يبدو أنه ليس من المفيد الرجوع إلى الإشكاليات التليدة في الفكر الفلسفي، والمُؤسسة على سؤال: هل الحرية وهم أم حقيقة..؟ لأن الفكر الفلسفي أحدث قطيعة إبستيمية مع تلك الثنائيات التي قلّصت من حظوظ تقدمه مقارنة مع العلوم التطبيقية. وبالتالي نحن منذ البداية لا نريد أن ننخرط في مسائل الميتافيزيقا وعلم الكلام القديمة، خاصة تلك الأسئلة التليدة: هل الإنسان حر أو مجبر؟ هل الحرية فعلاً موجودة؟؟ وقس على ذلك. فنحن ننطلق فرضاً من قاعدة افتراضية تتمثل في كون الحرية حقيقة نظرية وممارسة عملية في آن واحد، وذلك لأجل فكّ التعارض التاريخي بين الحتمية والحرية. فالمسألة من حيث البعد الإنساني لا ينبغي أن تُبنى على أن إحدى القضيتين يجب أن تُفند الأخرى. إذ إن مشكلة الحرية من خلال تصورات الوعي الزائف قُدمت كقضية أنطولوجية يفرض إثبات وجودها نفي الحتمية كشرط. والفيلسوف هنري برغسون قد نبّه العقل البشري إلى ضرورة إعادة تأمل مسألة الحرية ضمن أفق توجيه العلاقة نحو التناغم والتناسق بين الحتمية والحرية. ولذلك حاول أول الأمر بناء التأمل الذاتي على ملاحظة الذات من خلال عملية استبطان الذات لذاتها، وبعد نجاح عملية التأمل يتأسس الواجب الفلسفي الذي يتجه نحو فهم الحرية خارج لعبة الوهم: «واجب الفلسفة يظهر لنا من خلال الشروط العامة للملاحظة المباشرة والآنية، للذات كما هي، إن هذه الملاحظة الباطنية غير صائبة لأنها مشوهة بالعادات المدمجة. وأن الفساد الرئيس حصل دون شك من مشكلة الحرية - الحرية الوهمية - وليس من اللبس بين الديمومة والمدة»[2].
إن فكرة الديمومة لا تلغي الحرية بل الذي يلغيها هو تلك العادات التي أُدمجت في حياتنا، وأصبحت تشكل عَقداً مبرماً بين الذات والعالم الخارجي. هذا الأخير يقدمه المخيال كقاهر للذات يفرض قوانينه عليها فرضاً. ولعل هذا الاعتقاد هو الذي دفع التفكير الفلسفي في عمومه إلى القول بالحتمية، ومحاولة تقديمها على أساس كونها البرهان القاطع على عدم وجود الحرية أصلاً. فلو تناظر شخصان حول موضوع الحرية فالحجة الدامغة عادة تكون لنصير الحتمية في أغلب الأحيان: «لنسمع نقاشاً بين فيلسوفين، أحدهما يؤمن بالحتمية والثاني بالحرية، يظهر دائماً أن نصير الحتمية على صواب، ويبدو دوماً أن الثاني مجرد مبتدئ وأن خصمه خبير»[3]؛ لأن قوة حجة الأول تكمن في سلسلة الوقائع والشروط التي تتجه صوب تفنيد حرية الذات. في حين أن حجج نصير الحرية تتجه صوب الأحوال الشعورية، وبالتالي لا تخرج هذه الأخيرة عن الفعل البشري المشروط بحتميات متنوعة: «الحرية قُدمت لنا دوماً كفعل، وفي المقابل أثبتت الحتمية الكونية من قبل العلماء على أنها قاعدة المنهج، وفي العموم قُبلت من لدن الفلاسفة كعقيدة علمية لا غير»[4].
إن وهم الحرية والجبر وليدا التوهم الشعوري لحظة الانغماس في تأملات الأنا السطحي، وهذا ما يفرزه واقع العالم العربي اليوم من خلال كرنولوجيا سؤال الحرية، إذ إن أناه السطحي هي المحدد لمسألتي الحرية والحتمية، فأنصار الحتمية في واقعنا المعاصر أكثر من أنصار الحرية، لأن هناك عَقداً لا شعوريًّا مبرماً بينهم وبين المعتقدات والعادات التي تتسم بطابع التوكل والتسليم وتغليب القدرة المتعالية على كل أحوال الإنسان سواء كانت أحوالاً روحية أو أحوالاً مادية. لقد أصبحت الحتمية في حياتنا كالمِسطرة تماماً، فكل خروج عن القواعد المُسطرة يعتبراً كفراً أو جهلاً على مستوى العقيدة، وعصياناً وتمرداً على مستوى السياسة. وفي المقابل إن توهم الحرية هو نفسه ينبلج من تجليات الأنا السطحي، فالمراهنة على مقولة الأحوال والأفعال الإرادية يصدم بظواهر الموت والعجز والهرم، أو بظاهرة الحظ والفشل. والفكر العربي المعاصر حين ينخرط في تأمل الحتمية العلمية ينتج حتمية للسلوك البشري تنعكس سلباً على المجتمع العربي. لقد زادت الحتمية العلمية إيمان المواطن بالقضاء والقدر وسلطة المكتوب والله غالب على أمره. في حين كان من الأفضل أن يتجه الفكر العربي عند دراسة الحتمية العلمية على أنها ملزمة للحرية لا نافية لها، وأن ليس هناك تناقض بين ما يفرضه الفعل البشري من اختيار وما يفرضه الحدث الفيزيائي من جبر وانقياد للقانون أو الشرط. ونحن نساند وجهة نظر أ. فتحي التريكي حين حاول أن يُعقلن مسألة الحرية والحتمية: «ولا بد أن نشير هنا إلى أن الحتمية العلمية المفندة لوجود الحرية يجب ألَّا نخلطها بالجبرية على المستوى الديني، وإن كانت الجبرية قد تجد ضالتها في الحتمية. أي أن الحتمية تصب حتماً في الجبرية حسب برونششفيغ عندما اعتبر أن كانط أعطى لنظريته في الحرية التي تريد أن تكون كوسمولوجية اتجاهاً ثيولوجيًّا»[5].
ونحن في العالم العربي لا يمكن أن نتخطى تلك الجدلية القديمة إلا إذا نظرنا إلى الموضوع نظرة تركيبية بحتة، أي أن نحل إشكال التعارض الموهوم بين الحرية والحتمية. ومن ناحية أخرى لا بد أن نستفيد من الدرس الأشعري القديم حين فك التعارض بين الحرية والجبر من خلال نظرية الكسب، ولكن قد نستفيد أيضاً من تجربة هنري برغسون حين فك التعارض الحاصل بين الحتمية والحرية على أساس المماثلة التقليدية: «العلاقة القائمة بين الروح والجسم»[6]. فالجسم يشير إلى الحتمية والروح إلى الحرية، وبالتالي لا يمكن القول: إن الحرية منافية للحتمية أو العكس، مثلما لا نستطيع أن نفصل بين الجسد والروح. فنحن نعلم جيداً أن الروح لا يمكن أن تبقى دون الجسد الذي يوفر لها المكان، والجسد لا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا خضع للقواعد والقوانين التي تسطرها الحتمية (البيولوجية، الفسيولوجية..).
لقد استطاع برغسون أن يوجه الفكر الفلسفي إلى نقطة جوهرية تتعلق بعدم طرح مسألة التناقض بين الحرية والحتمية كمشكلة فلسفية؛ لأن التفكير الفلسفي المبني على الحدس والاستبطان حسم الأمر على أنهما متناسقان تتناسقاً كاملاً، أو يمكن القول: إنهما يعيشان حالة تناغم.
ونحن في العالم العربي ما أحوجنا إلى القول: إنه لا تناقض بين القضاء والقدر وقدرة الإنسان على الاختيار، وإن المكتوب وتقرير المصير يتجهان نحو الغاية ذاتها المحددة ضمن فكرة حكمة الخلق. إن تقرير المصير يجد موضوعه في القضاء، كما أن القضاء يجد موضوعه في الاختيار تماماً كالجوع والأكل، وبالتالي الجسد الروح.
ومن خلال ما سبق فالسؤال الذي نفترضه كمساءلة يتمثل في مقولة: ما مدى ممارسة المواطن العربي للحرية؟؟ وما مدى تحرره من الأوهام؟؟ وهل الحرية المُعاشة في الشارع والواقع تُعبر عن ماهية الحرية؟؟ أم أن العرب لم يضعوا بعد سؤال الحرية ضمن التجربة اليومية؟؟ أم أن الظروف لا زالت لم ترق بالمواطن العربي إلى أفق فهم مضامين الحرية؟؟
-1-
سؤال الحرية والخبث الأيديولوجي
نقر بكثرة الأسئلة المرتبطة بمفهوم الحرية ضمن بلازما الثقافة العربية.. فالحرية مسألة ارتبطت في المخيال العربي بحركات التحرر والثورات الكبرى التي عرفها العالم العربي في مطلع القرن العشرين.. وبالتالي أصبح مفهوم الحرية يرتبط غالباً بمسألة التحرر من العدو الخارجي.. فالإكراه الأوحد بصورة عامة يتمثل في إكراهات الآخر.. وحتى الثقافة الموجهة من قبل السلطات الرسمية لكثير من الدول العربية قرنت الحرية بمفاهيم الاستقلال.. وأصبح الشارع العربي يربط مفهوم الحرية بالاستقلال فقط. وعليه كان هذا الفعل الأيديولوجي من أهم الأدوات التي جعلت الحرية لا تتبلور في مضامين الحياة اليومية للمواطن العربي.. لقد قتلت الأيديولوجيا العربية كل وعي بالحرية.. وأصبح مفهوم الحرية مرتبطاً بنتائج العمل الثوري.. لا حرية خارج الثورة.. ولا حرية خارج السلطة... والحرية مجرد لحظة في التاريخ تتوقف عند طرد الآخر..
إن مرونة مصطلح الحرية جعلته حمالة أوجه، يحمل من الدلالات ما لا يمكن حصرها أو تقيدها في المدونات المفاهيمية، ولقد صدق مونتيسكيو في كتابه (روح القوانين) حين قال: «ليس هناك مصطلح تلقى من الدلالات المختلفة أكثر مما تلقاه مصطلح الحرية». ومن جهة أخرى تعتبر الحرية أكثر المفاهيم انزياحاً نحو الفكرة الكاذبة نتيجة الوهم الناشئ من كثرة التأويلات الدينية لها والممارسات السياسية: «وهناك الفكرة الكاذبة (PSEUDO IDEE) التي تتجه نحو الغموض واللاوضوح كما يكون اللبس والوهم أبرز مظاهرها، وأغلب مصادرها الفكر السياسي المؤدلج، والتأويلات الدينية لكثير من النصوص المقدسة»[7]. ومما يزيد في مأساة الوضع أن الفكرة الكاذبة تكون أكثر انتقاماً من معتنقيها، ثم أكثر خذلاناً لمروجها.
تعمل الأيديولوجية الكاذبة على ترويض الإنسان ترويضاً سياسيًّا، لاعتقادهم أن من مقتضيات الحكمة العملية أن يُحسن الرعية الطاعة وأن يمتثلوا للمتسلط امتثالاً مطلقاً، لذا طفق بعض المفكرين والسّاسة على استثمار وهم الحرية العارض بغية صرف الرعية عن كنه الحرية والتحرر، وبالتالي كانت الفكرة الكاذبة تقدم الحرية كشعار منمق باللفظ السحري والعبارات الرنانة ومقولات الشعب الحر، بيد أن الممارسة كانت تئد إرادة الإنسان تحت عتبات أوهام الوثن السياسي.
ومن جهة أخرى فالحرية لا يمكن أن نفهمها خارج التجربة الفردية، فكل فرد يتمثل إما الحرية أو نقيضها، وبالتالي فمحاولة فهم الحرية ضمن مجال الجماعة يُفقد مشروعية البحث في مسألة الحرية. إننا نتعامل مع ذوق إنساني ذي طبيعة خاصة، وكما قال باروخ سبينوزا: إن فرض الأذواق على الناس عمل اعتباطي ينم عن جهل بطبيعة البشر، فكذلك نقول: إن فرض مفهوم ما عن الحرية ينم عن جهل ليس بطبيعة البشر فحسب بل ببنية شعور الفرد كذلك.
إن الحرية مسألة فردية ترتقي بالمعايشة والمثاقفة إلى مسألة مجتمع وأمة، ويلعب الشعور والمخيال الدور الهام في بلورتها كفكرة تنتج عنها ممارسات متنوعة، يرتبط بعضها بفكرة ما بعد الموت والبعض الآخر بلحظة الحياة. لكن لابد منذ البداية ألَّا ننخرط في مقولة: إن الحرية هي أن يفعل الإنسان ما يريد، لأن هذا التعريف منافٍ للحرية، فهو يحاول أن يُقوي فكرة الحق الطبيعي على مقولة الحق المدني. ونحن نعلم أن نظرية العقد الاجتماعي خاصة عند توماس هوبز اعتبرت الحالة المدنية هي أفضل من الحالة الطبيعية، ذلك أن الحالة الطبيعية تفرض منطق البقاء للأقوى في حين أن الحالة المدنية تفرض البقاء للأصلح.
انتقد أفلاطون الحرية الديماغوجية واعتبرها من مولدات الفساد داخل المدينة، لأن فساد الفرد يؤدي إلى فساد الجماعة بالضرورة، ومن جهة أخرى يفقد الفرد كينونته الإنسانية نتيجة انخراطه الكلي في عالم الفوضى: «... وهكذا يقضي كل يوم من أيامه في الخضوع للرغبة التي تعرض له: فهو في يوم يثمل على أنغام الموسيقى، وفي يوم آخر يقتصر على شرب الماء ويحاول في غذائه أن يفقد شيئاً من وزنه. وهو تارة يدرب نفسه تدرباً رياضيًّا عنيفاً، وتارة أخرى يركن إلى الخمول ولا يفعل شيئاً..»[8].
إن الشارع العربي من خلال تمثله لمفاهيم الحرية يكاد لا يخرج عن الفهم الساذج للحرية كم أشار أفلاطون أعلاه، ذلك أن الدّعاية الغربية للحرية لم تخرج عن الترويج للحريات الفردية كأحد مقومات الدولة الحداثية، والغريب في الأمر أن يكون الترويج لمفهوم الحرية ضمن مشروع موجة الحرية The wave of freedom المقدم من قبل الأنتلجنسيا الأمريكية، مبنياً على حرية الغريزة أكثر من أن يكون مبنياً على حرية الإرادة والهمة. ولعل هذا الوضع الراهن هو الذي فرض علينا طرح السؤال التالي: كيف نتمثل الحرية ضمن حركية الوعي العربي وسؤال الحرية؟؟
-2-
الحرية والمخيال العربي
حين نعالج مسألة الحرية لا نريد أن نُمأسسها -البناء- على ما نظَّر له الفلاسفة والمفكرون العرب.. فبين التنظير والمعايشة مفارقة كبيرة جدًّا.. كما أن الخطاب الفلسفي بعيد بعداً تامًّا عن ما يدور في الشارع العربي.. فليس هناك حضور لمفاهيم الحرية بالمعنى الأنواري أو الرأسمالي الحالي ولا حتى بمعناها الاعتزالي.. فالحرية الفلسفية متعالية عن الوعي الجماعي ولا يمكن أن تُفهم إلا من قبل الخاصة.. فالحديث عن الحرية ضمن مقولات الجماعات ومنطق الحياة اليومية يفرض الحديث عن التمثلات والمخيال. فالمخيال العربي لم يتحرر بعد من مفاهيم الحرية كفعل دموي ينتهي في الأخير إلى تحرر من طرف ما.. وبعدها يدخل المشروع في سكونية الأيديولوجيا الخانقة.. بل يذهب الوعي المزيف إلى اعتبار أن أي تجديد في مقولات اللحظة الثورية هو خروج عن الحرية.. فالتغيير والتجديد يصبح من أضداد الحرية لأن المخيال العربي يتشبث باللحظة الماضوية ويرى أن أي خروج عن ذلك الأنموذج هو تضيع لمعنى الحرية وبالتالي فقدان الحرية.. إن ربط الحرية باللحظة الثورية في الوعي العربي لازال هو الذي يقتل كل تمثل جديد لمفهوم الحرية.. فالتغيير مرفوض لأنه في اعتبارات الوعي الزائف حركة مضادة ضد الحرية الشرعية.. ومن هذا المنطلق لم يستطع الشارع العربي أن يتمثل مفهوماً جديداً للحرية.. وحتى الجماعات المتمردة على وعي اللحظة الثورية لا تنتج تمثلاً جديداً للحرية فهي تحاول أن تمارس خلال تمردها تمثلاً للحظة ثورية أخرى تختلف عن المتمرد عنها فقط في البعد الأيديولوجي. فعملية الاستبدال لا تنم عن وعي متقدم كما يريد الداعون إليه بل كل استبدال مرهون بفهم مُنعكس جراء شرط أيديولوجي مخالف. قد يؤدي هذا الاستبدال إلى إحداث تغيير لكنه في الحقيقة لا يترجم بالضرورة وجود وعي إيجابي لمعنى الحرية.. ومن خلال هذه الدائرة نلاحظ أن الحرية تبقى دوماً ضمن نطاق الوعي السلبي والرد الانفعالي للمواطن العربي.. فاستبدال لحظة ثورية بأخرى لا يحل المشكلة لأن الذات العربية تظل دوماً تعيش ضمن الجبر والإكراه.. لا نقصد بالجبر مقولات القضاء والقدر بل نقصد إكراهات الوعي الزائف وجبر الأيديولوجيات القاتلة.
إذن ليس هناك حراك ضمن التجربة اليومية للمواطن العربي، فالممارسة باعتبارها قابلة للاستقراء تعكس عدم ممارسة لأي فعل حر، فالمواطن العربي من حيث العادات والممارسات يظهر مجرد كتلة من اللحم تسير دون إرادة، فكل ما يقوم به الإنسان العربي هو منعكسات شرطية لإكراهات السلطة الحاكمة والمتبقي يعود إلى إكرهات البيت والغريزة.
لقد تحول الزعماء (الثورة) لأصنام معبودة، فالحرية عندئذ مرتبطة بتلك اللحظة التي دشن فيه الزعيم المحلي حركة التمرد على الآخر.. وبالتالي يتوقف نهر الحرية في ذلك المصب. إن الارتباط بالأفراد منذ القدم كان ضد الوعي الإيجابي للحرية، ذلك أن الصنّمية الذكورية تفقد الذات رؤية العالم بعيون مختلفة. وبما أن الجماعات العربية أغلبها مبنية على سلطة الأفراد فهي لا تنتج تمثلات عن الحرية. ولذا نجد الدول العربية منذ عصر اليقظة لم تتغير نظرتها للعلاقات السياسية، فالعلاقة بين الراعي والرعية لا بد أن تبقى مرتبطة بمفهوم الطاعة والخنوع، وبالتالي الحرية في المدونة السياسية العربية تعني نهاية السلطة وتخلي الحاكم عن أهم صفاته والمتمثلة في الطغيان الذي يقوم على نزع الاعتراف بالقوة من الآخر بالتبعية والطاعة. ولذا نجد ما يبرر ثورة الكواكبي على أنظمة الحكم العربية الحديثة والتي اعتبرها من أكثر الأنظمة سلباً للحرية ومقومات الكرامة الإنسانية، لأنها تعمل مطلقة العنان فعلاً أو حكماً، وتتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب[9].
إن المخيال الشعبي لا يُجدد ولا يتجدد، فالحرية هي ما يراها الزعيم فقط، وبتلك تفقد الذات العربية جاذبية التمركز وتتجه نحو جاذبية المركز، والفرق بين التمركز والمركز أن فعل التمركز يجعل من الذات الموضوع، وتصبح هي التي توجه انفعالاتها نحو ما تريد أن يكون حتى ولو كان مخالفاً لسلطان العادة والعرف والقانون، أما حالة المركز فهي انجذاب الذات نحو موضوع خارج عنها. إن الأرض في دورانها على نفسها لا تعبر عن حركة إرادية بل هي حركة حتمية تتحكم فيها عوامل كونية. وكذلك الإنسان العربي يعتقد أن دورانه المستمر حول ذاته من باب الفعل الإرادي ولكنه في الحقيقة دوران قصري، يمكن أن نشبهه بدوران الثور حول الناعورة، أو بعض الدواب لحظة الدَّرس التقليدي بعد موسم الحصاد.
هل الانتماء الحزبي المُخالف دليلاً على النقيض؟؟ وهل ظهور الجماعات الإسلامية المتطرفة نقضاً لما أقول؟؟ وهل احتقان الشارع العربي صورة مفارقة عما هو كائن؟؟
إن الذات العربية في عملية الاستبدال لا تخرج عن وعي موجه، فوجود حزب مخالف لأيديولوجية السلطة لا يعني بالضرورة هناك تمثل جديد لمفهوم التحرر من الأحادية التسلطية، فالانتماء الحزبي نفسه هو محاولة استمناء خارج اللعبة المُحكمة، وقد تصبح اللعبة ذاتها من صناعة الوعي القهري، فأغلب الأحزاب المُعتمدة في العالم العربي لا تخرج من حيث المضامين عن أبجديات حزب اللحظة الثورية، فهي مجرد صور مجهرية، تجذب إليها بعض المواطنين نتيجة إكرهات القبيلة والجهة والمصلحة. لكن في الأخير تقع ضمن عبادة الأصنام البشرية والتقيد بالمضمون الأيديولوجي.
إن الانتماء الحزبي في غالب الأحيان ينتج ذوات مُوجهة، وكل ذات موجهة تفقد في أنشطتها اليومية معنى الحرية، والدليل على ذلك ارتباط الانخراط الحزبي في الوطن العربي بالولاء أولاً، ثم إن ممارسة الانتماء تتجلى في لحظات قصيرة أشهرها الحملات الانتخابية.. ثم تنعدم وتركن للبيات الشتوي إلى حين موعد انتخابي آخر.
هل حقًّا أن الانتخاب دليل على الحرية؟؟ وهل التَّرشح مظهر من مظاهر التحرر؟؟
إن العقل القهري يحاول من خلال مظاهر اللعبة السياسية أن يبني مقولات الحرية والتحرر، وأن يبرهن للآخر أن الحرية تنعكس من خلال العملية السياسية، ودليله في ذلك المدونة الدعائية المبنية على حق الترشح والانتخاب.. وكأن المواطن العربي لا يعانق الحرية إلا حين ينتخب أو يترشح، ولكن في كلتا الحالتين فالأمر معكوس، فالترشح مجرد تحريك لأحجار الشطرنج، فالمُترشح في العالم العربي مجرد بيدق يتحرك ضمن منطق الولاء والانتماء والإيمان باللحظة الثورية كمرجعية. والناخب العربي مدفوع بالخوف والقهر إلى صندوق الانتخاب، خاصة أن الأنظمة العربية أنظمة وَرَقية، وتؤمن بمواطنة المواطن حين تكون ورقة الانتخاب تحمل دلائل الطاعة. ومن جهة أخرى هو مدفوع للانتخاب نتيجة الجهل والوعي الزائف والإيمان بقدرة الأصنام البشرية التي رسمها في مخياله في إمكانية التغيير الإيجابي وإعادة تمكين اللحظة الثورية من التُّجدد.
إننا من خلال دراسة التجارب اليومية للأفراد نلاحظ غياب كلي لأدنى مقومات الوعي الإيجابي حول مضمون الحرية، بل الغرابة في الأمر أن حتى المفاهيم السطحية للحرية لا يمكن أن نستثمرها في الممارسات اليومية، فمقولة أن الحرية هي أن يفعل الإنسان (أنا) ما يشاء غير متبلورة تماماً، فالشارع العربي يعكس مقولة أخرى هي أن يفعل ما يشاء (هو).
ليس الأمر فقط مقترن بالجانب السياسي، بل الأمر مرتبط بكل الجوانب. فعلاقة المواطن العربي بتاريخه علاقة سحرية، فالتاريخ يصور أنصع البطولات والأمجاد، وبالتالي السلف قمة الوعي الحضاري. وأن تاريخ الأمة العربية تاريخ مشرف وتلك من مضادات الوعي الإيجابي لأن الحرية عندئذ تصبح مفهوماً سحريًّا يحاول أن يتمثل الماضي كحل لمشكلات عصرنا في حين أن مفهوم الحرية من حيث هو وعي بالضرورة يفرض التقدم نحو أفق جديد.
يجب اليوم أن نعيد تشكيل المخيال العربي والإسلامي على النماذج المحركة والفعالة في خلق همم الرجال، فعمر بن الخطاب لا بد أن نستدعيه اليوم في مخيالنا الاجتماعي لنؤسس جبهة الدفاع عن حقوق الإنسان المحروم من الحرية: «ولا نجد كلمة أكثر دلالة عن روح الديمقراطية المناضلة في التراث الإسلامي أعظم مـن كلمات الخليفة العظيم «عمر بن الخطاب» حين قال دفاعاً عن المسحوقين والمعذبين فوق الأرض: « متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»[10]. واستحضار صورة أبي ذر الغفاري الثائر على جور الولاة وحكم القبيلة ضروري لتحرير المواطن العربي من عقدة الخوف التي ورثها الوعي العربي منذ لحظات الاستبداد الأولى التي سجلها التاريخ والمخيال وكانت أعنفها لحظة سيف الحجاج ثم سيف المعز.
والمخيال لا يقف عن مرحلة تمثل الحرية والدعوة إليها بل كذلك صور احترام الحرية كمفهوم وتجربة فردية، ونقصد من ذلك أن الحرية ليست فقط تلك التي تتماشى ومصالحنا بل الحرية كذلك التي تتعارض ومصالحنا، عندئذ من الحرية احترام ما تفرضه الحرية من التزام، وفي هذا المجال يمكن أن نستثمر سقراط الحكيم الذي رفض الحرية والنجاة من الإعدام بحجة أن فراره من السجن هو ضد مبدأ الحرية، فخيانة المبادئ تقتل كل القيم أما احترامها فيقوي وجودها: «إذن، بناء على هذا.. إذا خرجنا من هنا على غير إرادة أهل المدينة، أفلن نفعل سوءاً في حق البعض، في حق هؤلاء أنفسهم. الذين كان من الواجب ألَّا نفعل في حقهم سوءاً على الإطلاق أم لا؟؟ وهل سنبقى على ما اتفقنا على أنه عدل أم لا؟؟»[11].
-3-
الحرية ومقولة التاريخ الكامل
إن مقولات التاريخ الكامل أزَّمت واقع الذات العربية وجعلت الذات العربية تبني عوالم سحرية، مؤسسة على الشخصيات التاريخية الأكثر تفعيلاً وحضوراً في المخيال، فشخصية صلاح الدين الأيوبي التحررية ترتبط هي الأخرى باللحظة الدّموية فقط، بيد أن صلاح الدين الأيوبي يعتبر درساً في الحرية والتحرر ليس فقط في بعده التاريخي بل في بعده الإنساني والاجتماعي. إن هذا التصور لشخصيات التاريخ العربي يقتل معنى الحرية فكل مواطن عربي يحاول أن يُكون شَخصية تاريخية ما، لا أن يكون هو الشخصية المحورية.
إن التاريخ كما يُقدم ضمن المدونات المدرسية أولاً وضمن المدونات الدينية ثانياً يطمس في الذوات العربية ملامح الشخصية المُتحررة، لأن التاريخ يتمحور حول فكرة الكامل.. ويُصور العظماء في قالب يسوق الذات المتأملة له إلى الاعتقاد باستحالة محاكاته. فالذات المتلقية تشعر بالنقص والموضوع المُقدم كامل، وبالتالي كيف يمكن للناقص أن يتمثل الكامل في بؤرة وعي محكومة بالتوجيه القهري.
إن الشعوب الواعية لفعل التحرر والممارسة لمفاهيم الحرية تخلق في ذاتها صور البطولة بعيداً عن النماذج التاريخية، فالوعي المتقدم يرسم التاريخ ضمن أطر الممكن والمحتمل وكذا ضمن أطر النقص والكمال. ليس هناك في التاريخ مثال كامل، فكل الأمثلة سواء، الفرق أن المثال استطاع في لحظة تاريخية محدودة أن يفرض شروط الفعل الحر.
والمجتمعات الغربية لو أخذنا بعضها كمثال عن التمثل الواعي لمضامين الحرية نلاحظ أن ذلك التمثل ليس من نتائج عصر الأنوار فقط، بل هو ناتج عن جملة القطائع التي وضعها العقل الغربي مع كثير من حقول المعرفة والحياة. لا أريد أن أقول: إن الحرية ممارسة في الغرب وأن الشارع الغربي يتنفس الحرية كما يُصورها الإعلام، بل أقول: إن ممارسة الحرية ضيقة في الغرب لكثرة الإكراهات تجاه الأفراد، لكن ممارسة الحرية قد نستشفها من خلال التجربة المؤسساتية. ليس بالضرورة ربط الحرية بالأفراد لكن من الضروري ربط الحرية بالمؤسسات. وبالتالي نحن أمام ظاهرة صحية في الغرب تنعدم ظواهرها في بلدان العالم العربي.
إن ربط الحرية كممارسة بالمؤسسة يتيح للدولة تشكيل عقل كلي واعٍ يتجه نحو الغايات الموحدة، في حين أن الحرية عندما ترتبط بالأفراد تشكل عقلاً ذريّا يتجه نحو تفتيت الغايات الكبرى التي تفرضها المصلحة العامة لمجموع المواطنين.
-4-
الحرية ورهانات الفكر الديني
إن أكبر عائق يعيق عملية تمثل الحرية كمشروع فردي وجماعي في الشارع العربي ما أنتجه الوعي الديني غير المؤسس من تصورات عن الحياة والمصير، ونقصد الإسلام الشعبي القائم على فكر الجبر والحتمية، فمنطق: «الله غالب على أمره». منطق يشد الإنسان نحو العطالة التاريخية والحضارية، وتلك مشكلة لا علاقة للدين بها من حيث هو كبنية مؤسسة على النصوص والتأويل التنويري، فالدين جاء ليحرر الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن عبودية الأجساد وسلطة الأسياد إلى سلطة الأنا والضمير وصوت الحق في ذات كل إنسان. إن الدين يُحرم على الإنسان السقوط في هاوية الحتمية المُشلة لكل تفكير وفعل.
ونحن كلنا نتفق أن الحرية من حيث العموم هي حالة التحرر من بعض القيود التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجه سواء كانت قيوداً مادية أو قيوداً معنوية، كالتخلص من العبودية لشخص أو جماعة أو حزب أو أسرة، أو التخلص من الضغوط والإكراهات المفروضة التي تجنح نحو تعطيل الفعل الإرادي في الإنسان. ونعتقد أن مفهوم الحرية يقترن بميلاد الإنسان أصلاً، وتصبح الحرية حق من حقوق الإنسان كما هي قابلة لظاهرة التنوع، كالحريات في المجال السياسي والاقتصادي والثقافي...
والأمر الغريب في واقعنا المعاصر هو قتل الحرية من قبل بعض الدعاة وأئمة الفكر أصلاً، وذلك عن طريق رفض فكرة التجديد الديني في كل حقوله بفتوى أن الدين كامل.. وأن السلف استطاع أن يُقنن ويُفهم كل ما أُشْكِلَ في الدين، وبالتالي أي اجتهاد هو تجرؤ على السلف والدين. هذا المنطق المُنغلق على ذاته لا يُفهم أنه شكل من أشكال المحافظة على الدين بل هو شكل من أشكال الوعي الزائف الذي يمارس الجبرية والحتمية.. ويرسم حياة الإنسان رسماً رياضيًّا. فالاتِّباع في نظره هو المنهج الناجح بيد أن الاتِّباع دون وعي هو قتل مشروع الإنسان، لقد كان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يخاطب تلك العقول المتحجرة بقوله: «إن أولادكم خلقوا لعصر غير عصركم». وهذا يعني أن منطق الالتزام منطق مرفوض من حيث إن قاعدة المباح والظني في الإسلام أشمل من دائرة القطعي. وعندئذ يصبح كل عصر يفرض اجتهادات خاصة تتماشى وقيم العصر. إن فهم السلف مرتبط بثقافتهم التي اكتسبوها من وحي عصرهم وبالتالي فكل تأويل واجتهاد نابع من ممارسة حرية الفهم. فهل يعقل أن أُقيد مصير أمة بالكامل بفهم زيد أو عمرو. إن التبعية للسلف تعسف تاريخي وقتل للذات، فهو يصور السابق (السلف) على أنه الكامل واللاحق (الخلف) على أنه الناقص، وتلك هي الوصاية التاريخية، وكل وصاية ضد مشروع الحرية.
إن الدين عندما يُعزل عن تأويلات السلف ويُقرأ كنصوص مستقلة يمد الذات بقوة اختراق النص وفهمه، وبالتالي النص ذاته يفرض على الإنسان تحرير ذاته من الفهم الموجه.
إن حركة التنوير والتثوير الديني في مطلع القرن التاسع عشر كانت تهدف إلى تحرير العقل من الجهل والتقليد. وتلك هي فعلاً بداية الوعي بالحرية كمشروع ديني قبل أن تكون مشروع فردي أو اجتماعي.
إن الحرية في الواقع المعاصر لا بد أن تتجلى من خلال تقديم فهم جديد للقرآن والسنة، فهم لا يلغي ما سبق بل يزيد ويضيف إليه ما استُغلق على السلف فهمه، ثم يتجلى في ترقية الاجتهاد الديني وتفعيله على كل المستويات. إن الحرية في الوطن العربي لا يمكن أن يكتب لها النجاح كمشروع إلا في ظل ثورة دينية كبرى لأن الحرية من حيث القصد هي نتيجة لثورة ما بشرط ألَّا توقف مشروع الحرية لحظة انتصارها.
لا يمكن للفلسفة أن تُؤسس الوعي بالحرية لدى المواطن العربي نظراً لمكانتها النخبوية، وبالتالي فالفكر الديني هو العامل الرئيس إذا وجه لصالح الأمة. ويمكن أن نستشف ذلك من خلال التاريخ، فلقد ناضل ابن رشد الفقيه والفيلسوف من أجل بناء مدينة تكون الغاية الكبرى فيها هي الإنسان: «إن ابن رشد يبحث عن مدينة الإنسان الكامل والناموس الفاضل، وعن المدينة التي يغيب عنها وحداني التسلط الذي أنهك العباد والبلاد، وأفسد النواميس والعقائد. مدينة بلا متكلمة ولا فقهاء العامة، بل بفلاسفة وعلماء دين متنورين، لا يجعلون ظاهر الشرع مقصدهم. إنها مدينة يجد فيها الإنسان نفسه، وتُؤمن له الحرية والعدل، والمساواة الاجتماعية»[12].
والقول السابق يرجعنا إلى فلسفة المعتزلة والأشاعرة، فالمعتزلة قدسوا الحرية من منطق أن السياسة ارتبطت بالحتمية، ولكي نحررها من منطق: «أنا عليكم لأن الله أراد ذلك» كان لا بد أن يفهم المسلم: «أنت تريد ونحن نريد وما يكون إلا ما نريد إذ كنا نعي حقًّا معنى الوجود». وبالتالي تصبح الإرادة جوهر صميمي في الإنسان. كما أن نظرية الكسب عند الأشاعرة تحاول أن تتوسط بين الحرية والجبر.
لقد كان أساطين الفقهاء والعلماء من دعاة الحرية، ومات بعضهم وهو يدافع عن الحرية ويقاتل في سبيل مبدأ سبحانه وتعالى: «لا إكراه».
لقد فهم ابن رشد الحرية من خلال دراسته مكونات العقل الإسلامي، وأدرك أن تهافت العقل راجع بالضرورة إلى تراجع الحرية في الوعي، إن الاستبداد والطغيان من أشد أعداء الحرية، وبالتالي فكل مشروع حضاري لا بد أن يؤسس عتباته الأولى على معنى الحرية.
وابن رشد يربط بين نظرية الفعل ومفهوم الاستطاعة، فما دام الإنسان يستطيع فهو قادر على أن ينخرط في الحرية، وبالتالي ما دام قادراً فهو يريد، وبالتالي إثبات وجود الإرادة إثبات لحرية الإنسان.
-5-
ربيع الحرية بين أزمة الوعي وعنفوان الموت
بالرغم من الحالة السكونية لمفهوم الحرية في عي الشارع العربي، نلاحظ أن الأنظمة العربية ذات الطابع القمعي في مجملها وجدت نفسها أمام مفاهيم برغماتية للحرية ليس الغرض منها تحرير الشارع العربي من الأنظمة العربية الاستبداية ولكن الغرض الحقيقي هو تفعيل موجة العولمة وأمركة العالم. فلقد أحدثت عملية أمركة العالم أزمة في مفهوم الحرية إذ أصبح المواطن العربي متأرجح بين الحرية الثورية التي أفرزتها النزعات القومية وبين الحرية الغربية في موجتها الأمريكية الحالية. ولعل الثورة البرتقالية بأوكرانيا وغيرها من الثورات في عدة مناطق خضعت لمنطق المجال الحيوي ضمن مشروع دمقرطة العالم جعل الشارع العربي يهفو لثورة بلاستكية زمن الربيع تُغير من الواقع المزري للمواطن العربي.
إن مصطلح الحرية في واقعنا العربي المعاصر يرتبط الآن أشد الارتباط بالمقولات السياسية ذات التوجه الليبرالي، فالحرية المتداولة في الشارع العربي تتجه نحو تغليب النظرة الأمريكي التي تحاول تصدير مفاهيم كرياح الحرية، موجة الحرية، ثورات الحرية، الحرية وكرامة الإنسان، الحرية وجودة الحياة.. ومن أجل ذلك ربط الوعي العربي المستكين بين الحرية وتغيير الأنظمة. بل إن الصراع والصدام القائم بين العالم الغربي والعالم الإسلامي هو صراع القيم والأوهام، وخاصة قيمة الحرية، فالمشروع الليبرالي جعل من الحرية حصان طروادة من أجل الولوج بسهولة إلى قلعة القيم العربية بعد أن تعذر ذلك بأسلوب المواجهة. إذن العولمة والحداثة تحمل قيم إيجابية لكنها تحمل كذلك أوهاماً للآخر، يقول د. فهمي جدعان مبرزاً صراع القيم في زمن العولمة: «والقيمة المقصودة هنا على وجه التحديد الحرية بتجلياتها الأساسية: السياسية والفكرية والاعتقادية والاقتصادية. ومنها اشتقت أو بها تعلقت قيم العقلانية والموضوعية والمساواة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والمنفعة والرفاهية والخير العام... وحقوق الإنسان. وغيرها من القيم التي تمثل اليوم ماهية الثقافة الغربية وروحها»[13]. غير أن التجربة العراقية بالخصوص جعلت الوعي العربي المتأزم يكفر بمفاهيم الحرية كما تحاول أن تصدرها أمريكا. لأن مشروع الحرية الأمريكية في العراق أنتج أسوأ ملامح التغيير المنشود، مما جعل الشارع العربي يفضل بقاء النظام الديكتاتوري على مشروع الحرية الأمريكي. إن ضريبة الحلم العربي توجت بالدم المنهمر والمراق على معابد الطائفية والتدافع القطري. ولقد خرب حصان طروادة الدولة والمدينة، وقتل الإنسان بكل عنجهية ومكر.
لقد أصبحت الطائفية اليوم تنخر كيان الأمة الإسلامية، وإن كان الطغيان السياسي أحد أبرز العوامل المُنمية لبذور الطائفية في كثير من البلدان العربية كلبنان والعراق وغيرها. ونحن نجزم أن ارتباط الدم والموت بالطائفية هو محصلة لشعور الأقليات عبر التاريخ، ذلك الشعور بالظلم والتهميش، وسلب الحقوق الطبيعية والمدنية معاً. وليس للطائفية حل سوى إقرار الحرية كمشروع وطني يهدف إلى مراعاة حقوق الطوائف والأقليات في التواجد المدني والسياسي: «فسح المجال القانوني والاجتماعي، لكي تمارس هذه الأقليات شعائرها الدينية بعيداً عن الضغوطات والتجاذبات. ومن الأهمية أن ندرك جميعاً، أن من الحقوق الأساسية لكل إنسان، أن يمارس عقائده وشعائره في مناخ من الحرية والاحترام والقانون»[14].
إن ما يحدث في العراق من انتهاك لحقوق الإنسان كان أساسه الأول هو شعور الطوائف المهمشة بالاحتقار السياسي الذي ولد الاحتقان الاجتماعي. فوجدت أمريكا التربة مهيأة لزرع فلسفة الفوضى الخلاقة. والتي لحد الساعة لم تزد المجتمع العراقي إلا توحشاً وامتهاناً للموت وسلب الحياة من الأخ، إنها القصة نفسها قصة قابيل وهابيل تتكرر باستمرار في تاريخ الآدميين.
لقد فشل المشروع الأمريكي في إنتاج نموذج دولة الحرية في الشرق الوسط، وتحول الحلم الأمريكي في العراق بالخصوص إلى مقبرة للحرية أصلاً. إذ بات من الضروري تجاوز الحرية الأمريكية بمفاهيم يحتضنها المخيال العربي وتجد في حناياه سكينة الإيمان. إن الواقع العربي يتجه صوب إعادة رسكلة المفاهيم الثورية في عصر التحرر العربي، كالناصرية والبعثية والقومية.. بغية التحرر من القوى الليبرالية.. لقد أصبح مفهوم الحرية مرتبطاً بالدم والموت.. إن تفجير الأجساد والعباد يعتبر في ذهن المُقاوم أعظم ممارسة لعملية التحرر.. لا يهم موت الناس بل المهم إنتاج الرعب في نفس المحتل أو العميل السياسي. إن الحرية أصبحت في كثير من الأحيان مرتبطة بالموت.. في حين أن الحرية في الغرب مرتبطة بالحياة.. هنا تكمن المفارقة الأخرى بين مفهوم الحرية الفردية المقدسة في الغرب ومفهوم الحرية الشمولية.
إن العالم العربي لم يستطع أن يُوجه وعيه نحو الإيمان بحرية الفرد، فليس هناك حرية للفرد خارج الجماعة أو الأمة، وبالتالي نلاحظ أن المجتمع العربي لا زال يحافظ على المفاهيم التقليدية للحرية والمرتبطة بتحرير الأرض وطرد الغازي، وبعدها السكون... لقد كانت الحرية في الغرب تعني المعنى نفسه تحرير مدينة من سلطة غازية، وليس تحرير الفرد من جملة الإكراهات بغية تفتيق قدراته الفكرية لكنها تحولت بفعل التطور واتساع مجال حركة الوعي الفردي إلى ممارسة الحرية كتجربة فردية.
ويبقى مع ذلك وعي الحرية في كل المجتمعات التقليدية ذات الطابع البطريكي وعياً جمعويًّا خالصاً يخص أرضاً تسمى وطناً، وشعباً يسمى أمة. في حين أن الفرد مجرد تابع للقبيلة والعشيرة، يتحرك وفق مدارها ويستكين وفق استكانتها..
ونحن نعلم أن الدراسات النفسية كان لها الفضل الكبير في انبلاج مفهوم الحرية الفردية، وبالتالي أصبح الفرد يعي أن ذاته تحتاج إلى حركة تحريرية من أمراض النفس وأشكال الكبت المكبل للقدرات الفردية. لكن الشارع العربي لم تساعده المؤسسة على تطوير مفهوم الحرية الفردية لأننا لا نمتلك مؤسسات التوعية بقدر ما نمتلك مؤسسات الاستعباد والاستبداد والرقابة والوصاية، فنحن نصنع الموت والخوف أكثر من قدرتنا على صناعة الأمل والحياة.
إن ربيع الحرية كما حاول المشروع الأمريكي تمريره لم يزد الوعي العربي إلا تراجعاً نحو المفاهيم التقليدية للحرية، لقد أصبح في خلد كل مواطن عربي أن الحرية في أسمى معانيها هي تحرير الأرض والشعب.. وأصبحت الحرية الفردية من الكماليات لا غير.
إن الحرية كحلم يصدم بالواقع المر الذي يفرزه الواقع العربي، فالمواطن العربي اليوم لا يشعر بالأمن، فتراه يغلق بابه ويحكم غلقه، ويضع السياج الحديدي على النوافذ والمداخل، ويتحاشى السفر والنزهة، ويخشى من التعبير أو التذمر، بل يخشى أحياناً أن يحلم بوطن ترفرف عليه راية الحرية. لقد أصبح حالنا كما عبر عنه توماس هوبز منذ عهود: «حينما يقوم الإنسان برحلة، يقوم بتسليح نفسه ويطلب حسن المصاحبة، وحينما يذهب إلى النوم يوصد الأبواب، وحينما يكون في بيته يغلق صندوق ثيابه...»[15].
-6-
أفق الحرية بين المطالب والمقاصد
تفرض المقدمات السابقة طرح هواجس الوعي العربي المشروعة، والمتمثلة في مضامين الأسئلة المترددة في أغلب ما ينتجه المثقف الحركي المتمرد على واقعه المتردي، كسؤال: ماذا نريد؟ ما نهاية سؤال الحرية؟ وكيف نتمثل الحرية وعياً وسلوكاً؟؟
لا بد أن ننطلق في فهم مسألة الحرية بعيداً عن كل المقدمات الميتافيزيقية الكبرى، أو التأويلات الغامضة، أو المطالب العويصة في أحاجي الفلسفة الشريدة. فالحرية كما يقول المفكر الروسي بردائيف[16]: هي مسألة لا يمكن أن نستخلصها من الوجود، أو أن نؤسِّسها على الوجود. والقصد من ذلك أن الحرية في تجلياتها الأولى تنطلق من الشعور النفسي، وهو شعور غير ثابت بل شعور ديناميكي متحرر من كل الإكراهات، فهي أقرب ما تكون إلى التوهم الإيجابي، فالذات الشاعرة بالحرية شعوراً نفسيًّا يمكن أن تتحرر على مستوى الشعور حتى في ظروف الجبر والإكراه، وتلك هي حقيقة الحرية. ونتفق مع أ. فتحي التريكي حين يعالج مشكلة الحرية والتحرر ضمن مجال التَّعقل المستنير وليس التوهم المتكوثر في فضاءات التثوير الاعتباطي، فالحرية والتحرر هي ثقافة ومشروع أمة تريد أن تكون معركتها التاريخية مع كل أشكال التبعية غير المشروعة: «وأكاد أجزم أن قضية التعقل والحرية هي أساس كل القضايا المطروحة لأنها ستنير السّبيل لكل من يعمل على تحريك الواقع العربي الحالي، وذلك إذا تحرر الإنسان العربي من معاناة الآثار النفسية والاجتماعية التي تشده إلى طرح القضية طرحاً مغلوطاً فيستمر عدم الانتباه إلى أساس فكرة الحرية في جوهرها ويتوجه بالدرس والتنقيب نحو الكيفيات والأنواع والنتائج فقط»[17].
إن توهم الحرية ليس ضد الحرية بل هو من صميم الحرية، فالمتوهم بوجودها سيمارس ذلك التوهم، ومن هناك يمكن أن نستثمر فكرة المراهنة لدى الفيلسوف باسكال في مسألة الرب. وعليه يمكن القول: لنراهن على أن الحرية موجودة على مستوى الشعور، فإن كانت موجودة فعلاً فإننا لم نفقد شيئاً بل اكتسبنا شعوراً فعّالاً تكون نتائجه في صالح الذات والجماعة، وأما إذا كانت غير موجودة أصلاً فنحن على الأقل ربحنا شعوراً بالتحرر من وهم الإكراه. والأمر يعود إلى مبدأ أن الحرية من حيث السؤال هي من المطالب العويصة والضرورية للبشر وبالتالي فإن المطالب تفرض تحديد المقاصد، لا نريد أن نوجه الحرية إلى منحنى فينومينولوجي ولكن نريد من وراء ذلك أن نربط الحالة النفسية للفرد بالموضوعات التي تقتضي التحرر على مستوى الوجدان. إن السؤال العربي عن الحرية لا نريد أن نضعه ضمن المقولات الفلسفية بل نضعه ضمن الممكنات الحياتية، أي أنا لو وضعنا السؤال ضمن الفلسفة سنفقد الشعور بالحرية لدى المواطن العربي من أفق أن سؤال المواطن لا يبحث عن الحقيقة وسؤال ما. إنه سؤال بسيط في مضمونه الهاجسي: «أي كيف أعيش حرًّا؟؟» ولعله ينطلق من هاجس كانط ذاته حين قال: ليس المهم أن نفهم الحرية بل المهم كيف نعيش أحراراً. وسأبين ذلك بمثال بسيط: إن سؤال الحرية لا يختلف عن سؤال السعادة، فالإنسان الذي توهم السعادة في تعذيب الجسد لا يرى اللذة إلا في ممارسة أبشع أنواع التعذيب، وعندئذ لا يمكن أن نُفهمه خطأ تصوره. عكس الذي يرى أن السعادة في تحقيق الرغبة واللذة. إننا في موضوع السعادة نتعامل مع شعور خاص وخالص، وكذلك ينبغي أن نتعامل مع موضوع الحرية.
لم يكن الفيلسوف باروخ سبينوزا من أنصار الجبرية كما هو في المقررات الدراسية، بل فهم الحرية على أنها حالة شعورية حدسية، فالإنسان قد يصبح نتيجة حدسه الشعوري حرًّا أو مجبراً، فالحجر لو امتلك شعوراً عند سقوطه من علٍ لظن أن سقوطه من ذاته و ليس تابعاً لقانون الجاذبية. والمهم في المثال أن الشعور هو الذي يعطي للموضوع وجوده العيني.
إننا فعلاً نحتاج في العالم العربي اليوم إلى هذا الوهم الخلاّق، فلو اعتقد كل مواطن عربي أن أفعاله من ذاته لكان بالإمكان تغيير كثير من الأشياء بفعل الوهم. يصبح حالنا كحال الفلاح الذي قدّمه فولتير في قصصه الرائعة، فلقد زعم أن فلاحاً كانت له مزرعة جميلة وله ثلاثة أبناء أشداء غير أن الكسل أخذ منهم حظًّا وافراً، فلما دنت ساعته خشي ضياع المزرعة، فقال لبنيه: إني دفنت في أصل شجرة من أشجار الحديقة كنزاً ثميناً فابحثوا عنه. ولما مات طفق الإخوة من طلوع الفجر يبحثون عنه، فلم يجدوا له أثراً.. غير أن النتيجة التي توصلوا إليها أن الكنز الثمين فيما قاموا به من إصلاح أصول الشجر بالتنقيب ونزع الحشائش الضارة.. ونحن ما أحوجنا أن نماثل موضوع الحرية بموضوع الكنز. قد يقول البعض: إننا بهذا نمارس جرم طمس الذات والكذب على العقل العمومي، لكننا نقول: أيهما أشد جرماً الوهم الذي تصنعه الطغم أم الوهم الذي تصنعه النخب؟؟
إن السلطة والأنظمة العربية عن طريق إعلامها وأبواقها قد أدخلت في شعور المواطن العربي كونه مواطن سيد وحر وعزيز وفي الوقت نفسه ركبت في ذاته الشعور بالخوف من النظام. مما أدى إلى السكون الذي نلاحظه يشل المواطن العربي عموماً. فأيهما أمام العدالة السماوية يعد مجرماً.. المفكر الذي يريد أن يقوي الشعور بالحرية ولو بالتوهم الإيجابي أم السياسي الذي يريد أن يجعل من شعبه قطعان ماشية تنقاد لرغباته بالقهر؟؟؟
لقد أوضح القديس أوغسطين مسألة الشعور بالحرية في ذات آدم (عليه السلام) من خلال الأحوال الثلاث قبل وأثناء وبعد فعل المعصية. فآدم الإنسان تملكه قبل الخطيئة شعور بالحرية نحو المعصية، وترجمها بالتصميم والعزم على الأكل من الشجرة الممنوعة (الشر)، وذلك الشعور هو الذي ظل يولد الحرية الميتافيزيقية التي تجنح بأبناء آدم إلى القول بحرية الإنسان في أن يفعل ما يشاء (الشهوة، الرغبة، اللذة). والحالة الثانية تجسدت في ممارسة فعل الأكل، أما الحالة الثالثة فهي إرادة قبول العقاب والمسؤولية وتلك هي لحظة الشعور بالحرية الخيرية.
ينبغي أن تكون الحرية ذات فهم مزدوج، فالإنسان يستطيع بفهمه وشعوره أن يجعل من الحرية وسيلة للخير ومساندة الحق، كما يستطيع أن يجعل منها وسيلة لتحقيق الشر. قد لا نتفق مع القديس أوغست حين ينسب الحرية الميتافيزيقية إلى قصدية الشر. لقد كانت حريته الأولى حسب القرآن ليس في لحظة المعصية بل في لحظة تعليمه للملائكة أسماء الأشياء {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}[18]، فلما مارس فعل التعليم كانت آية وحجة على الملائكة {فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}[19]، وكانت نتيجة ممارسة الحرية ضمن مجال العلم أن الله زاد من نطاق حريته {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا}[20]، فأصبح كل ما في الجنة تحت تصرف إرادة أدم، ولم يكن المنع بالأمر إلا في نطاق ضيق {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}. لقد أمر الله آدم ألَّا يأكل من تلك الشجرة ولكن لم يجبره أو يقيد حركته بل ترك له مبدأ تقرير المصير، فما كان من أدم إلا أن انقاد إلى وهم الخلود والبقاء {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}[21]، إن العزم المقصود هو عزم اللحظة الكبرى، فآدم لم يستطع أن يمارس حرية الصبر والامتثال، لكنه في المقابل مارس عزم الوهم واللذة وشهوة البقاء.
ولقد ورثنا عن أبينا آدم التأرجح بين إرادة العزم ووهمه، فنوح وإبراهيم وموسى وعيس ثم محمد حققوا العزم الإلهي الذي أراده الله أن يكون في الإنسان، لكن العزم الشيطاني حققه فرعون وهامان وقارون وغيرهم.
ولا بد أن نفهم أن المواطن العربي ليس مجبولاً بالضرورة على الخنوع والخضوع، بل هو مجبول على استقلالية الذات والقدرة على الاختيار، بيد أن الإكراهات الخارجية هي التي حولته إلى كائن سلبي مُستولى عليه وبالتالي مغلوب على أمره. هذه الظاهرة تشبه ظاهرة استحمار الإنسان للحمير، ومثلما يصبح الحمار مستحمراً يصبح الإنسان كذلك، ولقد شرح باروخ سبينوزا عملية الاستيلاء والاستعباد على النحو التالي: «يستولي شخص على آخر إذا كبله بالسلاسل، أو إذا استحوذ على سلاحه ومنعه من وسائل الدفاع عن نفسه أو اللوذ بالفرار، أو إذا زرع في قلبه الرعب، أو إذا أغراه بحسناته حتى أصبح يستجيب لرغبات مولاه بدلاً من الاستجابة لرغباته الشخصية، ويعيش على مقتضى حكم سيده، لا على مقتضى حكمه الخاص. إلا أن يستولي على غيره بالطريقة الأولى أو الثانية إنما هو يستولي على جسمه، لا على عقله، أما الذي يستولي على غيره بالطريقة الثالثة أو الرابعة فهو يستولي على عقله وجسمه معاً، ويبقى الفرد نفوذه عليهما بقاء الخوف أو الأمل، فإذا زال هذان الشعوران، أصبح المستولى عليه وليُّ أمر نفسه»[22].
إننا من خلال هذه القراءة الميسرة نريد أن نثبت أن الحرية ليست ممارسة يومية بل هي ممارسة تتجلى في لحظات من عمرنا فقط. إنها تلك اللحظات التي يبلغ فيها الوعي قمته والشعور ذروته، هي تماماً كما قال الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون: الحرية الحقيقية هي شعور عميق قد تشعر به بعض الذوات في لحظات نادرة (الأنا العميق). أما الشعور المزيف بالحرية فهو ما يفرزه الشعور السطحي وهو الأكثر شيوعاً في حياة البشر (الأنا السطحي).
إذن نحن نريد من خلال وحي الشارع العربي أن نجعل من سؤال الحرية شعوراً عميقاً في لحظات تسمية الأشياء بأسمائها، لا نريد أن يكون الشعور بالحرية وليد الأنا السطحي المترع بالشعارات والدعوات، إن الحرية كما يتمثلها الشارع العربي لا زالت وليدة الشعور السطحي سواء من خلال اللحظة الثورية المُمجدة للدم المراق على معابد أصنام التاريخ والمستمدة من عزم قابيل على قتل هابيل، أو هي وليدة اللحظة الإغرائية التي تمارسها أمريكا والمؤسسات الغربية، إنها تشبه لحظ الغواية كما حدث ليوسف مع امرأة العزيز. فهل يكون الشعب العربي ممتلكاً لإرادة الرفض رافضاً الغواية التاريخية أم يذهب مع منطق {هَيْتَ لَكَ} ويمارس الغواية في أعتي صورها؟؟؟
ولا نريد من جهة أخرى أن نعيش في الألفية الثالثة ونحن ندور في الحالة الطبيعية التي طلَّقها الإنسان منذ عصور خلت، والدليل على سيطرة الحالة الطبيعية هو وجود مظاهر الظلم والقهر وانعدام المشاعر الإنسانية، أو كما وصفها هيجل: «إن حالة الطبيعة يغلب عليها الظلم والجور والعنف وتسودها الدوافع الطبيعية التي لم تروض والأعمال والمشاعر اللإنسانية...»[23].
والحالة المدنية هي عكس الحالة الطبيعية، تسود فيها المشاعر الإنسانية وقيم الحرية والمواطنة، وتُحترم فيها المواطنة وحقوق الإنسان، فما أشقى الإنسان العربي وهو يرى نفسه في عصر التمدن لا زال من حيث قيم العيش يخضع لقوانين الغاب والطبيعة.
إن من جملة المقاصد المرتبطة بمطلب الحرية تمكين الإنسان والجماعة من ممارسة حقها الشرعي في اتخاذ القرارات داخل الدولة لوحدة المصير والغاية، وليس بالضرورة أن تكون المشاركة في صنع القرار ملزمة لاختلاف وجهات النظر، ولكن التمكين السابق يعطي للمواطن الشعور بالمواطنة وأنه كائن له حيز في الوجود. لقد ناضل السفسطائيون قديماً من أجل الحرية، واعتبروها جوهر الإنسان، وجعلوا علامة الحكم الراشد هي مدى مشاركة الجميع في صنع القرار عن طريق المداولة: «إن هاجس مدينة كل المواطنين تظهر في فلسفة بروتاغوراس، الذي أكد على ضرورة قيام السياسة على فكرة المواطن السَّيد. فالمواطن السَّيد لا يعيش إلا في نظام سياسي مشيد على الحرية والمساواة، ومادام يمتلك صفة العقل والغنى فهو مؤهل بالضرورة للحكم ضمن مبدأ المداولة والشورى (Délibération) التي تفرض ضرورة ارتباط القرار السياسي برأي جماعة المواطنين»[24].
والمقصد الآخر هو تحرير الإنسان من أوهام التحرر المعاصر، المرتبط في أغلب الأحيان بالحرية المطلقة للأفراد في أن يفعلوا ما يشاؤون، وتلك هي الحرية الكاذبة التي تسللت إلى فكرنا عن طريق الآخر، وبالتالي نحن أمام حالة تحرر من ظاهرة تحرر، إنه صراع بين مفهومين للحرية، مفهوم عبثي قائم على سلطة الذات وآخر أخلاقي قائم على سلطة الضمير وروح الجماعة، ولقد حاول د. حسن حنفي أن يستثمر أفكار الفيلسوف فيخته ليوجه الرأي العام العربي إلى ضرورة فهم الحرية في عمقها: «التحرر المباشر وغير المباشر من السلطة من غريزة العقل واللامبالاة تجاه الأشياء في عصر الإباحية والانحلال، وهي حالة الخطيئة المستمرة، وهو ما يعادل الفعل الفلسفي والأخلاق السامية»[25].
إن الغرب انحرف عن المفاهيم الأصيلة للحرية التي شيّدها عصر الأنوار بالخصوص، وبات من الضروري فهم أن الغرب نفسه يدور في متاهات الحرية. كما لا يجب الاعتقاد أن الحرية في الغرب وصلت إلى منتهاها، وأن الإنسان الغربي يتمتع بالحرية كما هو مروج له في الإعلام ووسائل الدعاية. لقد تحول الإنسان الغربي في زمن التكنولوجيا والعولمة إلى مجرد رقم في معادلة رياضية، فهو وإن كان تخطى بعض القيود التاريخية فهو لا زال يرزح تحت قيود خفية، ولنستمع لجون ماري جوينو وهو يتساءل عن معنى الحرية: «ما هي الحرية في عالم محكوم بالقواعد، وكيف تحد السلطة من سلطتها في عالم يخلو من المبادئ؟؟.. منذ قرنين ونحن في أوروبا نربط بين فكرة الديمقراطية وفكرة الحرية، لكن الحرية لها معنيان شديدا الاختلاف: فقد كانت تعني الحق لمجموعة بشرية ما في أن تمسك مصيرها بيدها، وهي أيضاً تعني حق كل إنسان في أن يأمن من سوء استعمال السلطة، بما يضمن ألَّا تنسحق الأقلية تحت وطأة الأغلبية»[26].
وفي خاتمة المقال لا يسعني إلى أن أهيم بالحرية وعياً وممارسةً، وأن أحلم أن يكون الوطن العربي وطن الحريات والحقوق، وأن تكون فلسفته المستقبلية هي فلسفة الكرامة وجودة الحرية، لأن الحياة الكريمة لا تُفهم خارج مجال الحرية والتحرر. فيا أيها الساسة... رجاء نحن بحاجة لقليل من الحرية.... فضعوا سياطكم ومسدساتكم وكلماتكم القاتلة في بؤر النسيان.
[1] أستاذ محاضر ورئيس قسم الفلسفة / جامعة وهران – الجزائر.
[2] Henri Bergson, La pensée et le mouvant Essais et conférences, Paris : Les Presses universitaires de France, collection : Bibliothèque de philosophie contemporaine 1969, P 16.
[3] Ibid, P 22.
[4] Henri Bergson, La pensée et le mouvant Essais et conférences, P 45.
[5] التريكي، فتحي، العقل والحرية، دار تبر الزمان، تونس، 1998، ص90.
[6] Henri Bergson, La pensée et le mouvant Essais et conférences, P 45.
[7] عبد القادر، بوعرفة، الحضارة ومكر التاريخ، رياض العلوم للنشر، الجزائر، ط 1، 2006، ص 16.
[8] أفلاطون، الجمهورية، تعريب: فؤاد زكرياء، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 2004، ص 462.
[9] الكواكبي، عبد الرحمن، الأعمال الكاملة للكواكبي، تحقيق: محمد جمال طحان، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 1995، ص 437.
[10] الناصر خالد، وآخرون، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 4، بيروت 1998، ص 91.
[11] أفلاطون، محاورة أقريطون، تعريب: عزت قرني، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط 2، 2001، ص159.
[12] عبد القادر، بوعرفة، السياسة والمدينة من خلال الضروري في السياسة، مركز الكتاب للنشر، مصر، ط 1، 2006، ص 179.
[13] عبد الله جدعان وآخرون، الإسلام والغرب، (متى تحين لحظة الحوار؟؟) منشورات العربي، الكويت، 2002، ص 163.
[14] محمد محفوظ (الأقليات وجدليات الوحدة والحرية) مجلة الكلمة، العدد 33، بيروت، 2000، ص 39.
[15] نقلاً عن: محمد علي محمد وعلي عبد المعطي محمد، السياسة بين النظرية والتطبيق، دار النهضة العربية للطباعة و النشر، بيروت، د، ط، 1985، ص ص: 128 - 129.
[16] نقولاي ألكسندروفتش برديائيف (1874 - 1948): فيلسوف روسي.
[17] التريكي، فتحي، العقل والحرية، دار تبر الزمان، تونس، 1998، ص8.
[18] البقرة: الآية رقم: 31.
[19] السورة نفسها الآية 33.
[20] السورة نفسها الآية 35.
[21] سورة طه: الآية 115.
[22] سبينوزا، باروخ، كتاب السياسة، تعريب: جلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر، تونس، 1999، ص ص: 43 - 44.
[23] نقلاً: عن عبد الفتاح إمام، توماس هوبز: فيلسوف العقلانية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، مصرن، ط1، 1958، ص28.
[24] عبد القادر، بوعرفة، مقدمات في السياسة المدنية، رياض العلوم للنشر والتوزيع، الجزائر، ط 1، 2005، ص 87.
[25] حنفي، حسن، فيختة فيلسوف المقاومة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002، ص 470.
[26] جوينو، جون ماري، نهاية الديمقراطية، تعريب: ليلى غانم، دار الأزمنة الحديثة، بيروت، 1998، ص 107.