته العود إلى ذاته ابتداء من المغايرة. أنه بما هو وعي بالذات حركة.( 4 ) وبذلك يكون هيجل أول فيلسوف تجاوز الشعور السلبي باتجاه الآخر، وهشم جدار العزلة الإبستيمية بين الذات وآخرها ؛ وان جاء من بعده أوفياء المدرسة الديكارتية كهوسيرل الذي أصر على ملازمة حضور الآخر في الكوجيتو ؛ فيما ذهب الوجودي هيدغر في كتابه < الوجود والعدم > ، " إلى أن الأنا لا يمكن توجد إلا في إطار علاقتها مع الآخرين ( الوجود ـ مع ) . وقد حلل سارتر ذلك { الوجود مع } في كتابه < الكينونة والعدم > وذهب إلى كونه لا يعبر عن علاقة تبادلية اعترافية وصدامية بل يعبر عن علاقة بالأساس عن احد أشكال ( التضامن الأنطلوجي ) لاستغلال هذا العالم : الآخر له وجود فعلي خارج ذاتي باعتبار صورتي تتشكل من خلاله ، فقد بين سارتر أن الإنسان لا يكون إنساناً شريراً أو خيراً أو حسوداً أو حشوماً إلا أذا اعترف له الآخرون بذلك ، فلكي أكون فكرة عن ذاتي لا بد أن أمر من خلال الآخر".( 5 ) ، وبذلك صار شعاره { الآخرون هم الجحيم } ؛ وقد عارض بيرلوبونتي طرح سارتر بقوة نافياً أن تكون نظرة الغير للأنا تحولها إلى موضوع ، أو أن نظرتنا إليه تحوله إلى موضوع ؛ إلا بالرجوع إلى الذات وعزلتها ؛ علماً بأن الذات يمكن أن تكسر ذلك الحاجز بسعيها نحو التواصل ، وبذلك تكف الأنا عن التعالي ويمكن للغير أن يتواصل معها .
إنسانيات حداثة القرن العشرين ظفرت بحصة وفيرة في تقعيد مبادئ النسبية في ثنايا العلوم الإنسانية والعلوم اللغوية، والتي انتقلت إليها من العلوم الطبيعية ، فأنقلب المنظور الفلسفي لهذه العلوم بشكل جذري، من التجريد إلى الأنساق المادية والواقعية و موضوعاتها ، فكان الاختلاف والتعدد ، موضوع اشتغالها الأثير ولتأكيد تقعيد مفهوم النسبية الثقافية ، وتعددت الهويات الثقافية ، ولامركزية التفوق القومي والثقافي على أسس إثنية أو عرقية، وتعزيز مهمات التبادل الثقافي والحضاري ، ولعلى الأنثروبولوجية على يد ليفي ستروس خطت خطوات جذرية في محاولة التأصيل الإنساني لإحتفاظ الكل بهويته ، والتأكيد على عدم قدرة المركزيات الحضارية الكبرى في التاريخ الإنساني على إلغاء الآخر الثقافي والحضاري .
بعد ذلك تشظى هذا المنظور إلى ثنايا الاشتغال الفلسفي العام ، و في جميع مدارات العلوم الفلسفية ، النظرية والعملية ، وانبرى الجميع في البحث المنهجي عن حقيقة حضور الآخر في الأنا ، و باعتبار الغير مصدر ثراء الأنا وينبوعها المتدفق ،" فالمختلف حسب بلانشو سيلان أو نزيف لا ينفذ مجراه ".( 6 )
أما فوكو فشدد على أهمية إيجاد مكان للمختلف داخل حيز اللغة وأن يتسع فضاءه لغير المماثل ، فيما تقصى دولوز عن الآخر ليرى ضرورة استنباته في الحقل الإدراكي المنبث في نظام التفاعلات بين الإفراد كأغيار ، فحين تسعى الذات نحو الأشياء لتدركها ، فإنها لا يمكن أن تحيط بها علماً وبأعلى درجات الإدراك إلا من خلال الآخرين ، فالآخر يعين ويكمل وعيي وإدراكي بالحقائق ، فهو ضرورة وجودية .
فيما ذهبت العلوم الاجتماعية والنفسية، إلى قراءة مسارات استقطابات المعنى بين فكرة الأنا والآخر، فعناها العالم النفسي بالدوين في كتابه " جدلية النمو الشخصي " عام 1897م بأنهما الأنا والآخر منظمان بواسطة القطب يعمل بالإسقاطات والإستبدانات . بينما اقترح العالم ميد عام 1934م نموذجاً للشخصية، يولد بموجبه الأنا العميق نفسه مع تحمله " أنوات " مختلفة حيث يجري التعبير عن اختلاف الدوار والمواقف؛... وفي مجال التحليل النفسي حدد جاك لاكان مفهوم الآخر بانه يتكون بعلاقة مع الأنا على قاعدة الصور المرآوية، ويمثل ، على المحور الخيالي ، موضوع التماهي الذي يحمل الأسم نفسه. فالآخر هو القطب الذي يتعدى الفرد في المحور الرمزي ، أي في اللغة المحددة كعمل لسلسلة دالة معينة، نقطة اتصالها المقابلة هو الفرد اللاواعي ، وأكد فالون على ضرورة التمييز بين " الآخر الحميم، وشبح الآخر الذي يحمله كل واحد في ذاته " والآخر الجذري، قطب الجماعة لتماهيات الأنا الأخرى.( 7 )
فيما يندس مفهوم الآخر معبراً عن نفسه بشكل مكثف، في طبيعة العقد الاجتماعي المعاصر، وتركيبة العلاقات الاجتماعية الأكثر تنظيماً في بنية المجتمع المدني، والقائمة على الأساس التعددي ، الديموقراطي ، في التنظيم السياسي للدولة ، وليكون سيادة القانون في داخل الدولة ، أطاراً لانتظام العلاقة بين أفراد المجتمع .
أن استحضار واقع المجتمع العربي والإسلامي ، تشي بتورم إشكاليات العلاقة بين الأنا والآخر / الغير ، الداخلي ( الآخر النحن ) ، وتتضخم الإشكالية أكثر في علاقتنا بالآخر / الغير الخارجي ، هذا الآخر التي لا زالت ذاتنا تنأى عنه ، وتفتقده ، ولم تعي وتدرك مدى ضرورة استحضاره الفعلي ، لتكسب من خلاله ، جولات من التنافس الثري ، وتخصب من خلال انوجاده ، حداثة المعطى الاجتماعي والمنتظم والسياسي ، ولتتوازن العلاقة الضمنية بين مجتمعاتنا ومجتمعات الأمم الأخرى . وقد لا يكون ذلك إلا بتلازم المعطى التطوري لمفهوم الآخر ، التي ضخته مسيرة الفكر الإنساني بالمزيد من اختبارها لصلاحيته في مدارها الاجتماعي الخاص ، والعام ، ورفده المفكرون عبر التاريخ الإنساني المديد بالمزيد من تفتق الرؤى ليكون صالحاً لزمنية حداثتها الموضوعية ، فلا يكاد يمر على الحضارات الإنسانية مرحلة من مراحلها ، إلا وتخللته توكيدات التطوير الفعلي لمفهوم الآخر ، كما رأينا في ثنايا بحثنا ، وكما تؤكده الإبحاث المستفيضة في هذا المجال المفهومي ، والذي كان بينها الفكر الإسلامي ، الذي هيأ في بادية بواكيره معيارية عالية لهذا المفهوم ، أكسبتها تطلعات المسلمين الأوائل مزيد من مصداقية التحقيق ، حين دفعت من خلال احترامها للآخر ، لتبادلية عالية المستوى فيما بينها ، وبين المجتمعات المحيطة ، في كل المجالات ، العلمية ، والتجارية ، والتنظيم الإداري و الاجتماعي .
وهنا يعود السؤال ، حول ذلك الآخر / الغير ، الذي يغيب كثيراً ، أو يكاد يخبوا ، وأن حضر في دارنا ، يحضر أما مشوهاً بنمطية مغبرة ، يكاد المرء لا يراه ، ولا يشعر به ، وقد يكون حضوره ، مجيراً لوصولية اجتماعية ، أو سياسية ، غير مقررة بإيمان عميق بمبدئية وضرورة حضور الآخر الذي يجب أن يكون قاراً في البنية الذهنية لذاتنا الفردية والجمعية ، ومستوجباً لإستحقاق اجتماعي ووطني وسياسي وحضاري ، طال انتظاره !!
ـــــــ
* أعتمد البحث في استقرائه لمفهوم الآخر في الحضارات القديمة ، على كتاب " تاريخ البشرية " لأرنولد تونبي، ترجمة د.نقولا زيادة ، الأهلية لنشر والتوزيع ، بيروت ، لبنان ، طبعة عام 1985م ؛ وكتاب تاريخ الحضارات القديمة ، لمجموعة من الباحثين السوفيت ، باشراف ف.دياكوف / س.كوفاليف ، ترجمة نسيم واكيم اليازجي ، دار علاء الدين ، دمشق ن سوريا ، طعام 2000م .
1 ) جوزيف فوجت ، نظام العبودية القديم والنموذج المثالي للإنسان ، ترجمة د.منيرة كروان ، المجلس الأعلى للثقافة ، مصر، عام 1999م ، ص7 .
2 ) الفكر الوجودي عبر مصطلحه ، دراسة ، عدنان بن ذريل ، منشورات اتحاد العرب 1985، دمشق ن سورية، ص5 .
3 ) المعجم الفلسفي ، مجمع اللغة العربية ، مصر ، عالم الكتب بيروت ، لبنان ، ط عام 1979م ، ص133
4 ) علم ظهور العقل ، هيجل ، ترجمة : مصطفى صفوان ، دار الطليعة بيروت ، ط 2 ، 1994م ، ص134 .
5 ) مجلة كتابات معاصرة ، العدد 37 أيار- حزيران 1999م ، ياسين بو غديري ، مشكلة الآخر ف الفلسفة المعاصرة ، ص94 .
6 ) فيليب مانع ، جيل دولوز أو نسق المتعدد ، ترجمة : عبد العزيز بن عرفة ، مركز الإنماء الحضاري ، دمشق ، سوري ، ط1 عام 2002م ، ص 12 .
7 ) موسوعة علم النفس ، المجلد الأول ، عويدات للنشر والطباعة بيروت – لبنان ، ترجمة : د.فؤاد شاهين ، ط1 عام 1997م ، ص 142 .