شعار الموقع

ابن رشد الراهن والمستقبل من عقدة الموروث إلى وعي الذات

د. عبد القادر بوعرفة 2009-04-10
عدد القراءات « 973 »

[1]

ارتأينا أن ننطلق في دراستنا من الفكرة الآتية: «عند استحضار أي شخصية تراثية لابد أن نتعلم منها كيف نفكر لا أن نتركها تفكر لنا، وأن نفكر معها لا أن نفكر مثلها». وهذا يعني أن استحضار ابن رشد اليوم لا يعني بالضرورة استحضاره من أجل أن يفكر لنا، بل يجب أن نجعل مما كتب وأنتج موضوعاً نفكر به لحل مشاكلنا الراهنة ومآسينا المتلاحقة...، إننا نقولها بكل بساطة: لقد انتهى زمن ابن رشد...

شهدت نهاية القرن العشرين على الخصوص حضوراً متميزاً لابن رشد المفكر والفيلسوف، أو كما يسميه الآن جلّ المفكرين العرب: فيلسوف الغرب والشرق. وتلك العودة في معظمها لم تخرج عن هالة التعظيم والتقديس، وأصبح ابن رشد رمز الحداثة والعقلانية العربية، واتُّخذ نموذج المثقف المعاصر. وأصبحت الرشدية الهاجس المؤرّق لبعض المفكرين العرب، وهذا ما يجعلنا فعلاً نتساءل عن كنه هذه التوجهات، فهل يمكن أن نتقدم بالرجوع إلى نمطية فكرية تنتمي إلى عصر الانحطاط؟

وهل يمكن أن نُحدث التقدم من خلال فلسفة ابن رشد وعقلانيته؟؟

وهل يُعقل أن يحقق ابن رشد المُعاد ما عجز عنه ابن رشد في عصره؟؟

أم أن ابن رشد مجرد أغلوطة أيديولوجية؟؟[2]

وبعبارة صريحة: ماذا نستفيد من ابن رشد اليوم، وخاصة في القول السياسي الذي هو موضوعنا بالأخص؟؟

أورد أولفر ليمان (Oliver Leaman) دراسة عنوانها (ماذا بقي من فلسفة ابن رشد؟). وهو سؤال مشروع من الناحية الإبستيمولوجية والتاريخية، فالرجل يعتبر من حيث منطق التطور التاريخي مجرد تراث، وماضٍ ملتصق إلى أبعد الحدود بفترة زمنية ارتبط وجودها بأفول الحضارة الإسلامية في المشرق والمغرب، وبالتالي فهل بقي شيء يمكن أن نستفيد منه من تراث ابن رشد؟

طرح أوليفر ليمان هذا السؤال المركزي، لما شاهد التهافت الكبير على فلسفة ابن رشد من قبل المفكرين العرب، وأراد أن يُنبِّه الباحثين لضرورة وضع السؤال السابق نصب أعينهم، لأن فهم السؤال إبستميًّا من شأنه أن يحقق إمكانية قراءة ابن رشد قراءة علمية لا قراءة أيديولوجية.

سنحاول من خلال هذه المشاكسة الفلسفية أن نضع أنفسنا موضع المساءلة، من وحي السؤال التالي: ماذا يمكن أن نستفيد من ابن رشد في حاضرنا بعيداً عن أنصار الرشدية المعاصرة؟

كان لا بد للسؤال السالف أن يتبعه تحديد لجملة الشروط المؤدية للقراءة العتبيّة، ونقصد القراءة التي تقف عند العتبات والانعطافات المعرفية، التي ستُحدد الاستفادة ضمن نطاق مشروع، خالٍ من التوظيف للماضي كاستثمار سحري، وهي على النحو التالي:

1- الغرض من قراءة ابن رشد ليس من باب أن يكون مفكراً ومنظراً لنا، وأن نطبّق اجتهاداته ومناهجه على حاضرنا، بل الغرض من كل قراءات ابن رشد محاولة التفكير من خلاله بوصفه معلماً في مشكلات حاضرنا، فالمشكلة الإنسانية في عمومها تشترك في بعض الخصائص العامة، ومنه يمكن لابن رشد بوصفه معلماً تراثيًّا أن نستفيد من خلال استحضاره في عملية تطوير المجتمع، وترقية الإنسان.

2- إن عملية التفكير من خلال ابن رشد لا تعني بالضرورة إعادة إنتاج نصوصه واقتباسها، بل محاولة إنتاج نص جديد غير رشدي، لكنه من وحي المساءلة الرشدية، ونعني بذلك أن «العبرة» التي تحدّث عنها القرآن الكريم وربط وجودها المفاهيمي بالماضي والشخصية الغابرة، ينبغي أن تتجسد حين قراءة ابن رشد. والعبرة تُنتج الوعي الخلّاق، الذي يستطيع أن يجعلنا نستحضر الماضي من أجل فهم الحاضر واستشراف المستقبل، إن الاعتبار في الفكر العربي يتجه صوب تأسيس ما يسميه الغرب بفلسفة التاريخ، ونحن بذلك في كل لحظات الاعتبار نستطيع أن يكون تراثنا ليس مجرد نصوص مقدسة ومحنطة، بل نصوص متجددة الفهم والقراءة.

3- عدم الوقوع في النمطية، ونقصد بذلك التَّحرر من ابن رشد المُهيمن، الذي يمارس على الباحث منهجه ونصه ومقصده، فكل ما أنتجه ابن رشد كان ضمن بيئته هو كمثقف ومفكر، وكل اجتهاداته كانت تتوافق مع واقع مجتمعه وأمته. إن الرشدية المعاصرة ينبغي أن تُعزل عن منطق الهيمنة والاستحواذ، وينبغي أن يكون ابن رشد بمثابة المَعْلم الحضاري الذي نجعل منه نقطة انطلاق وليس نقطة ارتكاز، فالرشدية المعاصرة إذا كان الغرض منها استحضار ابن رشد من أجل أن نفكر من خلاله بعيون الحاضر تصبح عندئذ تمتلك الشرعية المعرفية.

4- إن استدعاء ابن رشد يجب أن يكون من منطق وضعه كشخصية افتراضية، نفترض وجوده في عصرنا لكي نفكر من خلاله في قضايانا المعاصرة، فيكون هو الحاضر المُفَكر من خلاله وأنا المُفكِر، هو السائل وأنا المجيب، هو المُفترض وأنا المفسر، هو المُشكك وأنا المُتيقن، هو الصورة وأنا المبدع، هو النّص وأنا كاتبه ومؤوله.

5- إن الاستفادة من ابن رشد لا بد أن تُربط بالقصد والغاية، ونعني بذلك أنه من المهم بمكان أن نصارح الذات بطبيعة العلاقة مع ابن رشد، ولِمَ أحاول استدعاء ابن رشد؟ فأغلب من جعل ابن رشد معلم الحداثة تبنّاه من منطلق الانتصار للعقل والعقلانية، أو الانتصار للفلسفة، عندئذ يصبح ابن رشد مجرد وسيلة... لكن ابن رشد لا ينبغي أن يُجزَّأ فإذا كان عقلانيًّا فهو كذلك كان عرفانيًّا إيمانيًّا، وإن كان منتصراً للفلسفة فهو كذلك كان قاضياً ومتديناً، فهل تصح قراءة ابن رشد في حالة إذا ما تعاملت مع ابن رشد وفق ما أريد وأرغب؟؟ أم أن القراءة الصحيحة هي وفق ما يجب ويقتضي؟؟

لقد نبّهنا أ. محمود قاسم إلى نقطة في غاية الأهمية، فأغلب الدّراسات تحاول أن تقدم ابن رشد على أساس الفيلسوف المادي، والمفكر الواقعي: «ومما لا ريب فيه أننا سنجد فرصة تتيح لنا البرهنة على أن الفلسفة الرشدية ليست، كما يدعيه بعض مؤرخي الفلسفة في العصور الوسطى، فلسفة مادية مناهضة كل المناهضة للمذهب الروحي»[3].

6- ضرورة الاعتقاد بأن ابن رشد في حاضرنا لا يمكن أن يُحدث التقدم أو يحل مشاكلنا، لا منهجه العلمي ولا نصه التراثي، فالتقدم ومعالجة القضايا تتم وفق إبداع نص يتماشى وعصرنا، ويتناغم وروحه، ويكون من إنتاح أبناء القرن والعصر.

7- التحرر من فكرة أن الغرب تقدم بفضل الرشدية وحلقات التنوير التي ساهم ابن رشد في قسط من وجودها، فالغرب تقدم لأنه استطاع من خلال الآخر أن يعي تخلفه، ثم بادر إلى إحياء رموزه الفكرية لا لتُفكر له بل لكي يفكر من خلالها، وبعد أن تم له ما أراد استغنى عنها في عملية الإبداع، وجعلها مجرد موضوع للإبداع، مع العلم أنّه أحدث قطيعة معها في مجال المضمون المعرفي.

8- التحرر من وهم أن ابن رشد انتصر على مشكلات عصره، بل الحقيقة أن فلسفة ابن رشد لم تستطع أن تُغير من ثقافة عصره أي شيء، لأنها نبتت في بيئة متخلفة عن فكره، ففكره من الناحية التاريخية لم يستطع أن يُغير من مسار الفلسفة الإسلامية والدولة الأندلسية شيئاً مذكوراً.

إن ابن رشد فشل واقعيًّا في حل مشكلات عصره وإن نجح في تحليلها فلسفيًّا، ومن هذه القاعدة لا نتفق مع كثير من الدارسين الذين يعتقدون أنّه انتصر على مشكلات عصره، وتلك هي الأغلوطة التي نستشفها من خلال كثير من الدراسات المعاصرة، وعلى سبيل المثال أن ما قاله محمد بركات يُعد تغليطاً للتاريخ: « وإذا كانت قراءة ابن رشد الآن تشهد على تخلفنا بعد أن عجزنا عن حل كثير من إشكالاتنا الفكرية والثقافية والدينية، فهي إلى ذلك تعزز الثقة بأن التّجاوز للعجز والتمزق أمر ممكن، فهو لا يشدنا إلى الماضي فحسب، بل يضعنا أيضاً وجهاً لوجه أمام مشاكلنا الكبرى، لأنه يهيب بنا، بانتصاره العقلي على مشاكل عصره»[4].

إن الانتصار العقلي لا يمكن أن نفهمه على مستوى التنظير فحسب، بل الانتصار العقلي إن صح من حيث الاصطلاح الفلسفي لا بد أن يُقترن بالواقع والفعل، فالفعل هو الوجه الحقيقي للعقل، وأن نقد العقل هو نقد الفعل، وأن التنظير العقلي غايته الفعل أصلاً. ومنه يصبح ما قاله أ. البخاري حمانة أقرب إلى الواقع مما قاله الجابري وبركات وفخري: «بذلك توارى «فصل المقال» أمام «فيصل التفرقة»، ولم يصمد «مناهج الأدلة» أمام «مناهج العارفين»، ولم يُوقف «تهافت التهافت» تهافت الفلاسفة، ولم تصل «بداية المجتهد» دون استمرار الأمة في الاقتصاد في الاعتقاد»[5].

إن التاريخ وإنسان ما بعد الموحدين يؤكدان انتصار الغزالي على ابن رشد، فلقد استمر فكر الغزالي وفلسفته رغم كون ابن رشد جعل منه خصماً فكريًّا ليتقدم فلسفيًّا، لكن الغزالي حتى من خلال الكتابات الرشدية تقدم فلسفيًّا، وأزاح ابن رشد من الساحة الفكرية، لأن الجمهور انتصر للغزالي من خلال العقيدة الأشعرية والنزعة العرفانية التصوفية.

إن الثقافة الإسلامية ما بعد ابن رشد كانت في مضمونها أقرب إلى ما جاء في كتب الغزالي، فقد كان أبو حامد العرفاني أقوى في تأثيره من ابن رشد العقلاني، وكان فيصل التفرقة أكثر حضوراً من مناهج الأدلة، لقد انتصر الغزالي على ابن رشد تاريخيًّا، لكن ابن رشد انتصر على الغزالي معرفيًّا.

لكن فيمَ نستفيد اليوم من ابن رشد؟؟

1- في طريقة توظيف الآخر

يبدو أن السلف (المعنى التاريخي) كان أكثر وعياً منا في توظيف رموز الثقافة والفكر، ولم يجد حرجاً في تقديم أو شرح كتب الأقدمين، وإن وجدت بين الفينة والأخرى معارضة من قبل الفقهاء وأشباه المتعلمين. لكن بالرغم من ذلك كان توظيف الآخر يدخل دوماً في تركيب البنية الثقافية للدولة.

فلقد وظّف فقهاء السّياسة العلم الفارسي لتشبيع المواطن بأخلاق الطّاعة، فكانت الحكمة فارسية والحاكم عربي. ثم وظّف الفلاسفة أفلاطون وأرسطو، حتى أصبح كل واحد منهما يمثل الجانب النَّظري من الإسلام، وهو الأمر الذي حاول أ.عبد الرحمن بدوي أن يُبيِّنه في كتابه الشهير أفلاطون في الإسلام.

إن ابن رشد وظَّف أفلاطون بذكاء الفقيه أولاً، وبجرأة الفيلسوف ثانياً في مجال القول السّياسي، يقول مولغان (R.G. Mulgan): «إن عمل ابن رشد لجدير بأن يُقرأ في عصرنا الراهن باعتباره في حد ذاته تأليفاً في نظرية سياسية أكثر منه مجرد شرح على أفلاطون. والأمر الذي يكتسي أهمية خاصة هو توفيق ابن رشد بين الأفلاطونية وعقائد الإسلام، فقد وسعه أن يتبنى العديد من نظريات أفلاطون الكبرى دون حرج منه»[6].

نلاحظ في زماننا المعاصر أن أغلب المفكرين العرب لم يستوعبوا الدّرس الرشدي، ولا الدرس الذي قدّمه قبله الفارابي حين تعاملا مع أرسطو وأفلاطون. ويمكن أن نصرّح بكل موضوعية أنهما استطاعا أن يتعاملا مع راهنهما بالوافد اليوناني والموروث الجاهلي، واستطاعا بذلك أن يتقدما فلسفيًّا.

نستطيع أن نستفيد من ابن رشد اليوم في كيفية التعامل مع النّص الوافد، ثم كيف يكون الباحث شريكاً في إنتاج النّص لا مستهلكاً له فقط، فاليّوم نحن أمام ظاهرة مقلقة تتمثل في تلقف النصوص والمفاهيم، ثم محاولة تبيئة المكان معها لا تبيئتها معه، إن ابن رشد كان يجيد محاورة الآخر، ثم إنتاج نص جديد يتلاءم وثقافة المكان. يقول أ. الجابري موضحاً تلك المهارة الرشدية: «ما يلفت النظر هنا، هو أن ابن رشد لم يسجن نفسه في نص أفلاطون، بل تصرف فيلسوف قرطبة كشريك في إنتاج النص»[7].

لا بد أن نتعلم من ابن رشد كيف نكون شركاء في إنتاج النّص مع الآخر، وأن نختار من النصوص ما هو ضروري في كل مشروع ثقافي.

2- في طريقة إبداع المفاهيم

لم يكن ابن رشد مجرد شارح للنصوص الفلسفية، وناقلاً لمصطلحاتها، لقد كان يعمل في كل شرح على إبداع المصطلحات والمفاهيم، فمن دليل الاختراع، ودليل العناية إلى إبداع المفاهيم السّياسية، فمصطلح وحداني التسلط أبدعه من حيث مشاهدته ومعايشته للملك المنصور، فلقد ترجم سلوكه بالوحداني وشهوته بالتّسلط، فجاء وحداني التسلط ليعطي للفكر الإسلامي مسوغات نقد رموز سلطته. إن النص لو لم يُفقد في الأندلس لكان مصطلح وحداني التسلط أيقظ الوعي في أذهان كثير من العامة والخاصة.

وإذا كان الجاحظ ثم الفارابي أبدعا مصطلح النوابت، فإن ابن رشد عوض أن يشبّه الإنسان بالنبات شبّهه بما هو أقرب إليه من حيث النوع، ونقصد الحيوان. فأشباه الناس (العوام عند الغزالي - الدهماء عند المعتزلي) وصفهم بالزنابير، وهي حشرات شبيهة بالنّحل ولكنها لا تنفع بل تضر. ولا بد أن يرافق عملية إنتاج المفاهيم الاستعانة بالشواهد الثقافية والتاريخية من بيئتنا حتى يتناسب المفهوم مع الذهنيات. وعلى صعيد آخر يجب ألَّا نُغطّي المفاهيم بهالة أيديولوجية أو بطانة ميتافيزيقية، كما هو الحال اليّوم في كثير من الكتابات الفكرية في العالم العربي، التي تنحت المفهوم من خطاب الآخر وتغرقه في يمٍّ من المغالطات الأيديولوجية. لقد كان ابن رشد ذكيًّا حين بتر النص من غطائه الميتافيزيقي: «لأول مرة يتم التّعامل، في الثقافة العربية، مع المضمون السياسي لكتاب الجمهورية كما هو، بعيداً عن أية بطانة ميتافزيقية (كتلك التي لفّه فيها الفارابي)، وعن مهج المقابسات و (سوق الأدب)»[8].

3- في طريقة نقد الأنظمة

لم يكن الفكر السياسي جريئاً على اتخاذ مواقف نقدية من الأنظمة الحاكمة في الدولة الإسلامية، ولم يكن المفكر منخرطاً في عملية نقد السلطة باستثناء طائفة من المفكرين الذين اختاروا طريق التستر أسلوباً كإخوان الصفا. لكن مع ابن رشد نجد مفكراً يمارس عملية النقد، ويشير إلى الزمان والمكان، ويحدد المَعْنى بالأمر بالذَّات والصفات. لقد كان المتن الأفلاطوني الرشدي محملاً بالنّقد الصريح لسياسة أنظمة الدول الإسلامية من عهد معاوية إلى المنصور. ولا نريد أن يكون النقد من أجل المعارضة الضيقة التي نرى طغيانها اليوم على الصعيد السياسي العربي، إننا نريد أن نستفيد من الدرس الرشدي في مجال توجيه النقد نحو مواطن البناء لا الهدم، وأن يكون النقد مسلحاً بالمفاهيم التي تُعمّق الوعي بالمسائل الاجتماعية: «لأول مرة يتم نقد الاستبداد بمفاهيم مباشرة (وحداني التسلط) وبجرأة وقوة وبإعطاء أمثلة من واقع التاريخ العربي»[9]. إن عملية نقد رأس السلطة ليست فقط لعبة في عالم صراع الكبار، بل هي عملية تدخل في صميم الحكمة العملية، وعندما نتأمل النصوص التالية نكتشف مدى واقعية ابن رشد في ممارسة عملية النقد.

أ- نقد وحداني التسلط: كان ابن رشد في الضروري في السّياسة قد شنّ هجمة معرفية على الطغيان والمستبد، وحلل شخصية المستبد (المنصور). رغم أن ابن رشد يؤسس نظامه على وحدانية التدبير، فالحاكم ينبغي أن يكون بالضّرورة واحداً حتى يمنع الفساد: «ومن هنا جاءت ضرورة وحدة الحاكم أو المدبر وفساد نظام المدينة الواحدة إذا تعدد فيها الرؤساء»[10]. غير أن الحاكم الواحد في المدينة الرشدية ليس بمستبد أو طاغٍ، فنحن نتفق مع ابن رشد في ضرورة أن تكون الأنظمة العربية موحدة في حكامها ولكن شريطة أن تكون الأنظمة بعيدة عن التسلط والطغيان، لقد كره ابن رشد الطغيان، والأحرى بنا نحن في عصر الحريات أن نكون أكثر جرأة في نقده وتغييره.

ب- نقد سلطة البيوتات: إن شر ما أصاب العالم العربي منذ معاوية بن أبي سفيان إلى يومنا هذا هو سيطرة حكم البيوتات، أو كما يقول أ. حسن حنفي «بين حكم الجيش وحكم قريش» فالسياسة العربية صبغت نفسها بحكم الأسر والعصبيات، وتصبح الدول تتهافت، والأنظمة تتبدل من السيئ إلى الأسوأ، فتضيع الوحدة التي هي أساس صلاح وقوة الدولة. توزعت الدول العربية على مساحة شاسعة، تمتلك الخير والخيرات لكن تمزقها وتشتتها. واستئثار أرباب البيوتات بالحكم جعل العالم العربي يُرتَّب ضمن الدول المتخلفة سياسيًّا واقتصاديًّا، بل يدفع الدول اللقيطة تاريخيًّا إلى تدنيس أرضه وعرضه، وتكليس عقله ومخياله. إن ابن رشد كان ملمًّا بالمسألة السّياسية حين ربط الصلاح بالوحدة والفساد بالتشرذم.

ج- نقد النظام الديموقراطي: إن أهم ما يمكن أن نستفيده من ابن رشد نقده لنظام الحكم الجماعي المسمى في عصرنا بالديموقراطية، أي حكم الشعب نفسه بنفسه ولنفسه، والنقد الرشدي عندما نحلله نجده ينطبق اليوم على واقعنا المعاصر، فالديموقراطية في البلدان العربية هي ديموقراطية تحمل نصف الشر كما تحمل نصف الخير، والنظام الفاضل هو الذي يكون فيه مستوى الخير أكثر من مستوى الشر، بيد أن الديموقراطية المعاصرة تتساوى فيها المضار والمنافع وهنا تكمن خطورتها. إن الحرية التي تعتبر من أهم مبادئ هذا النظام تخفي وراءها عبودية مطلقة، فنحن اليوم نعاني من هيمنة المجتمع الصناعي، الذي حوّل الفرد إلى مستهلك، وسيحوله في القرون القادمة إلى آلة مزدانة بالشعور، أو إلى كتلة من لحم متحركة.

إن الوقوف على حقيقة الحكم الجماعي يجعلنا ندرك أنه من المستحيل أن يصل إلى الحكم أفراد الشعب العاديون، بل سيصل إليه دوماً أبناء الطبقة المالكة. لأن الحكم الجماعي سُيِّج بقوانين تجعل الارتقاء إلى الحكم يتم عبر المرور بفئة أصحاب المال، فهل يستطيع ابن الفلّاح أو الحداد أن يكون رئيساً لدولة معاصرة؟؟ بطبيعة الحال لا يمكن ذلك، فوراء الديموقراطية حملة انتخابية تتطلب مالاً وفيراً، ودعماً وجيشاً، وعتاداً وعدةً. لقد فهم ابن رشد اللعبة جيداً كما فهمها أفلاطون قبله، إن الدول الجماعية كما قال ابن رشد سريعة البوار، وهي كذلك.

ومن جانب آخر، لا يمكن القول: إن الناس متساوون في تدبير شؤون الدولة، وأن من استحق ذلك بالانتخاب وجب عليه ذلك، فتدبير الدولة يحتاج فعلاً إلى من هو مؤهَّل بالطبع والتكوين لذلك: «إن المشكلة في طبيعة المجتمع التفاضلية والتراتبية على ما وضعه أفلاطون وابن رشد تبدو وكأنها قامت على مقدمة، وهي أن كل فرد يختلف تماماً عن أي فرد آخر، فلا سبيل إلى أن يشارك كافة الناس بالتساوي في تدبير شؤون الدولة أو في تحديد طبيعتها»[11].

لكن رغم ما سبق، نستفيد من النظام الديموقراطي من خلال القراءة الرشدية في بناء الأرضية لبناء مشروع سياسي ناجح، لأن النظام الديموقراطي رغم السلبيات السابقة فهو يقدم للفيلسوف الفرصة لإعداد مشروعه السّياسي نتيجة حرية التعبير التي يوفرها له النظام، وعلى الفيلسوف أن يحافظ على النظام الجماعي إلى غاية اكتمال المشروع السياسي الفاضل. إذن على المفكر العربي اليوم، أن يستغل وجود النظام الديموقراطي ليرسم معالم نظام جديد يحقق للإنسان كينونته الحضارية. إن الديموقراطية كنظام فاسد يبقى ضرورة اجتماعية اليوم أكثر منه ضرورة سياسية، ويجب أن نُخضع الأنظمة المستبدة إلى تبنيه ليس لكونه نظاماً فاضلاً، بل لكونه أقرب الأنظمة إلى الوسطية، وتتساوى فيه قيم الخير والشّر. والنظام الديموقراطي ترفضه المدن الأولغارشية المجاورة، وهو بدوره يرفض النظام الأولغارشي، مما يجعل الغضب الشعبي يزداد حنقاً على حكم القلة ويُتوج آخر الأمر بثورة عارمة أو حرب دروس[12].

إن القراءة الرشدية للحكم الجماعي قراءة ذكية، تؤكد أن الفيلسوف يجب أن يستغل المدن الجماعية لبناء جيل من المواطنين قادرين بما تلقّوه من تربية أن يحققوا قفزة نوعية في تطوير المجتمع، وترشيده نحو السَّعادة. ولكن المهم من ذلك كله كيف يجنح المفكر العربي داخل الأنظمة الديموقراطية إلى تمثُّل ابن رشد وهو يحاول أن يجعل من يوتوبية أفلاطون مشروعاً واقعيًّا، ويحوّل المدينة الفاضلة إلى مدينة واقعية[13].

4- في طريقة بناء المنظومة التربوية

إن جل المشاريع الإصلاحية والتحديثية لم تستطع لحد الساعة بلورة مشروع تربوي متميز، يستمد جذوره من ثقافة شعبه وينخرط في بلازما الثقافة المعاصرة انخراطاً حيويًّا. إن ابن رشد يُعلمنا من خلال الضروري في السّياسة كيف نستفيد من مشاريع الآخر التربوية، وكيف يُمكن تبيئتها. لقد استفاد ابن رشد من التجربة الأفلاطونية، وأسّس مشروعه التربوي على مبدأ الترتيب التفاضلي، يقول في هذا السّياق أوليفر ليمان: «وهذا يتفق تماماً ونظرية ابن رشد السياسية، وقد أصاب في اتخاذ جمهورية أفلاطون دليله الأول في النظرية السياسية، نظراً إلى كون التعليم الوارد فيها مرتباً ترتيباً تفاضليًّا»[14]. ومعنى ذلك أن العالم العربي اليوم بحاجة إلى من هو على شاكلة ابن رشد لكي يستفيد من النظريات التربوية المعاصرة عن طريق جعلها أكثر ملائمة للإنسان العربي، إننا نرفض أن تكون المنظومة التربوية نسخة غربية ونريد أن نكون كابن رشد في اختيار أهم ما في النظريات المعاصرة لبناء منظومة تربوية شاملة.

إن التربية كلٌّ متكامل، يجب أن يكون على وتيرة واحدة من التواجد، فابن رشد الفقيه لم ينخرط في زمرة فقهاء التحريم، فلقد أكد على ضرورة التربية الموسيقية واعتبرها عاملاً مهمًّا في تربية روح المتمرن. ونحن اليوم في قرن التكنولوجيا المتطورة لا زالت التربية الموسيقية مستبعدة ومُقصاة في كثير من المنظومات التربوية، وحتى وإن وجدت فلا يكاد الوقت المخصص لها يتجاوز الساعة في الأسبوع، الحال نفسه يصدق على التربية البدنية في العالم العربي.

5- في طريقة نقد الحركات الإسلامية

لقد دأب ابن رشد على نقد مُتكلِّمة عصره، وألَّف في ذلك كتاب فصل المقال ومناهج الأدلة في كشف عقائد الملّة، ونقده للمتكلمة من حيث كونهم غالوا في الاعتقاد، وفرّقوا الأمة شيعاً وأحزاباً، وأدخلوا في الدين ما ليس فيه أصلاً، وألزموا به غيرهم كرهاً كما فعلت المعتزلة زمن المأمون والأشعرية زمن ابن تومرت، ومن هنا يمكن أن نستفيد من ابن رشد من خلال التفكير في ظاهرة الحركات الإسلامية المعاصرة التي تكاد تلعب الدور نفسه الذي لعبه أصحاب مدارس علم الكلام.

إن الحركات الإسلامية المعاصرة نفسها وقعت في دائرة التكفير، ومنطق الفرقة الناجية، والعقيدة الصحيحة، إننا نحتاج اليوم أن نكتب مثل مناهج الأدلة لكشف أيديولوجيات الحركات الإسلامية التي تسيء للإسلام أكثر مما تنفعه. وأن نكتب مثل فصل المقال في ما بين العلم والفلسفة والإسلام من اتصال.

إن ابن رشد يمكن أن نوظفه لترشيد الإسلام السّياسي، فالسياسة لا تخضع للثابت والمقدس وإنما جوهر التدبير المدني أن تكون القاعدة الأساسية ما قاله صاحب الشرع (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنتم أدرى بأمور دنياكم»[15].

ربما يكون عصر ابن رشد أقل حدّة من عصرنا، فعلماء الكلام كانوا أهون من بعض الحركات الإسلامية اليوم، التي لا تنتج فكراً بل تنتج دماً، لقد كان علماء الكلام رغم السلبيات ينتجون ويبدعون، يحاورون ويعلّمون. لكن زنابير هذا الزّمان تلتصق بجزيئات الماضي حتى أصبح الماضي يُختزل في قميص وسروال، وكان علماء الكلام لا يكفّرون إلا في بعض المسائل في حين أصبح التكفير سمة عصرنا.

لقد تفرّق المسلمون، وتاهوا في فقه الفروع، وأعلنوا استكانة العقل من حيث تقديس ما لا ينبغي أن يقدس. لم يكن الإسلام يوماً مجرد لباس وهيئة، أو عبادات وفتاوى، لقد كان الإسلام كما فهمه ابن رشد وغيره من الفلاسفة مشروعاً للإنسان والمجتمع يتفاعل في حركية مع الآخر الثقافي.

لقد تنامت الحركة الإسلامية في عصرنا، ولازال الفكر غير قادر على تقديم تحليل مشخّص لها، إذ لا زال السؤال: هل هي صحوة أم وعي متطرف؟ هل هي عودة للإسلام أم تقدم نحوه؟ هل هي أيديولوجية سياسية أم دعوة دينية؟

ونعتقد أن الفكر العربي المعاصر سيظل في منأى عن فهم الظاهرة الإسلامية مادام لم يستدع التراث ليستفيد منه فيما يطرأ عليه من مشكلات متجددة.

6- في الجرأة على إبداء الرأي والموقف

والاستفادة العظمى في رأينا تكمن في وضع ابن رشد كنموذج للمفكر الحر الذي يقول آراءه ومواقفه بكل حرية، وتكون له الجرأة على قول الحقيقة. كما أن الموقف لا بد أن يكون واضحاً من مسائل التحضر والسياسة والمجتمع، فالمثقف المعاصر يغازل في أغلب الأحيان السلطة، ويبحث في سراديبها عن منصب بائس، إن الموقف الذي يمليه الواجب على المثقف المعاصر هو أن يكون مرآة عصره، التي يستشف من خلالها مواطن الخلل وموارد الحقيقة.

لقد انتصر في عصرنا السّياسي على المثقف، والعامي على المفكر، فأصبح الشارع هو الذي يحرك السلطة ويخيفها، وهو الذي يملي على المفكر ما يبدع وما ينتج، وعليه وجب إعلان موت المثقف المعاصر. ما قيمة آلاف المثقفين إن كانوا بلا مواقف، وما قيمة السياسة إن لم يصنع دواليبها المثقف الواعي، لقد حاول ابن رشد أن تكون السياسة مهمة الفيلسوف وليس السياسي (الممارس لها) وذلك قمة الإصلاح الرشدي في مجال القول السِّياسي: «والقول في «السياسة» والإصلاح السّياسي، قولاً لا نجده في الثقافة العربية، لا لمن سلف ولا لمن خلف»[16].

والإصلاح السياسي كان يريد ابن رشد من ورائه تحديد منزلة رفيعة للفلسفة داخل البنية الاجتماعية، بحيث تضمن ذلك السلطة السياسية التي ينبغي أن تكون ضد سلطة المتكلمة، وأهل الملل والنِّحل[17].

وموقف ابن رشد من مسألة المرأة يعتبر في غاية الوضوح والجرأة، ولم يستطع المثقف المعاصر أن يحذو حذوه في فهم الغاية الإنسانية التي تجعل المرأة والرجل شريكين في العلم العملي، وخاصة في تدبير المدينة. لقد تفرّد ابن رشد في الدفاع عن قضية المرأة، وإن أطروحاته عنها تعتبر لحد الساعة مواكبة لمتطلبات التحضر، لقد وافق أفلاطون في كون المرأة والرجل توضع على عاتقهما المهام التربوية والسياسية نفسها[18].

7- الحفاظ على استقلالية المفكر

إن إشكالية المثقف في عصرنا غالباً ما ترتبط بالانتماء السياسي أو الثقافي، حتى بات التَّسليم أنه لا يوجد مثقف في العالم العربي والإسلامي يملك استقلالية فكرية، أو يضع نفسه في خانة المنتمي للحق والحقيقة. إن ابن رشد كان مثال المفكر الذي رغم شرحه لأرسطو وأفلاطون يظل وفيًّا لذاته، وألَّا يعلن انتماءه المطلق للمعلم الأول أو الأخير. يقول الجابري مبرزاً تلك الصفة النادرة اليوم في مثقفينا: «... فقد بقي محافظاً على استقلاله الفكري، منصرفاً بكليته إلى مشروعه العلمي الكبير الذي كان ينمو ويتفرع، أكثر فأكثر، كلما قطع فيه شوطاً. المشروع الذي يتداخل فيه فتح باب الاجتهاد في الفقه، وتصحيح العقيدة، ورفع الظلم عن الفلسفة وتحريرها من إشكاليات علم الكلام»[19].

8- إحياء العقلانية الرشدية

قبل أن نعطي للعقلانية الرشدية بُعدها الحقيقي في عملية تحديث وتنوير المجتمع العربي، نود أن نلفت الأنظار إلى مسألة استخدام العقل العمومي عند ابن رشد، ولا نعني بالعقل العمومي عقل الجمهور، فابن رشد وضع منذ البداية قطيعة إبستيمية بين العلماء والعوام. إنما المقصود بالعقل العمومي ما يرمي إليه الباحث فتحي المسكيني حين يبيِّن جوهر العلاقة بين المفكر والجمهور: «إن هذه العلاقة الجوهرية مع الجمهور بوضعه مادة النزاع ورهانه في آن، إنّما تجعل مسألة الاستعمال للعقل العمومي، تنقلب إلى خطط متجاورة في هيئة تركيبها. لا تضجر من السؤال إلا عما تسكت عنه أو تخفيه»[20].

يحاول ابن رشد أن يجعل من العلماء العقل العمومي في إطار الدولة السليمة نظريًّا، فالجمهور لا بد له من عقل يفكر عنه، ويحتضن انشغالاته، ويستوعب أسئلته، والعقل العمومي هو الذي يستطيع أن يصرّح بما يجب أن يصرّح به للجمهور وما يجب أن يُستر ويكتم. إن هذه النظرية هي أولى عتبات حركة التنوير الرشدية، ليست العقلانية أن يتم تنوير الكل، ولكن العقلانية الرشدية تذهب إلى تنوير الخاصة أولاً، ثم محاولة تنوير العامة بما يتفق وطبيعتهم. إذن ليس النظر العقلي للجميع بل النظر له رجاله، وله مقامه ومقاله.

لقد توصل العقل العربي -مجازاً لوحدة العقل الإنساني- إلى حقيقة مفادها أن التنوير لا يمكن أن يتم ضمن فكرة «الشعبوية»، فكلما أُقحم الجمهور في مسائل الفكر والسّياسة كلما كانت البلاد تعيش أسوأ مراحلها التاريخية. إننا بحاجة إلى ابن رشد لكونه فهم أن التنوير لا يعني التصريح لهم بالعلوم والمعارف، بل عين العقل في عدم التصريح إلا بما يتفق وطبيعتهم، ويقول في هذا الصدد أ. محمود حمدي زقزوق: «وسوف يتضح لنا من خلال هذه القراءة الجديدة المتأنية أننا اليوم أحوج ما نكون إلى ابن رشد من أي وقت مضى. فالأمر الذي لا جدال فيه أن عالمنا العربي والإسلامي في أشد الحاجة إلى حركة تنويرية شاملة في محاولة لإخراجه من حالة الجمود والتخلف التي تسيطر عليه منذ مدة طويلة»[21].

وبالرغم من الدّعوة المتجددة لعقلانية ابن رشد، فإنّنا نسجل تخوفنا من أن تكون عقلانية ابن رشد مجرد دعوة أيديولوجية بمعناه السلبي. وأن يوظَّف ابن رشد لأهداف سياسوية ضيقة، أو أن تُستعمل في إطار التعصب للمكان، خاصة بعدما أصبح الفكر العربي المعاصر يحاول أن يقسّم فكره إلى نمطين الشرق والغرب الإسلامي.

والأخطر من ذلك كله أن قراءة ابن رشد منذ مطلع القرن العشرين اتسمت بالأيديولوجية، وفي هذا الصدد يوضح ألكافون كوغلغن: «فقد بدا هناك اهتمام في بداية القرن بابن رشد على المستوى الأيديولوجي»[22].

9- قيمة الطرح الرشدي لمسألة السلم

لم يكن ابن رشد في زمن يسمح بالتفرغ لمسائل السلم والسلام العالمي على غرار ما سيقدمه لاحقاً كل من إيمانويل كانط وبيتراند راسل، لأن عصره عصر ملوك الطوائف والمدن المتحاربة، والملوك المتسلطة تسلطاً أحاديًّا، أما الرعية -العوام- فلم تخرج عن دائرة القطيع الهائج على حد تعبير غوستاف لوبون.

إن قيمة الطرح الرشدي للسلم تتمثل في تركيزه على مبدأي العدل والحرية، باعتبارهما أصل كل تقدم إنساني، ولعل العالم الإسلامي اليوم أشد حاجة إلى الحرية والعدل ليخرج من سباته الحضاري الذي عمّر طويلاً، لكن رغم ذلك نسجل على ابن رشد ما يلي:

1- نظر إلى الحرب والسلم نظرة رياضية، وحاول جعل كل واحد منهما مقولة واقعية، تتناسب وطبيعة الإنسان المنجذبة نحو قيمتين متناقضتين الخير والشر، كما هي نظرة تحاول أن تقيد الفعل البشري بالضرورة العقلية من منطلق قوله: «الحرب فضيلة عقلية».

2- عدم اهتمامه بالجانب الروحي والتنظير له، ثم التبشير به، وابن رشد جعل الإنسان مجرد رقم في معادلة رياضية معلومة المجاهل والمتغيرات.

إن استحالة السلم وعرضيته لا تمنع من الدعوة إليه، فحتى وإن لم يتأسس كمشروع عام للإنسانية في إطار السياسة والعلاقات الدولية فهو ممكن التأسيس على مستوى الشعور الفردي والجمعي في أذهان الحفظة والناشئة، لأن الشعور بالسلام كقيمة يقلل من مجال العدوانية، ويوجّه العنف نحو قيم الخير، ويقلص من ديمومة الحرب. ويمكن أن يؤسس في الذات البشرية قاعدة أخلاقية: «لا حرب إلا عند الضرورة القصوى» وقاعدة إنسانية «لا حرب بين الإنسان وأخيه الإنسان، فحياة الإنسان في حياة أخيه».

ماذا نستفيد من ابن رشد اليوم في مجال السّلم؟؟؟

تتباعد الأزمان لكن الأفكار لا تتباعد، إذ إن الفكرة تتجدد في كل وقت عندما تجد الشروط اللازمة لانبعاثها، فالفكرة كائن مسافر يستريح في بعض محطات الفكر ما شاء له سلطان المعرفة، ويسكن الهواجس كما تسكن النفوس الأجساد، ثم يعاود السفر من جديد.

ابن رشد حاضر في واقعنا المعاصر وإن اختلف زمانه من حيث الأشخاص والأمكنة، فإنه لا يختلف من حيث الوضع والأزمة، وتشرذم ذات البين، وضعف المؤسسات السياسية، وكثرة الطوائف والملل والنحل، وقصر نظر الساسة وضعف النخب المفكرة.

العالم الإسلامي اليوم أشبه ما يكون بالأبله الذي يتبع كل ريح تهب، ويعتنق كل مذهب يظهر، ويعيش تشرذماً وتبعية، واغتراباً واستلاباً... ومنه يمكن القول: إن الضروري في السياسة للشارح العربي ابن رشد يمكن أن نستفيد منه اليوم انطلاقاً مما يلي:

1- الممكن لا يخرج عن دائرة المعقول، وكل ما هو معقول ممكن، والمدينة كمشروع عقلي واقعي لابد أن ترتكز على العلم المدني باعتباره الركيزة الأساسية لنجاح مشروع الفيلسوف، وتكتمل صورتها النموذجية بعد ذلك بالعلم الإلهي.

ومنه فأفكار السلام العالمي والأمن الكوني عندما نُخضعها للواقع والعقل نكتشف كونها مجرد مقولات لا تحمل من المصداقية الأخلاقية والإنسانية إلا الشعار، فهي مجرد أكذوبة سياسية تكرّس نزعة ثيموسية تحاول أن تنزع الاعتراف من الآخر سواء بالقوة أو الخديعة المبنية على فلسفة تصدير القيم الإنسانية الجوفاء.

2- إذا أردنا السلم والسلام العالمي فعلينا أولاً الاستعداد للحرب، فالسلم لا يصنعه في عرف ابن رشد من كان جباناً أو ضعيفاً، وشاهده على ذلك مدينة القلة فأهلها منقادون للسلم جانحون إليه ليس حبًّا في السلم وإنما زُرع في نفوسهم الخوف من كثرة أهل المدن الأخرى، فتراهم لا يميلون إلى الحرب ولا يفكرون في مواجهة الآخر، فالسلم لا يمكن أن يحدث مع الآخر -الغالب- إلا إذا كان استسلاماً، وعليه يجب التفرقة بين الجنوح للسلم والاستسلام.

الجنوح إلى السلم يعني أن الجانح إليه كان طرفاً في عقد السلام، ويملك من القوة والعدة والعتاد ما يضمن للسلام الديمومة -الدوام نسبي-، أما الاستسلام فهو تسليم مصير المغلوب للغالب لعدم امتلاك المغلوب القوة التي تكفل له المجابهة والمبادرة.

3- عدم النظر للواقع الراهن والحدث الاجتماعي من منظور طوباوي، فالسلوك السحري سلوك غير سوي، لكونه يجعل الجماعة تفقد وعيها التاريخي والحضاري أمام سحرية الشعور المزيف، إن أغلب الأمم الحالمة صنعت نهاية مسيراتها وخرجت من مسرح التاريخ.

4- لا وجود للسلام العالمي الدائم إلا كمقولة فلسفية مفارقة للواقع، فالإنسان جبل على الاختلاف في اللون واللسان والفكر والمعتقد، فالصراع والتدافع سنة كونية بين الناس، وحتمية تاريخية لا يمكن تجاوزها بمقولات ساذجة تحاول أن تجعل العالم جماعة واحدة، أو مدينة واحدة تحت قبعة وحداني النظام.

5- بدل التفكير في مشاريع السلام العالمي الوهمية ينبغي التفكير في مشاريع أقرب إلى الواقع والعقل، مثل مشروع توجيه الحرب، أو ما يصطلح عليه أحياناً السلم المسلح، لأن الحرب ستظل قائمة بشكلها الآني أو بآخر، فبدل توجيهها توجيهاً غير مشروع نحاول قدر الإمكان توجيهها توجيهاً يخدم الغاية الإنسانية الموحدة.

وابن رشد ركّز في الضروري على كون جميع البشر سواء كانوا رجالاً أو نساءً، مشتركين في غاية عظمى هي الوحدة الإنسانية.

6- عدم تجاهل التاريخ البشري الحافل بالأحداث والعبر، فلم يتحقق تاريخيًّا أي مشروع سلام عالمي، لأن الحادثة الإنسانية محكومة بقوانين وغايات، والسلم الدائم يتناقض مع الغاية من وجود البشر، فالبشر لولا الصراع والنزاع ما رسموا لأنفسهم تاريخاً ولا وجوداً، وما كانوا ليكونوا لو لم يكونوا متصارعين، غير أن الصراع الكوني والتدافع الحتمي غير مستقل عن القيم الإنسانية العليا، فالتدافع غير مشروط بالحرب الدامية، وإنما يمكن أن يكون بابتكار الحرب المسالمة.

7- كل مشروع سلام سواء كان دائماً أو ظرفيًّا لا يمكن أن يتحقق إذا لم تمتلك الدولة أو الجماعة الداعية إليه القوة المادية والمعنوية ما يضمن عدم نقض بعض الأطراف لعقد السلام، فالقوة هي التي تصنع السلم. إن العالم العربي والإسلامي لا ينبغي أن ينخدع بالشعارات العالمية التي تحمل خلف بريقها أهدافاً ثيموسية.

وفي الختام أود أن أؤكد ما توصل إليه الباحث أوليفر ليمان: «وهكذا نعود في الخاتمة إلى السؤال الأصلي في هذا البحث ونفكر فيما بقي من فلسفة ابن رشد؟؟ وإذا ما تطلّعنا إلى ما وراء المصطلح القديم في الفلسفة الإسلامية في القرون الوسطى يمكننا أن نقدر أن فكره يشارك في أهم المناقشات على طول الأزمنة، وبذلك فهو بعيد عن أن يكون قد مات، وهذه فكرة تبث فينا الحماس إذ إنها توحي بأن فكره يمكن أن يدرس باعتباره فلسفة، ولا يبقى حكراً على تاريخ الفلسفة»[23].

إن حرص الفكر العربي المعاصر على إحياء الجانب الحي من ابن رشد يعطي لنا سبل المراهنة على عقلانية ابن رشد، التي نحاول من خلالها الحد من تنامي ظاهرة اللامعقول: «ومن هنا فهذا الرهان اللامحدود على إحياء عقلانية ابن رشد، يمكنه أن يفسر عمق القلق الذي يعتور كثيراً من الباحثين، من مخاطر تمادي الانزلاق، في مهاوي العنف «اللاعقلاني» ويؤكد إيمانهم بأن للعقلانية النقدية المنفتحة تراثاً عريقاً في الثقافة العربية»[24].

لكن هناك نقطة رئيسة، ينبغي التنبيه لخطورتها، فلقد تحوّل ابن رشد في عصرنا إلى أسطورة، وأُحيطت شخصيته بهالة من الأوصاف، انطبعت عنه في أذهان كثير من الناس صور العالم المادي، والعلماني المؤمن، والفقيه الفيلسوف... فالعمل العلمي يتمثل في دراسة ابن رشد بعيداً عن تلك المغالطات الأيديولوجية، والتوظيف السافر لشخصيته التراثية في بعض مسائل وقضايا عصرنا لا تمت لزمن ابن رشد بصلة.

ولعل أ. محمود قاسم تنبّه لأسطورة ابن رشد، فأراد أن يُلفت الباحثين العرب إلى ضرورة فهم ابن رشد بعيداً عن أي إسقاط: «وعلى هذا النّحو يهدف عملنا المتواضع إلى إعادة النظر في قضية ابن رشد، غير أنا نأمل أن يعيد المؤرخون النظر فيها هذه المرة في جو من الإنصاف والحيدة العلمية، أي في جو يتحرر فيه المرء من كل فكرة عاطفية وهمية، أيًّا كان مصدرها ونوعها»[25].

إن الاستنجاد بابن رشد في الحقبة المعاصرة يعدّ وهماً وسلوكاً سحريًّا، فابن رشد لن يحقق التنوير في العالم الإسلامي، كما أنّه ليس هو من أحدثه في الغرب المسيحي سابقاً، لقد كانت بلاد المسيحية في حالة تأهب حضاري، فأخذت ابن رشد معلماً لها، لأنه يُمثل حضارة مزدهرة. كما نفعل نحن اليوم عندما نختار من الغرب أبرز المفكرين، ليس لقدرتهم على تحقيق الوعي، بل نختارهم لكونهم يمثلون حضارة راقية في عصرنا.

يعلّق أ. أنطوان سيف على فكرة استدعاء ابن رشد فيقول: «إنّ استدعاء ابن رشد في هذه المرحلة له مسوغاته التي لا تخفى ملامحها ومخاوفها، فالاستنجاد به في معركة جُعل هو ملهمها لا يُخفي مخاطر التباس كبير، على الرغم من صفاء النوايا والهداف»[26].

إن فكرة الاستنجاد بابن رشد تتجه نحو النكوص الحضاري، فعندما يجتمع جهابذة الأمة ويعلنون بالإجماع حاجتهم إلى ابن رشد، ندرك أن الذات العربية لازالت تعيش حالة السبات الحضاري، إن بَيَان كُتّاب العرب التالي ذكره، يعكس العطالة الفكرية في العالم العربي: «إننا في هذه الأيام في أشد الحاجة إلى روح العقل، روح التنوير الروح التي تجلت في فلسفة ابن رشد»[27].

سنختم الموضوع بوجهة نظر قد لا يقبلها كثير من أنصار الرشدية المعاصرة، وتتمثل في الدعوة إلى تجاوز ابن رشد تجاوزاً معرفيًّا لا تاريخيًّا، فيكفي عبر تاريخنا الاستنجاد وتكرار صرخة: وامعتصماه.

 

 



[1] أستاذ محاضر ورئيس قسم الفلسفة / جامعة وهران.

[2] راجع مقال (أغلوطة ابن رشد) لصاحبه يوسف زيدان في قراءات ابن رشد، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية.

[3] قاسم،محمود، نظرية المعرفة عند ابن رشد، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط 2، ص32.

[4] محمد بركات (ابن رشد فيلسوفاً معاصراً) أعمال ملتقى ابن رشد، تونس 1999، ص680.

[5] البخاري حمانة (ماذا يمكن أن نستفيد من ابن رشد اليوم) أعمال ملتقى ابن رشد (تونس)، ص 708.

[6] مولغان، أعمال ندوة ابن رشد، منشورات المجمع الثقافي، المجلد الأول، تونس، 1999، ج2، ص ص 31 - 32.

[7] الجابري، العقل الأخلاقي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 2001، ص 383.

[8] المصدر نفسه، ص292.

[9] المصدر نفسه، ص 392.

[10] ابن رشد، مناهج الأدلة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1998، ص 155.

[11] أوليفر ليمان (ماذا بقي من فلسفة ابن رشد؟) أعمال ندوة ابن رشد، منشورات المجمع الثقافي، المجلد الأول، تونس، 1999، ج 2، ص664.

[12] Platon, La République, Tr: Robert Baccou, Garnier –Flammarion, Paris, P 50.

[13] Introduction d’Alain de Libera, Discours décisif (AVERROES),Tr: Marc Geoffroy, G F-Flammarion , Paris 1996, P71.

[14] أوليفر ليمان (ماذا بقي من فلسفة ابن رشد؟) ص 663.

[15] حديث ورد في حادثة تأبير النخيل بالمدينة المنورة.

[16] الجابري، ابن رشد سيرة وفكر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 1998، ص 14.

[17] Introduction d’Alain de Libera, Discours décisif ( AVERROES), P73.

[18] Platon, La République, P 30.

[19] الجابري، ابن رشد سيرة وفكر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1،1998، ص 13 - 14.

[20] فتحي المسكيني (ابن رشد والاستعمال العمومي للعقل)، المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، العدد 19، 1998 (م. سابق) ص62.

[21] محمد حمدي زقزوق (قراءات ابن رشد) مجلة الجمعية الفلسفية المصرية (م. سابق) ص 7.

[22] ألكافون كوغلغن (الرشدية العربية المعاصرة) المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، (م. س)، ص118.

[23] أوليفر ليمان (ماذا بقي من فلسفة ابن رشد؟) ص671.

[24] بركات محمد مراد (ابن رشد فيلسوفاً معاصراً) المجلة الفلسفية للجمعية الفلسفية المصرية، (م. سابق)، ص 676.

[25] قاسم، محمود، نظرية المعرفة عند ابن رشد، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط 2، ص38.

[26] سيف، أنطوان، وعي الذات وصدمة الآخر، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط 1، 2001، ص84.

[27] نقلاً: عن المصدر السابق، ص 45. [النص مقتطف من بيان ملتقى النزعة العقلية عند ابن رشد، حرره كل من: حسن السعاتي، توفيق الطويل، زكي نجيب محمود، جورج شحاته].