شعار الموقع

الإنسان والزمان في منظومة محمد إقبال التجديدية

الدكتور احميده النيفــر 2009-09-04
عدد القراءات « 1325 »

*

{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}

سورة الرحمن 55، الآية 29.

الصوت المختلف

ما حدا بي إلى اختيار موضوع «الإنسان والزمان» هو تقديري أن الدّين، من الناحية الفلسفية، يستمدّ شرعيته من إشكاليّة الوجود الإنساني إزاء الموت. ترجمتي لهذه المقولة كانت في الحديث عن الإنسان والزّمان.

أما عن اختيار محمد إقبال[1] فقد دفعتني إليه جملة اعتبارات لعلّ أبرزها أنّه كان شاعراً أبدع حيرة المسلم في هذا القرن فصاغها أسئلة وصوراً وعوالم حيّة مقتفياً بذلك خطى كبار الشعراء من أمثال جلال الدين الرّومي (ت. 1273) وسعدي الشيرازي (ت. 1274) كان إقبال (ت. 1938) مثلهم يرى أنّ الشعر هو أفضل أسلوب للتعبير عن موقع الإنسان وطبيعة تكوينه. كان على أثرهم يرى أنّ المثل الأعلى في الثقافة الإسلامية هو اللانهائية وأن ثقافة لها هذه النّزعة لا بدّ أن تُحِلّ معضلة الزّمان والتاريخ مكانة بالغة الأهمية[2].

ثمّ إن اهتمامنا بإقبال يرجع إلى اعتبار آخر. إنّه مفكّر مسلم عالج مسألة الإنسان من خارج الثقافة العربية فكان له موقع يمكننا من رؤية وتمشٍّ مختلفين للعلاقة التّي بين الإسلام والتاريخ. لم يكن إقبال عربيًّا ولم يفكّر بالعربية وهو رغم شديد إعجابه بالجزيرة العربيّة ورسالتها الحضارية يقدّم «رؤية إسلامية» للإنسان والزمان من خارج الفضاء العربي.

هذا الصوت المختلف رغم أنّه «تلوين داخلي» للمنظومة الإسلاميّة الحديثة فأهميته ترجع إلى أنه طرح مسألة الهويّة مبيّناً ما تقوم عليه من تعدّد وتنوع خلافاً لما يُظنّ فيها من تماثل وأحادية. قراءة إقبال هي صوت مختلف للهويّة وهو مشروع للحديث عن الآخر من الداخل الثقافي؛ لذلك يمكن عدّه مدخلاً نموذجيًّا للوعي الذّاتيّ.

لكن إقبال لم يكن فقط شاعراً ومفكّراً في الذّات القائمة على التعدّد، إنه قبل ذلك المفكّر الّذي تبنّى الحداثة تبنّياً معرفيًّا[3]. فقد مكنتّه دراساته القانونيّة والفلسفيّة بأوروبا ثمّ اختياراته التأسيسيّة في المجال السّياسي على الالتزام بثلاث قواعد فكريّة:

أ - رفضه اعتبار أوروبا مصدر الشّرور ومنبع نكبات العالم الإسلامي الحديث، وذهابه إلى جعل التصوّف السلبي والذهنيّة الفقهيّة المسؤولين الأصليين عن إبعاد المسلم عن روح المعاصرة.

ب- تبنّيه لمبدأ ضرورة التّفاعل مع الحداثة المعرفيّة. هذا الاختيار دفع به إلى متابعة تطوّر الفكر الفلسفي الغربي وتوثيق علاقته مع أبرز رموزه الحديثة من أمثال هيجل (ت. 1842) ونيتشة (ت. 1900) وبرجسون (ت. 1941). كان تفاعله مع هذا الفكر واعياً قائماً على أساس أنّ العقلانيّة الناقدة هي وحدها القادرة على إعادة الاعتبار للإنسان المسلم.

ج- ضرورة إنتاج منظومة فكريّة موصولة بالجذور الإسلامية والقيم التوحيدية. فرغم أن هاجسه الأساسي في المستوى المعرفي كان حرصه على الإجابة عن متطلّبات الفكر وكشوفات المعرفة الإنسانيّة في لحظاتها الحديثة فإنّه كان يعمل على أساس تجديد المنظومة الإسلاميّة في مجالي الدّين والفكر[4].

تلك كانت قواعد الشبكة التحليلية التي من دونها تؤول الحداثة -حسب إقبال- إلى مجرّد استنساخ ساذج غيرمجدٍ.

شاعريّة إقبال وأعجميته ثمّ حداثته اعتبارات ثلاثة جعلته -في نظري- أقدر على إضاءة إشكاليّة الفكر الإسلاميّ في التاريخ وخاصّة في معالجته لقضيتي الإنسان والزّمان ضمن خطاب يتجاوز الخطاب الإصلاحيّ الذيّ ميّز الفكر العربي «الحديث» طيلة عقود متتالية.

السؤال البديل

ظلّ المفكرون الإصلاحيون -في البلاد العربية- ملتفّين حول سؤال إشكاليّ صاغه شكيب أرسلان (ت. 1946) في عبارة غدت مشهورة: لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟

هذا السؤال الذي عبّر عن الإقرار بواقع متردّ كان القاسم المشترك بين كلّ التعبيرات الإصلاحيّة العربيّة، كما كان في الوقت نفسه اختزالاً لتوجّه فكرّي ورؤية للتاريخ الإنساني.

هذا السّؤال الإصلاحي رغم أنّه إقرار فهو لا يكاد يخفي أنّه أقرب للاستفهام الإنكاري ذلك أنّ الخطاب المؤسّس له يعتبر أن الهويّة الإسلامّية هي أمر مُنجَزٌ ومتمركز حول الذّات تواجهه هويّة أخرى استطاعت أن تفتكّ منها الرّيادة.

لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟ هذا السؤال قائم على تناظر بين النحن - المركز والآخر - الهامش المُبهَم، وهو مبنيّ على اعتقاد أن احتلال الآخر مركزّية الفعل التّاريخي إنما هو أقرب للحدث العرضّي. من ثَمّ فهو من النّاحية المعرفّية لا يمكن أن يعني المسلم. أمّا من ناحية «الوعي الذّاتي» فهو يؤكد أن وصول المسلمين في وقت من الأوقات إلى مركز الرّيادة الحضارّية -هو الآخر- لم يكن تطوّراً تاريخيًّا بل كان حدثاً عَرَضيًّا ثانياً.

السؤال الإشكالي الذي صاغه شكيب أرسلان يخفي إنكاراً مثنى: إنكاراً للحراك التّاريخي وإنكاراً للمعرفة الإنسانّية، ويؤكد أن تقدّم المسلمين قديماً كان لأنهم «مسلمون» فقط وأن الدّين -في بعده الحضارّي- لا صلة له بصيرورة المعرفة والفعل الإنسانيين.

السؤال نفسه يحيل إلى ما سمّاه «مرسيا إلياد» بفجيعة الإنسان التقليدي في التّاريخ[5]. تلك الفجيعة التّي وقع تكريسها منذ القرن الخامس الهجري عبر جملة من المقولات من أهمّها: «التقدّم نحو الأسوأ...»، وما استُنتِج من الحديث النبوي: «خير القرون قرني»، ومقولة آخر الزّمان، والمقولة التي تكمّلها: وهي مقولة المهدي المنتظر[6]. جملة هذه المعطيات كوّنت فجيعة المسلم القديمة في التّاريخ والتي صوّرها أبو بكر الطرطوشي (ت. 520هـ/ 1126م) حين تحدّث عن الدّهر الخَؤون فقال: «أمّا اليوم فقد ذهب صفو الزّمان وبقي كدره فالموت تحفة لكلّ مسلم، كأنّ الخير أصبح خاملاً والشّر أصبح ناظراً.. كأنّ اللؤم أصبح باسقاً والكرم خاوياً وكأنّ الأشرار أصبحوا يسامون السماء وأصبح الأخيار يرَدّون بطن الأرض»[7].

إزاء هذه الفجيعة القديمة والسؤال الإشكالي الذي صاغه الإصلاحيون على أساسها يقدّم محمد إقبال في كتابه «تجديد الفكر الدّيني في الإسلام» سؤالاً بديلاً[8]. «هل الدّين أمر ممكن؟» هو إشكالية الكتاب برمّته، وهو السؤال الذي أراد به إقبال تجاوز فكرة الصّدام شرق/ غرب أو إسلام/ مادّية، معتمداً على ضرورة إعادة النظر في جملة من المفاهيم التأسيسية كان على رأسها مفهوما الدّين والمعرفة.

من السؤال الإشكالي البديل يصوغ إقبال تعريفاً للدين: إنه إيمان بمصير الإنسان. لذلك تكون الحياة الدينّية رياضة رفيعة يكتشف بها المؤمن رتبته في سلّم الموجودات. أمّا غاية هذه الحياة الدينّية فهي كشف الذّات بوصفها مجالاً أعمق من نفسّية الفرد العادّية.هذه التجربة تتيح اتصال الذّات الإنسانية بذات الحق العليا بما يكشف عن تفرّدها ومرتبتها الميتافيزيقية وإمكان تقدّمها في تلك المرتبة[9].

ما يمكن استنتاجه من هذا التعريف هو أن الدّين في طبيعته وغايته مغاير للعلم الذّي لا يمكن أن يعطي للإنسان سلطاناً إلاّ على قوى الطّبيعة. ثمّ إن كشف الذّات ورقيّها ليس أمراً عقليًّا قابلاً للتصرّف بل هو حقيقة حيويّة لا يمكن اقتناصها في شباك المقولات المنطقيّة. ما نستنتجه أيضاً أن الدّين وإن استقّل عن المنظومة العقلية فإن ذلك لا يعني أنه منقطع عن الواقع. إنه ينتشر في حركة الزّمان ويكشف عن نفسه أمام عين التاريخ عندما يكشف عن ذاتية الإنسان الذي يتحوّل صانعاً للعالم أو محرّكاً له.

يؤكد إقبال من جهة أخرى أنّ اعتماد الخطاب القرآني لإعادة النّظر في مفهوم المعرفة يؤدي إلى أنّه مفهوم لا يمكن أن يقوم إلاّ على المنهج التجريبي القائل بأنّ الملاحظة والتجربة هما أساس العلم وأصله. خصوصية الخطاب القرآني في هذا المجال تمثّلت في جعل المحسوس المتناهي نصب العينين من أجل الحصول على المعرفة[10].

باعتماد مفهومي الدين والمعرفة مصاغين معًا صياغة تجديدية يمكن أن نحدد نوع الإضافة التي يقترحها إقبال بسؤاله البديل.

أهمية السؤال تكمن -أساساً- في الرهان على انخراط فكري واع للمسلم في العصر الحديث. منه تتولّد الإضافة المتمثلّة في جدل الحداثة بالتجربة الدّينية الذّاتية والوعي التاريخي. هدف محمد إقبال من سؤاله البديل وتجديده لمفهومي الدّين والمعرفة هدف مضاعف. إنه يريد -من جهة- بناء فلسفة دينية لا تنقطع عن المأثور وتعتمد ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطوّر. من جهة أخرى تظّل هذه الفلسفة عملاً منقوصاً إن هي أهملت جانب خصوصّية الدّين باعتباره سعياً واعياً لتركيز قوى الذّات.

هل الدّين أمر ممكن؟ سؤال إشكالي يعيد الاعتبار للمعرفة الإنسانية ومصادرها ومنهجها ويعيد الاعتبار للذات الإنسانية التي لا يمكن أن تكتسب شخصيّة جديدة وترتبط بأعماق الوجود دون حياة دينية روحية. لذلك أمكن القول: إن الحداثة التي يصدر عنها السؤال البديل هي حداثة للإنسان أيًّا كانت مكوناته الثقافيّة، لكنّه الإنسان المكتشف لذاته. بذلك يشير إقبال إلى ما في هذا من فرصة للحداثة الأوروبية أن تثري ذاتها بالتّفاعل مع ذوات ثقافيّة مختلفة وعت نسبيتها وتاريخيتها بالانفتاح على عوالم الآخر[11].

هل الدّين أمر ممكن؟ سؤال يهدف إلى تأييد فكرة الإسلام عن اللّه تأييداً مستمداً من الفلسفة الحديثة والكشوفات العلمية دون أن يعتمد هذا الاستمداد على منهج إسقاطي[12]. إنه سؤال قائم على معاناة الوحي في ضوء مساءلات الحداثة المعرفيّة والوجوديّة ورهان على الإنسان الذّي يتخطّى فرديته ويتغلّب على قصوره في إدراك الحقيقة الكليّة.

النبوّة والإنسان الكامل

أدّى وضع محمد إقبال المعرفةَ الدينيّة في صورة علميّة حديثة إلى ضرورة تجديد أصول الفّكر الدّيني. وكانت المعضلة التي واجهت هذا المسعى هي مسألة الوحي والنّبوة في الإسلام. قد تكون بعض الاعتبارات المحليّة في الهند ساهمت في مزيد العناية بهذه المسألة[13] إلاّ أنّ طبيعة معالجة إقبال للمسألة يفيد أكثر من ذلك. لقد خصّص لها جانباً هامًّا من عمله التنظيري مانحاً إياها المكانة المركزية في منظومته التجديدّية[14].

بدأ إقبال بتحديد نقطة ضعف الفكر الدّيني في التاريخ الإسلامي. فقبل صدمة الحداثة كان التصّوف السّلبي قد حمل الفكر الدّيني على اعتقاد أن الوعي الصوفي هو أرقى مراتب الوعي في الإسلام. ذلك الوعي الذّي يمكن تلخيصه في قولة أحد كبار المتصوّفة عن معراج النبي إلى السماوات العلى ثم رجوعه إلى عالم الأرض «قسمًا بربي لو بلغتُ هذا المقام لما عدتُ أبداً». نقطة انهيار الفكر الديني -حسب إقبال- تتحدّد في هذا «الانقلاب الخطير» الذي أولى -بصفة جلية- مكانة القدوة للصوفي الرافض «للرجعة» بدلاً عن النبيّ الذي يحوّل رياضته الدينية إلى قوًى عالمية حيّة على صورة الرجعة بعد المعراج. بناء على هذه الرؤية لا يمكن أن نعزو تأخّر المسلمين إلاّ إلى عوامل داخلية يمثّل خلل المنظومة الدينية ضمنها أخطرَ الخلال وأدقَّها. إنّ تراجع مكانة النبيّ في الفكر الإسلامي الوسيط لحساب مكانة الوليّ والصوفيّ كان إيذاناً بتراجع الفعل الحضاري أمام الرياضة التأمليّة الطامحة لمقام الشهود. معضلة الفكر الديني -حسب إقبال- تتحدد في تصوّف أهمل بصفة عمليّة الوعي النبوي عندما عشِيَ عن إدراك أن رجعة النبيّ إلى العالم الدنيويّ هو نوع من الامتحان العملي لقيمة رياضته الدينية الصاعدة. الوعي النبويّ وعي صاعد - نازل. هو وعي يجعل إرادة النبيّ في عملها الإنشائي تقَّدَرُ قيمتُها ذاتُها كما تقدِّر هي عالمَ الحقائقِ المحسوسة التي تحاول أن تحقّق وجودَها فيها[15]. الوعي النبويّ روحي ووضعي في الآن نفسه. هو عندما يتغلغل فيما يواجهه من أمور مستعصية وينفذ إلى أعماقها تتجلّى له حينئذ نفسه فيعرفها ويزيح القناع عنها. من ثَمّ فهو وعي روحي لا يتجلى فيصبحَ واضحاً لأعين التاريخ إلا بقدر اعتباره لشروط الواقع الموضوعي الدنيوي.

توقّف نبض الإبداع في عالم المسلمين حين «أزاح» الوليّ النبيَّ من مكانة الريادة جاعلاً الرياضة الروحية غاية تقصَد لذاتها بعد أن كانت مع نبوّة محمد العروج الذي يستتبع حضوراً في الواقع والتاريخ.

لهذا يعيد محمد إقبال بناء النبوّة في الإسلام فيضع لها أركاناً ثلاثة:

1- الوحي ظاهرة عامة في الوجود: فهو لا يقتصر على جانب من جوانب الحياة إذ النبات والحيوان والإنسان تستلهم الوحي من أعماق الوجود بحسب مكانتها في سلّم الكائنات ورتبتها في تطور الموجودات.

2- نبوّة محمد كانت نهاية عصر وبداية آخر، فنبيّ الإسلام يقوم بين عالمين: قديم وحديث، هو استمرار للعالم القديم باعتبار مصدر رسالته وبداية لعالم حديث ولد معه العقل الإنسانيّ وظهرت فيه ملَكة النقد والتمحيص. نبوّة محمد شرّعت للإنسان عصراً يؤسس للتفكير الفردي والاختيار الشخصي بعد أن كانت الأحكام والاختيارات تعدّ من قبلُ خارج إرادته ودون اعتبار لأساليب عمله.

3- جوهر النبوّة دعوة للإنسان الكامل: إذا كانت نبوّة محمّد تنطوي على مبدأ استحالة بقاء الوجود معتمداً إلى الأبد على مِقوَد يقاد منه فهذا لا يعني أن نمو الحياة ومصيرها رهين إحلال العقل محلَّ الشعور وإلغاء للرياضة الروحية. النبوّة في الإسلام هي رؤية جديدة للإنسان والعالَم، رؤية تعمّق في كيان الذات أنّ العالَم ليس مجالاً منفصلاً عن الإنسان أو أنه يعرَف بالتصوّر إنّما هو شيء يُبدَأُ ويُعاد بالعمل المستمّر[16].

لذلك تعدّ النبوّة تجسيداً لمشروع الإنسان الكامل الذي لم يعد بحاجة إلى نبوّة جديدة بعد أن جاء محمّد مبشّراً بالإنسان الساعي إلى الكمال، الإنسان الواعي بمسؤوليته والصانع لذاته في عالَم هو موضوع المعرفة وأحد مصادرها.

على هذه الأركان قعّد محمد إقبال لمسألة النبوّة في الإسلام معروضة على أساس كونيّ وحضاريّ وفاتحاً الباب للإنسان الكامل الذي يبني إنسانيته في صيرورة مبدعة ومتفاعلة مع أعمق رغبات العالَم المحيط به[17]. فلا يكون الإنسان كاملاً حين يهيمن على الطّبيعة ويُخضعها ولا كاملاً حين يُلغي الكمال المطلق، ذلك القطب الذّي يمكنّه من اكتشاف كماله النّسبيّ. إنما كماله حين يصبح غرضه تحرّرَ حركة العالَم والحياة وتساميها وحين يدرك أنّه صاحب مكان حقيقيّ في صميم القدرة الخالقة. عندئذ يؤول كماله إلى إمكان تصوّر عالَم أفضل وتحويل ما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون.

مثل هذا التحوّل ما كان ليحصل لولا أنّ النفس التي ينطوي عليها الإنسان -وهي تسعى لتحقيق فرديتها- لا تبرح تزداد وحدة وشمولاً مستخدمة في ذلك جميع البيئات التّي تدعوها الحاجة إلى العيش فيها خلال تاريخ لا نهاية له.

يمكن على ضوء هذا أن نلخص رأي محمد إقبال في عقيدة النّبوة. إنّه قول بالوحي الشامل والمطلق الذي لا يصمت ولكنّه لا يكرّر نفسه. هو الوحي الذي أنهى الرّسالات على الصّورة التّي عرفها الفكر البشري القديم. معه بلغت النبوّة قمّة وعيها بإدراكها الحاجة إلى إلغاء النبوّة نفسها. ثمّ هي بشارة بالإنسان السّاعي إلى الكمال سعياً يجعله لا يخشى من التاريخ، مجالِ صنعه لذاته؛ إنسانٍ يتعلّم من العالَم الخارجي الذي فقد كلّ صبغة تقديسيّة. إنسانٍ يرتقي برياضته الدّينية القاطعة مع كلّ سلطة شخصيّة تزعم أنّ لها أصلاً خارقاً للطبيعة والمتجاوزة السبل القديمة في معرفة النفس والعالَم.

المسلم ومعضلة الزمان

واجهت معضلة الزّمان إقبالاً وهو بصدد معالجة مسألة النبوّة قصد إعادة بنائها[18] فكان تناولُه لها من زاويتين: زاوية النّص القرآني وزاوية الفلسفة.

في المجال الأوّل واجه لحظتين تأسيسيتين في النّص: لحظة البداية ولحظة النّهاية.

كان عليه أوّلاً أن يعيد فهم قصّة نزول آدم من الجنّة، فاعتبر أنّ هذه القصّة لا صلة لها بما ساد من الاعتقاد عند المفسّرين من دلالة على ظهور الإنسان الأوّل على كوكب الأرض. في خطوة تالية بيّن أن دلالتها الأساسيّة في رسمها لخصوصيّات الإنسان وهي تتشكّل عبر أطر مختلفة أبرزُها تحوّل آدم من الجنّة إلى الأرض. الأهمّ في قصّة نزول آدم -حسب قراءة إقبال- هي إبرازها لأبعاد ذاتيّة الإنسان في نموّها من حالة بدائية إلى مرحلة أكثر تطوّراً. نموٍّ ينقله من وضع يكون فيه مرتكزاً على الشهوة الغريزّية ومقطوعاً عن البيئة التي يعيش فيها إلى آخر يعي فيه أن له نفساً استيقظت لتدرك أنّها صاحبة إرادة. هبوط آدم -على هذا- هو ارتقاء لأنه يحقّق للإنسان شعوراً بأنّه ذو صلة عِلِّيَّة وشخصيّة بوجوده. في خطوة أخيرة يقرّر إقبال أن قصّة «هبوط» آدم هي بداية نشوء الذّات الحرّة عن رغبة ورضا. ذلك أنّ الهبوط هو تجسيد للفعل الإنساني القائم على حرّية الاختيار. إنّه الإعلان عن بروز ذات متناهية لها القدرة على أن تختار. ثمّ لإتمام جوانب القصّة القرآنية يرى إقبال أن ما ورد من أكل من الشجرة ينبغي أن يؤوَّل ضمن هذه الحركيّة. فالإنسان الذّي أكل من الشجرة (رمز المعرفة) أخطأ من حيث أراد أن يصل إلى ثمرها من أقرب طريق ودون أيّ كدح. لذلك كان تصحيح الخطأ عبر انتقاله إلى البيئة الملائمة لإبراز قواه العاقلة عن طريق الكّد. تلك البيئة التّي تحقّق خصوصياته باعتباره كائناً متميزاً بالمعرفة والحريّة لا يمكنه أن يفتِّق ذاتَه إلاّ عبر الصراع والرضا بالتناهي[19]. هذا عن لحظة البداية.

أما عن لحظة الموت وما بعده فإنّ إقبالاً يقتفي آثار أساتذه الرومي الذي يقول: «اختفتْ الحيوانية فيَّ عندما خُلِقتُ بشراً فكيف أخشى أن تنتكس ذاتي يوم وفاتي». هو يعتبر الموت مجازاً لمن استطاع بعمله في الدنيا أن يُمِدَّ روحَه بما يكفل لها مواجهة الصدمة التي يحدثها الموت في الجسم[20].

من ثَم فإنَّ الخلود بعد الموت ليس حقًّا مُكتَسَبا لكلّ إنسان بل هو استعداد يقع التوصّل إليه بحسب ما تبذله كلّ نفس من جهد شخصي. يواصل إقبال على الوتيرة نفسها ليؤكد أنّ حالة البرزخ لا تكون حالة التوقّع السلبيّ إنّما هي حياة مختلفة تلمح فيها النفس أوجهًا جديدة من الحقيقة تتهيأ للتكيّف معها.

بتعيير موجز لا يكون بعث النفوس بعد لحظة الموت حادثاً خارجيًّا بل هو كمال لحركة الحياة في داخل النفس، ولا مناص من القول بأن النفوس التي جانبها التوفيق في حياتها الأرضية عاجزة عن الخلود وآيلةً للتحلّل.

هذا عن الجانب النصي في لحظتي البداية والنهاية، بعدها يتنقل إقبال لتحديد مفهوم الزمان فلسفيًّا بما يناسب تصوره للدين والإنسان والمعرفة.

تناول محمد إقبال مسألة الزّمان كما طرحها الفكر اليوناني والإسلامي الوسيط ثمّ الفكر الغربي الحديث لينتهي إلى أنّ المسألة بحاجة إلى إعادة البحث لأنّها وثيقة الصلة بموضوع الإنسان من جهة، ولأنّ ما توصّل إليه الفكر الفلسفي القديم والحديث في هذا الموضوع لا يتلاءم مع الخصوصّية الثّقافية الإسلاميّة ولا مع متطلبات التجديد الحديث وشروطه.

يمكننا القول: إن مباشرة إقبال لمسألة الزّمان تتلخّص في مسارين: المسار الاستعراضي النقدي للتراث الفلسفي ثمّ مسار بناء مفهوم جديد للزّمان.

1- في مجال تقويم الإنتاج الفلسفي والكلامي القديم يلاحظ إقبال أنّ معالجة مفهوم الزّمان مرّت بمرحلتين: مرحلة أولى هيمنت فيها النّظرية اليونانيّة إما بتأثير أفلاطون وزينون اللّذين لا يَرَيان للزّمان وجوداً في الخارج أو بتأثير هيراقليط والرواقيين الذّين يجعلون للزمان طبيعة دائرية. أهمّ ما في هذه المرحلة الأولى هو التنظير الكلامي الذي قام به بعض الأشاعرة حين جعلوا الزّمان مركّباً من آنات مفردة بين كلّ آنين أو لحظتين لحظة خالية من الزّمان. ذلك التنظير الذي آل إلى القول بأنّه يوجد في الزمان خلاء ومن ثَمّ فلا يمكن للزمان أن يؤثر في الكون.

أمّا المرحلة الثانية فقد ساعد على بروزها وإنضاجها مفكرّون مسلمون من أمثال البيروني (ت. 1048م) ونصير الدّين الطوسي (ت. 1274م)، في هذه المرحلة رُفض مبدأ الخلاء والفراغ الزّمنيين وبدأ فيها القول بأنّ الزّمان عنصر له وجود مؤثِّر في حركة الكون الذّي صار لا يقبل الثّبوت بناء على اعتبارات فلسفية ورياضيّة[21].

بعد هذا الطور القديم والوسيط يواجه إقبال الفكر الحديث فيناقش نيتشة وأنشتاين (ت. 1955) في مفهوم الزّمان. لا يشاطر الأوّل في قوله بأنّ الزّمان هو سلسلة غير متناهية من الأحداث تعود مرّة بعد أخرى في حركة دائريّة مستمرّة. أمّا بالنسبة إلى أنشتاين الذّي زعزع نظرية الجوهر في المادة فإنّه يراه قد تعامل مع الزّمان تعاملاً تجريديًّا حوّله إلى بُعد رابع في المكان. وسواء أتعلق الأمر بنيتشة والقول بالزّمان اللاّنهائي أم بأنشتاين وتصوّره للزّمن على أنه حيّز فإن إقبالاً يرفض التمشّيين لكونهما يفضيان إلى القول بأنّ الزمن لا قيمة له ولا أثر له في التاريخ. على هذا فإنّ الحوادث لا تحدث إنّما نصادفها باعتبارها غير خاضعة لأيّة إرادة أو إبداع[22].

قصور المعالجات الفلسفيّة القديمة والحديثة لمفهوم الزّمان يكمن في أمر أساسيّ هو العجز عن إدراك النّاحية الذّاتية للزّمان والاقتصار على الناحية الموضوعيّة منه. هو قصور يؤدّي -حسب إقبال- إلى تركيز منهج آليّ مادّيّ، أي إلى حتميّة تلغي حرّية الإنسان وإرادة الله. عندئذ يكون مفعول الزّمان خطًّا مرسوماً من قبلُ والعالَم مادّة فاقدة للحياة وعاجزة عن النّمو المطّرد.

2- بدلاً عن هذا يستفيد محمد إقبال من مفهوم برجسون لديمومة الزّمان واعتبار هذا الأخير أمراً حقيقيًّا وثيق الصّلة بالحياة النفسّية[23]. هذا بالإضافة إلى أنّ الزّمان وإن أظهر تناهي العقل فهو العامل الوحيد القادر على ردّ التعدّد وحدة واحدة. هو الذّي يرأب الصدوع ويكسب الجزئيات المتنافرة المعنى. لهذا يعرض إقبال تمشّياً بديلاً لفهم حقيقة الزّمان. إنّه اعتماد حياة الإنسان الشّعورية التي تبرز الزّمان على أنّه في الحقيقة أزمنة. هناك أولاً الزّمن المتجدّد وهو الزّمن الذّري الذّي ينشأ من خلال حركة النّفس في انتقالها من العلم إلى العمل. ثانياً الزّمن المحض وهو ليس خطًّا من لحظات متفرّقة بل هو كلّ مركّب. الماضي فيه ليس متخلِّفاً ولكنّه متحرّك مع الحاضر يؤثّر فيه. أمّا المستقبل فيتصّل بهذا الكلّ المركّب ليس بوصفه موجوداً أمامه يتّم تجاوزه فيما بعد إنّما هو اتصال بهذا الكلّ المركّب على أساس أنه ماثل في طبيعته في صورة إمكان قابل للتحقّق[24].

ثالثا الزّمن السرمدي للذّات الإلهية. هو زمن الصيرورة من غير تعاقب لأنّه زمن ماهية الأشياء ذاتها. إنّه زمن التقدير الذّي لا يعني إرغام الأشياء بل هو تحقيق القوّة الكامنة التي تجسّد وجود الشيء فتظهر ممكناته وذلك بتحقيقها في الخّارج بالتّتالي بسبب حركة الخلق الصادرة عن الذّات[25].

ما ينبغي التأكيد عليه أنّ استفادة إقبال من جهد برجسون التنظيري في خصوص مفهوم الزّمان كان مؤسّساً على تصوّر قرآني. جملة الآيات القرآنيّة المتحدّثة عن الزّمان وخاصّة منها الآية 62 من سورة الفرقان تؤكد أنّه عنصر ضروري من عناصر الحقيقة القصوى. إنّه ما كان أمراً ساكناً يشتمل على الحوادث الكونيّة الكاملة التكوين بل هو لحظة حيّة ومبدعة[26].

أبرز النتائج الفكرّية لمفهوم الزّمان على ضوء ما تقدّم يمكن حصرها في أربع:

أ- حركة الزّمان لا يمكن أن تتصور على شكل خطّ قد رُسِم بالفعل إنّما هي حركة تُبنَى في صيرورة لتحقّق ممكنات متنوّعة.

ب- العالَم ليس كتلة ميّتة من المّادة لا يفعل فيها الزّمان شيئاً إنّما هو حياة قابلة للزّيادة وكون في نموّ.

ج- الإنسان فاعل يُكسِب الزّمان صفتَه التاريخيّة الحيّة إن هو أدرك المستويات المتباينة للزّمان وإن هو تفاعل مع أبعاد ذاته الإنسانيّة.

د- المستقبل غير محدّد سلفاً لأنّ غائيّة الحياة إن أصبحت إلزامية ومفروضة فهي تجعل الزّمان باطلاً والحريّة لاغية. من ثَمّ فالمستقبل يظّل غير مُتَنَبئ به لأنّ الزّمان أمر حقيقيّ تُبرزه غائيّة انتقائيّة عبر إضافات الإنسان التي لا تتوقف.

بهذا يكون إقبال قد حقّق شرطين أساسيين للإجابة عن سؤاله البديل: هل الدّين أمر ممكن؟ إنّ الدّين لا يمكن أن يكون ممكناً إلاّ إذا تفاعل مع الحداثة المعرفّية والفكرية ولم ينقطع في الآن نفسه عن الخصوصيّات التّي تميّزه حين يُفهَم على أنه تمثّل شخصيّ للحياة وقدرة يكتسب بها الفرد الحريّة.

هذه المعالجة لمفهوم الزّمان تفتح من جديد الوعي المعاصر للمسلم لتنهيَ فجيعته في التّاريخ. عندئذ يعيش العالَم في نموّه وخلقه المتواصلين ويتشرّب روح التقدّم في الزّمان حركة حرّة ومبدعة وثقة في مستقبل مختلف.

التاريخ والشريعة

إرساءً لتصوّر تجديدي للزّمان والإنسان يدفع إقبال بمفهوم الذّات الحرّة التّي تحقّق ممكنات لا تتكرّر إلى مداه عندما يبسط رأيه في مسألة الشريعة. يبدأ بالرّد على «المنهج الفقهيّ» الذّي سادت حجّته عقوداً من الزّمن في قرون خوالٍ ثمّ رجعت لتستعيد جانباً من نفوذها عن طريق الدّعوة إلى أوّليّة الشريعة في كلّ مشروع نهضوّي. إزاء هذا يعلن إقبال أنّ مصير شعب من الشّعوب لا يتوقّف على النّظام الذّي يحرص الفقيه على حمايته وتركيزه بقدر ما يتوقف على قيمة الأفراد وقوّتهم ضمن ذلك المجتمع. بهذا يبعث الصراع القديم الذّي لم يُحسَم في التاريخ الإسلامي إلاّ بالعنف والإقصاء: الصّراع بين الفقهاء والمتصّوفة. لا يخفي محمد إقبال تأييده لهؤلاء وإعراضه عن أولئك. هؤلاء يستطيعون إيقاظ المسلمين من سباتهم الرّوحي وتوجيههم إلى المعنى العميق للوحي الإلهي[27]. أمّا «المنهج الفقهيّ» فهو وقائيّ لا يملك الطاقة الإبداعية التي تتطلبها شروط التجديد من أجل تجاوز للخطاب الإصلاحي. لذلك فإنّ إقبالاً يبني منظومته على أساس الاهتمام بالفرد وتقوية الذات، تلك القوة الفعّالة التي تحول دون انحلال الشعب. مثل هؤلاء الأفراد هم وحدهم الذين تتجلّى فيهم أعماق الحياة. هم الذين يجهرون بمقاييس جديدة نرى في ضوئها أن بيئتنا ليست واجبة الحرمة في كل شيء. منهم يقع التفطّن إلى ضرورة التعديل في خصوص الميل إلى المبالغة في التنظيم وإظهار الاحترام الزائف للماضي[28].

بعد نقد «المنهج الفقهي» وتبني موقف واضح من مسألة بناء الفرد المتجاوز للقيد الاجتماعي والقانوني يصل إقبال إلى مسألة الفهم التقديسي للشريعة المنزّلة فيعلن موافقته الكاملة لرأي شاه ولي الله الدهلوي في هذا الموضوع. لا يتردّد إقبال في القول عن وليّ الله (ت.1726 ) إنّه على الأرجح أوّل مسلم أحسّ بالحاجة إلى روح جديدة في الإسلام ودافع بوضوح عن قابليّة الشريعة الإسلاميّة للتطوّر. فعل ذلك حين حلّل مسعى النبيّ في مواجهة ظروف بيئته العربية والتأسيس في الوقت نفسه لرسالة عالمية تتجاوز خصوصيات الإطار الاجتماعي والقيمي الذي ميز الجزيرة في القرن السابع.

ينقل إقبال رأي شاه وليّ الله في خصوص نبوّة محمد العربي والرسول الخاتم ليدين بها «المنهج الفقهي» الذي يكرر القول بالقيم التي قال بها السلف بطريقة آلية رافضاً استحداث قيم جديدة. إنّه يرى في نبوّة محمد والشريعة المنزَّلة عليه أمرين اثنين: مبادئ عامة شاملة وتنظيما لأمة معيّنَة يتخذ منها نواة لبناء شريعة عالمية[29]. النبيّ -حين يشرّع- يؤكد المبادئ التي تنهض عليها الحياة الاجتماعية للبشر جميعاً لكنّه يطبقها على حالات واقعيّة في ضوء العادات المميزة للأمة التي يعيش بين ظهرانيها. لا بد إذن من ملاحظة البعدين المتفاعلين في الشريعة المنزَّلة: البعد العالمي الإنساني والبعد الخصوصي التاريخي. ملاحظة هذين البعدين يجعل الأحكام الشرعية قائمة على امتزاج بين ما يخص ظروف الأمة التي نزلت فيها وبين ما تحتاجه الإنسانيّة في حياتها الاجتماعية بصفة ثابتة. بعبارة أخرى امتزاج بين ما هو مقصود لذاته وما لا يمكن أن يُفرَض بحرفيته على الأجيال المقبلة والبيئات المختلفة.

ما تحاول المنظومة التجديدية لإقبال أن توضّحه في خصوص الأحكام الشرعية هو ضرورة اعتماد التصوّر القرآني للوجود بأنه خلق يزداد ويرتقي بالتدرج. مقتضى هذا التصوّر في المجال الشرعي هو أن يكون لكلّ جيل الحقُّ في أن يهتدي بما ورثه من آثار أسلافه من غير أن يعوقه ذلك التراث في تفكيره وحكمه وحل مشكلاته الخاصة. هذا المسعى يتطلّب عند إقبال تفسير الأصول الشرعية تفسيراً جديداً على ضوء التجارب المستحدثة وعلى ضوء ما تقلّب في حياة العصر من أحوال متغيّرة.

ما يلحّ عليه إقبال في تحليله لمسألة الشريعة الإسلامية هو «المنهج الفقهي» وشَرَك القياس الذي جمَّد موقع متأخّري الفقهاء. لقد نسي هؤلاء أنّ سير الحياة المتشابك والمعقَّد لا يمكن أن يخضع لقواعد مقرَّرَة تُستنبَط استنباطاً منطقياً عبر منهج آليّ لا يعبأ بالحياة. معضلة الفقه الإسلامي يمكن أن تلخَّص في مفارقة الفقهاء الذين -و إن أدركوا ما للواقع من شأن- فإنّ المتأخرين منهم خاصة جعلوه أمراً ثابتاً إلى الأبد[30].

هذه المفارقة الخاصّة بالفقه الإسلامي لم تُنسِ إقبالاً -وهو يُنهي وضع منظومته التجديدّية- الإشارةَ إلى مفارقة ثانية ميّزت حياة المسلمين في نهاية عصرها الوسيط. إنّها عجز المتصوّفة عن تخريج أفراد لهم قوّة الابتكار على كشف الحّق القديم[31].

هكذا وضع محمد إقبال إشارة الانطلاق لفهم عالم المسلمين الحديث: إنّه جمود صنعه الفقيه المتأخر وتحلّل أفضى إليه صوفيّ القرون الوسطى وما تلاها. لقد ثبّت الأوّل واقعاً تاريخيًّا جاعلاً إيّاه «الواقع - المثال» الذّي لا يمكن تجاوزه. أمّا الثاني فقد فكّك الجماعة الكبرى وعوضّها بالطّرق الصوفيّة السّاعية لتنشئة الفرد ناسياً أنّ ذلك يستلزم معرفة الله معرفة حيّة. مواجهةً لهذين المرجعين اللذّين «تحالفا» بصفة موضوعيّة من أجل إيقاف كلّ إبداع في الفكر الإسلامي يقدّم إقبال الوعي النّبوي بديلاً لتجديد القيم الإسلامية واستحداث قيم عصريّة. يفعل ذلك لأنّه أدرك أن الفكر الدّيني كلٌّ مركّب قائم على معرفة وتجارب إنسانية أصبحت عديمة الجدوى.

وعلى الرغم من ملاحظات عديدة يمكن أن توجَّه إلى المنظومة الفكرية التي اقترحها إقبال فالذي يبدو لنا حريًّا بالاهتمام في خاتمة هذا التقديم العام أنّنا إزاء مشروع قراءة حديثة للفكر الإسلامي من أجل تجديده.

هي حديثة أوّلاً لأنها جعلت غاية الدين هي الإنسان الذي ينبغي أن يصنع المعنى متخطّياً فرديته ومواجهاً قصوره في إدراك الحقيقة الكليّة.

وهي حديثة ثانياً لأنّ بؤرة التساؤل عند إقبال من أجل فهم معاصر للدين وضعت حول تصوّر المؤمن للوجود. من هذا المنطلق يمكن أن يعيد المسلم نظره في مسائل النبوّة والإنسان والزمان والتاريخ. تصوّرُ إقبال مؤسَّسٌ على النظرية الحيوية إلى الوجود كله، تلك النظرة التي تجعله في حركيّة لا تتوقف وجدل مستمرّ ونموّ مطّرد.

هذه القراءة الحديثة في غايتها وأداتها تظلّ إسلامية في مرجعيتها القيمية والتصورية والرمزية. إنّها تستعيد النبوّة مشروعاً لإنسان كامل يُنهي عصراً ليلج آخر، وتراهن على الإنسان كائناً خالدًا يصنع ذاته بالمعرفة والعشق، وتعيد الاعتبار للزمان الذي لا يبقى عَودًا أبدياً بل حقيقة يتحقّق بها التطوّر المُبدع في كلّ المستويات.

ولعلّ أفضل تعبير لخصوصية إقبال الإسلامية المصاغة صياغة حديثة هي أبياته التي صوّر فيها مناظرة بين الله والإنسان جمع فيها فنّيًّا الجوانب الفكرية التي حرصنا على تناولها فيما سلف[32]:

يقول الله معزّراً الإنسان ضمن خطاب إصلاحي:

أنا خلقتُ العالم من ماء  وصلصال كما  خلقتك.

وأنتَ خلقتَ الحواجز بين إيران وتركيا  والتتر.

جعلتُ    أنا   الفاكهة    تنبتُ   من    التراب.

واخترعتَ   أنت  السيف   والقوس   والنشاب.

أهويتَ   أنتَ  على  براعم   الحديقة   بالفأس.

حبستَ  أنتط"  الطيور  الصادحة  في الأقفاص.

 

يجيب الإنسان ضمن منظومة تجديديّة:

اللــيل     أنتَ      خلقـتَه       وأنا  الذي  اخترع   السراج

الطــين     أنتَ     صنعتَه       فجعلت   منه    أنا    زجاج

والبيد      والغابات     صنـ       ـعكَ    والجبال   الشاهقات

منها     جعلتُ    أنا    الحدا       ئق      والجنان    الزاهرات

وأنا   الذي   من     صخرها       صقل   المرايا    اللامـعات

وجـــعلــتُ من سمّ الأفا       عي   الرُقش  أنواعَ  العلاج

 



[1]* باحث في الدراسات الإسلامية، وأستاذ التعليم العالي بالمعهد الأعلى لأصول الدين بجامعة الزيتونة ـ تونس.

 محمد إقبال 1876 - 1938. ولد بمدينة سيالكوت في البنجاب (الباكستان) وبها تعلّم اللغة والدين. التحق سنة 1895 بكليّة لاهور حيث تحصّل على إجازة في الفلسفة ثم ماجستير في الفلسفة الإسلاميّة. درس في إنجلترا القانون ونال الدكتوراه في الفلسفة من ألمانيا عن موضوع ازدهار علم ما وراء الطبيعة في فارس. عند عودته إلى الهند سنة 1908 عمل أستاذاً للفلسفة واللغة الإنجليزيّة في الكليّة الشرقيّة بلاهور، ثمّ اشتغل بالمحاماة، كما انتخب في بعض الهيئات السياسيّة.

انظر:

- EI-II art. IKBAL de A. Schimmel pp.1083-1086.

- عزّام (عبد الوهاب)، إقبال سيرته وفلسفته وشعره، دار القلم القاهرة 1960.

- شعلان (الصاوي علي)، فلسفة إقبال والثقافة الإسلاميّة بالهند والباكستان، دار إحياء الكتب العربيّة القاهرة 1950.

[2] كتب إقبال ودواوينه المترجمة إلى العربيّة هي: أسرار الذات، رسالة الشرق، ضرب الكليم، وتجديد التفكير الديني في الإسلام. من الذين اهتمّوا بترجمة شعره إلى العربيّة نذكر عبد الوهاب عزّام وأميرة نور الدين والصاوي شعلان وحسن الأعظمي.

- انظر اليافي (عبد الكريم)، محمد إقبال فيلسوف الذات وشاعر العشق، مجلّة المجمع العربي بدمشق، ج. 59 عدد 3 سنة 1979 ص ص 558 - 578.

- انظر أيضاً Monacheher Dorray, The intellectual dilemenas of a muslim modernist: Politics and poetics of Iqbal; in Muslim World, Vol. LXXXV n° 3 - 4 July - Oct. 1995, pp 266 - 279.

- انظر Meyerovitch, Eva; Iqbal poéte et philosophe, Egl. viv. VI, 1954pp 218 - 224.

[3] انظر Lahbabi, M. A.; La pensée philosophique dans le monde musulman; Confluent n°13, 1961.

 

[4] انظر Ennaïfer, Hmida; Iqbal et le questionnement de la prophétie; IBLA Tunis n°178, 1996.

 

[5] انظر Eliade, Mercia; Le mythe de léternel retour; Gallimard 1969, Chap.III Malheur et histoire.

 

[6] انظر جدعان (فهمي)، أسس التقدّم عند مفكريّ الإسلام في العالم العربي الحديث، ط1 بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، د. ت.

 

[7] الطرطوشي (أبو بكر)، سراج الملوك، القاهرة المكتبة المحموديّة 1935.

 

[8] إقبال (محمد)، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة: عباس محمود القاهرة لجنة التأليف والترجمة والنشر ط2. القاهرة 1968 (اختصاراً تجديد).

 

[9] تجديد 212 - 214.

 

[10] تجديد 111 و 148.

 

[11] من الصور الفنيّة التي أبدعها إقبال عن أهميّة الثقافة الإسلاميّة إزاء الحداثة قوله: «إنّ زهرة النرجس تبكي آلاف السنين أنّها غير جميلة وزائرها يعاني المشقة الطويلة إذ يأتي لزيارتها»، انظر اليافي المذكور آنفاً.

 

[12] تجديد 103.

 

[13] في خصوص الحركة البهائية يمكن الرجوع إلى:

- Corbin, Henri ; LIslam Iranien، aspects spirituels et

- philosophiques, Gallimard، Paris 1971.

- Taher zadeh, A.; The revelation of Bahaallah, Ed. Georges Ronald, Oxford 1974. 1977. 1983.

[14] ارجع إلى الفصل الخامس من التجديد: روح الثقافة الإسلاميّة، ص 142 إلى ص 167.

 

[15] تجديد 142.

 

[16] تجديد 226.

 

[17] تجديد22.

 

[18] انظر غنيم (سعديّة)، فكرة الزمن في فلسفة إقبال، مجلة الثقافة، مصر عدد 29 فيفري 1976 ص ص 80 و 81.

 

[19] تجديد 100 و 101.

 

[20] تجديد 137.

 

[21] تجديد من ص 40 إلى ص 45.

 

[22] تجديد ص 49 و 132.

 

[23] تجديد ص 65و 126.

 

[24] تجديد ص 60.

 

[25] تجديد ص 91.

 

[26] تجديد ص 69.

 

[27] انظر الملف الخاص بمجلّة فكر وفن الألمانيّة عدد 32 سنة 1979من ص 33 إلى ص 56.

 

[28] تجديد ص 174.

 

[29] تجديد ص 197.

 

[30] تجديد ص 205.

 

[31] تجديد ص 211.

 

[32] انظر المناظرة كاملة في قصيدة نشيد الزمان من ديوان رسالة الشرق، ترجمة عبد الوهاب عزّام 1951.