مقدمة
الأسرة هي النواة الرئيسة والبذرة الأولى في المجتمع والحصن الحصين أمام التهديدات المادية والمعنوية، وقد تحمّل هذا الحصن عِبء المواجهات المؤلمة بين الجدال الديني واللاديني ممّا أدّى إلى لحوق أضرار كبيرة بهذا البناء، وقد حاول الغرب اللاديني إعادة بناء الأسرة على أسس وأفكار عديدة ومتنوعة. ويهدف هذا المقال إلى بيان المكانة المرموقة والمنزلة العالية الرفيعة التي تحتلها الأسرة في الوجود الإنساني، مع التنويه لأسباب تفكك الأسرة، والإشارة إلى آثار هذا التفكك، وبالتالي ذكر الحلول الإسلامية المبتكرة لمنع تفكك الأسرة ومعرفة طرق تمكينها وتشييد بنائها المقدس.
عرض المسألة
يعتمد أساسُ الخلقة على عنصرين في الخلية المؤلفة من الذكر والأنثى، وقد استقرت الخلقة على ذلك، وهذه سنة لا يمكن نكرانها وتجاوزها، وهي ثابتة في كل الأشياء من المجردات والنباتات والإنسان، وقد قال رب العزة والجلال: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[3].
وقد يُعتبر بناء الأسرة ووجود الارتباط بين أجزائه من نواميس الخلقة، فعدم الانسجام أو عدم الانسجام التام بين هذه الأجزاء تُعيق حركة الكون والطبيعة.
إن في الكائنات الفاقدة للحسّ تحصل العلاقة الوثيقة بشكل غريزي وجبري، وقد أسّس خالق الكون البناء الأسري لهذه الكائنات بإرادته وتدبيره، وفي بعض الأحيان نرى أن إيجاد مقدمات الأسرة قد فُوّض للإنسان المختار بمشيئة الله، حيث إن الاختيار والتكليف وتقبل المسؤوليات في الإنسان دليل على ترك تأسيس كيان الأسرة لدى بني البشر من قبله سبحانه وتعالى، وقد كلّف المولى -وهو العالم بنتائج الأمور- الإنسانَ بعد توفير الأرضية المناسبة له أن يؤسس بناءً مقدساً مسمى بالأسرة، هذا الكيان لو أُسّس على أسس متينة وبشكل صحيح سيكون متماسكاً في هذه الدنيا وسعيداً في الآخرة. يقول المولى تبارك وتعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}[4].
ويؤكد جل وعلا، على أن سلامة الفرد ونجاحه في المجتمع رهينٌ بمتانة هذا البناء قائلاً: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}[5].
وقد وضع الحجَر الأساس لهذا الكيان المقدس خالقُ الكون المبدع عندما خلق سيدَنا آدم (عليه السلام) واختار سيدتَنا حواء (عليها السلام) زوجاً له، وقد ربط بينهما برباط أسري مقدس.
وكان الحفاظ على كيان الأسرة الناجحة والفاعلة في المجتمع كان محطَّ اهتمام الأنبياء والرسل، وفي المقابل سعى من يريد الدمار وخراب المجتمع إلى تفكيك هذا البناء الأسري الذي يعدُّ النواة الأولى في مقاومة هذا التيار المدمر.
وفي هذا المقال سنجيب عن الأسئلة الآتية:
1) ما هي عوامل تفكك الأسرة؟
2) ما هي الأضرار الناتجة عن تفكك الأسرة؟
3) ما هي التدابير الإسلامية لمنع إيجاد التفكك في الأسرة؟
إنه من الواضح أن تفككَ الأسرة وانفصام أواصرها لا يرجع إلى عامل واحد، بل له عوامل متعددة سنشير إلى أهم العوامل الخمسة التي توجب انهيار الأسرة وتمزيقها.
1- النظرة المادية والآلية للأسرة والزواج
إن عالمنا اليوم -مع الأسف الشديد- يُعرّف كلَّ شيء تعريفاً ماديًّا (ديالكتيكيًّا)، وذلك لمصلحة مادية، أي: الوصول إلى الرخاء والرفاهية، مع الغفلة عن أن العالم المادي لا يقدم الرفاهية المطلوبة، بل يحمل الكثير من العناء والمشقة. ولعلّه من هنا نجد أنَّ لذّات العالم المادي ليست لذّات حقيقية، بل هي لذّات زائفة. فالزواجُ رباط إلهي مقدس، والحياة الأسريةُ حياة سامية، ولذا فإن تشكيلَ الأسرة ينبغي أن يقومَ على أسس رفيعة، ومن أجل أهداف عالية لكي يؤمّن له الديمومةَ والاستمرارَ والثباتَ. وقد غيّر الحياةَ الأسريةَ ومفهومَها الجوُّ الفكري المهيمن في العالم الصناعي إلى أداة، أداةٍ من أجل إرواء الغرائز. في حين أن الإسلام قد عبَّر عن الأسرة بالمكان السالم، والنقي، والمحطّة الآمنة لسلامة الروح والنفس، وسماها بـ(السّكن)، فإذا بُنيت الأسرة على أساس الإسلام، وعلى ما يراه مناسباً في تكوين الأسرة من الهدوء النفسي، ودَرءِ الاضطرابات الداخلية في المجتمع وضبطها، سنشعر في أنفسنا بالاحتياج الدائم إلى الأسرة وتشكيلها، وستكون محط اهتمامنا. لكن بالمقابل إذا أصبحت المسألة ذات بُعد واحد أي باتت الحياة الزوجية مجرد إشباع الغرائز عند الرجل والمرأة ونظرنا إليها نظرةً حيوانية، فلن يُكتب لها البقاء والاستقرار، ثم سينهار البناء الذي قام على أساسه، إذ سرعان ما تنطفئ الغرائز الجنسية، ومن ثُم ستواجه الأضرار ويفقد الزوجان بعد ذلك الرغبة في الاستمرار في الحياة المشتركة.
إن الإسلامَ قد أعطى للجانب الحيواني الظاهري لهذا العمل بعداً مقدساً، وأطّره بإطار من التقديس، وقد أضاف إليه قيماً وغايات عالية كي يكون البناء بناءً محكماً متحمِّلاً أعباءَ ذلك.
يقول ويل ديورانت عالم الأنثروبولوجيا المعروف: وصل معدل سن الزواج في عام 1912م في باريس إلى ثلاثين، وفي العام نفسه في بريطانيا وصل المعدل إلى 26، وكان ذلك سبب التأخير في الزواج في المدينة، حتى لم يقبل الكثير منهم الزواج فمثلاً في عام 1911م لم يقبل 7 ملايين شاب الزواج من أصل 20 مليون شاب، وفي كل يوم كان يرتفع عدد الهاربين من قيد الزواج، وكانت هناك آلاف من الشابات جاهزات لتلبية الغرائز الجنسية، إذ كان إنجاب الأولاد مكلفاً وصعباً، فإذا كان بالإمكان العيش في الشقق السكنية بدلاً من البيوت الواسعة فسوف لا يكون الهدف من الزواج إلاّ إفراغ الشهوات وإرضاء الميل الجنسي، ولا يكون له أي نفع سوى ذلك.
عندما يشاهد الشابُّ مشاكلَ المتزوجين عندئذٍ سيتعجب ويتساءل ما الأمر الذي أدّى إلى أن يتحمل الرجلُ هذا اللون من المعاناة...؟. وبعد الرجوع إلى حساباته الشخصية يجد السعادة في الوحدة والعزلة في المدينة نفسها التي تعرقل أمر الزواج، مما يدفع هذا الشاب المتحمس جنسيًّا إلى تهيئة كل الوسائل المتاحة من أجل إرضاء شهوته، وكبت غرائزه[6].
2- تغليب الجانب اللاديني
إن إخراج الاعتقاد الديني من ساحة الحياة، والأسرة، والمجتمع، وتقليص دوره في المساجد والكنيسة، والمعابد، والأماكن الخاصة يُعتبر من عوامل تفكك الأسرة.
يقول بل ويتز، أستاذ علم النفس في نيويورك: إن تغليب الجانب اللاديني في العصر الحديث بالطريقة التي تعتبرها الحكومات الحديثة قد أدّى إلى ظهور موانع كبيرة أمام تحقيق الأهداف والسُّبُل المطروحة للحفاظ على الأسرة، بل إن العقلية الحاكمة والموجودة لدى رؤساء هذه الدول تجابه كلَّ النمط التقليدي الدِّيني، والمذهبي للأسرة بشدة، ممّا يدفع هذه الحكومات لبسط سلطتها، وزيادة قدرتها.
فعندما تفرض هذه العقلية الاجتماعية المدمرة نفسها، وتتسع ستكون النوبة حينئذٍ ممهدة لظهور مؤسسات مؤثرة وفاعلة للحفاظ على الأسرة، مع العمل على تمكين بنائها.
إن كثرةَ الطّلاق والنساء المطلقات في عالمنا اليوم، وكذلك الأسر المفككة غير التقليدية تعتبر أفضل مثال على الأسرة اللادينية،، وبالمقابل ستكون الأُسر الثابتة والمثالية هي الأسر الملتزمة.
إن الفكرَ اللاديني (أو السكولاريزم) بصدد حذف الله، والمفاهيم المعنوية والغرق قي فلسفة العزل والهجران للذين يعيشون في عالمٍ خالٍ من المفهوم السماوي، والوحياني للحياة، فاللادينية تريد جمود الفكر والرؤية، وجلب حياةٍ تتسم بلذات مادية.
يضيف بل ويتز في مكان آخر وبعبارة واحدة: إن اللاّدينية كلّما انتشرت جلبت معها مشكلةَ المفاهيم، وبالتالي مشكلة الأسرة. فعندما انتشرت الرؤية الكونية اللادينية لم يبقَ جدوى لتقبل المسؤوليات من قبل الآباء والأمهات، وكذلك لا معنى لفرض القيود أو الشروط في الزواج ومن الطبيعي أن تتقلص نسبة الزواج، والولادة في أمريكا، وسائر البلدان الغربية. فمع وجود هذا الأساس الفكري، وعندما يحكم المنطق السليم لا بدَّ أن نعتمد على إرادتنا، وأن نتجنب الحلول الاجتماعية للدول، والحكومات.
وفي الحقيقة إنَّ الدولة بحاجة إلى الأطفال كحاجة امرأة ريفية من الهند إلى أطفالها، وذلك من أجل شيخوختها، والفرق الوحيد هو؛ أنَّ الإنسانَ المعاصر يفهم هذا الاستدلال متأخراً، والمشكلة تكمن في رؤية الفرد اللاّديني بالنسبة إلى الأطفال، ويعتبر الإنجاب بمثابة المخاطرة، ويكون الإنجاب عنده موجباً لهدر الوقت، وخسارة الأموال والمشاكل العصبية. وحلُّ الدولة هو أن تدفع مبالغاً طائلة لدور العجزة.
إنَّ جذورَ مشكلاتِ الغرب وأساسها راجعةٌ إلى قول نيتشه عندما يقول: «إذا كان الله ميتاً فإنه يجوز فعل كل شيءٍ».
ومع الأسف هذا النوع من الاستدلال يؤدي إلى اتّباع الشهوات من نوع النهيليزم في العصر الحديث، وعلى هذا الأساس يمتنع الفرد عن الزواج والإنجاب لأن الزواج؛ والإنجاب يحتاجان إلى البذل والإيثار[7].
3- النظرة الاستهلاكية أو الرأسمالية
امتداداً للفكر اللاديني، وترويج عدم الالتزام بالدين في ثقافة العصر الآلي أو المادي، يزداد الحديث يوماً بعد يوم بالتوجه نحو الفكرِ الاستهلاكي، وتغييب القناعة، وثقافة الإيثار، والانفاق؛ عن ذاكرة الحياة، فعندما يسودُ الفكرُ المادي أو الرأسمالي في مجتمع بديلاً عن الله فستطغى عليه فكرةُ البذر والإسراف، ولو بحجة مناسبة دينية مثل: أعياد الميلاد وأمثالها التي تُؤخذ ذريعةً من أجل التوجه نحو الاستهلاك وصرف الأموال. إنَّ مَفهومَ البساطة في الحياة التي نجدها في سيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس له مكان في العالم الرأسمالي والاستهلاكي.
إن التبذير والإسراف والمتطلبات العالية الخارجة عن حد المعقول قد تسبب في تحمل عبء كبير لمشاكل ومتطلبات الحياة من قبل الرجل، وقد أفضى ذلك إلى تقسيم العمل والمسؤوليات المالية بين الرجل والمرأة مما زاد الطين بلّة، وخلق أفكاراً وعقائد حول تحديد النسل، بل إفناء بناء الأسرة. إنَّ الإسلامَ يرى المواجهةَ أمامَ الصعوبات المادية تكمن في القناعة، ويبحث عن الحل في التعاون، وبالتالي، فإن قلّةَ الضرائب على المواطنين لا يتوافق مع هذه العقيدة القائلة بتحديد الزواج أو هدم أركان الأسرة.
القرآن يقول: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ}[8]، وبالتالي يضيف بأن هذا الضمان من قبل الله يكون مجاناً وبلا عوض لأنه {وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
فالله يدبر الأمر، ويقدم ضمانات بعد محاسبة دقيقة وعميقة. يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «من ترك التزويج مخافة العيلة فليس منّا»[9]، وفي حديث آخر نجد تركَ الزواج مخافةَ الفقر يُعدّ من إساءة الظن بالله: «من ترك التزويج مخافة الفقر فقد أساء الظن بالله عز وجل، إن الله عز وجل يقول: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ}»[10].
وقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث آخر: «تزوجوا النساء تأتيكم بالأموال»[11]، ونقرأ في حديث عن الإنجاب والأولاد: «بيت لا صبيان فيه لا بركة فيه»[12]. نعم إن ثقافة الدين ترى الأولادَ سبباً للرقي والتوسع في الحياة، وتنظر إلى ازدياد النسل نظرة إيجابية ليس في الإسلام فقط بل في كل الأديان السماوية.
يقول (بل ويتز): إن تجربتي الشخصية عن الكاثوليكيين في هذه الاثني عشر ونيف سنة لا يضع للشك مجالاً أنَّ في الأسرة الكاثوليكية لو يكون 4 أولاد سيكون الالتزام عندهم بالدين أكثر.
«ومن أجل التأكد من وجود الرابط بين الالتزام الديني وكثرة الأولاد يمكن للحضور الرجوع إلى تحقيقات مارشال إيتِل (1986)»[13].
4- الفساد قبل الزواج
إن انهيار وهدمَ بناء الأسرة بعد الزواج راجعٌ في كثير من الأحيان إلى عواملَ سابقة على الزواج، فإن السير خلف الشهوات وإفراغها كيفما اتفق، وعدم الالتزام بالدين والقيم قبل الزواج عند الرجل والمرأة، قد يضعهما في ضيق وحرج وإحساس بعدم الراحة بعد الزواج، وقد يؤدي ذلك كلُّه إلى الطلاق والانحراف. ومع الأسف الشديد نجد أن قانونَ حماية المرأة في الغرب قد يمهد الطريق للسير في هذه السّبل، وبدلاً من أن يحمي الأسرة، ويعمل على تمكينها يدافع عن الرجال المنحرفين وعن أغراضهم اللامحدودة في حين أن المرأة مع قبولها لقانون الزواج تتعهد بعدم الارتباط وإيجاد علاقة مع غير زوجها[14].
يقول وول ديوارنت في هذا المجال: «إن الفسادَ أو الانحرافَ بعد الزواج في أغلب الأحيان نتيجةُ العادات قبل الزواج، وهي راجعة إلى أسباب سطحية قد تؤدي إلى الطلاق مثل: الاشمئزاز من الإنجاب، والتطلع نحو التنوع، وفي هذا اليوم تغيير أصالة الفرد في الحياة الجديدة وكثرة المحركات الجنسية في المدن وتجارة اللذة الجنسية قد تضاعف هذه المشاكل إلى عشرة أضعاف[15].
5- الحماية القانونية والمالية من الطلاق بدلاً عن الزواج
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «مازال جبرائيل يوصيني بالمرأة حتى ظننت أنه لا ينبغي طلاقُها إلاَّ من فاحشة مبينة»[16].
إن للإسلام موقفاً صعباً تجاه الطلاق، لكن القوانين الموجودة في البلدان اليوم قد تُسهِّل عملية الطلاق.
فيقول بل ويتز أستاذ علم النفس في نيويورك: «الطلاق يحصل في الولايات المتحدة الأمريكية دون أي دليل، وعلى هذا فللزوجين أو أحدهما قرار الطلاق في أي وقت شاءا، والقانون الذي سُنّ من أجل حماية حرية المرأة وكان هؤلاء يتجنبونها، نجد الآن أنه قد سبَّبَ الفقر لملايين من النساء والأطفال في أمريكا. ومن هنا سأطرح الأمور التالية:
1- لا بد من وجود قوانين تُشَدِّد على مسألة الطلاق.
2- تحديد تعويضات ودفعها لكل طفل بعد الطلاق حتى السن 18 التي يدفعها المجتمع.
3- تخفيض الضرائب المفروضة على المتزوجين وذوي الأطفال وسنّ قوانين لدفع مبالغ مشوقة»[17].
لا بد أن تُؤخذ هذه التسهيلات عادة من أجل العمل المقدس لا أن تُؤخذ بغيةَ هدم أركان الأسرة وأهم أعمدة الخلقة، وهذا ليس له توجيه ومبرر منطقي وعلمي، وإن قام البعض بتوجيه ذلك من أجل تحرير المرأة المقهورة، والمظلومة.
نتائج وآثار تفكك الأسرة
نعرض عليكم باختصار شديد خمس نتائج من آثار تفكك الأسرة:
1- اليأس في التنامي وفقدان الهوية والشخصية
لا نرى مدرسة كالإسلام تولي اهتماماً بالغاً بالصحة، والسلامة الجسدية، والنفسية للفرد والمجتمع، ومنح الشخصية القويمة للإنسان. والإسلام في قوانينه استخدم كافةَ السبل لنفث الروح والأمل في المجتمع، والأسرة في المنظار الإسلامي هي مركز المحبة والعواطف، لكن الرجل والمرأة، والأولاد الذين انهارت حياتُهم، وتفككت أُسرهُم بمثابة الغصن أو الشجرة التي اقتُلِعت من جذورها سرعان ما يفقدون هويَّتَهم ويخسرون أنفسهم. إن فقدانَ الشخصية هي البذرة الرئيسة لكل الانحرافات، ولا تسعى أي أسرة مفككة للبحث عن هويتها المفقودة، ولا تسأل عن نفسها بأنه من أنا؟ وكيف وبأي عقيدة لا بد أن أعيش؟، وبالمقابل ما هي برامجي للطرف الآخر (الجنس المخالف)؟، فيواجه أفراد هذه الأسرة المهُدّمة هذه الأسئلة باليأس، وعدم الاكتراث بهذه الأسئلة يفقد الإنسان هويتَه والالتزام بتعهداته. فهؤلاء لا يأملون إيجادَ هويتهم بل وعلى المجتمع أن يقطع الارتباط معهم. يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «من هانت عليه نفسه فلا ترجُ خيره»[18] فالأسرة السليمة تمنح الإنسانَ هويَّته، وهي ينبوع الأمل ومصدر التطلع للمستقبل.
2- تزايد المشاكل والأمراض النفسية
في الحقيقة يواجه الآباء والأولاد المنفصلون عن بعضهم البعض مشاكلَ نفسية عصيبة، والنمو في الأسرة غير السليمة يجذّر في أعماقنا الإحساس بثلاثة أمور: الخوف، الخجل، وعدم الأمان. وهذه الأمور سترافقنا حتى عند الفصل عن الأسرة الأولى والانضمام إلى الأسرة الجديدة (الزواج)، وقد تهيئ هذه الأحاسيس الأرضيةَ الصلبة لظهور ألوان من المشاكل، والاضطرابات النفسية والمعنوية.
وقد أدت التحقيقات إلى النتيجة التالية: أن الرجال الذين طلقوا زوجاتِهم مهدَّدون -عشرة أضعاف أكثر من غيرهم- بالابتلاء بالأمراض النفسية.
إن علماءَ النفس أثبتوا أن البحث عن جذور الأمراض النفسية والاضطرابات في السلوك عند الفرد لا بد أن يتم في مراحل الطفولة، وفي أجواء الأسرة والبيئة الاجتماعية؛ لأن الإنسان عادة يواجه التناقضات في هذه المراحل، وهو عاجز عن تشخيص الإيجابيات والسلبيات في المجتمع والصحيح من السقيم فيه، لذا سيتصف هؤلاء بالتناقض في الشخصية[19].
3- تزايد الأولاد غير الشرعيين
إن تزايد هذه الظاهرة في أي مجتمع يقلص من درجة الاطمئنان بهذا المجتمع، ويُفقد الأمة عظمة شخصيتها، وقد تزيد مصاريفُ الدولةِ تجاهَ هؤلاء لحماية أولادٍ فاقدي الجنسية والهوية حتى سن البلوغ، ومع الأسف الشديد نرى أن الدولَ العظمى قد وقعت في فخ هذه الظاهرة، حيث يوجد في العالم حوالي 90 مليون شاب مطرودون من العوائل، وهؤلاء دون سن الثلاثين، وهم يتسكعون في الطرقات، ومشردون في الحانات والشوارع. وفي أمريكا يُولد ولدٌ غير شرعي في كل أربعة أولاد، و في العام 1979 وُلد أكثر من 597 ولداً غير شرعي[20]. و في السويد يولد كل سنة 27 ألف طفل غير شرعي. والضرائب المفروضة على الناس لحماية المشردين في بريطانيا تبلغ 20 مليار دولار سنويًّا[21].
وقد تزايد في الغرب ما بين عام 1970 إلى عام 1988 عدد الأولاد غير الشرعيين الناتج من ارتباطات خارج الأطر القانونية للزواج. وفي السويد قد تزايدت نسبة هؤلاء من 17% في العام 1970 إلى 51 % في العام 1988.
ونرى في الثمانينات أن خمسة عشر بالمئة من الأولاد في أوروبا غير شرعيين، وهذه النسبة تصل إلى أدنى مستوياتها في الدول الكاثوليكية.
4- ازدياد الجرائم
إن أولادَ الأسرِ المفككة يمضون أكثرَ أوقاتِهم في ارتكاب الجرائم، ووفقَ الإحصائيات فإن تسعين في المئة من المراهقين والشباب (من أعمار 14 إلى 25 سنة) قد تخرجوا من الأسر المفككة والمنهارة.
إن الدراسات تشير إلى أن 2447 (ألفين وأربعمائة وسبع وأربعين) من كبار السن في بريطانيا الذين أصيبوا بالانهيار في حياتهم الأسرية، قد واجهوا متاعبَ كثيرة في المجتمع، ممّا أدّى إلى المشاكل في التعليم، وابتلائهم بالمخدرات، والكحول، والمشاكل الاقتصادية، وكثرة القروض وعدم توفير العمل لهم[22]. إن حصةَ الأولاد غير الشرعيين في الجرائم والعنف ليست بقليلة، بل يقع هؤلاء في مرمى أطماع المجرمين في العالمِ. ووفقاً لتحقيقٍ أجرته إحدى مراكز الدراسات الاجتماعية في بريطانيا أنّ سبعين في المئة من المجرمين الشباب يرتبطون بزوجات غير متزوجات، وأن ثلث المسجونين، وأكثر من نصف المجرمين في مراكز الإصلاح والتأهيل والتدريب أيضاً يرتبطون بهذه الأسر[23].
5- تزايد الهبوط في المستوى التعليمي
إن موهلات الأطفال والطاقات العلمية لدى الأسر المفككة لا يُحسد عليها، وقد تُهدر وتَضيع هذه الطاقات بلا رحمةٍ ولا هوادة، وقد يقترب المعدل إلى أدنى مستوياتِه عند هؤلاء الأطفال في المستوى التعليمي ونحن -الأكاديميون- لاحظنا هذه الظاهرة بوضوح، وراقبناها عن كثب، ورأينا أن كثيراً من الشباب الجامعيين المتفوقين يهبط مستواهم العلمي فجأة إلى الحضيض دون سابقة. وبعد البحث تشير النتائج إلى أن هذه الظاهرة تَنُم عن المشاكل في الأسر المنهارة والواقعة على شفا حفرة من النار.
التدابير الإسلامية في مواجهة هذا المرض الاجتماعي
(التفكك الأسري)
إن الإسلام -من أجل تشييد بناء الأسرة- قد استفاد من كل الإمكانات المتاحة لتمكين الكيان الأسري، وتوطيد العلاقة بين أفرادها، إن الأسرة هي حصن حصين في الرؤية الإسلامية، وهي تحفظ الأجيال من السقوط في الهاوية، وأنا سأشير إلى عشرة تدابير من التدابير الإسلامية لأهمية الموقف:
1- الحث على التسريع في الزواج وعدم تركه
إن الإسلام قد نهى عن العزلة، و ذمَّ الرهبانية، وحث على الزواج في مواطن عديدة من كتابه الكريم.
قال أنس (رضي الله عنه): «كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينهى عن التبتل نهياً شديداً»[24] والتبتل: هو الانقطاع التام عن النكاح. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «أيما شابّ تزوج في حداثة سنه عجَّ شيطانُه: يا ويله عصم مني دينَهُ»[25]. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «النكاحُ سنتي فمن رغب عن سنتي فليس منّي»، وقد أمر بالمشاركة في هذا الأمر المقدس كافةَ الطبقاتِ الاجتماعية. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من زوّج أخاه المؤمن امرأة يأنس بها وتشد عضده ويستريح إليها، زوّجه الله الحور العين وآنسه بمن أحبه من الصدّيقين من أهل بيته وإخوانه، وآنسهم به»[26].
نزل جبرائيلُ على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا محمد: «إن ربّك يقرئك السلام ويقول: إن الأبكار من النساء بمنزلة الثمرة على الشجرة فإذا أينعت الثمرة فلا دواء لها إلاّ اجتناؤها، وإلا أفسدتها الشمس و غيرتها الريح، والأبكار إذا أدركن ما تدرك النساء فلا دواء لهن إلاّ البعول، وإلاّ لم يؤمن عليهن الفتنة. فصعد رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المنبَر فجمع الناس، ثم أعلمهم بما أنزل الله عليه عز وجل»[27].
والتسريع في أمر الإنجاب من الأمور التي أكد عليها الإسلام بغية الحفاظ على كيان الأسرة.
يعرّف (اليزابت هارلوك) الأسرة بأنها النظام المتفاعل الذي يؤسسه في البداية الزوج والزوجة ثم يشاركهما في ذلك المولود الجديد، لكنه سيعقّده، على سبيل المثال نرى في أسرة ذات طفل واحد يربط بينهم تفاعل ذو أبعاد ثلاثة، في حين أن الأسرة ذات الثلاثة أطفال يوجد بينهم عشرة ألوان من التفاعل والتعامل. إن الولد يرفع نسبة الأمان ومتانة الكيان الأسري ويحول دون الانهيار والتفكك على حدٍّ غير بعيد[28].
2- الحد من الطلاق والمنع من وقوعه ومذمته
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «إن الله تعالى يبغض الطلاق ويحب العتاق»[29]، وفي رواية أخرى يقول: «ما أحل الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق»[30]. وكذلك يقول: «تزوجوا ولا تطلّقوا فإن الطلاق لتهز منه العرش».
إن الإسلام شرّع الطلاق، لكنه قيَّده بشروط صعبة، فيجب عند حدوث الطلاق مراعاةُ مسائلَ كثيرة مثل: العدَّة، والحقوق، وطهر المرأة عند حصول الطلاقِ، ووجود شاهدين عدلين عند بعض المذاهب، وعدم إمكان رجوع المرأة إليه بعد الطلاق الثالث، وعدم إرجاع الهدايا المدفوعة إلى الزوجة، وكذلك هناك شروط أخرى مذكورة في مضانها التي تحدّ من الطلاق في المجتمع.
يقول (بل ويتز): إن ثلاثة عشر باحثاً أكاديميًّا درسوا في مؤتمرات عدة الأسَر الناجحة والموفقة، وقد أذعنوا أن الخُلُقَ الديني هو السمة البارزة في هذه النماذج من الأسر، وقد أدرجوا ذلك في بحوثهم العديدة.
والمراد من العقائد الدينية؛ هو المشاركة والحضور (في الكنيسة) المؤثر في سلامة الروح وصحة الجسدِ. إن الحضور في الفعاليات الدينية علامةٌ على تقليص دور السلوك الخاطئ عند الأولاد، وتدني نسبة الانتحار والتسكع في المستقبل، وهذا يحفظ الأسرة من التصدُّع، ومن ثم تقلل هذه المشاركة في هذه الطقوس الدينية المشاكل النفسية، ويشعر الإنسان بالسعادة والحياة الدافئة، وفي نهاية المطاف هذه العقيدة خير معين على قبول الإنجاب[31].
وهو يقول: إن النتائج تحكي عن قلة الطلاق في الأوساط المذهبية والأسر الملتزمة. وقد وصل أحدُ المحققين الكنديين في إحدى تحقيقاته إلى أن نسبةَ الطلاق عند الأسر التي تشارك مرة واحدة -على الأقل- في كل أسبوع في الكنيسة هي ثماني عشرة في المئة، في حين أن هذه النسبة تصل إلى سبع وأربعين في المئة عند الأسر غير الملتزمة، وهذه النسبة صادقة في الأسر التي تؤمن بالعقائد الدينية وفي الأُسَر التي لا تحمل أي عقيدة سماوية[32].
3- تعزيز العقائد الدينية والخوف من العقوبة الإلهية
في رأي هذا العالم النفساني في جامعة نيويورك أنه إذا ظهر الله في المجتمع مرة ثانية ستستقر الأسر أكثر مما مضى، وسيحمل معه العيش الهانئ، وسيكثر الأولاد وسيُحيي الثقافة. إن ظهور الدين يتم بألوان مختلفة، والمسيحية نوع من هذا الظهور. يوجد في أمريكا رقباء في الدين، وخير مثال على ذلك: البروتستانتية، والمورمونيزم، والأرثوذوكس، واليهود والإسلام (بالخصوص المسلمين السود)، فإذا كان الله ميتاً فالمجتمع وأسرتنا أيضاً ميتة. بجملة مختصرة إذا كان إلهُ أمريكا ميتاً فأمريكا أيضاً ميتة.
4- خَلْق ثقافة احترام الوالدين
إن احترام الوالدين قرين العقيدة بالتوحيد في المفهوم القرآني، وهذا شرط الإيمان. هناك حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «هما جنتك ونارك» وفي حديث آخر نقرأ: «اثنان يُعجّلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين»، وفي نصيحته يقول: «يقالُ للعاق: اعمل ما شئت فإني لا أغفر لك». إن هذه الأحاديث والأحاديث التي تتلوها توجب متانة بناء الأسرة، وتُبقي الوالدين في طبقة من الاحترام والكرامة اللذين يقودان سفينة الحياة نحو شاطئ البر والأمان.
5- إبقاء التمتع الجنسي في دائرة الأسرة
إن ضمان الوفاء بين الزوجين مرهون لتأطير العلاقة الجنسية في إطار الأسرة، وألَّا تثقب جدارَ حدودها الحريةُ اللامحدودة (المطلقة). ووفقاً للدراسات الحديثة لعلماء الاجتماع؛ أن النصف من شباب أمريكا يخضعون للتمتع الجنسي اللاّمقيد؛ ولا يجدون أيَّ جدوى من الوفاء بين الزوجين. إن هذا الفكر الليبرالي سيؤدي إلى انهيار وتفكك الأسرة وتعتيم دور الوفاء بين الزوجين.
ولكن الإسلام يعدّ العفاف ضروريًّا للرجل والمرأة على الصعيد الفردي وعلى الصعيد العائلي، ويرى أن الارتباط الجنسي في غير دائرة الأسرة هو اعتداءٌ وظلمٌ. يقول تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ»[33].
6- التقريع والذم لعدم الإحساس بالمسؤولية تجاه الأسرة
إن الهيكلية التربوية والأسرية الموافقة للتعاليم الإسلامية تضع الجانبين: الاقتصادي والثقافي على كاهل الرجل، وتُحمّل النساء مسؤولية التربية والسلامة الجسدية والروحية. ومن خلال التعريف الإسلامي الدقيق للحرية لكل سكان هذه السفينة على الأمواج المتلاطمة تؤمن الحركة الصحيحة والاتجاه الدقيق والقيادة المسؤولة لحَمَلتِها نحو بَرِّ الأمان. إن الأنبياء في البداية كانوا مكلفين بإنذار الأقربين، وكان لزاماً عليهم أن يأمروا أهلهم بالصلاة، ومن المفروض أن يسعوا لتأمين الجانب الاقتصادي للأسرة. إنّ الله تعالى يقول: {قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ}، والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «أحبُّ الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله، و أبغض الخلق إلى الله من ضيّق على عياله»[34] إن تأمين الجانب الاقتصادي ليس محطَّ اهتمام الأنبياء فقط، بل التوسعة على العيال كان مُدرَجاً في سنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يقول: «إن لله أملاكاً (أي ملائكة)... ألهمهم أن ينادوا كل يوم مرتين: ألا؛ من وسّع على عياله وجيرانه وسّع الله عليه في الدنيا، ألا؛ من ضيَّق، ضيَّق الله عليه، ألا؛ إن الله قد أعطاكم لنفقة درهم على عيالكم سبعين قنطاراً»[35].
نعم إن الإحساسَ بالمسؤولية يؤمن للأسرة السعادةَ، و يحصّن هذا الكيان. ومن هنا لم يرضَ الإسلامُ بالتقسيم الدارج والمعهود -الآن- للمسؤوليات الاقتصادية بين الرجال والنساء، ولا يؤمِّن هذا التقسيمُ العشوائي الجوَّ المطلوب للمرأة، لكي تقوم بواجباتها التربوية والعاطفية، وسيثقل كاهل الرجال، وهذا نموذج غربي حيث يُخَفِّض من راتب عمل الرجل، ويسحب المرأة نحو الشارع والسوق والمؤسسات، ويدفع لها النصف من حقوق الرجل، ويرسل الأولاد إلى رياض الأطفال منذ الولادة، وهم يتذرعون بحججٍ واهيةٍ نحو الهروب من تعطيل نصف المجتمع!
7- تبيين حقوق ومسؤوليات الرجل والمرأة وتقسيم الوظائف بينهما
إن توزيع الواجبات في الأسرة مسألة أشار إليها الإسلام وقد أكد عليها بعد أن أخذ بعين الاعتبار قابليات كل من الزوجين واستعداداتهما الفطرية. وهنا نرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينسب شؤون المنزل وإدارته إلى فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الحين الذي يوكل الأعمالَ خارجَ المنزل إلى زوجها علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وذلك عندما تقاضى علي وفاطمة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخدمة، فقضى على فاطمة (عليها السلام) بخدمته ما دون الباب، وقضى على علي (عليه السلام) بما خلْفه.
فقالت فاطمة (عليها السلام): «فلا يعلم ما دخلني من السرور إلا الله بإكفائي رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحمُّلَ أرقاب الرجال».
إن المشاركة كهذه، ترسم صورةً واقعيةً للحياة، وتساعد الزوجين على السير بثبات واستقامة نحو الهدف المنشود.
8- التأكيد الشديد على التعاون والاحترام المتقابل
إن الإسلام وجميعَ الأديان السماوية قد أكدت على أهمية الحقوق والواجبات الاجتماعية من أجل إرساء دعائم الحياة المشتركة بينهما في جو مفعم بالسلام، وتقوم الحياة الزوجية على أساس احترام الحقوق وعلى أساس المحبة والمودة في تعزيز العلاقة الزوجية.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «جهاد المرأة حسن التبعل»[36].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «حسن التبعل من الإيمان»[37].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»[38].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أفضل دينارٍ ينفقه الرجل دينارٌ ينفقه على عياله»[39].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «المؤمن يأكل بشهوة عياله، والمنافق يأكل أهله بشهوته»[40].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مازال جبرائيل يوصيني بالمرأة حتى ظننت أنه لا ينبغي طلاقُها إلاَّ من فاحشة مبينة»[41].
وفي رسالة الحقوق لعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام): «وأما حقُّ الزوجة فأن تعلم أن الله عز وجل جعلها لك سكناً، وأن تعلم أن ذلك نعمةً من الله عليك، فتُكرمَها وتُرفقَ بها. وإن كان حقّك عليها أوجب فإن لها عليك أن ترحمها».
ومن الضروري جدًّا أن يستغل الزوجانُ المُناسباتِ العديدة، كعيد الأم، وذكرى يوم الزواج، وعيد الولادة، و... غيرها من المناسبات الأخرى؛ لتقديم الهدايا، وإثبات مدى إخلاصهما لبعضهما. ويسعيا من أجل تثبيت وتجديد دعائم المحبة من أجل ضمان استمرار حياتهما المشتركة في أجواء من الصفاء و المحبة.
9- ذم النزاع والحث على التآلف
من الطبيعي أن ترافق الحياة الزوجية المشاكل لاختلاف المشارب والأذواق بين الزوجين، وأن القول: إن الحياة الزوجية لا تشهد نزاعاً أو تصادماً بين الطرفين أمر خيالي بعيد عن الحقيقة. لكن ما هو الحل الأنسب عند نشوب النزاعات؟ إن الإسلام يوصي بتحملها وذلك بالصبر وضبط النفس، وتفويت الفرصة على شيطان الغضب، والتسامح وغض الطرف قليلاً عن أخطاء الطرف الآخر. وهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قمة الخلق الإنساني يقول: «من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل الله صلاتها ولا حسنةً من عملها»[42].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ألا وإن الله ورسوله بريئان ممن أضر بامرأة حتى تختلع منه»[43].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من صبر على سوء خلق امرأته، واحتسبه أعطاه الله بكل مرة يصبر عليها من الثواب ما أعطى أيوب (عليه السلام) على بلائه»[44].
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «من صبرت على سوء خلق زوجها أعطاها مثل ثواب آسيه بنت مزاحم»[45].
10- تعزيز العلاقات العائلية
إن العلاقات العائلية والأسرية باعتبارها أمراً اجتماعيًّا لها دورٌ أساسي في استقامة البناء الأسري على أسسٍ متينة ومحكمة فينبغي حفظها ورعايتها بعد تشكيلها. فالأسرة المفككة لأحد الزوجين أو كليهما لا تؤمّن العلاقة الوثيقة بينهما، وتُحوّل هذه العلاقة إلى علاقةٍ فارغة قابلة للانهيار والفشل. ولعله من هنا أكد الإسلام على تعزيز أواصر المحبة، وصلة الرحم، وتقوية العلاقة العائلية والأسرية. وقد اتخذ الإسلامُ أساليبَ عديدة لحفظ الأسرة ورعايتها والعلاقات الشخصية، وكيفية مقاومة الأسرة وصمودها أمام التيارات المختلفة في تلوّن طبيعة العلاقة القائمة على أسس الاحترام المتقابل.
النتيجة
1- لا تملك الليبرالية، والجدلية اللادينية، والنماذج الغربية أي أطروحة جديدة لحل النزاعات أو تعريفاً للأسرة المثالية، فهي إلى الزوال والاضمحلال.
2- إن الإسلام قدَّم أرقى النماذج لتعزيز البناء الأسري وللحفاظ على كرامة المرأة.
3- على المؤسسات الاجتماعية، والمراكز العلمية والجامعات أن تُولي مسألة الأسرة والمشاورة الاجتماعية اهتماماً أكثر، وأن يقدموا وصفات وحلولاً عملية وفاعلة قابلة للتطبيق في المجال النفسي والاجتماعي، معتمدين في ذلك على المبادئ الإسلامية لصون المجتمع، وتمكين العلاقة الأسرية. ونتمنى أن تحظى هذه المسألة باهتمام المسؤولين والمعنيين، وأن يستلهموا في ذلك من المعين الإلهي والتشريع السماوي اللذين يُؤمِّنان السعادة الحقيقية والثبات والديمومة والأمان للإنسان. علّنا نبلغ بذلك أو نقترب إلى المدينة الفاضلة في العالم الحديث.
اللهم حبب إلينا الإيمان، وكرِّه إلينا الفسوق والعصيان، اللهم ألِّف بين قلوبنا والمم شعثنا، واجعلنا وعائلاتنا مرضيين عندك في الدنيا والآخرة، ولا تسلّط علينا من لا يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] جامعة دمشق - كليه الشريعة، موتمر: تمكين الأسرة في الشريعة الإسلامية، 9 - 10 رجب 1429هـ.
[2] عضو الهيئة العلمية في جامعة طهران.
[3] الذاريات/ 49.
[4] النور/ 32.
[5] الروم/ 21.
[6] وول ديورانت، لذات الفلسفة. ص: 93-94.
[7] المصدر نفسه: 85.
[8] النور/ 32.
[9] كنز العمال، 16/279.
[10] تذكرة الفقهاء، ج2، ص568.
[11] كنز العمال، 16/ 279.
[12] المصدر نفسه.
[13] بل ويتز، التلازم بين الالتزام الديني وكثرة الأولاد، ص820.
[14] وول ديموراتت لذات الفلسفة (أسباب تفكك الأسرة) ص97-94.
[15] المصدر نفسه.
[16] عوالي اللآلي لابن أبي جمهور الأحسائي.
[17] بل ويتز، طرق الدفاع عن الأسرة، ص77.
[18] عيون الحكم والمواعظ، 465.
[19] جليل روشن دل، المرأة في العالم ص....
[20] عوامل الفساد: 75.
[21] Center for social justice.
[22] السياحة في الغرب، المركز الاجتماعي للدراسات، ص9.
[23] Center for social justice.
[24] المغني لابن قدامة، ج7، ص335.
[25] المصدر نفسه: ج8، ص273.
[26] دور الأسرة في استقرار الشخصية.
[27] بحار الأنوار، ج77، ص192.
[28] اليزابت هارلوك، التسريع في تشكيل العائلة.
[29] كنز العمال، ج9، ص661.
[30] المصدر نفسه.
[31] كنز العمال، ج9، ص661.
[32] بل ويتز أستاذ علم النفس في نيويورك.
[33] المؤمنون/ آية 5 - 7.
[34] المصدر نفسه، ج6، ص384.
[35] كنز العمال، ج6، ص442.
[36] كنز العمال، 15/907.
[37] فيض القدير، 2/766.
[38] السنن الكبرى للبيهقي، ج7، ص468.
[39] المصدر نفسه.
[40] كنز العمال، 1/ 156.
[41] بحار الأنوار، ج103، ص253، عوالي اللآلي، ج1، ص254.
[42] وسائل الشيعة، ج14، ص116.
[43] بحار الأنوار، ج76، ص366.
[44] بحار الأنوار، ج76، ص366.
[45] بحار الأنوار، ج103، ص247.