نحو صياغة استراتيجية للمجال الإسلامي حول العالم العربي!
برغم تهافت طرحه النظري الغائي عن «صدام الحضارات» يزخر الكتاب الأشهر للمفكر الراحل صامويل هنتنجتون بعدد من الملاحظات الموحية. منها مثلاً غياب دولة مركز تقود عالم الإسلام على منوال «الصين في الحضارة الكونفوشيوسية، والهند في الحضارة الهندوسية، وروسيا في الحضارة المسيحية الشرقية، والولايات المتحدة في الحضارة الغربية» حيث تتنافس دول ست أساسية على هذه القيادة وهي إندونيسيا ومصر وإيران وباكستان والسعودية وتركيا من دون أن تتمكن إحداها على تحقيق إجماع حول قيادتها لوجود قصورات متباينة لدى كل منها:
فإندونيسيا رغم حجمها السكاني الكبير، ونموها الاقتصادي المشهود، تبقى دولة طرفية بحكم موقعها الجغرافي البعيد عن قلب العالم الإسلامي، فضلاً عن أن سكانها خليط منوع من جنوب شرق أسيا، وثقافتها بمثابة تشكيل من أصول ومؤثرات عدة إسلامية وهندوسية وصينية ومسيحية.
وباكستان هي الأخرى تحوز الحجم الجغرافي المناسب، والتعداد السكاني الكبير فضلاً عن القدرة العسكرية الكبيرة وعلى رأسها السلاح النووي، غير أنها طرفية نسبيًّا قياساً إلى القلب العربي للإسلام، وفقيرة إلى حد كبير، ناهيك عن كونها منقسمة اثنيًّا وتعاني من عدم الاستقرار السياسي.
وإيران كذلك تحوز كتلة حيوية متميزة على صعيد الحجم الجغرافي والتعداد السكاني، فضلاً عن موقعها المركزي في الشرق الأوسط، وثرائها النفطي الكبير، غير أنها شيعية في حين أن 90% من المسلمين ينتمون إلى المذهب السني كما أن لغتها محلية لا تحوز شعبية اللغة العربية في عالم الإسلام.
وتركيا يتوفر لها الحجم والموقع الجغرافي المناسبان، والبنية السكانية الجيدة، فضلاً عن مستوى النمو الاقتصادي المتوسط، والتماسك الوطني والتقاليد العسكرية العريقة، ولكن موطن قصورها يكمن في استمرار تعريفها لنفسها كدولة علمانية، وتوجهها الغربي الواضح برغم بروز صحوة إسلامية معتدلة.
وأما السعودية فهي مهبط الإسلام، وكعبة المسلمين ما يمنحها نفوذاً روحيًّا هائلاً، ولديها أعلى احتياطيات للنفط في العالم ما يمنحها نفوذاً ماليًّا كبيراً، غير أنها تعاني من عجز ديمغرافي الذي يجعلها معتمدة أمنيًّا على الغرب، كما أن تقاليدها الاجتماعية المحافظة لا يجعلانها النموذج الأكثر جاذبية لعالم الإسلام المتنوع.
وآخراً مصر التي تملك الموقع الجغرافي المركزي في الشرق الأوسط، والكتلة الحيوية المتميزة على أصعدة الأرض والسكان، والقدرة العسكرية المناسبة، فضلاً عن حيازتها للأزهر وهو المؤسسة القائدة في التعليم الديني، ولكنها فقيرة تعتمد اقتصاديًّا على الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية التي يسيطر عليها الغرب.
ونتصور هنا أن القصور يبدو بنيويًّا مانعاً لدى دول أربع وهي إندونيسيا، وباكستان، والسعودية، وإيران. وفي المقابل يبقى ظرفيًّا طارئاً لدى دولتين تعانيا من قيود قابلة للحلحلة وهما مصر لو نهضت اقتصاديًّا، وتركيا لو أرادت سياسيًّا.
غير أن الضغط الأمريكي الشديد على القلب العربي للإسلام منذ 11 سبتمبر وما يثيره من احتمالات الفوضى والتفكيك العرقي والطائفي، وكذا ردود الفعل المضادة من حركات التطرف الديني وما تمارسه من فوضى الإرهاب العدمي منذ احتلال العراق، إنما يفجران مسألة القيادة ويجعل منها أولوية قصوى لا تنتظر فراغ تركيا من مهمة إعادة اكتشاف نفسها، أو مصر من عملية إعادة بناء ذاتها. وهنا تكمن حيثيات دعوتنا إلى تشكيل «كتلة مركزية» لملء الفراغ الاستراتيجي العربي، وصياغة حس اتجاه عقلاني حول قضايا العالم العربي/ الإسلامي. هذه الكتلة «المتضافرة» لابد وأن ترتكز على العوامل الهيكلية التي صاغت ما نسميه بـ«الذكاء التاريخي لجغرافيا الإسلام السياسية».
هذا الذكاء الذي شكل «الدولة العربية الكبرى» التي تمكنت بإلهام العقيدة الإسلامية من الهيمنة على أغلب الامتداد الإمبراطوري الروماني في العالم القديم بعد اندحار روما الغربية وإسلام فارس، وانزواء الإمبراطورية الرومانية الشرقية حول بيزنطة، حيث تحرك مركز قيادتها تاريخيًّا من المدينة المنورة حيث سكنت الدولة العربية الأولى لنحو الخمسين عاماً في الحجاز، إلى دمشق حيث استقرت الخلافة الأموية/ الإمبراطورية العربية الأولى لنحو المائة عام، إلى بغداد قلب الحضارة الإسلامية وموطن الخلافة/ الإمبراطورية العربية الثانية التي كانت بدورها اللاعب الأساسي في الشأن العالمي لنحو خمسة قرون، إلى القاهرة التي استضافت «شبح» الخلافة العباسية بعد سقوطها في بغداد لنحو القرنين ونصف القرن لعبت مصر خلالهما دور الركن في الحضارة العربية الإسلامية ضد الصليبين والتتار في نهاية الموجة الأولى لهيمنة الإسلام على جغرافية العصور الوسطى.
وهو نفسه الذي مكَّن الدولة العثمانية، عبر التقاليد العسكرية العريقة للعنصر التركي، من فتح القسطنطينية عام 1453 ووراثة الدولة العربية وتدشين الموجة الثانية لهيمنة الإسلام التي امتدت لنحو القرنين وربع القرن حتى حصار فيينا عام 1683م، وإن بروح عسكرية أكبر، وعطاء معرفي أقل جعلها تتآكل تدريجيًّا حتى كان سقوطها المحتوم مع الحرب العالمية الأولى بعد رحلة طويلة من الركود حملت فيها لقب «رجل أوروبا المريض».
وهو كذلك الذي مكَّن إيران، بكتلتها الحيوية الكبيرة وتقاليدها الحضارية العريقة، من لعب دور القطب المعارض داخل الحضارة الإسلامية، في مواجهة المركز العثماني السني وخاصة في العهد الصفوي «1502 - 1736» الذي شهد تشيعها الرسمي. وقد دارت أغلب صراعات الجانبين حول العراق وولاياته الثلاث التي كانت أقرب لكونفيدرالية متماسكة اسميًّا تحت التاج العثماني ولكنها مستقلة فعليًّا وخاضعة للنفوذ الإيراني بأكثر من شكل، وفي أكثر من لحظة تاريخية وحتى عقد معاهدتي: «أرضروم» الأولى عام 1823 التي أكدت على حرية الإيرانيين في زيارة الأماكن المقدسة بالنجف وكربلاء في العراق، وفي آداء فريضة الحج إلى الحجاز. ثم أرضروم الثانية عام 1837 التي منحت لإيران السيطرة على مدينة المحمرة ضمن إقليم عربستان، واحتفظت للعراق بمدينة السليمانية.
وفي الوقت نفسه، حرم «القوة المغولية» التي هيمنت على آسيا الوسطى في القرن الثاني عشر الميلادي، وتمكنت في الثالث عشر من اجتياح الدولة العربية وإسقاط الخلافة في بغداد من ترسيخ بؤرة قيادة نافذة تاريخيًّا. ورغم أن المغول اعتنقوا الإسلام بعد هزيمتهم في مصر وأخذوه معهم إلى شبه القارة الهندية وإلى تخوم الصين، فقد تجاوزهم التاريخ نظراً لبنيتهم الاجتماعية الرعوية، وفهمهم البدائي للسياسة، وعجزهم عن الإبداع المعرفي ومن ثم العطاء الحضاري.
وبتأمل هذا التاريخ نجده تحرك في فضاء استيراتيجي لستة مراكز كبرى معاصرة، خمسة منها بمثابة حضارات قديمة تجددت أو أعادت اكتشاف نفسها في إطار الإسلام. والمتصور ألَّا تخرج حدود الكتلة الاستراتيجية المطلوبة عن هذا الفضاء الذي يلتئم حول ثلاثة أقطاب رئيسية لعبت دور الحامل التاريخي للحضارة الإسلامية:
القطب الأول
يتمثل في المحور التاريخي العربي الذي توارثت أركانه الأربع «السعودية وسوريا والعراق ومصر» قيادة العالم الإسلامي في لحظات معينة، حيث تحكم الذكاء التاريخي في تشكيل بؤر الفعل داخل الجغرافيا العربية، فانتقلت تدريجيًّا من فلك التأثير الديني حيث المكون العقيدي ملهماً مركزيًّا، إلى فضاء التأثير العقلاني حيث الكتل الحيوية ومن ثم القدرات الاستراتيجية حاكماً موضوعيًّا لهذا الفعل، ومن ثم كان الانتقال المتتالي من الكتلة الحيوية الأصغر في المدينة، إلى الأكبر في دمشق، فالأكبر في بغداد، وصولاً إلى القاهرة حيث سارت القيادة في التاريخ العربي تدريجيًّا في موازاة الدوافع الموضوعية وعلى رأسها مركزية الجغرافيا وديناميكية البشر ومؤخراً جاذبية الثقافة، بقدر ما كانت تنفصل تدريجيًّا عن الدوافع الأخلاقية وعلى رأسها الإيمان القلبي والشجاعة الفردية ومحورية النص، التي صارت تأثيراتها على حركة التاريخ «مكملة» قياساً إلى العوامل الموضوعية الأساسية.
وفي القرن العشرين تكثفت معطيات هذا الذكاء لترسم للتاريخ العربي مساراً واعياً إلى درجة تتيح قراءة الواقع العربي الذي شهد أكثر عقوده تطوراً وديناميكية عندما كان الجميع يدركون هذا المسار ويخضعون لمنطقه. وعلى العكس، كانت أكثر عقوده اضطراباً عندما كان يتم تحدي هذا المسار، وذلك عبر طريقين:
الأول: هو محاولة تعطيل خطواته أو إعادتها إلى الوراء من قبل المركز السالف، وهي المحاولات التي ارتبطت في الأغلب بالعراق وأثارت توترات عديدة في لحظات عدة بدا فيها وكأنه لا يعترف بالمعطيات الموضوعية لحركة التاريخ، والمسار الذي رسمته لتسلسل القيادة في الجغرافيا العربية والذي كان قد تجاوز مكانه وليس مكانته، ومنح دفة قيادته إلى الكتلة المصرية.
أما الثاني: فهو تنكر الوريث الجديد لمراكز القيادة السابقة على هذا المسار، فانتقال القيادة لم يكن يعني ذبول السلف، بل مجرد اضطلاع الوريث بعبء أكبر نسبيًّا في إطار الجهد العام المفترض أن يُبذل لتأمين الجغرافيا العربية في المنحى السلبي أو قيادة تطورها الحضاري والاستراتيجي في المنحى الإيجابي. وعندما كان هذا الإدراك يتعرض للتشوه أو الاختزال كانت الجغرافيا العربية تتعرض للخطر، ناهيك عن تطورها الحضاري الذي كان يسبق إلى الجمود.
ويلهمنا هذان الوجهان للذكاء التاريخي سر أسرار الجغرافيا العربية التي لم تعد كما كانت في العصر الوسيط «مرتفع قوة عالمي» تحتمل التمزق والاختلاف، بل «منخفض قوة إقليمي» لا تملك ترف التشتت وإلا تعرضت لعوامل التعرية السياسية، ومخاطر الفراغ الاستراتيجي كما تشي الخبرات العديدة في القرن العشرين:
- فحرب أكتوبر تمثل خبرة مثالية كاملة وإيجابية على صعيد هذا الذكاء، حيث اضطلعت مصر أساساً ومعها سوريا بعبء المواجهة مع إسرائيل، في حين كان العراق والسعودية في موقع الجناحين يميناً ويساراً، وذلك من دون تنكر لبعض الجهد العربي الذي أتى من الخلف وخاصة من ليبيا والجزائر، أو تقليل من أهمية التصميم الاستيراتيجي لدى العسكرية المصرية على استعادة الكبرياء، ولدى المصريين عامة على استعادة الروح.
- ومعاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية تبدو خبرة مثالية ولكن سلبية للقيادة المصرية. وبغض النظر عن التقييمات متباينة المشارب للمعاهدة نفسها فقد انبرت سوريا والعراق لمواجهة مصر التي أصرت على فرض أجندتها السلمية المنفردة، وحارت السعودية بين الطرفين فاختل النظام العالم العربي تماماً وغزت إسرائيل لبنان مرتين من دون رادع إقليمي، ودخل العراق، بإغواء فرض قيادته على العالم العربي في غياب مصر، مغامرة الحرب مع إيران فانكشف الأمن الخليجي.
- وتمثل حرب عاصفة الصحراء خبرة ملتبسة، فالغزو العراقي نفسه خبرة سلبية تكشف عن غياب الذكاء التاريخي، وعن محاولة لقلب ترتيب القيادة داخل النظام العربي قادته إلى الفوضى. وأما عملية تحرير الكويت فهي خبرة ناجحة جزئيًّا للمراكز الثلاثة الأخرى على صعيدي: توفير الشرعية القومية للحشد الدولي تحت القيادة الأمريكية ضد الغزو، وتقديم الدعم اللوجيستي الذي تطلبته عملية التحرير حيث السيادة الوطنية هي إحدى القيم الأساسية التي يرتكز عليها النظام العربي الرسمي.
- وأما خبرتا حرب الخليج الأولى، والحرب الأهلية اللبنانية، فكانتا الأسوأ على هذا الصعيد، ففي الأولى ساعد وقوف سوريا إلى جوار إيران على تأكيد شرعية موقفها، داخليًّا على الأقل، باعتبار أن الخصم يفتقد إلى الشرعية العربية نفسها ما مكنها من إطالة الحرب لنحو ثماني سنوات. وفي الثانية تبادل الطرفان مواقعهما، ودخل العراق مناوئاً للدور السوري التقليدي في لبنان ما جعل القوى متوازنة، والصراع بين الجانبين أشبه بحرب باردة عربية دامت خمس عشرة عاماً ولم تتوقف إلا بعد الحرب العراقية - الإيرانية، ونشاط الدور السعودي في تسوية الأزمة عبر اتفاق الطائف عام 1989م.
- أما الخبرة الأخيرة لهذا القرن «الحادي والعشرين» فتتعلق بالعدوان الأمريكي على العراق عام 2003، وهي خبرة بالغة الاستثنائية على صعيد هذا الذكاء؛ لأنها لم تكشف عن رغبة المحور التاريخي العربي في التنافس على القيادة، بل عن رغبة في الاستقالة منها والتملص من أعبائها بأشكال شتى من الفعل أو الصمت كنتيجة لحالة الإرهاق التي أصابته أن تحول ثاني أكبر أعضائه من رافعة له إلى عبء عليه، وهذا هو العراق في مرحلة الحصار طيلة التسعينيات. وبعد أن زاد تردد العضو الأول في تحمل مهمته وهو القائد الشرعي الذي يغيب معه حس الاتجاه وتضيع الأهداف وتلك هي مصر. وهنا تحولت المنطقة إلى فراغ.
ولعل استعادة الذكاء التاريخي العربي يبقى الطريقة الوحيدة الممكنة الآن لملء الفراغ الإستراتيجي المحيط بنا، ما يعني أن المهمة العربية الأكثر إلحاحاً هي استعادة الرغبة والانسجام والتوافق بين أعضاء هذا المحور ليبدأ في العمل حالاً ومن دون انتظار تحقيق الإجماع الشكلي الهش لأعضاء النظام الرسمي الاثنتين والعشرين دولة بما لهم من أوزان متباينة وأمزجة متناقضة، إذ لا يوجد في الحقيقة فارق كبير بين الإجماع الرسمي، وبين التوافق الرباعي في القدرة على تجسيد حس الاتجاه لدى الجماعة العربية. وربما يضيق هذا الفارق مقترباً من حد التلاشي بتوافر شرطين أساسيين:
الأول هو بناء نسق قيمي جديد للشرعية السياسية يمكن من خلاله التعاطي مع كافة القضايا العربية المتفجرة في الداخل، وذلك بعدم السماح للمصالح المباشرة الدولتية أو الطائفية بالنفاذ إلى هذا النسق وضربه في الصميم لأجل مصلحة آنية مباشرة لأحد من أعضاء هذا المحور الرباعي أو أحد الأطراف المقربين منه والمحسوبين عليه.
وأما الثاني فهو صياغة إطار سياسي عقلاني في التعامل مع القضايا المعلقة مع النظامين العالمي والإقليمي يتجاوز نوعين من المواقف قادا إلى الفشل في إدارة الصراعات العربية رغم تناقضهما ظاهريًّا. النوع الأول هو تلك الصياغات الراديكالية في ثوريتها والتي سادت لعقود أربع بدأت مع انتصاف القرن الماضي وطالما حفلت بها الأجندة البعثية ومثيلاتها من رؤى لا تعير أي اهتمام للمتغيرات الجارية في عالمنا، والحدود الحاكمة للتأثير العربي في العصر الحديث الذي احتلت فيه الجماعة العربية موقع المعارضة بالمعنى الحضاري، لا موقع السلطة الذي احتلته في ذروة العصر الوسيط. وأما النوع الثاني فهو تلك الصياغات المبالغة في محافظتها إذ تضع المتغيرات العالمية في مرتبة القدر الذي لا ترد إرادته، والتي استوحت في العقدين الماضيين نموذج السلطة الرعوية الأكثر خنوعاً والذي ساد المجتمعات العربية إبان الحكم المملوكي ثم العثماني. فإذا كانت الصياغة الأولى صارت تثير سخرية الإنسان العربي لعدم عقلانيتها، فالثانية لم تعد تثير حماسه لغياب إيجابيتها.
القطب الثاني
أما القطب الثاني فهو «إيران» كحليف أساسي يشارك العالم العربي مخاوفه من تحالف الصهيونية المسيحية مع اليمين الأمريكي المحافظ ضد المنطقة، إذ ثمة مشترك ديني / ثقافي، وجغرافي/ استيراتيجي يجمع بين الطرفين على نحو لا يجعل العرب خصماً من رصيد إيران، أو إيران خصماً من رصيد العرب، وإذا حدث ذلك فالدافع إليه ليس إلا نوعاً من العماء الاستراتيجي لدى أحد الطرفين أو كليهما وقوعاً في أسر ذاكرة تاريخية يشوهها هاجسان متقادمان:
- أولهما يعود إلى «الحركات الشعوبية» التي يزخر بها التاريخ الإسلامي حيث تنامى الدور الفارسي في التنافسات السياسية التي دارت بين الأجناس المتزايدة بامتداد خريطة الإسلام ضد انفرادية العنصر العربي بالسلطة المركزية في العصر الأموي، كما أسهم بدور أساسي في انتقالها إلى الدولة العباسية، بعد أن كان قد أضفى عليها مسحة من التقليد الفارسي الملكي الاستبدادي. وكذلك في الصراع الثقافي الذي دار بين الروح العربية الأولى الفطرية والنصية، وبين الروح الجديدة الأكثر تركيباً وتأثراً بحركة الترجمة والانفتاح على الثقافات الأخرى المعاصرة منذ عصر المأمون، ما ولَّد تياراً من السجالات الكلامية وكرَّس لتعددية الفرق الإسلامية التي تنامى عددها رويداً رويداً ومنها الفرقة الشيعية، والتي تم توظيفها مع غيرها في الصراعات السياسة في كثير من الأحوال.
- وثانيهما ينبع من الصراعات التي شهدها العصر الحديث بين إيران وخاصة الدولة الصفوية «1502 - 1736» التي أعلنت التشيع الرسمي والأتراك العثمانيين حول العراق وولاياته الثلاث التي كانت أقرب لكونفيدرالية متماسكة اسميًّا تحت التاج العثماني ولكنها مستقلة فعليًّا وخاضعة للنفوذ الإيراني بأكثر من شكل، وفي أكثر من لحظة تاريخية وحتى عقد معاهدتي «أرضروم» الأولى عام 1823 والثانية عام 1837.
وأما الحقبة المعاصرة، فلا تخلو هي الأخرى من بعض الخبرات الصراعية مع إيران «الدولة القومية» على منوال سيطرتها على الجزر الإماراتية الثلاث منذ انسحاب القوات البريطانية بداية السبعينات، ومطالباتها في البحرين آنذاك، والخلاف مع العراق حول شط العرب وصولاً إلى حرب السنوات الثماني. غير أن هذه الخبرات جميعاً لا تدل في الحقيقة على تناقض حتمي بين مصائر الطرفين، بقدر ما تدل على القربى الحضارية مجسدة في «التداخل الجغرافي» و«التشابك التاريخي» وهي القربى التي تصنع الخلافات الحدودية بين أغلب دول المغرب العربي، وكذا المشرق العربي، بل وداخل مجلس التعاون الخليجي نفسه، أو بين دوله وبين اليمن فضلاً عن العراق وصولاً إلى غزو الكويت. ولذا فهي صراعات قابلة دوماً للحل لأنها غير جذرية ولا تجرح كرامة شعوبها حيث يغيب العداء القومي أو الديني الذي يغذي الشعور المرير بـ«الهزيمة».
وأما إيران «الجمهورية الإسلامية» فتبقى شريكاً حضاريًّا بامتياز رغم بعض الحساسيات التي أثارها مفهوم تصدير الثورة، والذي لا يعمل أصلاً إلا في إطار تلك القربى الحضارية، حيث الثقافة الغالبة على إيران تنبع من مصادر إلهام عربية، فالمذهب الشيعي الجعفري الاثني عشري الرسمي -كان الأزهر قد اعترف به مذهباً فقهيًّا خامساً في الإسلام بجانب المذاهب السنية الأربع في عهد شيخه الكبير محمود شلتوت في خمسينات القرن العشرين- يرجع بكل رموزه إلى العنصر العربي من البيت الهاشمي القرشي. وحتى أغلب مزاراتهم المقدسة تقع إما في مكة والمدينة حيث الحرمين الشريفين، وإما في العراق حيث مراقد سبعة أئمة من الاثني عشر تقع بمدينتي النجف وكربلاء. كما أن إيران هي البلد الوحيد الذي جعل اللغة العربية هي اللغة الثانية في مراحل التعليم المختلفة بنص دستوري صريح منذ قيام الثورة. ومن ثم فإيران التي ينظر إليها على أنها مركز الثقل السياسي الشيعي كدولة، ليست هي القبلة الروحية للشيعة كمذهب، فهذه القبلة تبقى في العراق، والجغرافيا العربية.
وتتعمق تلك القرابة بالتشابك والتداخل الديمغرافي المشهودين، فدول الخليج العربي تزخر بنسبة شيعية معتبرة يتعاطفون مع إيران مذهبيًّا، وفي المقابل هناك عدة ملايين من العرب يعيشون داخلها في إقليم «خوزستان» يتعاطفون معنا قوميًّا. كما أن الأكراد وجوداً وقضيةً يمثلون هاجساً مشتركاً لها مع تركيا والعراق وسوريا، فالقضايا الحساسة في المنطقة تبدو جامعة للعرب وإيران ما يجعلها قطعة من نسيج المنطقة بامتياز الآن وفي المستقبل.
هذا الإطار الحضاري الجامع يجعل العلاقة بين إيران مهما تزايدت قوتها، وبين العالم العربي حتى في أشد لحظات ضعفه، تبقى أشبه بعلاقة حبل سري على منوال تلك القائمة بين الولايات المتحدة كتجسيد لقوة الغرب العسكرية والاستراتيجية، وبين أوروبا الغربية كمصدر للقيم والرموز والأفكار التي صاغت القوة الأمريكية بقدر ما ألهمت العقل الأمريكي. أو على منوال العلاقة بين روما تلك الإمبراطورية السياسية والعسكرية المتمددة، وأثينا تلك المدرسة الفكرية والفلسفية الملهمة. فإذا كانت إيران فعليًّا ليست إلا قوة من الحجم المتوسط، الذي يزخر العالم العربي بثلاثة نماذج له على الأقل، يصبح الأفق مفتوحاً أكثر على شراكة استراتيجية / حضارية متكافئة، لا مكان فيها لعداء مطلق رغم بعض التباين في المصالح، إن لم تكن صداقة مطلقة يحتمها التجانس في الثقافة.
ولاشك في أن غياب طرف استناد دولي يمكن الاستعانة به ضد التحديات المشتركة والجذرية التي يواجهها الطرفان معاً في عالم اليوم، إنما يفرض على الطرفين إنضاج معطيات هذه الشراكة بتنمية منطق التجانس، وتجاوز هامش التناقض عبر حوار جاد ومثمر. وهو لن يكون جادًّا إلا إذا اعترف العرب بإيران دولةً كبيرةً وكتلةً حيويةً معتبرةً لها مصالح يجب أن تُحترم، وتفاعلوا معها مباشرة بجسارة واستقلال عن الأجندة الأمريكية. كما لن يكون مثمراً إلا إذا استعاد العرب ثقتهم بأنفسهم ندًّا لإيران على الأقل، وقلباً تاريخي لا غنى عنه في تشكيل استراتيجيات الشرق الأوسط، وقيادة التطور الحضاري لعالم الإسلام الواسع بكل حيويته وديناميكيته.
وهنا تبدو الحاجة إلى ضرورة دمج إيران في تفاعلات المنطقة العربية، وخصوصاً الخليجية، من خلال إطار واضح سياسي أو استراتيجي قد يمنحها بعض المزايا التي تستحقها كدولة كبيرة لها مصالح لابد من احترامها طالما كانت مشروعة ولا تنقص من سيادة جيرانها. ولكنه في المقابل يشكل قيداً يفرض عليها ضرورة احترام مصالح باقي الأطراف ويحتم عليها الحوار معهم، ما سوف يُلجم سلوكاتها الراديكالية التي تتغذى على شعورها بالعزلة الإقليمية، ويوفر إطاراً لمراجعتها، حتى لا تبقى إيران بمثابة «فاعل شبح» يؤثر واقعيًّا في تفاعلات المنطقة ولكن من دون قدرة على ضبطه، ما يمنحها حرية مطلقة في ممارسة دورها الإقليمي. وربما كانت الصيغة العملية لهذا الإطار بمثابة طبعة منقحة من إعلان دمشق الذي كان قد تأسس أعقاب عاصفة الصحراء لموازنة نفوذ عراق مهزوم، وإيران طامحة، ولكنه تجمد بفعل الوجود الأمريكي المكثف، واستراتيجية «الاحتواء المزدوج» للطرفين. وإذا كان التحدي قد اختلف الآن، فلم يعد يكمن في صراع إقليمي بين العراق وإيران، بل في وجود أمريكي ينزع إلى استراتيجية «الابتلاع المزدوج» للدولتين، فإن صيغة الإعلان الأولى «6 + 2» تصبح عاجزة عن العمل ولابد من تعديلها إلى «6 + 4» بضم العراق وإيران إليها. أو على الأقل تفعيل أطر تضم إيران فعليًّا من قبيل مجموعة «دول جوار العراق ومصر».
القطب الثالث
وأما القطب الثالث فهو تركيا التي أخذت تتخلى منذ العقدين تقريباً عن «الأصولية العلمانية» لتصوغ نموذجاً معتدلاً يتجاوز «الكمالية» باعتبارها أصولية علمانية، كما يتجاوز «العثمانية التقليدية» باعتبارها سلفية تاريخية نحو «العثمانية الجديدة» التي يتصالح داخلها الإسلام مع الحداثة. وتجعل من تركيا نموذجاً حيًّا وخبرة عملية تلهم هذه المصالحة نفسها على المستوى الحضاري بين الشرق العربي الإسلامي في كليته والغرب في عمومه، وذلك عند نقطة توازن لا تتنكر لقوة حضور الغرب في عالمنا المعاصر ولا لحداثة وجاذبية قيمه الفكرية والسياسية ولا لحظات التثاقف الإيجابي معه، لكنها تضع هذا الحضور في موضعه وترده إلى أصله باعتباره تجربة في التاريخ، وإن كانت زاهرة، وليس وصفة سحرية للتقدم كما تصورت الأصولية الكمالية في القرن العشرين.
لقد أثبت العثمانية الجديدة قدرة هائلة علي التجدد، بل والتمدد أيضاً على حساب الكمالية كأصولية علمانية، فأدت -على حد وصف أحد المحللين الأتراك- إلى نهاية طبقة سياسية كاملة تصدرت الساحة التركية في نصف القرن الماضي بإلهام الأيديولوجية الكمالية. غير أنها في مراحلها الثلاث «جبهة الشرق الأعظم»، و«النظام العادل»، و«العدالة والتنمية» كانت مضطرة دوماً إلى تقديم تنازلات متوالية بغية التوافق مع الروح التركية الحديثة، وصولاً إلى نقطة التوازن الحرج بين مكوناتها وغاياتها النهائية. ومن ثم تصبح هذه العثمانية الجديدة أو تركيا الجديدة بوابة عبور إسلامية إلى الفضاء الأوربي، وأوروبية إلى الفضاء العربي الإسلامي.
وفى هذا السياق يتوجب ربط تركيا بآلية تنسيق دائمة، لأهمية دورها في قضايا إقليمية كثيرة، منها على سبيل المثال الوجود الكردي وهي إحدى أبرز القضايا المتفجرة في المنطقة التي لا يمكن حسمها أو التصرف حيالها بعيداً عن الدور والرؤية التركيين. وأيضاً في قضية الصراع العربي - الإسرائيلي حيث ظهر الدور التركي إيجابيًّا مرتين على الأقل في الفترة القليلة الماضية: أولاهما في دور الوسيط الإيجابي بين سوريا وإسرائيل من أجل تحقيق تسوية سلمية تكرس الاستقرار الإقليمي، وتقلص احتمالات المواجهة المسلحة، والعنف المتبادل. ولم يتوقف هذا الدور إلا في خضم العدوان الإسرائيلى الهمجي على غزة، بعد جولات خمس كانت ناجحة أو شبه ناجحة. وثانيتهما هو الدور الذي لعبته تركيا إبان العدوان الإسرائيلي نفسه على غزة. فقبل العدوان مباشرة كانت تركيا قد طرحت على إسرائيل رغبتها في التوسط لتحقيق التهدئة ومد فترة الهدنة مع حماس. وعندما اختارت إسرائيل التصعيد العسكري، بدلاً من الرد الإيجابي على العرض التركي، حاولت تركيا التقدم بالتنسيق مع مصر، بمبادرة لوقف إطلاق النار حيث قام رئيس الوزراء السيد رجب طيب أردوغان بزيارة إسرائيل ومصر، وعندما أدرك أردوغان تعقيدات الموقف وتعنت إسرائيل قام بإدانتها مباشرة، وتحميلها مسؤولية العنف المسلح وما يترتب عليه في لهجة ربما لم تكن بهذا القدر من الوضوح لدى البلدان العربية نفسها.
هذا التحول الكبير في الموقف التركي من قضايا المنطقة لا يمكن إدراك حجمه الحقيقي إلا بالقياس مع المواقف السابقة للعلمانية التركية، التي ارتكزت على التحالف الاستيراتيجي مع إسرائيل، وتأييدها الأعمى في جل صراعاتها ومواقفها العدائية من العرب. وعندما وصفت إسرائيل تصريحات أردوغان بـ«العاطفية» فإن اللهجة التركية ازدادت حدة، إذ أعلن الرجل بشجاعة تحسب له أن موقفه من العدوان الإسرائيلي على غزة موقف سياسي لا موقف عاطفي، وأنه ينبع من موقف جل الشعب التركي الذي يمثله، والذي يعد بمثابة الأحفاد للعثمانيين الذين حكموا العالم الإسلامي، وكانوا أكثر الإمبراطوريات تسامحاً مع اليهود باسم الدين الإسلامي. وهكذا نجد تحولاً جذريًّا في الخطاب السياسي التركي عن الخطاب العلماني المعادي للإسلام، والمرتكز إلى الانتماء الجغرافي لأوروبا، والاستراتيجي لحلف الأطلسي، والمتحالف عسكريًّا مع إسرائيل، إلى خطاب يمجد الإسلام، ويرتكز إلى الانتماء التاريخي للعالم الإسلامي، وعلى إنصاف الحق العربي، والموقف المستقل عن الموقف الأمريكي الأطلسي، والمندد بالعدوانية الإسرائيلية.
هذا الخطاب التركي الجديد الذي يجسد الرؤية السياسية لـ«العثمانية الجديدة»، ويعكس تصورها عن الهوية الحضارية التوازنية والمعتدلة لتركيا يصلح أساساً لوجودها السياسي، وحضورها الاستيراتيجي في بنية المشرق العربي الإسلامي، كطرف أصيل وفاعل في قضاياه الرئيسية، وكجسر يحمل هذه القضايا إلى الطرف الغربي على الشاطئ الآخر، إذ تستطيع تركيا الحديث على هذا الطرف بلغته، ومن داخل جغرافيته السياسية، على النحو الذي يخدم أهداف التكتل الاستراتيجي، والتعايش الإنساني التي تتغياها هذه الكتلة الحضارية للمشرق الإسلامي. فهذه الكتلة، والتي تمثل تحالفاً سنيًّا - شيعيًّا يمثل كل المسلمين، ربما تكون الطريق الأمثل لإعادة صياغة دور الإسلام في النظام العالمي باعتباره ذلك الإطار الحضاري الذي يستوعب حياة ربع البشرية أو أقل قليلاً، ونحو 15% من جغرافية العالم بما تحتويه من تناقضات استراتيجية حادة، ومشكلات سياسية مزمنة، واحتقانات ثقافية عميقة:
- فعلى المستوى الاستراتيجي تبدو هي الأكثر تأهيلاً لاستعادة العراق من خلال حوار جاد مع الولايات المتحدة، لأنها الأكثر قدرة على تحمل الالتزامات المطلوبة لإعادة تأهيله، وأطرافها «الخمس» هم الفاعلون الحقيقيون في الشأن العراقي، فهم إما يملكون مصالح يدور حولها صراع داخله، أو أوراقاً للتأثير في مواقف المتصارعين، أو دوراً في منح الشرعية القومية لعملية إعادة التأهيل برمتها.
وهنا يمكن الادعاء بأن عراق ما بعد الاحتلال لن يعود مباشرة إلى الفضاء القومي العربي بل سوف يدخل مرحلة انعدام وزن قد تطول أو تقصر يعاني خلالها من تصارع نفوذ أمريكي - إيراني عليه. ولسرعة تجاوزها، يتوجب على العرب تحديد الطرف الذي يمكن مشاركته في إدارتها، وهل هو الولايات المتحدة التي تنوي إقامة قاعدة عسكرية كبرى لضمان مصالح تسهم في توجيهها أجندة إسرائيلية تهمش البعد القومي للعراق. أو هو إيران الدولة الجارة التي لها مصالح مؤكدة في العراق يمكن الحوار حولها، ولكنها لا تحتاج لقاعدة عسكرية ولا تستطيع فرض إملاءات حقيقية على العالم العربي حتى لو أرادت، كما أنها لن تحيل العراق إلى فضاء خلفي لإسرائيل.
وهنا يمكن عقد صفقة تبادلية بين العرب وإيران، فإذا كانت المرحلة الانتقالية في العراق تتطلب دوراً إيرانيًّا يبقى حاسماً في تقرير مستقبله، فللعرب دورهم المهم في مستقبل الملف النووي الإيراني، فسلبيًّا يمكنهم تسهيل الخيار العسكري الأمريكي بتقديم دعم لوجستيكي فضلاً عن إسباغ الشرعية الإقليمية، وإيجابيًّا يمكنهم خلخلة الحصار حول إيران بإعلان تأييدهم لحقها الأصيل في امتلاك التكنولوجيا النووية طالما أن إسرائيل تملك السلاح النووي، وأنهم يدعمون تخليها عن هذه التكنولوجيا فقط في حال تخلي إسرائيل عن سلاحها لإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل. وتنبع معقولية هذه المبادرة العربية من عدة اعتبارات أهمها:
- أن تنسيق المواقف بين العرب وإيران سوف يحول دون عقد صفقة إيرانية - أمريكية على حساب المصالح العربية، وحتى إن تمت هذه الأخيرة في مرحلة تالية وبعد تواري فرص الحل العسكري، فلن تكون ضد المصالح العربية بالضرورة، كما أنها سوف تدفع الولايات المتحدة إلى إعادة تثمين المواقف العربية المعتدلة التي صارت مهملة باعتبارها من البديهيات.
- كما أن القدرة النووية الإيرانية، حتى في حالة امتلاكها للسلاح النووي لا تمثل أدنى خطورة على العالم العربي وبالذات مناطق الاحتكاك مع إيران في الخليج والتي تزخر أساساً بالأقليات الشيعية التي لا يمكن استخدام مثل هذا السلاح في إبادتها، كما أن إيران برغم خطابها السياسي المتشدد تبدو عقلانية بما يكفي لكبح جماح نفسها عن الاستخدام العدمي لهذا السلاح الذي يبرر شرعيته الداخلية بالدفاع عن الأمة الإسلامية، وحتى إذا كان هذا الخطاب دعائيًّا الآن، فهو قيد حقيقي في المستقبل.
- ومنها آخراً أن المنطقة لا يمكن أن تبقى بكاملها حكراً على السلاح النووي الإسرائيلي، ورهينة له، فإذا كان ذلك يمثل مصلحة إسرائيلية/ أمريكية فهو بالقطع لا يمثل مصلحة عربية/ إيرانية، ولا شك في أن الخروج من مأزق الانفراد الإسرائيلي النووي يبقى أمراً مطلوباً، ولكنه غير متصور إلا عبر طريقين:
أولهما هو تحييده من خلال امتلاك طرف عربي له، وفى ظل تعذر وجود مالك عربي ربما يكون الخيار الإيراني/ الإقليمي هو البديل الممكن الآن، وخاصة بعد نجاحها في إمتلاك دورة كاملة للوقود النووي. ليس لأن القنبلة الإيرانية هي بمثابة «القنبلة الإسلامية»، بل لأن المنطق الاستراتيجي البسيط يقول: إن انتشار أي سلاح مهما تكن خواصه وعدم تركزه في قبضة واحدة يقلل من أهمية حيازته أصلاً، فضلاً عن نمو آلية الردع بين المالكين له.
وثانيهما هو المطالبة بنزعه لإقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، وهو خيار مثالي لا يمكن لإسرائيل القبول به إلا في ضوء امتلاك طرف مناوئ له بحيث يكون النزع متبادلاً. وفي ظل غياب القدرة النووية العربية، تمثل إيران هذا الطرف الإقليمي باقتدار. ومرة أخرى ليس لأنها تحوز القنبلة الإسلامية، ولكن لأنها تثير مخاطر الانتشار المتزايد وهو سيناريو بالغ الخطورة لابد وأن يحرك الولايات المتحدة نحو فرض حظر شامل على المنطقة، وقد يحفز إسرائيل إلى قبوله لإدراكها خطورة الفوضى على وجودها.
- وعلى المستوى السياسي ربما كانت هي الأنسب كمدخل لحل الصراع العربي - الإسرائيلى إذ يؤدي تفكيك الاحتقان حول العراق والمشكلة النووية بالضرورة إلى عقلنة الدور الإيراني وتصفية إحتقانات الأزمة السورية - اللبنانية، والكشف عن ضعف حاجة الولايات المتحدة لإسرائيل وتعرية دورها الإقليمي المضاد دوماً لحركة التفاعل التلقائي في المنطقة، ما قد يدفعها للضغط عليها نحو تسوية سلمية عادلة. وعلى الأقل تستطيع هذه الشراكة كسر الحصار الجاري لعدد من الدول العربية من خلال احتواء الاحتقانات المتزايدة بها وحولها منذ احتلال العراق، ثم اغتيال الحريري واندلاع حرب تموز/ يوليو 2006م بين إسرائيل وحزب الله في الجنوب اللبناني. وكذلك منذ نجاح حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية وتشكيلها لحكومة فلسطينية، وما تلا ذلك من اندلاع مواجهتها مع فتح واستقلالها بقطاع غزة، وحتى العدوان الإسرائيلى الهمجي على القطاع. ذلك أن الحاجة تبدو ماسة الآن إلى إعادة صياغة الاصطفاف العربي في مواجهة القضايا الأساسية المثارة إلى وضعه الطبيعي بحيث يكون هناك موقف عربي مشترك يتسم بالعقلانية والاعتدال والإيجابية من القضايا الأساسية في فلسطين والعراق وسوريا ولبنان مدعوم إيرانيًّا، ضد الموقف الإسرائيلي المتعنت أو الأمريكي المتغطرس.
- وعلى المستوى الثقافي تبدو هذه الكتلة بمثابة الطريق الأوحد لامتصاص المد الإرهابي في المنطقة لأنها تخلق لغة حوار بديلة بين النظام العالمي والدولة التي تتحكم في مصائره، وبين الثقافة التي يدعي الإرهاب التعبير عنها والتي تضم أساساً الأعراق الثلاث التركي - الفارسي - العربي التي جسدت الصور النمطية السلبية التي تتابعت في الوعي الغربي عن الإسلام منذ التبست «بالتركي القاسي المدجن بالسلاح على أبواب أوروبا الحديثة، ثم الإيراني مدعي الالتباس بروح الله ليخلع على أمريكا والغرب المعاصر صورة الشيطان منذ سبعينات القرن الماضي، وأخيراً العربي الذي تجاوز شهوانيته الجنسية الموروثة إلى شهوانية قتل الغربي ولو أدت إلى انتحار الذات».
وإذا كان إرهابيو العالم العربي المعاصرين أمثال بن لادن والظواهري والزرقاوي قد تمكنوا من اختطاف الصورة الذهنية عن الإسلام. وإذا كانت القاعدة كتنظيم معولم للإرهاب قد تمكن من فرض منطقه بعد احتلال العراق الذي منحه هامشاً من المشروعية، وجغرافية أوسع للحركة، فإن هذه الكتلة الاستراتيجية بتوجهها المعتدل والسلمي، وباحترام الغرب والعالم لمنطقها قادرة على استعادة وعي المسلمين، وحرمان الإرهاب من شرعيته، لأنها باختصار تعيد للمسلمين الشعور بالكرامة المهدرة.
وهنا قد تكمن المفارقة، فبينما تصور الراحل صامويل هنتنجتون الصراع على قيادة العالم الإسلامي بين المراكز الست في إطار صراعي مع الغرب، فإن نهوض هذه الكتلة بتجسيد إطار لـ«الإسلام الحضاري» يتفاعل معه الآخرون «باحترام يصون كرامته» ربما يكون طريقاً إلى التعايش الحضاري بين بنيات تاريخية حية وفاعلة تجاوزاً لحديث العادة الثقافية من داخل غرف مغلقة عن «حوار الحضارات» الذي يبقى دعائيًّا ومحبطاً أمام ضغوط الأحداث و «صدام السياسات».